المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أسباب المشكلة نشرت سنة 1958   أمامي الآن كتابان، أحدهما من شاب موظف - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌أسباب المشكلة نشرت سنة 1958   أمامي الآن كتابان، أحدهما من شاب موظف

‌أسباب المشكلة

نشرت سنة 1958

أمامي الآن كتابان، أحدهما من شاب موظف والآخر من آنسة شابة. الكتاب الأول يشير إلى مشكلة من أكبر المشكلات الاجتماعية في بلدنا، بل هي أكبرها بلا جدال، والكتاب الثاني يقدم الحلّ لهذه المشكلة. ولو أني أعددت العدة وهيأت الوسيلة ليصلا إليّ في يوم واحد لما وُفّقت إلى ما جاءت به هذه المصادفة العجيبة. وأكرر القول بأن الكتابين أمامي، فلا تظنوا أني أتخيّل، وفيهما الأسماء والعناوين ولكني لن أذكر منها شيئاً.

يقول صاحب الكتاب الأول إنه موظف صغير براتب لا يتجاوز مئتي ليرة، وأنه شريف المَحتد حسن الخلق، أحبّ أن يعصم نفسه بالزواج وأن ينشئ له أسرة، فخطب أول مرة فبحثوا عنه وسألوا، فلما لم ينكروا منه خلقاً ولا ديناً قالوا إن راتبه قليل. فخطب مرة ثانية وأفهمهم أن راتبه قليل، قالوا:"وما الراتب؟ هل هي بيعة يُبحث فيها عن الثمن؟ نحن لا نهتم بالمال". ففرح وقال: "هنا حَطَّ بنا الجَمّال (1) ". وكاد ينتهي الأمر لولا أنهم قالوا إنه قبيح الصورة، مع أنه جميل (هو الذي يشهد لنفسه بالجمال لا أنا،

(1) هذا التعبير من العامي الفصيح.

ص: 119

وأنا لم أره ولا أعرف وجهه). فخطب مرة ثالثة وقال لهم: "لا نريد مشاكل، والشرط في الحقل ولا الخصومة في البيدر (1). أنا موظف صغير مرتبي مئتا ليرة سورية فقط، وشكلي كما ترون". قالوا: "قبلنا بشكلك وراتبك، ونحن نرحب بك، ولكنا لا نكتم عنك أن أخت البنت تزوجت بأربعة آلاف، ونحن لا نستطيع أن ننقص مهرها عن مهر أختها". فلما سمع بالأربعة الآلاف قال: "السلام عليكم". وخطب الرابعة، وقال لهم:"إن مرتبي كذا، وشكلي كذا، وأنا لا أدفع أكثر من ألف ليرة مهراً". قالوا: "أهلاً وسهلاً، قبلنا". وبعد مفاوضات ومحادثات لا آخر لها قالوا: "لا بد من أن تترك أهلك وتستأجر داراً وتفرش غرفة نوم". فحسب ذلك فوجده أثقل من ذلك المهر فولّى هارباً. وخطب الخامسة، ووضح كلّ شيء وقبلوا بكل شيء، وقُرئت الفاتحة، واجتمع بالمخطوبة، وأعد المال، وعُملت معاملة الزواج، ولكنهم رفضوا في اللحظة الأخيرة إذ تبين أن أم الشاب من النوع «البلدي» ، لا تعرف شرائط الحفلات ولا قواعد الزيارات، وأنها شوهدت متلبسة بجريمة فظيعة، إذ استعملت في وليمة الخطبة شوكة اللحم في أكل البطيخ، وشربت الشوربة بصوت مسموع، وقشرت التفاحة وهي تمسكها بيدها!

ونسي صاحب الكتاب ذنباً آخر لهذه الأم «البلدية» ، هي أنها كلما أكلت حركت ذقنها!

لذلك ترك التفكير بالزواج وكره النساء، حتى صار سوداوياً

(1) وهذا أيضاً.

ص: 120

موسوساً. وهو يختم كلامه بشتائم حارة منتقاة للبنات وآباء البنات (وأنا منهم مع الأسف) ولهذا المجتمع كله.

* * *

أما الكتاب الثاني فتقول صاحبته إنها إحدى ثلاث أخوات شابات يعشن في كنف أخيهن، وهو لا يقصر في الإنفاق عليهن، ولكنه كلما جاء خاطب ردّه وتمحّل له الحيل؛ فهذا ضيّق ذات اليد وهو يخاف أن يضيّق على أخته، وهذا جاهل ليس كفواً له وهو العالم الجليل (أي في رأي نفسه)، وهذا من أسرة مجهولة، وهذا مقطوع ليس له أحد فهو يخشى إذا كان خلاف ألا يجد من أهله من يكلمه في أمره، وهذا كثير الأهل له أم وأخت وامرأة أخ، فهو يخشى أن يظلمن أخته

وإذا جاء خاطب لم يجد له علّة أغلى عليه المهر وأرهقه بالتكاليف. وهي تستشير وتستجير، وتخاف أن يشيع ذلك عنها فلا يُقبل الخُطّاب إليها وتبقى عانساً طول عمرها.

* * *

هذان هما الكتابان يا أيها السامعون، وهذه هي المشكلة الكبرى في حياتنا الاجتماعية: بنات شابات يملأن البيوت ينتظرن الزواج، وشباب عزاب يجوبون الطرقات يطلبون الزواج. ولكن بين الفريقين سداً منيعاً، يمنعهما من الاتصال الحلال فقط، أما في الحرام فليس بين الفريقين حجاب! وهذا السد هو الآباء، عفواً، لست أعني الآباء جميعاً، بل الذين لم يدركوا إلى الآن أن في الدنيا اليوم وباءً فتّاكاً يدمر الأخلاق ويبدّد الأعراض، وأنه لا

ص: 121

دواء له ولا منجى منه إلا بالزواج، وأن كل من يمنع الزواج أو يضع في طريقه العراقيل أو لا يسهّله وهو قادر على تسهيله يكون عاملاً على زيادة هذا الوباء ونشره، وأن الخطر فيه على الجنسين ولكن الخطر على البنات أشدّ، لأن الشاب يجني جنايته ويمضي والبنت هي التي تحمل عواقبها، ولأن المجتمع يغفر للشاب ويقول:"ولد أثم وتاب" ولكنه لا يغفر للمرأة أبداً ولا يقبل لها توبة، وأن والد البنت لو عقل لسعى هو في زواجها.

لا؛ لا يعرضها على الناس ولا يرمي بها إلى أول طالب لها، بل يتبع سبيل الشرع وطريق العقل، فينظر إلى دين الخاطب وإلى خلقه، فإن رضي دينه وخلقه نظر إلى وضع أسرته وعادات أهله وتفكيرهم، فإن كان هو وأسرته موافقين للبنت وأسرتها، متقاربَين في الغنى والفقر وفي العادات وفي الوسط، وكان يستطيع أن يعيّشها كما كانت تعيش في بيت أبيها (1)، فليقبل به.

أما المهر فلا بدّ منه، ولكن ليكن معتدلاً لا يرهق الخاطب ولا يضيع حق البنت. فإن كان الخاطب صالحاً وليس في يده مال حاضر (كأكثر الشباب) فليكن المهر مؤجَّلاً، فإن وفّقَ الله وعاشا بسلام لم يضره كثرته مع تأجيله.

المهر شيء لازم، أما الشيء الذي ليس بلازم ولا مطلوب، والذي يمنع الزواج حقاً ويصعّبه ويعرقل مسيره، فهو هذه العادات السيئة المتّبَعة في الزواج. وهذه العادات إنما يُسأَل عنها ويحمل تبعتها النساء. وأنا أقول بالعناية بكل ما ينفع الزوجين في حياتهما،

(1) وهذا هو الشرط الأول.

ص: 122

أما الذي لا يفيد الزوجين ولا تدوم منفعته إلا سبعة أيام فهذا الذي لا أقول به.

إن هذه العادات تكلف أكثر من المهر، تكلف الخاطب وتكلف الأب وربما كان فيها خراب البيتين. وحفلة العقد لا بد منها، وهي من السنة، ولكن المصيبة أولاً في الثياب؛ أنا أحضر بالبذلة التي ألبسها عشرين حفلة وأبقى عليها خمس سنين، أما الأم فلا تحضر حفلة البنت الثانية بالبذلة التي حضرت بها حفلة البنت الأولى، يا عيب الشؤم! كيف يراها الناس بها مرتين؟! والأخت كذلك، والعمة وبنت العم، وأخت سلفة امرأة العم، وحماة خالة السلفة

كل واحدة تكلّف زوجها ثمن ثوب جديد لهذه الحفلة! أي أن الحفلة الواحدة تفسد موازنة أربعين أسرة، وربما أدت إلى خلاف يدمر حياتها الزوجية.

هذه واحدة، والثانية في طاقات الأزهار. أعرف حفلة عرس كانت في دمشق بلغ ثمن ما أحضر فيها من زهر ألفَي ليرة. ألفي ليرة حقيقة! أتدرون ماذا كان مصيرها؟ لم يتسع لها المكان فركم بعضها فوق بعض، فاستؤجر لها بعد يومين طُنْبُر (1) ليحملها إلى المزبلة. ألفا ليرة ألقيت على المزبلة وفي البلد ألفا أسرة تتمنى الليرة!

والثالثة: عُلَب الملبَّس، وثمن الواحدة منها لا يقل عن خمسة وسبعين قرشاً وقد يصل إلى خمس ليرات، وملؤها يكلف نصف ليرة، فاحسبوا كم يكون ثمن هذه العلب لحفلة متوسطة فيها مئة مدعو أو مدعوة.

(1) عربة نقل صغيرة يجرّها حيوان (بغل أو حمار).

ص: 123

هذا في حفلات الأوساط من أمثالنا، ولم أذكر الحفلات التي تكون في النوادي والفنادق والتي تشتمل على المئات من المدعوّين ويكون فيها من التبذير والمعاصي وإضاعة الأموال ما لا يدري به إلا الله.

ولا يقتصر الأمر على هذه الحفلة، فإن وراءها حفلة العرس والهدايا التي يشترط تقديمها إلى العروس و «النقوط» ، وهي بلاء آخر: يكون عندك الفرح فيهدى إليك أشياء لا تحتاج إليها ولا تنتفع بها، وقد تتكرر الهدايا فيجيئك عشر ثريات وليس في دارك إلا أربع غرف، وإن بعتَها عيّروك ببيعها، فلا تدري ماذا تصنع بها. ثم يطالبونك بوفاء هذا الدين فجأة. تكون قد وضعت موازنتك وحسبت وجمعت واستعملت الجبر والهندسة وحساب اللوغارتمات حتى أوشكت أن تعدل النفقات بالواردات، فتفاجَأ بطلب مئة ليرة ثمن هدية لفلان الذي زوج بنته. فتقول: إذا كان في دار فلان الفرح بزواج بنته، فهل يلزم من ذلك أن يكون في داري الحزن لاختلال موازنتي؟

فتقول المرأة: وهل نسيت إذ أهدى إلى ابنتك الزهرية الثمينة المصنوعة من الفخار الصيني؟

تقول: وهل طلبت أن يهدى إلى بنتي زهرية ثمينة مصنوعة من الفخار الصيني؟ وما الذي استفدته أنا منها؟ وقد وضعت في دار بنتي لا في داري، ولو وُضعت في داري فما فائدتها إلا رجفة القلب من الخوف الدائم عليها أن تصطدم بها الخادم ويرميها الولد فتنكسر؟!

ص: 124

فتقول: لا بد من ذلك، عيب!

وما تزال تلح عليك وتثقب بذلك أذنيك حتى تستسلم وترفع الراية البيضاء، وتقول: خذوا اشتروا هدايا للناس بثمن خبز العيال وعلى العقل السلام.

هذه العادات التي يدافع عنها أمهات البنات، والحماقة التي تشتمل عليها رؤوس بعض الآباء، هي سبب المشكلة.

ولو أننا استطعنا الاستغناء عن الحفلات الكبيرة وقصرنا الأمر على الأقربين من الأهل، وألغينا الكماليات التي لا نفع لها، ومنها غطاء السرير (طقم التخت) الذي لا يستعمل إلا خمس مرات من العمر وثمن الرخيص منه يزيد عن مئة ليرة، أما الغالي فأعوذ بالله من ثمنه. ولو عقلنا أكثر لاستغنينا عن ثوب العرس الذي لا يُلبَس إلا أياماً ثم يعلق في الخزانة كما يعلق الهيكل العظمي في خزائن كلية الطب، لماذا ننفق المئات وربما أنفقنا الألوف ثمن هذا الثوب إذا كان لا يُلبس إلا أياماً؟ لماذا لا نستأجره أو نستعيره؟

أنا أرى أن ننظر في هذه النفقات، فما كان منها ضرورياً للعروسين مفيداً لهما في حياتهما الزوجية وكانا يقدران على دفع ثمنه قبلنا به، وما كان الغرض منه مجرد إعجاب الناس (كثوب الزفاف وغطاء السرير وطاقات الزهر وعلب الملبس) أبَيْناه. إن كل واحد منا يحب أن يثني الناس عليه ولكن دفع ألف ليرة لسماع كلمة إعجاب، كلمة «ما شاء الله، والله شيء حلو» حماقة، إن قيمتها أقل من ذلك بكثير.

ص: 125

وبعد، فإن فيما كتب الشاب في الكتاب الأول مبالغة. ولو أنه خطب من أمثاله، من ناس يعرفهم من قبل الخطبة ويعرفونه، لما ردّوه ولما اعترضوا على ماله ولا على شكله ولا على أبيه وأمه. ولو أن التي كتبت إليّ الكتاب الثاني راجعت القاضي لمّا جاءها الخاطب الصالح، وتيقن القاضي من صلاحه ومن تعنّت الولي، لزوّجها على رغم أنف أخيها.

* * *

يا أيها السامعون، إنه لا يُصلح ما نشكو من الفساد إلا تسهيل الزواج. وأنا أرى أن من يسعى في زواج ويعمل على إتمامه يكون ساعياً في خير وبرّ، عاملاً لمكرمة وفضيلة، ويكون قائماً بطاعة الله وخدمة الوطن.

فيا مَن عنده بنات: لا تردّوا الخاطب الصالح إذا جاءكم ولا ترهقوه بالمطالب. ويا أيها الشباب: عجلوا بالزواج، فإنكم لا تطيعون الله بعد إتيان الفرائض وترك المحرمات بأفضل من الزواج، تصونون به أخلاقكم وتحفظون به دينكم. ويا عقلاء البلد، ويا دعاة الإصلاح، ويا أرباب الأقلام، ويا أصحاب المنابر: اجعلوا الزواج من أول ما تعملون له وتسعون لتيسيره.

والله يوفقكم ويجزل ثوابكم.

* * *

ص: 126