الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الفندق
نُشرت سنة 1959
أكتب هذه الكلمات في فندق كبير في مصر لا أحب أن أسميه، لأني لا أريد الحديث عنه بالذات إنما أريد الكلام عن الفنادق كلها.
يمر الناس عليه فيرون اسمه على بابه تضيء حروفه، ترقص عليها الأنوار، ويلمحون أبهاءه الواسعة وأضواءه الظاهرة، ويرون خدمه بباهي الثياب وفخم الهيئات، فيحسبون أن فيه النعيم المقيم، ويتمنون أن ينزلوا فيه ليلة في العمر ليذوقوا لذة العيش ويعرفوا ما بهجة الحياة، وأنا النازل فيه لا أتمنى إلاّ أن أخرج منه وأعود إلى بيتي.
إن الإنسان لا يعرف قيمة النعم إلاّ إذا فقدها. ولقد عرفت الآن ما قيمة حياة الأسرة؛ إن قعدة بلدية على «طرّاحتي» وأولادي أمامي وكتابي في يدي أمتع من كل ما في الدنيا من فنادق.
وما حياة الفنادق؟
لقد عشت فيها مرة تسعة أشهر تِباعاً، كنت أنزل خلالها في أفخمها وأعظمها، ولقد خبرتها وعرفتها فلذلك كرهتها وعفتها.
تكون لك الغرفة فيها كل ما يمتع ويريح: السرير اللين، والفراش الناعم، والحمام النظيف، والماء الحار للغسل، والماء المثلج للشرب، والهاتف والجرس والرادّ، والتدفئة في الشتاء والتبريد في الصيف، ولكنك تحسّ -مع ذلك- أنك غريب وأنك مفرد، إذا أغلقت عليك بابك لم تشعر أن معك من يعنيه أمرك ويشغله شأنك، وإذا خُدمت فإنما تُخدَم لمالك، وكل شيء في الفندق بالمال، لا تستطيع أن تخطو خطوتين إلاّ إن دفعت قرشين.
إن نزلت من السيارة أسرع الفرّاش يفتح لك الباب ووقف في طريقك لا يزيح إلاّ بالقرشين، وإن ولجت الباب وجدت أمامك فرّاشاً آخر فدفعت له قرشين آخرين، وفي المصعد فرّاش ثالث وضريبة ثالثة، ورابع وخامس وتاسع وعاشر
…
حتى إنك إذا دخلت دورة المياه وجدت فرّاشاً يفتح لك باب بيت الخلاء ويقول لك: "تفضل يا بيه"! ويقف، وتقف أنت لا تدري كيف تصرفه. لا يدري أنه ما سمي هذا المكان بيت الخلاء (ولا مؤاخذة) إلاّ لأنك تخلو فيه بنفسك وتكون فيه وحدك، فهل يظن هذا الأحمق والذي أرسله ليلحقك إلى هذا المكان أن المرحاض «صالون استقبال» ؟!
والفنادق الكبار -فوق هذا كله- هي البقعة الوحيدة التي تجوز فيها السرقة وتُرتكب علناً! فالطعام الذي ثمنه عشرة يأخذون منك فيه خمسين. وأنا أدرك فرق السرير عن السرير والغرفة عن الغرفة، وأنه إذا كانت الغرفة في الفندق الصغير بعشرين قرشاً صاغاً فلتكن هنا بجنيهين، بزيادة عشرة أضعاف، لا بأس. ولكن ما الفرق بين البيضة المسلوقة التي تباع في السوق والبيضة التي
تقدم في الفندق الكبير؟ ولماذا يكون ثمنها في السوق قرشاً وهنا خمسة قروش؟ ولماذا يكون ثمن قنينة الكوكا كولا في الفندق بثلاثة أضعاف ثمنها في السوق؟
إذا أنا أخذتها في القهوة وزادوا عليّ الثمن أفهمُ أن الفرق أجرة القعود في القهوة، ولكن لا أفهم لماذا يُزاد عليّ ثمنها وأنا آخذها في مكان دفعت أجرة إقامتي فيه مضاعفة!
وهل يُعقل أن يكون عشاء الواحد بسبعين قرشاً مصرياً، إذا ضُمّ إليها ما يلحقها في العادة من ضميمة الخدمة والنُّحْلان (البقشيش) صار العشاء بجنيه للشخص الواحد، في البلد الذي يبدأ فيه راتب القاضي بخمسة عشر جنيهاً؟!
هذا وما يُقدَّم في هذا العشاء لا يزيد ثمن مثله في السوق على خمسة عشر قرشاً. فماذا أسمي ذلك إذا لم أُسَمِّه سرقة؟
هذا وأنا لم أنزل في «شبرد» ولا في «هلتون» حيث تكلف كل ليلة ثمانية جنيهات، وثمانية جنيهات هو المبلغ الذي يعيش به أكثر من نصف عائلات مصر شهراً كاملاً.
وما طعام الفنادق الكبار؟ أعوذ بالله من هذا الطعام. قد يزعم زاعم أنه طيب أو أنه صحي، ولكنه لا يستطيع أن يقول إنه طعام عربي ولا إنه معدّ للعرب ولا إنه طُبخ على أذواقهم؛ إنما هو ذوق الإنكليز وأسلوبهم فرضوه علينا.
ولقد أكلت في أكبر الفنادق في مصر ولبنان والعراق وباكستان والهند وسيام والملايا وأندونيسيا فلم أجد (كما أني
لم أجد في فنادق أوربا الغربية، وقد نزلتها) (1) إلاّ طعام الإنكليز وأسلوب الإنكليز لا سيما في الفطور؛ الفطور الذي يقدم في البلاد الحارة، بل سنغافورة وهي على خط الاستواء تماماً، هو الذي يقدَّم في صوفر التي تَعْتمُّ جبالها بالثلج!
فمتى نتحرر من «هذا» الاستعمار الاجتماعي و «ذلك» الاستعمار العقلي كما تحررنا من الاستعمار السياسي والعسكري؟ ومتى نعتز بعاداتنا ونتمسك بها كما يتمسكون هم بعاداتهم؟ ومتى تكون فنادقنا لنا تعدّ الطعام الذي نألفه ونشتهيه أو يكون لنا فيها -على الأقل- نصيب؟
إن من ينزل واحداً من هذه الفنادق الكبار في مصر أو دمشق أو بغداد أو جدة أو الرياض لا يحسّ أنه في بغداد ولا في دمشق ولا في مصر ولا جدة ولا الرياض، بل يظن أنه في إنكلترا أو فرنسا. كل شيء فيها أجنبي أجنبي؛ حتى اللغة
…
إن اللغة التي يتخاطب بها موظفوها والتي يقدّمون لك بها قائمة الحساب ليست اللغة العربية لغة البلد. ونحن نتظرّف أو نتلطّف أو نذل ونتصاغر، لست أدري ماذا أقول، فنخاطبهم بهذه اللغة الفرنسية أو الإنكليزية ونحن في بلدنا، ونحن نملك أشرف لغة وأجود لغة وأوسع لغة وأغنى لغة بالبيان وهي لغة العرب.
(1) ما بين القوسين أضافه جدي رحمه الله إلى الطبعات الجديدة من الكتاب؛ إذ لم يكن قد زار أوربا بعدُ لما صدرت الطبعة الأولى منه ولا حين صدرت المقالة (وقد صدرت في جريدة «الأيام» في السابع والعشرين من نيسان سنة 1959)(مجاهد).
إن هذا شيء لا يُحتمَل!
إني كلما سمعت العربي يتكلم في هذه الفنادق بغير العربية مجاراة لمن فيها أُحسّ النار في أعصابي من الغضب للعربية. إنهم يأكلون من خبزنا ويترفعون علينا، وإذا دخل الوطني هذه الفنادق بلباسه الشرقي العربي البلدي أروه الازدراء حتى يخجل بلباسه وهو في بلده.
أقول مرة ثانية: إن هذا شيء لا يُحتمَل!
لقد رضينا أن تأخذ هذه الفنادق من أموالنا بلا حق وأغمضنا عيوننا وتركناها تسرقنا، أما أن تأخذ من كرامتنا، وتعدو على لغتنا، وتزدري أزياءنا وعاداتنا، فلا.
وقد يكون في عاداتنا وأزيائنا ما هو غير صالح وما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، ولكنّا نريد أن نبدّله أو نعدّله نحن بأنفسنا برأينا ونظرنا، لا أن يعدّله لنا صبيان الفنادق و «كراسين» الأوتيلات.
* * *
وبعد، فإن أمانة القلم في أعناقنا -معشر الكُتّاب- توجب علينا أن نقرع به كل باب إصلاح، وهذا باب ما قرعه بقلمه قبل اليوم أحد من الكتّاب.
* * *