المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رسالة نُشرت سنة 1959   [هذه رسالة شرعت بها لإرسالها إلى صديق حبيب - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌رسالة نُشرت سنة 1959   [هذه رسالة شرعت بها لإرسالها إلى صديق حبيب

‌رسالة

نُشرت سنة 1959

[هذه رسالة شرعت بها لإرسالها إلى صديق حبيب يدرس في بلاد الغرب، ثم كسلت عن إكمالها فتركتها، فلما قعدت أكتب مقالة هذا العدد أخرجتها فأتممتها، وبعثت بها لتُنْشَر لتعم منها الفائدة ويشمل النفع، وليقرأها هذا الصديق مقالة في المجلة (1) إن فاته أن يقرأها رسالة في البريد.]

أتذكر مقالتي لك يوم ودّعتك؟ لقد كنت خائفاً عليك من هذه البلاد لأني أخافها -والله- على نفسي، وقد شارفت حدّ الكهولة الأقصى، وقد أعلنت خوفي يوم سفرك، أعادك الله بالسلامة والنجاح. فلما وردت كتبك رأيت فيها لساناً فصيحاً وتفكيراً صحيحاً وكلام رجل مؤمن، فاطمأننت عليك إلى حين. أقول إلى حين لأني أعلم أن المرء كالنبات، يعيش بنفسه وبالأرض التي يمتص غذاءه منها، والماء الذي يطفئ ظمأه به،

(1) وانظر مقالتي «إلى أخي النازح إلى باريس» نشرت في الرسالة بتاريخ 6 ديسمبر 1937، وهي في كتابي «صور وخواطر» .

ص: 221

والجو الذي يتنفس هواءه، فإذا نقلته إلى أرض غيرها بدلته التربة التي انتقل إليها والجو الذي صار إليه، ما لم يكن من النباتات التي أعطاها الله من القوة والتمكن ما يمنع عنها هذا التغيير والتبديل، وذلك أندر من النادر وأقلّ من القليل.

وليس يظهر هذا التبدّل من أول يوم، بل يحتاج إلى الزمن الطويل؛ إنه مرض في النفس شأنه شأن الأمراض كلها، لا بد لها من زمان تفرخ فيه جراثيمها (1) وتنمو وتسيطر، فترى الرجل تحسبه صحيحاً وهو سقيم.

والمرء أبداً ما بين ماضيه وبين آتيه، يعيش بذكريات الماضي وبآمال المستقبل، فإذا انتقل من مثل دمشق إلى باريز أو برلين مثلاً، ورأى لوناً من الحياة جديداً وانطلاقاً ميسوراً بعد تقيُّدٍ بقيود الدين والخلق، ولهواً ممكناً بعد جِدٍّ، لم يَبْدُ لهذه الحياة الجديدة أثر فيه وهو يعيش فيها، بل ربما تنبّهت في نفسه الذخيرة الدينية فازداد تمسكاً. إنما يبدو ذلك ويظهر ويعمل عمله إذا عاد إلى بلده، فافتقد ذلك الانطلاق وحنّ إليه، وضاق بهذه القيود وثقلت عليه.

وقد شاهدنا هذا في ناس من إخواننا عاشوا في باريز مثل عيش الزهاد والعباد، فلما رجعوا إلى دمشق هاموا على وجوههم كالحيوانات، تسوقهم شهواتهم وحدها، لا يهابون حراماً ولا يخافون عاراً ولا يحفِلون بشيء. ولولا أني لا أحب أن أعرض

(1) الجرثومة في اللغة: الأصل، وجراثيم الأمراض: أصولها، وإطلاقها على «المكروبات» صحيح من باب التجوز.

ص: 222

لأحد من الناس بعينه (ولا يجوز لي أن أعرض لأحد) لسميت لك رجالاً بأسمائهم لتعرفهم.

وأنا ما سردت عليك هذه الفلسفة المزعجة إلاّ لتعلم أنك لا تزال تعيش بذخائر الماضي في نفسك وبقايا آداب الصبا، وأن الذي تدّخره في نفسك الآن من ذكريات هو الذي ستحيا به بعد عودتك؛ فانتبه يا أخي، بل يا ولدي، لما ينطبع فيها. واعلم أن لكل رفيق ترافقه، وكل مكان تحله، وكل كتاب تقرؤه، وكل رأي تسمعه، لكلٍّ من ذلك أثر في نفسك، لا تحس به لكنه موجود كالبذرة الصغيرة في الأرض. بذرة زيتون مثلاً، لا يراها أحد ولا يلتفت إليها، ولكنها تصير يوماً شجرة تضطر كل من يمر بها إلى أن يراها. وتبقى مئة سنة على حين يظن من ألقاها أنه نبذها ورماها. لذلك قال ابن عطاء الله السكندري (1):«لا تمكّنْ زائغَ القلب من أذنيك، فإنك لا تدري ما يعلق بهما منه» . وقد كنت عرضت لهذا المعنى في بعض ما كتبت، ولكني أعيده عليك لأن من المعاني ما لا بدّ فيه من الإعادة ولا يضر به التكرار.

ولقد ذهبت إلى مصر وأنا في مثل سنّك. وأين مصر يومئذ (سنة 1928) من باريس اليوم؟ وكنت في مصر مثلاً مضروباً في التشدّد والبعد عن كل ما يحرم أو يشين، وعدت منها وأنا أحسب أني ازددت بسفري إليها إيماناً وتمسكاً، وإذا المرض الذي داخلتني فيها عدواه قد تمكن مني، حتى إني لا أزال إلى اليوم

(1) في «الحِكَم» ، وهو كتاب لا يخلو من ضلالات ولكن هذه كلمة حق فيه.

ص: 223

أعاني أثر هذه الفترة في عواطفي وفي أفكاري. وما ذلك لفساد مصر بل لأنني غدوت فيها طليقاً، ليس في الناس من يعرفني فيراقبني أو أعرفه فأتهيبه. وأنت في بلد فاسد، المحرمات فيها معلنة والمنكرات ظاهرة. وإنّ إلْفَ رؤية الحرام ودوام مشاهدته يهوّن على النفس اقترافه ويُذهب منها هيبته، نعرف ذلك من نسائنا المسلمات؛ كان عهدنا بالواحدة من نسائنا أنها تضطرب وتجزع إن لمحها الأجنبي من فتحة الباب أو شق النافذة، وتسرع فتتوارى، فصارت ترى الرجل فتقابل وجهه بوجهها وتثبت في عينيه عينيها. وكان الرجل إذا رأى الأجنبي ينظر إلى زوجه استكبر ذلك واستنكره، وهاج في نفسه تصوّن المسلم ونخوة العربي، فتراخى الحبل حتى صار الرجل يماشي امرأته في الشارع، ويضاحكها في الطريق، ويرافقها إلى السينما. وصار من العرب المسلمين من يقدم ابنته إلى الأجنبي ليراقصها، يدني صدره من صدرها ويلفّ ذراعه على خصرها ويلامس بساقه ساقها، وصار الأجنبي يأخذ الزوجة في هذه الحفلات الداعرة الفاجرة من زوجها ليرقص معها، فلا تستعصم المرأة ولا تأبى، ولا يغضب الزوج ولا يغار، ولا يعجب الناس ولا ينكرون!

بل لقد سرى هذا الداء إلى نساء العلماء الفصحاء، فصرن يكشفن الوجه حيث تُؤمَن الفتنة وحيث تُخشى، فإذا كشفنه لم يتحرجن من مسامرة الأجانب من الأقرباء في السهرة، ومسايرة الأجانب من الأصدقاء في السفرة. يفعلن ذلك أولاً بحضرة الزوج وإذنه، ثم يفعلنه في غيبة الزوج وبلا علمه، ثم يتبع الوجهَ الشعرُ ثم النحر، والكفّ ثم الذراعُ ثم الصدر، ثم يكون هذا الحسور وهذا الفجور.

ص: 224

وهذا كله إنما كان تقليداً للإفرنج؛ نفعله لأنهم يفعلونه، ولأن المستعمرين قد اغتنموا غفلتنا وهجوعنا في مئة السنة (1) التي مضت وتأخرنا عنهم في طريق الحضارة المادية، فلم يدخروا جهداً ولم يألوا وسعاً في إشعارنا سبقهم إلى هذه الحضارة وتأخرنا، وعلمهم بهذه العلوم وجهلنا، وقوتهم بهذه الأسلحة وضعفنا، حتى صار تعظيمنا إياهم وهيبتنا لهم حقيقة راسخة في قلوبنا، اعترفنا بها أو أنكرناها.

وكان من نتائجها أن تركنا شريعتنا لقوانينهم، وأخلاقنا لعاداتهم، وفضائلنا لرذائلهم. وكان هذا كله تقليداً على السماع ونحن في بلادنا، فكيف إذا رآه الواحد منا بالعيان وهو في بلادهم، وكيف إذا كان الرائي شاباً ملتهب الغريزة متوقد العاطفة، يحمل بين جنبيه نفساً قد حُشيت بالبارود؟

ماذا يصنع الشاب الذي كان في بلاده يفكر في المرأة ليله ونهاره، صورتها أبداً في خياله وحديثها أبداً على لسانه، يثيره مرآها على بعد مئة متر، فصار إلى بلد يرى فيه حيثما تلفّتَ أسراب الحسان المثيرات، كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يكلفه نيلهن إلا أن يشير بيده فيترامين عليه، لا يحجزهن دين ولا يمنعهن عرف ولا يمسكهن حياء، في معشر يرون من المدنية أن تستباح الأعراض ويتسافح الفتيان والفتيات، قد هانت المرأة حتى صار عرضها يبذل في ملء بطنها وستر جسدها، وصارت تُنال بغذاء وكساء.

(1) هذا هو التركيب الصحيح.

ص: 225

فماذا يصنع الشاب في هذه المحنة؟ وكيف يغفل الآباء عن هذا البلاء؟

لو سمع الأب أن في هذا البلد الذي يبعث إليه بابنه وباءً فتاكاً وأن (احتمال) إصابة ولده به واحد في الألف لما أرسله إليه ولو كان فيه علم الأولين والآخرين، فكيف يرسله إلى بلد (احتمال) إصابته فيه بخلقه، وتفريطه فيه بعفافه، وتهاونه فيه بدينه تسعمئة وتسع وتسعون في الألف؟

لقد حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى السباعي عما رآه في أوربا لما ذهب إليها للتداوي (شفاه الله وأتم عليه نعمة العافية)(1) فسمعت والله شيئاً أعجب من العجب، وأيقنت أنه لو امتُحن العجوز (2) العابد بما يمتحن به شبابنا هناك لخيف عليه والله السقوط.

ذلك لأن النفس البشرية مفطورة على ابتغاء اللذة وقصد الراحة وترك العناء، ميالة إلى الانطلاق، ولأن الانحدار إلى المعصية أهون من التسامي إلى الطاعة؛ كالماء أَفْلِتْه يتحدّرْ إلى قرارة الوادي، وأَصْعِده لا يصعد إلا بمضخة، لذلك قلَّ في الناس الطائعون وكَثُرَ العاصون، وكثرت جرائدهم ومجلاتهم وأماكنهم ووسائلهم إلى ما هم فيه. إن الرجل الفاسد يلوّح للشاب الصالح بالجميلات وما يقدّر من اللذة بقربهن، والخمر

(1) نُشرت هذه المقالة -كما هو مذكور في أولها- سنة 1959، وتوفي الشيخ السباعي رحمه الله بعد ذلك بخمس سنين (مجاهد).

(2)

كلمة عجوز في اللغة خاصة بالمرأة ولكنا استعملناها تجوزاً.

ص: 226

وما يتوهم من اللذة بشربها، والقمار وما يؤمل من الربح بتعاطيه، ويأخذه إلى المراقص والمشارب وكل مكان لذة فيفسده. فإلى أين -لعمري- يأخذه الرجلُ الصالح ليصلحه، وما الذي يغريه به إلا أن يعده للآخرة الغائبة بدلاً من الدنيا الحاضرة؟ وذلك مطلب عال لا يصعد إليه إلا بجهد دونه جهد السجن والضرب والقتال. لذلك جعل الله هذه المنزلة لمن يؤمن بالغيب وكرر الثناء عليه في القرآن، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن سبعة يظلّهم الله بظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، يوم الحشر للحساب، منهم الشاب الذي نشأ في طاعة الله وقاوم مغريات الشباب، ومنهم رجل دعته امرأة ذات جمال حتى إذا تمكن منها ذكر الله فقام عنها.

* * *

إن سفر الشاب وحده إلى أوربا خطر مؤكد، ولكن الآباء لا ينتبهون إليه ولا يفكرون فيه.

إنهم يربون الولد على العفاف ويحمونه من فتنة النساء، حتى إذا ما ظنوا أنه استقام وصلح، ووطّن نفسه على العفة والتقى، وطوى جوانحه على مثل النار الآكلة من لذع الشهوة، نقلوه إلى بلد كل شيء فيه مباح، الفتن فيه تحف به من كل جانب، وقد زالت الموانع وسقطت الحدود، فليس دون المعصية حد، لا حد الدين في بلد لا يدين بدين الإسلام، ولا حد العار في بلد لا يرى العار عاراً.

فهلا فكر الآباء في مصير أولادهم حين يبعثون بهم ليدرسوا في ديار الغرب؟

ص: 227

وبعد، فقد ذهبت -أنت يا أخي- وقُضي الأمر، فاجعل خوف الله بين عينيك، وتصور دائماً ذهاب لذة المعصية وبقاء عقابها، وذهاب ألم الصبر عنها وبقاء الثواب عليه.

واسأل الله العون واستمد منه القوة، والسلام عليك ورحمة الله، وأستودع الله دينك وخلقك.

* * *

ص: 228