المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌أين أرباب الأقلام

‌أين أرباب الأقلام

؟

نشرت سنة 1958

زارني شاب فاضل قال إنه من «لَحْج» ، ففتشت في زوايا ذهني فلم أجد شيئاً عن لحج هذه. ووجدتني أجهلها جهلاً مطبقاً، لا أعرف شكلها ولا أهلها، ولا أدري كثيراً ولا قليلاً من خبرها. ونظرت فوجدت أن كل ما نعرف عن بلادنا (العربية والإسلامية) هو ما ذكره المصنفون الأولون وما نحفظ من شعر فيها مما قاله الشعراء الأولون، ولولا أن الله يسّر لـ «ياقوت» أن يصف لنا هذه البلاد التي مرّ بأكثرها تاجراً، ويجمع ما قرأ عنها، في كتابه العظيم «معجم البلدان» ، ولولا هذه الكتب الأربعة أو الخمسة الأخرى، لجهلنا عن بلادنا كل شيء.

فأين الكتب التي ألفها فيها علماؤنا اليوم؟ وأين الشعر الذي قاله فيها شعراؤنا؟ إنه لم يبق في فرنسا -مثلاً- جبل ولا نهر ولا قلعة ولا قصر إلا قال فيه الشعراء ووصفه الكتاب وكتب عنه العلماء. ونحن نعيش في أجمل البلاد، وأحفلها بالماضي الضخم والمجد التليد، وآمال شعب هبّ ينظر إلى الأمام وينشئ المستقبل المجيد، ثم لا نقول فيها شيئاً!

هاتوا خبّروني: كم قصيدة قال شعراء الشام في بلودان

ص: 37

والزبداني وعين الصاحب والعين الخضراء، وهذا الوادي الذي هو بيت القصيد في ديوان الوجود والذي لا يدانيه في جماله وسحره واد؟ هل قالوا في ذلك كله وفي جنات لبنان معشار ما قاله شعراؤنا الأولون في سَلع ومنى ونَعمان وذي سَلَم وهاتيك الصحارى المقفرات؟

ونقول إننا في إبّان نهضة أدبية أوفى فيها الأدب العربي على الغاية!

* * *

وتعالوا أسألكم: ماذا تعرفون عن الكوفة؟ لا أريد الكوفة القديمة التي ملأت أخبارها كتب التاريخ والأدب، بل الكوفة اليوم: أين تقع؟ وماذا بقي منها؟ وما صفتها؟ والبصرة الآن: ما مكانها من البصرة القديمة؟ وأين المِربد؟ بل خبّروني عن دمشق: هل تعرفون حدود دمشق أيام الأمويين؟ هل تعرفون تاريخ امتدادها من بعدُ وتوسعها؟

تقرؤون في كتب الأدب والتاريخ أسماء نجد واليمامة وجبلَي طيء، فهل تعرفون ما حدودها وما أسماؤها الآن؟ وهل تدرون أين جرت معركة القادسية وأين كانت معركة اليرموك؟ وأين «عين جالوت» التي كانت فيها الموقعة الكبرى، وأين

أين حطين؟

وتحجّون كل سنة، فهل عرفتم أين وُلد الرسول صلوات الله عليه؟ وأين دار الأرقم؟ وأين مكان الرّماة في أحد؟ وأين كانت منازل اليهود التي أُجلوا عنها؟

ص: 38

بل أنا أسألكم أن تمتحنوا أنفسكم فتجيبوا فوراً بلا مراجعة ولا فكر: أين تقع مدينة مراكش، وما بعدها عن فاس؟ وأين مسجد القرويين وأين جامع الزيتونة؟ وهل القيروان على البحر أو على سفح جبل، وما صفتها اليوم؟

هذا ولم أسألكم عن مدن الإسلام في فارس والأفغان والهند وأندونيسيا لأني واثق أنكم لا تعرفون منها إلا أسماءها، وهذه الإحصاءات الميتة التي بقيت في نفوسكم من درس الجغرافيا.

وقد سألت عشرات المتعلمين في مصر عن الأُبُلّة التي عدّها ياقوت في متنزهات الدنيا، فما عرف أحد أين هي اليوم. وأعجب من ذلك أن طالباً في كلية الآداب في القاهرة أبوه شامي وهو مولود في مصر؛ سألني مرة:"و «بردى» ده يبقى إيه؟ "! ولو قال: من أين ينبع بردى أو أين يصب؟ لكان لذلك وجه، أما أن يسأل عنه:"يبقى إيه؟ " لا يدري أهو نهر أم جبل أو هو تمثال في متحف أو لون من ألوان الطعام، فشيء لا يكاد يصدَّق!

ولم ينفرد إخواننا المصريون (أعني قبل الوحدة) بجهل بلادنا، فنحن -على كثرة ما نقرأ عن مصر في مجلاتها وما نرى من مناظرها في «أفلامها» - لا نعرف غير القاهرة والإسكندرية. ولو سألت جمهرة المتعلمين منا: أين تقع الفيوم من المنصورة؟ وما الدقهلية من الغربية؟ لما دروا.

ونحن لا نكاد نعرف عن المغرب دانيه وقاصيه شيئاً. أما سائر بلاد الإسلام فأنا أقر على نفسي أنني لم أكن أعرف عن الهند والملايا وأندونيسيا (قبل أن أذهب إليها) أكثر مما أعرف اليوم عن

ص: 39

الفلبين ونيوزيلندة، حتى تاريخها (وهو فصل كبير خطير ماجد من تاريخ الإسلام) لم نقرأ منه شيئاً وليس في الكتب التي هي تحت أيدينا شيء منه.

بل إن كثيرين من الشاميين الذين يقرؤون هذا المقال لا يعرفون بلاد الشام! لست أعني معرفة الشوارع والساحات، بل معرفة العادات والمواضعات. فمَن مِن أهل دمشق يعرف أسلوب الاحتفال بالعرس أو الختان في قرى إدلب -مثلاً- أو عزَاز؟ بل من يعرف من شبابهم كيف كانت طرائق الزواج في دمشق نفسها في القرن الذي مضى؟

فأين مَن وصف هذه العادات وسجلها من الأدباء؟ أين المقالات الوصفية والقصص والقصائد التي قيلت في نضالنا الفرنسيين في هذه المواقف الرائعة التي وقفناها ربع قرن كامل؟

إنه ليس في الدنيا أمة تجهل ديارها ولا تعرف نفسها إلا نحن العرب. إن في كل بقعة من ديارنا معدناً (أي منجماً) هو أثمن من معادن الفحم والنفط: معادن جمال ومجد، وطريف العادات وبارع الحكايات. وفي كل بلد شخصيات لا يصل إلى معرفتها التاريخ إن لم يدلّه عليها قلم الأديب، ونكت ونوادر، وأمثال سوائر، وأغان عبقريات. فلماذا يضيع ذلك كله؟

أما أجدادنا فأشهد أنهم ما قصّروا؛ ولقد وصفوا لنا حال عصرهم ورجال بلدانهم، حتى إنهم دونوا التوافه من أخبارهم والغث من كلامهم، وسجلوا أخبار عبيدهم وإمائهم، وعقلائهم ومجانينهم، وصالحيهم وطالحيهم، وهم (كما يزعم زاعمون منا)

ص: 40

كانوا في عصر تأخر وانحطاط. ونحن في عصر الأدب والفن

لم نصنع شيئاً.

ولو أن أدباءنا عكفوا من أول هذه النهضة على أن يصف كل أديب قريته التي خرج منها وبلدته التي نشأ فيها: ريفها وعمرانها، وشوارعها وميادينها، وآثارها وخلائق أهليها، وعاداتهم في أفراحهم وأتراحهم، وأعراسهم ومآتمهم، وزواجهم وطلاقهم، وجدّهم ولهوهم، وأعيادهم ومواسمهم

كم كان يجتمع لنا في هذا القرن من الثروة العلمية والأدبية، وكم يَغْنَى تاريخنا ويُفيد أدبُنا؟ وكم من صور الطبيعة، وصفحات التاريخ، وعبقري الشعر وبارع القصص يجتمع لنا؟ وكم من سير الرجال وأحاديث الأبطال، وقصص الحب والجمال، نحفظ من الضياع ونستنقذ من النسيان؟

الأماكن أوعية الحوادث وظروف التاريخ. وما التاريخ إلا زمان ومكان ورجال، وقد مرّ الزمان فلا يعود، وذهب الرجال فلا يرجعون، ولم يبق إلا المكان؛ فهو جسم التاريخ. وإذا نحن رأينا (وأرينا تلاميذَنا) الساحة التي جرت فيها المعركة، والدار التي عاش فيها العظيم، والقلعة التي افتتحها القائد، فقد رجعنا إلى التاريخ وعشنا فيه. وإذا لم نستطع زيارة المكان فلا أقل من أن تكون له اليوم صورة فنرى الصورة، وأن يكون له وصف فنقرأ الوصف.

إن من العرب من يعرف من صفة برج إيفل في باريز والجسر المعلق في نيويورك أكثر مما يعرف عن «ملويّة» سُرّ مَن رأى وجسر بغداد، لأنه يرى هذه في السينما كل يوم ويبصر صورتها

ص: 41

في كل كتاب، وتلك لا يعرفها إلا مَن رآها.

بل إن من الأدباء من شد الرحال وسافر إلى أوربا فوصف الرَّيْن والبندقية، ولكنه لم يسافر إلى الشام ولا إلى العراق، ولم يصف بردى ولا بندقية العرب.

ألا تدرون أن البصرة بندقية العرب؟ وأن فيها إلى جنب كل شارع قناة، فأنت تركب السيارة في الشارع أو الزورق في القناة؟ وأن فيها أماكن لا مسالك فيها إلا أقنية الماء، ولا مركب إليها إلا الزوارق تسير فيها بين غابات النخيل وخمائل الورد حتى تنفذ إلى شط العرب؟

فيا شعراء العربية، ويا أصحاب الأقلام، ويا معلّمي الإنشاء: خلّدوا بالأدب كل دار عاش فيها عظيم، وكل بقعة نشأ فيها مجد، وكل ساحة ولد فيها ظفر، وكل روضة هام فيها شاعر، وكل جبل وكل مصيف وكل مشتى. عودوا إلى الطبيعة فصفوها، لا تقتصروا على وصف ذراها وسفوحها ومساربها وسوحها، بل انفذوا إلى قلبها وروحها. وإن للطبيعة روحاً وللبلدان لساناً؛ إن لهذه الأودية المسحورة من لبنان (التي ضلّت طريقها بين الجبال كعاشق هائم ينشد طيف الحبيب) لَقلباً يبثّ في الدنيا عواطف الجمال والتأمل، ولهذه الجبال المُعْتَمَّة بالثلج (التي تشرف على الدنيا كفيلسوف مفكر يستجلي وجه الحقيقة من بين أشباح الأوهام) لَعقلاً ينثر على الناس حكمة البقاء والعدم ولهذه الأنهار التي تمشي منذ الأزل، إن للنيل ودجلة وبردى لساناً يروي أخبار الماضي ويحدّث أحاديث القرون ويملأ الأسماع (لو وُجدت الأسماع!) شعراً وقصصاً وأدباً خالداً.

ص: 42

وإن لبدر واليرموك والقادسية وجبل طارق وعين جالوت لشعراً في الفخر يُخرس الشعراء وبياناً يسجد له البلغاء. إن أرضنا المقدسة من فلسطين ما فتئت تتلو على الدنيا سور المجد وآيات النبل، وتقصّ أروع قصة عن البطولة الخيّرة وعتها أذن الزمان وكنا نحن أبطالها: قصة أجنادين وحطين وجبل النار، قصة المرّات الثلاث التي انتصرت فيها فلسطين (1)، قصة «قلب الأسد» لما ذاق حَرّ النَّبْل وأحسّ حُرّ النُّبْل فانقلب خائفاً منا مُكْبراً لنا، والقديس لويس لما أقمنا له من دار ابن لقمان معبداً ومن «الطواشي» صبيح سادناً، وقصة الشعب الذي لم يُخلق إلا ليكون سيداً.

إن في كل بقعة من ديار العروبة منبع شعر وأدب وفن وبيان، ولكن أين الروّاد؟

أين اليوم أدباء العربية وشعراؤها يستنطقون الديار ويروون عنها أحاديث من نور ومن نار؟ وأين يعيشون؟ ما لهم عين ترى، ولا أذن تسمع، ولا قلب يحسُّ، ولا لسان ينطق؟ وإلا فأين القصص التي تصور البلاد وعاداتها؟ وأين الصحف التي تروي تاريخها؟ وأين القصائد التي تتغنى بجمالها وأمجادها؟ أين هم (وهذا يومهم) يشحذون العزائم ويوقظون الهمم، ويقولون القول

(1) حين أصدرت دار المنارة طبعة جديدة من هذا الكتاب في أوائل عام 1409 أضاف الشيخ رحمه الله في هذا الموضع الحاشية التالية: "وستقص عمّا قريب -بإذن الله- قصة النصر على اليهود وعلى مَن هم وراء اليهود، واسترداد فلسطين، وقد يبدأ الفصل الأخير منها بهذه «الانتفاضة» التي أوشكت أن تُكمل السنة والتي انبعثت من المساجد"(مجاهد).

ص: 43

العربي المُعجز الذي يجعل من الإنسان ذي اللحم والدم دبّابة تَقْحَم الجبل، وطيّارة تنطح النجم، وملَكاً يسمو عن الدنايا بجناحين من خير وطهر ويُثبت للقريب والبعيد وللأجيال والذراري أن بلادنا أجمل البلاد وأهلها أكرم الأهل وماضيها أجلُّ المواضي، وأن المستقبل لها؟

وأين معلّمو الإنشاء يفتحون على هذا الجمال الأبصار، ويلفتون إلى هذا المجد القلوب، ويصنعون للشعب العربي شعراءه وكتابه؟

* * *

ص: 44