المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من حديث المزعجات

‌من حديث المزعجات

أذيعت سنة 1958

الكلام اليوم في حديث المزعجات. وأنا أحب قبل أن أبدأ الحديث أن أخبركم بسر من أسرار المهنة، هو أن الحديث العلمي الذي أتعب في إعداده وأنفق فيه الساعات الطويلة لا يلقى من التشجيع والرضا عُشرَ ما يلقاه حديثٌ كحديث اليوم الذي أكتبه في ساعة واحدة بلا كد ولا تعب، فهل معنى هذا أن أكثر السامعين والسامعات من غير العلماء والمثقفين أم أن الناس (حتى العلماء منهم والمثقفين) لا ينتظرون من الإذاعة إلا أمثال هذه الأحاديث السهلة القريبة؟

ولكن ما لي وما لهذا الكلام، وأنا الرابح على كل حال؟

* * *

إن أزعج المزعجات وأشنع المصائب هذا الرادّ (الراديو). أفليس عجيباً أن أذيع فيه وأتكلم عنه؟ هذا الرادّ الذي حطم أعصابي وأطار صوابي، والذي اخترعه مخترعه ليؤذي به الأدباء وأهل الفكر، فكلما استغرقوا في أفكارهم أو طاروا في آفاق خيالهم أو نسوا الدنيا وما فيها في غمرة التأمل أو في ذهلة

ص: 135

الإلهام، قرع آذانهم صوت الرادّ من بيت الجيران بأغنية رقيقة أو موسيقا صاخبة، أو حديث أشد إزعاجاً وغلاظة من حديثي هذا، فطارت الأفكار وامّحت صور الخيال وانقطع الإلهام.

ولكن لا. إني أظلم المخترع، فإنه ما اخترع الراد لهؤلاء الجاهلين المزعجين الذين لا يطربون إلاّ إن أسمعوا معهم مئة دار، لا يدرون حينما يمدون إصبعهم الواحدة فيحركون هذا المفتاح حركة طفيفة كم أطاروا النوم من رأس مريض يقاسي الآلام ويرجو لحظة منام، وكم ضيعوا على العلماء والأدباء من ثمرات العقول وصور الجمال، وكم شغلوا تلميذاً عن امتحانه، وكم جرحوا من قلوب المحزونين! وأنا لا أكره أن يستمتع كل امرئ بحريته فيسمع ما شاء من الأغاني المباحة ويطرب ما طاب له الطرب، ولكن ما ذنبي أنا؟ ولماذا يسلبني حريتي فيُسمعني ما يشاء هو لا ما أشاء أنا؟ لماذا يطربني على رغم أنفي، ومَن أدراه أني أطرب للذي يطرب له هو، وأن الأغنية التي يحبها هو لا أكرهها أنا والتي تلذّه لا تسوؤني؟ ولماذا يزعج دائرة قطرها مئة متر وفيها خمسمئة إنسان؟

لقد صرت أكره الرادّ وكل ما يأتي به، ولقد أفسد ذوقي وذهب بالحسّ الفني من نفسي! كنا إذا سمعنا الأغنية الحلوة طربنا لها وصفّقت لها قلوبنا، فما زالت بنا الإذاعات حتى كرّهت إلينا كل أغنية حلوة لأنها تعيدها مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة، وتعيدها المرة التاسعة والتسعين، فلا يبقى منها إلاّ ما يبقى من البرتقالة عصرتَ ماءها. وخذ ألذّ أكلة تحبها، إنْ فرضوها عليك شهراً كاملاً لا تأكل غيرها الصباح والظهر والمساء وعشر مرات

ص: 136

خلال ذلك، فإنك تكرهها وتشتهي أن تستبدل بها خبزاً وبصلاً.

ولو كان سهماً واحداً لاتّقيته، ولكن جارك هذا يحب السهر فهو يفتح الراد على مصراعيه فلا يزال يجلجل ويولول إلى نصف الليل، وذاك يحب البكور فهو يقوم فيفتح الراد على مصراعيه من قبل طلوع الشمس!

هذا واحد.

الثاني: هذه السيارات؛ إن سرت في الشارع حملتَ روحك على كفك ووضعت الموت بين عينيك، إذ تراها أمامك ووراءك وعن يمينك وعن شمالك، كأن الجميع يتسابقون إلى امتلاك مناجم الذهب، فما فيهم إلاّ مسرع كالمجنون يجوز بك كأنه راكب على أجنحة شيطان فلا تستطيع أن تراه، وإن كان الليل أعمت العيون بهذه المصابيح فلا ندري أين المفرّ؟ وإن هربتَ إلى دارك لحقتك أصواتها التي توقظ الموتى وتميت الأحياء، وتنزل على رأس النائم كأنها ضربة مطرقة من حديد. وما أدري لماذا يركّبون لها هذه الزمّارات الشنيعة التي يبلغ صوتها مسيرة كيل (كيلومتر) وهذه المصابيح التي يصل ضوؤها إلى بعد عشرين كيلاً؟

والثالث: هو الهاتف الآلي؛ يرنّ الساعة الثانية من الصباح فتقوم من نومك مرتاعاً فزعاً تحسب أن قد حل خطب بقريبك أو حبيبك، وتتعثر وأنت ماش بعيون أغلقها النعاس، وتصطدم بالمنضدة فتصاب ركبتك أو تكسر الآنية الثمينة التي ترتبط بذكرى عزيزة عليك، حتى إذا وصلت إلى سماعة الهاتف قال لك: "آلو،

ص: 137

ملهى السريانا؟ "! أو تفتح عليك امرأة ملهوفة وأنت مسرع في الصباح إلى عملك، فترجوك أن تدعو لها جارتك فلانة لأمر ضروري لا يحتمل التأجيل، وقد يكون بينك وبينها خمسون متراً، فإذا أحضرتَها وحملت في ذلك المشقة والتأخير، إذا بها تريد أن تسألها عن «ثوبها» الأحمر عند أي خياطة خيّطته، وعن استقبال مديحة خانم أو الست ماري في أي يوم من الشهر!

والرابع: الصديق الفارغ الوقت من العمل، الفارغ الرأس من الفكر، يحب أن يمضي ساعتين من وقته فيفتّش في قائمة أصحابه فلا يجد غيرك. وتكون صباحاً مستعجلاً إلى عملك تريد أن تلبس وتأكل وتنظر في حاجات الدار، وإن كنت ممن يعمل بعقله أو كان عندك دعوى يجب أن تدرسها قبل أن تذهب، أو مقالة ينبغي أن تتمها، أو بقية من الأشغال الشاقة (أعني تصحيح وظائف التلاميذ

) وبينما أنت في هذه الغمرة غارقاً في لجتها إلى أذنيك إذا بالباب يُقرع، وإذا أنت بهذا الصديق المحترم. ويدخل وتضطر أن تقعد أمامه، لا تقعد على الكرسي بل على النار المتوقدة، تنظر في ساعتك

وهو لا يبالي، ويكون بينكما هذا الحوار:"إي وشلون الصحة؟ "، "الحمد لله". "والله الجوّ اليوم طيب"، "طيب، الحمد لله". "سمعت أن ملك مراكش ألقى خطبة العرش، إنها أخبار طيبة". "نعم، أخبار طيبة". "هل قرأت قصيدة الصافي النجفي في وصف الطاووس؟ "

فتتململ وتتحرك في مقعدك وتقوم وتقعد، فتدركه نوبة من اللطف المفاجئ فيقول لك بعد أن تَمضي عليه ساعة وربع في هذا العَلْك: "شوف أخي، أنا لست غريباً. خذ حريتك

لا تهتم

ص: 138

بي، بَسْ أعطني كتاباً أقرأ فيه واشتغل شغلك"!

والخامس: هذا الذي يكون في مجلس فيه سبعة أو ثمانية من الناس فيستلم وحده الحديث من بابه إلى محرابه، لا يدع لأحد فرجة بين جملتين يمد منها لسانه بكلمة ولا يبالي أملَّ الحاضرون أم تعبوا أم طلعت أرواحهم من حديثه البارد الذي يكون له أول ولا يكون له آخر، كأن القوم قد دُعوا إلى محاضرة. على أن المحاضرة لها موضوع معروف ومدة معينة، وهذه محاضرة ليس لها مدة ولا موضوع. وأفظع من ذلك أن يكون هذا الحديث في مدح نفسه وتقريظها، وأفظع منه أن يكون كذباً لا أصل له!

والسادس: الذي يدخل عليك في مكتبتك أو محكمتك، يريد أن يسألك عن قضية أو يستخبرك عن دعوى، فلا يعمد إلى الموضوع مباشرة بل يسرد لك مقدمة تمتد خمس دقائق عن أدبك ومنزلتك وتشرّفه بلقائك، ثم يبدأ القصة من قبل الطوفان، ويسرد عليك منشأ الخلاف ويقف وسط الحديث ليقول: وكان حاضراً يومئذٍ جماعة منهم هذا

الذي كان عَطّاراً في سوق الجمعة، ما اسمه؟ اللهم صلِّ على النبي، عجيب كيف نسيت؟ اسمه على رأس لساني، يلبس عمامة بيضاء، ما اسمه يا ربّي؟ ابن أخيه موظف في مؤسسة الكهرباء، وقد جاءنا من أيام وأصلح لنا الساعة

ويبقى عشر دقائق وهو في هذا اللتّ والعَجْن، وأنت تنتظر الفرج، والمراجعون ينتظرون على الباب.

والسابع: الذي يقفك في الطريق وأنت مستعجل تسير إلى

ص: 139

موعد ضروري، إلى درس في الجامعة أو محاكمة أو دعوة أو اجتماع. فيقول لك: "يا أستاذ

يا أستاذ". فتتلفت، فيسلم هاشاً باشاً كأنه صاحبك من عشرين سنة وكأنه يهم بتقبيلك، وتقف أنت جامداً لأنك لا تعرفه ولم ترَ طلعته البهية قبل اليوم. فيقول لك معاتباً: "شو ما عرفتني؟ "، فتقول: "لا". فيقول: "الله! احزر يا أستاذ، تذكر".

وبعد أن يسائلك دقائق، يأخذ هيئة الجد ويقول: "أحب أن أعرض عليك مسألة آخذ رأيك فيها، أنا تزوجت كما تعلم بنت فلان وكان المهر

"، ويمضي يسرد قصة تستغرق نصف ساعة، يضيع فيها الدرس والمحاكمة والدعوة والاجتماع!

والثامن: المرأة النظيفة المدبّرة ربّة البيت المثالية، التي لا يخطر على بالها تنظيف السجاد وجمع ست بنات لضربها بالعصي إلاّ على السطح قبل أن تطلع الشمس، فلا تحس وأنت نائم بعد الصلاة إلاّ ست عصي قد نزلت خَبْطاً على رأسك في أوركسترا همجية وحشية توقظ الأموات فضلاً عن النائمين. ومثلها الرجل النظيف المهذَّب الذي لا يستطيع أن يتحمل الوسخ في فمه ولا في أذنه، ولا أن ينتظر حتى ينفرد بنفسه، فلا تزال إصبعه تدور في أنفه وفي أذنه وهو في المجلس الحافل، ينكش أسنانه بعوده، وربما فعل أشنع من ذلك فنكشها بظفره ثم مسحه بالمقعد، أو أخذ جريدة أو ورقة وطواها ونظّف أسنانه بطرفها!

والتاسع: الذي يدخل عليك فلا يجد على مكتبك ورقة إلاّ مدّ إليها يده فرآها، ولا كتاباً إلاّ فتحه، ولا جريدة إلاّ سحبها ونشرها ونظر فيها.

ص: 140

والعاشر: الذي يركب الترام فيضطجع على المقعد اضطجاعاً ويضع رجلاً فوق رجل. ولقد كنت مرة في مصر مع صديق لي من مشايخ الأزهر، معروف بالنكتة الحاضرة والروح الخفيفة، فركبنا التّرام، وكان الذي أمام الشيخ رومياً ضخم الجثة ثقيلاً، قد وضع رجلاً على رجل ومدّها حتى صار يمس بطرف حذائه جبة الشيخ، فنبهه الشيخ بلطف، فقال له:"أنا خرّ (أي حر)، إذا أنت ما بيعجبك أنت بياخذ تاكسي". فما كان من الشيخ إلاّ أن مدّ رجليه الاثنتين فوضعهما في حضنه. فقال: "إيه ده؟ إيه ده؟! "، فقال: أنت خر، أنا خرّين!

وسقط الركاب من الضحك.

* * *

ص: 141