الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا نذير للناس
أُذيعت سنة 1956
أنا أعلم أن أثقل الكلام الحديث المعاد، وأنا قد تكلمت في هذا الموضوع غير مرّة، ولكني مضطر مع ذلك إلى العودة إليه.
والذي اضطرني كتاب حمله إليّ البريد يقص فيه صاحبه (ولست أدري مَن هو، وليس في الكتاب ما يدل عليه) يقص قصة يقطر من سطورها الدمع، ويُشَمّ منها رائحة القلب المحترق. يقول إنه رجل مستور صالح، متمسك بحبال الديانة، مقيم على عهد الفضيلة، وله بنت مشت في طريق الشر خطوة خطوة حتى صحبت الأشرار وهتكت الأستار، فسقطت في حفرة العار. وتلك هي النهاية التي تنتهي إليها كل فتاة تسلك سبيل الغواية والضلال.
ويقول إن سبب ذلك كله المدرسة أولاً، والجامعة ثانياً، ويلعن المدارس التي علمت البنات الاختلاط والقعود إلى جنب الرجال، ومبادلتهم الأحاديث، وما يجر إليه الحديث من أضرار، ويلعن المجتمع الذي أفسدهن
…
إلى آخر ما جاء في الكتاب.
* * *
فكتبت إليه أقول له: أنا أعرف أنك متألم مصاب، ولكن ماذا أصنع لك الآن؟ وهلاّ كتبت إليّ وفي الصدر ذَماء (1) يتردد؟ ماذا أعمل الآن بعدما شبّت النار في الدار، وطغى السيل في الليل، واحترق ما احترق أو أودى به الغرق؟ ماذا يصنع الطبيب إن دُعي بعدما مات المريض أو كاد؟ هلاّ دعوتَه والمرض في أوله والأمل في الشفاء قوي؟ لا يا أخي؛ لست أملك لك إلا العزاء وأن أسأل الله لك الصبر على البلاء.
على أني إن عجزت عن إسعافك فلست أعجز عن إسعاف غيرك ممّن لم تؤل به -بعد- الحال إلى هذا المآل. ولولا الحياء من أن أكون مع الدهر عليك وأن أزيدك ألماً على ألمك لقلت لك إن الأمر منك أنت، منكَ يا أيها الأب ومنكِ يا أيتها الأم، وإنّ أولى الناس بما سقتَ من اللعنات (لو كان يجوز اللعن) أنتما الاثنان.
لو كنت تشرف على بيتك وبنتك، لا يلهيك عنهما العمل ولا اللهو والكسل، ولا السهرات والقهوات، ولو كنتِ أنتِ تشرفين على بيتك وبنتك، لا تشغلك عنهما الخيّاطات والمزينات، والاستقبالات والزيارات، ولو لم تدعي البنت للخادمات والمربيات، لما كان الذي كان.
على أني لا أبرّئ المدرسة ولا أنزّه المجتمع؛ فالأب مسؤول، والمعلم مسؤول، والصحفي مسؤول، ومَن بيده الأمر مسؤول. كلهم مسؤول، ولعل آخرهم سؤالاً وأقلهم تبعة البنت
(1) الذَّماء (بفتح الذال): بقية الروح في الحيوان المذبوح (مجاهد.)
التي فسقت والولد الذي فسد. على أننا ننكر الفسوق والفساد على كل حال.
لقد وضع الله هذه الغريزة في النفس ورسم لها طريقاً تمشي فيه كما يمشي ماء السيل في مجراه الذي أُعِد له، ووَضَع فيه من السدود ما يمنعه أن يطغى عليه ويخرج عنه كما يخرج النهر -أحياناً- فيغرق الحقل ويهلك الحرث والنسل.
أما المجرى الطبيعي فهو الزواج، وأما الطغيان فالبغاء والفساد. فجئنا نحن فخالفنا فطرة الله؛ فسددنا المجرى الطبيعي وأزحنا عنه السدود والحدود وتركناه ينطلق كما يشاء، فيدمر البلاد ويهلك العباد، ورأينا قوماً في أوربا وفي أميركا يصنعون هذا فقلنا إنهم هم المتمدنون وهم أهل الحضارة، فلنصنع صنيعهم ولنمشِ وراءهم.
قلنا للشابة: الزواج ممنوع لأن الشباب شُغلوا عنه بالحرام، ولأن الآباء طمعوا بمهور النساء وجعلوا بناتهم تجارة للربح لا باباً للحياة الشريفة العفيفة، ورددنا الخاطب التقي الصالح، وأطلقنا البنت تخرج بادية محاسنها ظاهرة مفاتنها، قد نبذت حجابها وأبدت سحرها وشبابها.
وربما طمع الأب بمرتبها إن كانت موظفة فمنع زواجها، يقول:"بنتي وأنا حرٌّ فيها". لا يا أخي؛ لست حراً فيها. إنها ليست شاة ولا بقرة تملكها تستطيع أن تبيعها أو تمسكها، ولكنها بشر مثلك. وإنما جعل الله لك الولاية عليها لمصلحتها ولتصونها وتمنعها من أن تُقدم على ما يؤذيها في دينها ولا ينفعها في دنياها.
فالولاية في الزواج كالكابح في السيارة، يمنعها أن تنهار فتصطدم بالجدار.
من هنا؛ مما يصنع بعض الآباء، قلَّ النكاح وكثر السفاح، وكانت الضحية البنت. يجيء الشاب فيغويها، فإذا اشتركا في الإثم ذهب هو خفيفاً نظيفاً وحملت هي وحدها ثمرة الإثم: ثقلاً في بطنها وعاراً على جبينها. يتوب هو فينسى المجتمع حوبته ويقبل توبته، وتتوب هي فلا يقبل لها هذا المجتمع توبة أبداً. ثم إذا أراد هذا الشاب نفسه الزواج أعرض عن تلك الفتاة التي أفسدها هو، مترفعاً عنها، مدّعياً أنه لا يتزوج البنات الفاسدات.
فماذا تصنع الفتاة والزواج ممنوع، والسفاح مباح، والرغبة موجودة، والروادع مفقودة؟
تقولون: أنحن منعنا الزواج؟
نعم؛ أنتم منعتموه! لم تمنعوه بالقول، لكن بالفعل. تبدأ «الرغبة الجنسية» في سن خمس عشرة، وتكون أشد ما تكون في هذه العشر السنين، إلى سن خمس وعشرين. فهل يستطيع الشاب أن يتزوج في هذه السن؟ وكيف، ونظام التعليم يبقيه على مقاعد الدرس إلى ما بعدها؟ وإن هو ذهب للتخصص في أوربا أو أميركا امتدت به الدراسة إلى قريب من سن الثلاثين، فماذا يصنع في هذه السنين؟
وإذا هو فكر في الزواج فمن أين له المال؟ ولا يزال -وهو في سن الرجال- من جملة العيال؟ شاب طويل عريض، يلبس أفخم الثياب ولكنه لا يحصل قرشاً! مع أن ابن عشرين كان قديماً
(أعني قبل ستين أو سبعين سنة) صاحب عمل وكسب ومواهب وأباً لأولاد. وإن وجد المال فهل يدعه الآباء يتزوج؟
آباء البنات هم سبب المشكلة؛ يسهّلون للبنت من حيث لا يدرون كل سبيل إلا سبيل الحلال، يخرجونها (في كثير من بلاد المسلمين) متكشفة متزينة ويرخون لها الزمام، فإذا جاء من تُرتضى أخلاقه ويُرضى دينه ويكون من أهل الأمانة لقي منهم ما يلقى الأسير العربي في إسرائيل! أهلكوه بالمطالب الثقال: من المهر الكبير، والتكاليف الباهظة، والحفلات المتكررة، والهدايا العديدة
…
حتى يمل فينهزم، أو يصبر فتستنفد هذه العادات كل ريال كان ادّخره لهذا اليوم الأسود، فيدخل بيت الزوجية مفلساً، فيبدأ الخصام من أول يوم. ومتى دخل الخصام بيتاً خرجت السعادة من ذلك البيت.
ومن الآباء (في البلاد التي خالفت عن أمر الله فترك نساؤها الحجاب) من يدع ابنته تخرج سافرة حاسرة في فتنتها وزينتها يراها كل من يمشي في الطريق، فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رسول الله عليه الصلاة والسلام أباها عليه ومنعها منه!
ومن ظن أن هذه الرؤية الشرعية عار أو أن فيها عيباً أو عملاً لا يليق فقد قبّح ما استحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض ما أمر به وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق، ومن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام.
إن ربنا لم يحرّم علينا شيئاً إلا أحلَّ لنا ما يغني عنه ويسد
مسده ويقوم مقامه؛ حرم الزنا وأباح الزواج، والذي يعمله المتزوج هو الذي يصنعه الزاني، فلماذا نوقد الأنوار في مقدمة الدار عند حفلة الزواج، ونطبع البطاقات وندعو إليها الناس، ومن أراد الفاحشة تسلل إليها في الظلام وابتغى لها الزوايا التي لا يبصره فيها أحد من البشر؟ إنهما كمن يدخل المطعم وماله في جيبه، فيقعد على الكرسي مطمئناً ويطلب قائمة الطعام متمهلاً، فيختار ما يريد، فيأتيه النادل به فيأكله مترسّلاً. واللص الذي يخطف شيئاً من الطعام فيلحقه الناس يصرخون:"حرامي حرامي"، فيلتهم الطعام وهو يعدو، يبتلعه حاراً، وربما اعترض في حلقه وغص فأحس الغصة في صدره ثم لا يهنأ به ولا يكاد يسيغه.
فتيسير الزواج هو السد الأول الذي أقامه الشرع في طريق الحرام، فهدمناه لمّا صعّبنا النكاح وسهّلنا السفاح.
* * *
ومنع الشرع الاختلاط وقال: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» . فجاء ناس منا، ببغاوات خلقها الله على صورة البشر، تقول ما يقال لها وإن لم تدرك معناه وإن لم تعرف مغزاه. قالوا: "ما هذه الرجعية؟ ما هذا الاحتقار للمرأة وسوء الظن بها؟ أتحرم المرأة حريتها؟ أنتم أعداء المرأة
…
" وكثير من أمثال هذا الهذيان يردده من لا يدرك أثره ولا يعرف مغزاه.
قلنا: "ما نحن والله أعداء المرأة؛ نحن أحباؤها، نحن المدافعون عنها المحافظون عليها، نحن نحميها من عدوان الرجل الفاسق ومن ظلم المجتمع الجائر". فلم يصدقونا، وخدعوا المرأة
حتى ظنت هذا الاختلاط مدنية، وتركوها تنفرد بالرجل وحدها: في عيادة الطبيب حيث تكشف عن بعض جسدها، وفي مخزن التاجر حيث تكلمه ويكلمها وتحسر عن وجهها لترى البضاعة وعن يدها لتمسك بها، وفي المدارس التي جعلناها مختلطة، بدأنا من رياض الأطفال فقلنا: هؤلاء صغار لا يدركون. وهذا حق، ولكن ألا تبقى صورة البنت في ذاكرته حتى يكبر؟ فإذا كبر ألا يكون تذكر أيام الروضة والحديث عنها فاتحة لصلة جديدة بينه وبينها؟ أوَ ليس في رياض الأطفال بنات وصبيان بلغوا وبلغن سن التمييز وبدؤوا يدركون -من كثرة ما يسمعون من الناس وما يرون من المسلسلات والأفلام- شيئاً من معنى الزواج؟
ثم تدرجنا (في كثير من بلاد المسلمين) فجعلنا المدارس الابتدائية مختلطاً فيها البنون والبنات، وفيهن مراهقات أو بالغات. أوَلم نجعل الأصل في الجامعات الاختلاط؟ يقعد الشاب العزب المحروم الذي تنضح كل خلية في جسمه بهذا الميل الذي نسميه «جنسياً» بجنب الفتاة، يمس بكتفه كتفها وبرجله رجلها، وربما كانت سافرة حاسرة تمس وجهَه أو يدَه أطرافُ جدائلها؟ وربما كانت قصيرة الثوب قد ارتفع عن ركبتيها وكشف طرفاً من فخذيها
…
ثم نقول له: انتبه لحل مسائل الرياضيات ومعادلات الكيمياء وشرح المعلقات، اجعل ذهنك فيها وانسَ أن إلى جنبك بنتاً تتمناها وتشتهيها!
لقد جعلنا هذا الاختلاط هو الأصل في السفر وفي الحضر، وفي المدرسة وفي الملعب، وعلى الشواطئ وفي الجبال، وقلنا: هذه هي المدنية، فانكسر السد الثاني.
* * *
وكان السد الثالث خوف الفضيحة، فانقلبت الحال حتى صار الشاب الفاسق يفخر بفسوقه ويسرد حوادث فجوره، بعد أن كان يتوارى ويستتر ويجحد إن سُئل وينكر. وصارت القصص الماجنة مباحة لكل قارئ تصور أفظع الحوادث التي صاروا يسمونها «حوادث الجنس» بريشة المصور أو بقلم الكاتب، يقرؤها الشاب والشابة ويُمدَح كاتبوها على ألسنة أدبائنا ونقّادنا. ولقد قرأت -من قريب- مقالة لأديب كبير في السن وكبير في القدر، يمدح فيها الكاتب الفاسق ألبيرتو موارفيا، والفاسق الآخر الذي هلك من زمن بعيد، أوسكار ويلد، يدفع الشباب إلى قراءة كتبهما. وصارت الأفلام تعرض هذه القصص لمن لا يصل إليها أو لا يحب أن يقرأها. ونسينا أن إعلان الذنب في نظر الإسلام ذنب آخر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم علّم من ابتُلي بالمعاصي منّا أن يستتر بها وأن يكتمها وأن يستغفر الله منها.
فانكسر السد الثالث.
* * *
وكان السد الرابع خوفَ المرض، فجاء الأطباء (أعني بعض الأطباء) ينادون بأعلى أصواتهم: أن لا تخافوا الأمراض يا أيها الفساق، فإن عندنا البنسلين، والاستربتوميسين، والتيرامايسين، والإبليسين (نسبة إلى إبليس!) وكل دواء فيه هذه السين
…
فمهما أصابتكم به المحرمات من مرض فنحن نزيله، فأقدموا ولا تخافوا.
فأقدموا وما خافوا، فانكسر السد الرابع.
* * *
وكان السد الخامس هو خوف الحكومة والهرب من العقاب (لما كانت الحكومات كحكومة المملكة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وكان الحكم بشرع الله) فأخذنا قانون العقوبات من فرنسا، من البلد الذي دمره الانحراف حتى وطِأته نعال الألمان فاتحين ثلاث مرات خلال سبعين سنة، ونصصنا في قوانيننا (انظر قانون العقوبات) على ما يشبه الإباحة للزنا ويمنع الادّعاء على الزاني إلا من قبل الزوج، فإن رضي فلا ادّعاء ولا عقاب! وجعلنا عقوبة الزنا بين الأم والولد، أو بين الأب والبنت (وهي أفظع جريمة يتصورها صاحب شرف وخلق ودين) جعلنا عقوبتها أقل من عقوبة السرقة «الموصوفة» ولو كانت سرقة ألف ريال!
وسكتنا، وسكت العلماء والمفتون والنواب والحاكمون، فانكسر السد الخامس.
* * *
وكان أقوى السدود وأمتنها خوفَ الله وخشيةَ جهنم، فأبعدنا الناشئة عن التربية الدينية وأنسيناهم خشية جهنم وخوف الله، ولم يعد الشاب الجديد يعرف طريق الجامع إلا إذا تنبه يوماً إليه أبوه -وكان مصلياً- فأخذه معه.
فانكسر بذلك أمتن السدود.
ثم قلنا للمغريات وللمغويات: انطلقي
…
فانطلقت. وصارت المرأة تمشي في الطريق على صورة كانت تستحيي -قبل ستين سنة- أن تخرج بها أمام أبيها وعمها في الدار، إي والله العظيم؛ لا
أشهد إلا بما رأيت، مع أن دين الإسلام، بل وكل دين في الدنيا صحيح أو باطل، يحرّم على المرأة كشف الأعضاء التي تثير الفتنة أمام الأجنبي. وقد وجدت مرة على باب كنيسة في القدس (ردّنا إلى ديننا لنردها إلينا) إعلاناً للنساء النصرانيات المصليات يمنع دخولهن الكنيسة إلا بالكم الطويل والوشاح (الإيشارب) الذي يستر الشعر، وعلى أن يكون الوجه خالياً من الأصباغ.
وما زالت المرأة تقصر من ثوبها إصبعاً من هنا وإصبعاً من هناك، حتى إذا ما وصلت إلى ساحل البحر لم يبقَ منه شيء! هذه الحال، فهل الذنب ذنب الفتاة وحدها؟ بل هل هو ذنب الشاب وحده، وقد وجد الغريزة قوية في نفسه، والزواج متعذراً أو متعسراً عليه، والسفاح سهلاً ولذيذاً، والمغريات والمغويات من كل جانب؟
فكيف تريدون أن يصبر ويقاوم؟ وكيف تريدون أن ينصرف إلى درسه وإلى كتابه؟
إنها مشكلة ينبغي أن تجتمع على معالجتها الحكومات والشعوب ورجال العلم ورجال القلم والجمعيات النسائية (الجمعيات على التخصيص) تشتغل به بدلاً من اشتغالها بالسخافات والترهات، لأن الخطر في هذا على البنت، والضحية هي البنت، وهذه الجمعيات أَولى بالدفاع عن النساء المظلومات.
وإذا فسدت -اليوم- بنت صاحب الكتاب الذي ورد عليّ فجعلني أحدّث هذا الحديث، فالفساد ماشٍ إليّ وإليك، إلى بيتي
وبيتك، إلى بنتي وبنتك. إنها النار تمشي في الديار، إنه السيل يجتاح كل شيء، إنه الطاعون ينتشر في كل مكان. ونحن قاعدون نتفرج، لا نحاول إطفاء النار، بل نحن نلقي البنزين عليها ونأمل أن لا يمسنا الحريق.
فكيف لا نحترق ونحن نضع البنزين فوق النار؟ كيف؟
كيف يا أيها العقلاء؟
* * *