الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل شيء للناس
!
نشرت سنة 1959
من عادتي أني لا أركب إن استطعت المشي، ولا أمشي في الظل إن قدرت أن أمشي في الشمس، سواء علي في ذلك شمس لبنان في تشرين وشمس الهند في تموز. وكان النهار أمس صائفاً حاراً، فحللت هذا الرباط عن عنقي وطويته ووضعته في جيبي (1) فمرّ بي صديق أحبه وأحترمه، ولكني أنكر عليه أنه يتمسك بالعادات أكثر من تمسك العابد بالدين، ويحرص على رضا الناس أشد من حرص الزاهد على رضا الله. فلم يكد يفرغ من السلام حتى أقبل عليّ صارم الوجه بادي الاهتمام فقال: وكيف تصنع هذا؟
فارتعبت وقلت: وماذا صنعت؟
وجعلت أذكر: هل أحدثت في الإسلام حدثاً؟ أو آويت محدثاً أو جنيت جناية؟ فلما لم أذكر قلت: وضّح يا أخي وقل لي ما الذي بلغك عني، فلعل الذي بلّغك فاسق أو كاذب.
(1) الجيب في اللغة فتحة القميص، ولكني استعملتها بالمعنى المشهور الذي يفهمه القراء.
قال: ما بلّغني أحد ولكني أرى بعيني.
وأشار إليّ. قلت: وما ذاك؟
قال: العقدة (الكرافات). كيف تمشي بلا عقدة؟ هذا لا يليق بمستشار (1). ماذا يقول عنك الناس؟
فتركت الحوار وقعدت أفكر
…
فإذا نحن نعمل كل شيء للناس.
نخنق أنفسنا بهذه العقد التي نضعها في أعناقنا كالأرسان ونتكلف منها في حر الصيف ما لا يُطاق من أجل الناس!
والنساء يتخذن هذه الأحذية الفظيعة ذوات الكعوب العالية مع أن المشي بها أصعب من المشي على الحبل. ومَن لم يصدّق من الرجال فليمشِ مئة خطوة على رؤوس أصابع قدميه! وهي -فوق ذلك- تُصلّب عضلات الساق وتشوّه جمالها، وما للبسها معنى وليس فيها جمال، ولكن هكذا يريد الناس!
ورأيت مرة امرأة واقفة في الترام والمقاعد خالية، وكلما دعوها لتجلس أبت، ثم تبين لي أنها تلبس إزاراً (خرّاطة أو جونيلا) ضيقاً عجيباً لا تستطيع معه المشي إلا كمشي المقيّد بالحديد، ولا تستطيع صعود درجة الترام إلا بكشف رجليها وإخراجهما منها، فلذلك لا تستطيع القعود. تتساءلون: لماذا تعذّب نفسها هذا العذاب؟ من أجل الناس!
(1) وكنت -يومئذ- مستشاراً في محكمة النقض.
ومن الشبان من يصفف شعر رأسه تصفيفاً فنياً يشتغل به نصف ساعة، ويبقى النهار كله خائفاً أن تهب نسمة هواء أو أن تقترب منه يد طائشة في الترام فتفسد هندسته. وربما أدركته الحكة فاحتمل ألمها طول النهار ولم يستطع أن يمد أصبعه فيحكه، لماذا؟ لأجل الناس! وكل خير هو للناس!
المرأة ظرفها ولطفها للناس. تقابل ضيوفها وصديقاتها بالوجه المشرق والفم الباسم والجَرْس الناعم والأدب البالغ، وزوجها ليس له إلا التجهم والنظر الشزر واللفظ الجافي. وكذلك يصنع الزوج!
وزينتها للناس، إذا خرجت تزيّنت للغرباء وتعطرت وارتدت أجمل أثوابها، وزوجها لا تلقاه إلا منفوشة الشعر كالحة الوجه، تسبقها روائح السمن والبصل والثوم. وكذلك يصنع الزوج!
والمائدة المرتَّبة في غرفة الطعام للناس؛ فإذا جاء الناس صُفَّت الأطباق والصحون ونُضِدت الأوراد والزهور، وإن لم يكن أحد كان الأكل في المطبخ. وغرفة النوم ذات الأسرّة المرتبة والأغطية المطرزة ليراها الناس، وأصحابها ينامون في غرفة أخرى فيها أسرّة من حديد ولحف بلا ملاحف!
نتعب أنفسنا ونقيد أعناقنا وأرجلنا للناس، وكل خير عندنا للناس. وإن أردنا أن نزوج البنت لم ننظر إلى مصلحتها ومصلحة زوجها ولم نفكر في إسعاد حياته وحياتها، ولكن فكّرنا في أيام العرس وحدها وسعينا لإرضاء الناس فقط.
لا نسأل (إلا قليلاً) عن أخلاق الرجل وطباعه، بل نسأل عن
المهر الذي يدفعه لنقول للناس: "مهر بنتنا عشرة آلاف"، وعن الجهاز ليراه الناس فيقولوا:"ما شاء الله، والله جهاز عظيم"، وعن حفلة العرس، نتسابق لإرضاء الشيطان بإضاعة الأموال في هذا وأمثاله. ثوب العرس الذي لا يُلبَس إلا ليلة واحدة فقط يكلف مئتَي ليرة على الأقل، وقد يصل إلى ألفين. وعلب الملبَّس ثمن الواحدة ليرة على الأقل، وقد تصل إلى العشرين. وفيم كل ذلك؟ لفائدة العروس؟ لا والله. للثواب والجنة؟ لا والله. لكسب المال؟ لا والله. فلِمَ إذن؟ للناس! والناس -بعد ذلك- لا يرضون؛ لأنك مهما أنفقت فإن في الناس من ينفق أكثر منك، فيقولون:"ما هذه الحفلة؟ وما هذه العلب؟ علب فلان كان ثمنها أكثر وحفلة فلانة كانت أكبر".
والمآتم مثل الأفراح؛ كلها تسابقٌ إلى إضاعة المال.
ويا ليت الأمر يقتصر على أصحاب العرس أو عائلة الميت. لا؛ ولكن كل زواج وكل وفاة فيها نكبة ثلاثين أسرة.
يكون الزوج المسكين قد أعد مشروع موازنة الشهر، وسهر الليالي وضرب الأخماس بالأسداس حتى استطاع أن يسدد حاجة الأسرة براتبه الذي لا يتجاوز ثلاثمئة ليرة في الشهر؛ يشد لحافه ليغطي كتفيه فيكشف عن رجليه، فإذا ستر رجليه انحسر عن كتفيه! وبينما هو في ذلك إذ خطر على بال عمة امرأة خال زوجته أن تموت فجأة (1)، فتجيء الزوجة تطلب حالاً وبلا تأخر وبالسرعة الكلية (على لغة المبايعات الرسمية) أربعين ليرة ثمن
(1) والمحيي المميت هو الله.
ثوب أسود للعصرية. فيقول: "اسمعي يا امرأة، إن موازنتنا لا تتحمل". فتبكي وتعول وتقول: وكيف أذهب إلى عصرية الفقيدة العزيزة المرحومة المأسوف على شبابها عمة زوج خالي بلا ثوب أسود، وماذا يقول عني الناس؟
قد تكون هذه العزيزة المأسوف على شبابها بنت تسع وسبعين سنة فقط، وقد تكون منقطعة عن زيارتها من ست سنين، ولكن الحكاية حكاية: ماذا يقول الناس؟
وإذا وُلد مولود لزوجة ابن صديق رئيسك أو معلمك فيجب أن تقتطع من مرتبك الذي لا يكفي ثمن خبزك لتقدم لها الهدية اللائقة كما يقدم أمثالك، وإلا فماذا يقول عنك الناس؟
وإذا كنت مشغولاً بإعداد درسك في المدرسة، أو حساب عملائك في المتجر، أو تمريض بنتك المشرفة على الموت، وإذا كان لديك شغل الذهب وجاءك -فجأة بلا موعد- أحد العاطلين المعطّلين الفارغين ليقطع الوقت باللَّتّ والعَجن (1) معك، فلا تقل له:"أنا مشغول". إياك، وإلا فأنت أعلم بما يقوله عنك الناس!
وإذا كان جارك أو عديلك غنياً يملك الملايين وكنت أنت مستوراً ليس لك إلا راتبك، واشترى لبيته ثُريّا بألف ليرة وبرّادة وغسّالة وعصّارة كهربائية وفرناً على الغاز وسجادة طولها ثمانية أمتار وعرضها خمسة، فاذهب حالاً فاشترِ مثلها ولو سرقت ونهبت وقطعت الطريق، وإلا أوقعت نفسك في أفواه الناس!
(1) اللت والعجن من العامي الفصيح.
وإذا أقامت زوجة التاجر الفلاني أو الوارث العلاّني وليمة، دعت إليها امرأتك وقدمت فيها لحم الطواويس وألسنة الشحارير، والحلويات المصنوعة في روما الواردة بالطيارة الخاصة، فيجب أن تعد زوجتك مثل ذلك وإلا تكلم عنها الناس!
* * *
والخلاصة أنه يجب أن يكون قيامك وقعودك وأكلك ولبسك وفرش بيتك ونفقات يومك كما يريد الناس أن تكون، ولو اختنقتَ حساً ومعنى، ولو نُكبت في سعادتك وفي مالك، ولو احترق نَفَسُك، وإلا انتقدك الناس!
الناس، دائماً الناس! فيا أيها الناس، متى نعيش لأنفسنا؟ ومتى نستطيع أن نقف عند حد الشرع وحد العقل؟ ومتى يخرج فينا العقلاء الأقوياء الذين يكسرون هذه القيود؟
أمّا أنا فوالله ما أبالي هذا كله، ولكن أعظ من شاء أن يتعظ: أن يتبع دينه أولاً فلا يأتي محرماً، ثم يتبع العقل، ثم يعمل ما يراه خيراً ويمدّ رجليه على قدر لحافه وينفق النفقة الضرورية ويترك التبذير ولو كان أغنى الأغنياء. ولا تخشوا قول الناس ما دمتم لم ترتكبوا محرماً ولا ممنوعاً شرعاً.
وهل عند الناس إلا أن يقولوا؟! لقد قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم (وهو خاتم الأنبياء): مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كذّاب. فليقولوا عنكم ما شاؤوا، ولا تبالوا بسخط الناس إن كنتم قد أرضيتم الله.
* * *