الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من عبث التلاميذ
نُشرت سنة 1934
كنت في الصف وكان موضوع الدرس شيئاً لا نعرف نحن معشر المعلمين، ولا يعرف من هم فوقنا، مدلوله إلاّ بالتقريب؛ ذلك الشيء الذي يحويه ثبت الدروس الرسمية ويُهمل في الواقع، هو
…
«المحادثة» . وقد زعمتُ مرة أني فهمت موضوع هذا الدرس وافترضت أني مجنون حقيقة (إذ إن كل معلم مجنونٌ مجازاً ولا مؤاخذة
…
جنون عبقرية لا جنون مارستان)، ورحت أتحدّث أنا وتلاميذي؛ أسخر منهم ويسخرون مني، وأسألهم ويسألونني. ولِمَ لا؟ أليس الدرس درس محادثة؟ هَلُمّ فلنتحدّث!
سألتهم: ماذا يختار كل واحد منهم من المهن إذا هو بلغ مقبل أيامه وصار رجلاً (أعني بحسب الظاهر)؟ وهذا السؤال -على ما فيه من سخف بَيِّن- شائعٌ فينا معشر المعلمين، نلقيه في أوجه التلاميذ كلما لاحت لنا مناسبة أو أخرجنا هذه المناسبة من جيوبنا!
فقال واحد منهم: أما أنا فأريد أن أكون مختاراً (أي عمدة).
حسن، إن المختارية (العمودية) غاية ما يطمح إليه تلميذ
في قرية، وهذه همة عالية ولا شك. ولكني أحببت (أو أن موقفي اقتضى) أن أسأله: لماذا؟
فارتبك ساعة ثم قال (والعبارات كلها مترجَمة من لغات الأطفال التي لا يفهمها إلاّ نحن إلى اللغة العامة): إن المختار ينال المال بلا تعب ولا مشقة، فليس عليه إلاّ أن يختم بخاتمه كل ما يعرض عليه.
- لا؛ ليس كل ما يعرض عليه. قد يعرض عليه أشياء مخالفة للقانون.
- نعم يا سيدي، ولكنه يختمها إذا أجزلوا له الأجر.
- لا، لا. إن القانون يمنعه.
- والله العظيم يختمها. لقد ختم لـ (فلان) بعد أن أخذ منه ورقتين (1).
- اسكت، لا تذكر أسماء
…
أقول لك إن هذا لا يكون وإن ختمه لا يُقبل.
- كيف لا يُقبل؟ إن أبي يقول إن الحكومة تقبل ختم المختار في كل شيء وتعد كل ما شهد به حقاً وكل حق لم يشهد به باطلاً.
- هذا لا يهمنا
…
أنت إذن تريد أن تكون مختاراً. سأعود للكلام معك، وأنت؟ تكلّم.
(1) أي ليرتين، و «الورقة» هي الليرة في لغة الشام الدارجة (مجاهد).
- أنا أريد أن أكون دَرَكياً (1).
- وأي شيء يعجبك في الدركي؟
- أعجبني أنه فوق المختار؛ يأمره أمراً ويدعوه إليه متى شاء، وينزل به هو وأصحابه وفرسه وأفراس أصحابه، فيأكلون ويشربون ويقيمون ما طاب لهم المقام، والمختار لا يستطيع أن يعارض في شيء. ثم إن الدركي هو الحاكم المطلق في القرى لا قوة فوق قوته، يحترمه الناس ويقومون له إذا جاز بهم، وإلاّ وجد سبيلاً إلى اتهامهم بتهمة من التهم وتقطيع أرجلهم بالضرب.
- إن ضرب المتهمين ممنوع. اسكتوا، لماذا الصياح؟ ليتكلم أحدكم، قل أنت.
- إنهم يضربون يا أستاذ، يضربون حتى الأبرياء، أقسم بالله.
- لا تقسم.
- يضربون، لم يمنعهم أحد. وقد سمعت دركياً يقول: إن هذا المعلم متكبّر، وإن شاء الله سأرميه في ورطة.
فأسررتها في نفسي وقلت: خرجتَ عن الموضوع
…
يكفي. مَن منكم يريد أن يكون معلّماً؟ معلم
…
لا أحد؟ ويحكم، لماذا؟ نعم، قل.
(1) الدَّرَكي هو الشرطي (سُمّي بذلك لإدراكه الفارّين من المجرمين)، وهي -بهذا المعنى- لفظة مولَّدة، وأكثر شيوعها في سورية ولبنان (مجاهد).
فقال ما معناه: لأن المعلم يُتعب نفسه فلا يعلم بتعبه أحد ولا يجزيه خيراً، ويُقذَف به إلى أنحس القرى ولو كان أحسن معلم (1) فلا يحس به أحد ولا يُرثى له، وينظر إليه الناس نظرة ليس فيها من الاحترام ما يكون للجابي أو الدركي. وقد قال أبو فارس إن الجابي يستطيع أن يعزل المعلم.
- إن هذا كذب. إن المعلمين أشرفُ الناس وأحسنهم أخلاقاً و
…
- دائماً يا سيدي؟
- دائماً، طبعاً.
- كيف إذن يكون في «
…
» معلّم ليس أحسن الناس أخلاقاً، ولكنه
…
- اسكت، قليل الأدب.
وقُرع الجرس، فانتهى الدرس وانتهت القصة.
* * *
(1) كان من معلمي القرى في تلك الأيام سعيد الأفغاني وأنور العطار وحلمي اللحام وجميل سلطان وأمجد الطرابلسي وعلي الطنطاوي.