المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌إلى الطلاّب نُشرت سنة 1959   زرت من أيام صديقاً لي قبيل المغرب، - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌إلى الطلاّب نُشرت سنة 1959   زرت من أيام صديقاً لي قبيل المغرب،

‌إلى الطلاّب

نُشرت سنة 1959

زرت من أيام صديقاً لي قبيل المغرب، فجاء ولده يسلم عليّ وهو مصفرّ الوجه بادي الضعف، فقلت: خيراً إن شاء الله؟

قال أبوه: ما به من شيء، ولكنه كان نائماً.

قلت: وما له ينام غير وقت المنام؟

قال: ليسهر في الليل. إنه يبقى ساهراً كل ليلة إلى الساعة الثانية.

قلت: ولِمَ؟

قال: يستعد للامتحان.

قلت: أعوذ بالله! هذا أقصر طريق للوصول إلى السقوط في الامتحان. لقد دخلت خلال دراستي الابتدائية والثانوية والعالية امتحانات لا أحصي عددها فما سقطت في واحد منها، بل كنت فيها كلها من المجلين السابقين، وما سهرت من أجلها ساعة، بل كنت أنام أيام الامتحان أكثر مما أنام في غيرها.

فعجب الولد، وقال: تنام أكثر؟

ص: 153

قلت: نعم، وهل إلا هذا؟ الامتحان مباراة. أفرأيت رياضياً، ملاكماً أو مصارعاً، يهدّ جسمه ليالي المباراة بالسهر، أم تراه ينام ويأكل ويستريح ليدخل المباراة قوياً نشيطاً؟ إن أول نصيحة أسديها لمن يدخل الامتحان من الطلاب والطالبات أن يحسن الغذاء وأن ينام ثماني ساعات.

قال: والوقت؟

قلت: إن الوقت متسع، وإن ساعة واحدة تقرأ فيها وأنت قويّ مستريح تنفعك أكثر من أربع ساعات تقرؤها وأنت نعسان تعبان، تظن أنك حفظت الدرس وأنت لم تحفظه.

قال: إن كانت هذه النصيحة الأولى، فما الثانية؟

قلت: أن تعرف نفسك أولاً، ثم تعرف كيف تقرأ؛ فإن من الطلاب من يسمع الدرس من المعلم فينساه فإذا قرأه بنفسه استقر فيها، ومنهم من يقرأ فينسى فإذا سمع بأذنه حفظ. أي أن من الناس من هو «بَصَري» يكاد يذكر في الامتحان صفحة الكتاب ومكان المسألة منها، ومنهم من هو «سَمْعي» يذكر رنة صوت الأستاذ. فإن كنت من أهل البصر فادرس وحدك، وإن كنت من أهل السمع فادرس مع رفيق لك مثلك واجعله يقرأ عليك.

قال: وكيف أعرف نفسي؟

قلت: أنا أكتب عشر كلمات لا رابطة فيها (مثل: كتاب، مئذنة، سبعة عشر، هارون الرشيد

) وأقرؤها عليك مرة واحدة، ثم تكتب أنت ما حفظته منها. وأكتب مثلها وأطلعك عليها لحظة

ص: 154

وتكتب ما حفظته منها. فإن حفظت بالسمع أكثر فأنت سمعي، وإلاّ فأنت بصري.

قال: والنصيحة الثالثة؟

قلت: أن تجعل للدراسة برنامجاً تراعي فيه تنويع الدروس، فإذا تعبت من الحساب أو الجبر اشتغلت بعده بالتاريخ أو الأدب، فيكون ذلك كالراحة لك من تعب الأول.

وأحسن طريقة وجدتُها للقراءة أن تمرّ أولاً مراً سريعاً على الكتاب كله، ثم تفهم فصلاً فصلاً منه، على أن يكون القلم في يدك إن كنت تقرأ بنفسك، فالجملة المهمة تخط تحتها خطاً بالأحمر، والشرح الذي لا ضرورة له تضرب عليه بخط خفيف، والفقرة الجامعة تشير إليها بسهم.

ثم يأتي دور المراجعة، فتأخذ الكتاب معك وتمشي في طريق خال، وتستعرض في ذهنك مسائل الكتاب مسألة مسألة، تتصور أنك في الامتحان وأن هذا السؤال قد وُجِّه إليك، فإذا وجدت أنه حاضر في ذهنك تركته، وإلاّ فتحت الكتاب فنظرت فيه نظرة تقرأ فيها الفقرات والجمل التي قد أشرت إليها فقط فتذكر ما نسيته، وإن وجدت أنك لا تذكر من المسألة شيئاً أعدت قراءة الفصل كله.

والرابعة: ألاّ تخاف. والخوف من الامتحان لا يكون من الغباء ولا التقصير ولا الجبن، ولكن الخوف من شيء واحد وهو منشؤه وسببه، ذلك أن بعض الطلاب ينظرون إلى الكتاب الكبير والوقت القصير الباقي، ويريدون أن يحفظوه كله في ساعة فلا

ص: 155

يستطيعون، فيدخل عليهم الخوف من أن يجيء الامتحان وهم لم يكملوا حفظه.

ومثلهم مثل الذي يريد أن يمشي على رجليه من المزة إلى المطار ليدرك الطيارة وما معه إلاّ ساعتان، فإن قال لنفسه: كيف أصل؟ أو ركض كالمجانين فتعب حتى وقع، لم يصل أبداً. وإن قسم الوقت والخُطا وقال لنفسه: إن عليّ أن أمشي في الدقيقة مئة خطوة فقط، سار متمهلاً مطمئناً ووصل سالماً.

والخامسة: أن بعض الطلاب يقف أمام غرفة الامتحان يعرض في ذهنه مسائل الكتاب كلها، فإذا لم يذكرها اعتقد أنه غير حافظ درسه واضطرب وجزع، مع أنه يستحيل أن يذكر المسائل كلها دفعة واحدة وإن كان يعرفها.

كم تعرف من أسماء إخوانك وأصدقائك؟ هل تستطيع أن تسردها كلها سرداً في لحظة واحدة؟ لا، ولكن إذا مر الرجل أمامك أو وُصف لك ذكرتَ اسمه. فغيابها عن ذهنك ليس معناه أنها فُقدت من ذاكرتك.

والسادسة: أنك كلما قرأت درساً استرحت بعده أو انصرفت إلى شيء بعيد عنه ليستقر في ذهنك. ومن الطلاب من يقرأ الدرس فإذا فرغ منه عاد إليه، ويكرر ذلك مرات، يحسب أن ذلك خير له مع أن ذلك كمن يأخذ صورة بـ «الفوتوغراف» ثم يأخذها مرة ثانية من غير أن يبدّل اللوحة أو يدير الفلم فتطمس الصورتان.

والسابعة: أن عليك أن تستريح ليلة الامتحان، وتدع القراءة وتأخذ قصة خفيفة، أو تزور أهلك أو أصدقاءك، أو تتلهى بشيء

ص: 156

يصرفك عن التفكير في الامتحان. وأن تنام تلك الليلة تسع ساعات أو عشراً إذا استطعت، ولا تخشَ أن تذهب المعلومات من رأسك فإن الذاكرة أمرها عجيب، ولا سيما لمن كان في أوائل الشباب؛ إن ما يُنقَش فيها في الصبا لا يُنسى. وأنا أنسى والله اليوم ماذا تعشّيت أمس ولكني أذكر ما كان قبل أربعين أو خمس وأربعين سنة كأني أراه الآن، وأنت تبصر في الرائي (التلفزيون) فلماً كنت شاهدته من عشر سنين فتذكره، ولو سألتك عنه قبل أن تدخل لما عرفته.

والثامنة: أن تعلم أن الامتحان ميزان يصح غالباً وقد يخطئ حيناً، وأن المصحح بشر، يكون مستريحاً يقرأ بإمعان وقد يتعب فلا يدقّق النظر، وأنه ينشط ويملّ ويصيب ويخطئ، وقد يختلف حكمه على الورقة وعلى أخرى مثلها باختلاف حالَي راحته وتعبه ورضاه وسخطه. وقد جربوا مصححاً مرة أعطوه أوراقاً فوضع لها العلامات والدرجات، ثم محوا علاماته وجاؤوه بها مرة ثانية ليصححها فإذا هو يبدل أحكامه عليها وتختلف درجاته في المرتين أكثر من عشرين في المئة. وطلبوا من مصحح مرة أن يكتب هو الجواب الذي يستحق العلامة التامة، ثم أخذوا جوابه فكتبوه بخط آخر وبدلوا فيه قليلاً وعرضوه عليه مع الأوراق فأعطاه علامة دون الوسط!

والمصحح ليس في يده ميزان الذهب، وقد يتردد بين الستين من المئة وبين السبعين، وقد يكون في هذه العلامات العشر نجاح التلميذ أو سقوطه. وربما وقعت الورقة في يد مصحح مشدّد فأسقطها ولو وقعت في يد آخر مهوِّن لمشّاها.

ص: 157

فما العمل؟

عليك أن توضح خطك، فإن سوء الخط وخفاءه ربما كان السبب في غضب المصحح أو نقمته، فأساء حكمه على الورقة فأسقطها. وأن تكثر من العناوين، وأن تقطّع الفقرات وتميزها، وأن تجتنب الفضول والاستطراد. وقد يستطرد التلميذ فيذكر أمراً لم يُطلب منه، يريد أن يكشف به عن علمه، فيقع بخطيئة تكشف جهله فتكون سبب سقوطه.

هذا الذي عليك، وهذا الواجب في الامتحان وغيره. على المرء أن يسعى ويعمل، ولكن ليس النجاح مَنوطاً دائماً بالسعي والعمل.

يمرض اثنان، فيستشيران الطبيب الواحد ويتخذان العلاج الواحد ويكونان في المَشفى في الغرفة الواحدة وتكون معاملتهما واحدة، فيموت هذا ويبرأ هذا. فلِمَ؟ من الله. ويفتح اثنان متجرين، ويأتيان بالبضاعة الواحدة ويتخذان طريقة للبيع واحدة، فيقع هذا على صفقة تجعله من كبار الأغنياء ويبقى ذلك في موضعه، فلِمَ؟ من الله.

وأنا لا أقول لأحد أن يترك السعي. السعي مطلوب، وعلى التلميذ أن يقرأ الكتاب كله حتى الحاشية التي لا يهتم غيره بها، إذ ربما كان السؤال في الامتحان منها، وبعد ذلك يتوجه إلى الله فيطلب منه النجاح.

وهذه خاتمة النصائح ولكنها أهمها. وأنا أعلم أن من السامعين من يسخر مني إذ أقولها، وهو يستطيع أن يسخر مني

ص: 158

أو أن يقول عني في غيابي ما شاء، ولكنه لا يستطيع أن يثبت بالبرهان أن الذي أدعو إليه باطل.

فيا أيها الطالب، إذا أكملت استعدادك وعملت كل ما تقدر عليه، فتوجه إلى الله وقل: يا رب، أنا عملت ما أستطيعه، وهناك أشياء لا أستطيعها أنت وحدك تقدر عليها، فاكتب لي بقدرتك النجاح، ولا تجعل ورقتي تقع في يد مصحح مشدّد لا يتساهل، أو مهمل لا يدقق، أو ساخط أو تعبان لا يحكم بالحق.

وانظر قبل ذلك، فإن كنت على معصية في سلوكك وفي عملك فتب منها، وإن كنتِ أيتها الطالبة على معصية في ثيابك ولباسكِ وسيرتكِ وكنت على مخالفة لحكم الشرع فارجعي عنها، وإن كان منكم جميعاً تقصير في حق الله فدَعوا التقصير، وأقيموا الفرائض، واجتنبوا المحرمات، فإن هذا هو طريق النجاح.

وليست هذه الوصفة من عندي، ولكنها وصفة (راشتة) وكيع شيخ الشافعي:

شكوتُ إلى وَكيعٍ سوءَ حفظي

فأرشدني إلى ترك المَعاصي

وقال بأنّ هذا العلم نورٌ

ونورُ الله لا يُهدَى لعاصي

* * *

ص: 159