المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شغلوا الطلاب في عطلة الصيف - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌شغلوا الطلاب في عطلة الصيف

‌شغِّلوا الطلاّب في عطلة الصّيف

نشرت سنة 1959

قرأت في عدد قديم من مجلة «المختار» مقالة لكاتب أميركي، تحدث فيها عن لجان الشباب وما تقوم به في أميركا من الأعمال الجسام.

من ذلك أن حي الأعمال في مدينة أوشكوش قد اشتدت فيه ضوضاء السير وضجة السيارات حتى لم يعد يستطيع سكانه العمل، وكادت هذه الضجة المستمرة تحطم أعصابهم وألحوا على الحكومة أن تجد لهم مخلصاً من هذا البلاء. ففكر رئيس شرطة السير في المدينة، فلم يجد إلا سبيلاً واحداً للخلاص، هو أن يلجأ إلى لجنة الشباب في المدينة. فأثار حماستهم ورغّبهم وقال لهم:"هذه فرصة لكم لخدمة مدينتكم". فقبلوا، وكلّفت اللجنة مئتين من أعضائها ممن تتراوح أعمارهم بين ثلاث عشرة سنة وسبع عشرة سنة، فوقفوا على أطراف الطرق ثلاثة أيام يسألون كل سائق سيارة رأيه ويتفهمون أسلوبه في القيادة وعادته في وقف السيارة والانتظار بها، وقدّموا المعلومات التي جمعوها إلى رئيس الشرطة فاستطاع أن يضع -بعد معرفتها- نظاماً جديداً للسير مستمَدّاً من الواقع قاطعاً أسباب الشكوى، ووفروا على الحكومة 28 ألف دولار.

ص: 105

وفي مدينة ماديسون اجتمع أكثر من ستمئة طالب من طلبة المدارس الثانوية نقلتهم عربات النقل في السابعة صباحاً إلى منافذ الأزقة والحارات، فولجوها سيراً على أقدامهم يجمعون منها ومن حدائق المنازل وأفنيتها ومن الساحات والملاعب ما فيها من النفايات والأوساخ، فاستحيى الناس وأسرعوا لمعاونتهم، فنظفت المدينة وصارت أرضها كالمرآة المجلوة.

وفي مدينة أوكلير طلب مدير التعليم الخاص إلى لجنة شباب المدينة مساعدته في توصيل عدد من أطفال المدارس الخاصة إلى منازلهم، وقبلت اللجنة، وأرسلت أعضاءها يستلمون الأطفال من المدرسة ويضعون كلاً منهم في السيارة التي توصله إلى منزله.

ومن ذلك أن لجنة الشباب في راين لاندر أنشأت مكتباً للعمل، فوجد أن الفنادق والمنتزهات في هذه المدينة التي تُقصَد في العطلات والمواسم تحتاج إلى عمّال فتأتي بهم من المدن الأخرى، فسعت لإحلال شباب المدينة في هذه الأعمال، واستطاعت تشغيل مئات منهم مدة العطلة بعمل شريف وبأجور جيدة.

وفي المقالة أمثلة أخرى.

* * *

وقد رجعت بي الأيام -لمّا قرأت هذه المقالة- ثلاثين سنة، إلى سنة 1929 وسنة 1930 وقد عدت من مصر (1) أحدّث إخواني

(1) أظن أني كنت أول طالب من سوريا أطلب التعليم العالي في مصر.

ص: 106

عن لجان الطلبة فيها وما تقوم به من أعمال كبار في ميادين الجهاد الوطني. وألفت أنا ونفر من أخواننا (1) لجانَ الطلبة في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، ثم ألفت لجنة مركزية للطلاب وكنت عضواً فيها، ثم تشرفت أن كنت يوماً رئيسها، وكنت من محرري جريدة «الأيام» يوم كانت جريدةَ الكتلة الوطنية وكان رئيس تحريرها الأستاذ عارف النكدي، وكان للجنة المركزية بهو خاص في دار «الأيام» . ويشهد أقطاب الحركة الوطنية في ذلك العهد ما صنعت لجنة الطلبة، وحسبها أنها هي التي أبطلت انتخابات 20 كانون المزورة سنة 1930، وهي التي كانت تعد الإضراب العام في المدينة، وهي التي كانت القوة المنفذة لمقررات شيوخ الوطنية وقادة الجهاد. واستمرت على ذلك إلى أن وُقّعت المعاهدة سنة 1936.

ذكرت هذا كله لمّا قرأت المقالة، وقلت في نفسي: لقد انقضى عهد النضال السلبي وحررت البلاد من الانتداب وتمت (والحمد لله) نعمة الاستقلال، فلم يبقَ مجال لمثل تلك الأعمال، فلماذا لا نسخّر هذه القوى الهائلة، قوى الطلاب والشباب، للأعمال الإنشائية النافعة التي تشير إلى أمثلة منها هذه المقالة التي قرأتها في المختار؟

لم يكن في دمشق في أيامنا إلا ثانوية رسمية واحدة هي «مكتب عنبر» وفيها ثلاثمئة طالب فقط، وكان طلاب الجامعة لا يزيدون -فيما أقدّر- على أربعمئة أو خمسمئة، وقد قمنا بهذه

(1) منهم الدكتور صبري القباني والأستاذ مدحت البيطار.

ص: 107

الأعمال، فماذا يصنع اليوم طلاب دمشق وفيها عشر ثانويات رسمية وفي الجامعة آلاف وآلاف؟

إن العمل ليس عيباً. وفي أميركا يشتغل الطلاب، حتى الأغنياء منهم، في العطلة الصيفية بالخدمة في المطاعم والعمل في المصانع. فلماذا يبقى شبابنا مدة العطل (وهي ربع السنة أو ثلثها) بلا عمل فيتعوّدوا الكسل والبطالة، أو يقرؤوا روايات أرسين لوبين، أو يروا الأفلام الخبيثة، أو يتطيّبوا ويتعطروا ويتبختروا في عشيات الصيف في بوّابة الصالحية وحول البرلمان يراقبون المارّين والمارّات، أو يشتغلوا بالحزبيات والعصبيات؟

ولماذا نقتبس من الغرب الضار ولا نقتبس النافع؟

لماذا لا نوسّع النشاط المدرسي فنؤلّف لجاناً للشباب تبدأ في كل مدرسة ثم يكون منها اتحاد أوسع، ثم تجمع هذه «الاتحادات» حتى يكون في كل بلد لجنة مركزية واحدة للشباب تعلّمهم التعاون والجِد وحمل المسؤوليات، وتقوي أجسامهم بالرياضة وعقولهم بالمحاضرات وأرواحهم بالسلوك الخلقي القويم، وتشارك في الأعمال العامة النافعة؟

تصوّروا لو أن طلاب دمشق (1) -مثلاً- خرجوا في مواكب إلى أطراف الغوطة حيث الأرض الفضاء، فأخذ كل واحد منهم غرسة فغرسها هناك وأمضوا يوماً في لعب وتسلية ونشاط وصحة، لأقاموا في يوم واحد بستاناً للأمة فيه عشرة آلاف غرسة، يتولونه أبداً بالرعاية.

(1) انتبهوا، فأنا أقول الطلاب فقط لا الطالبات.

ص: 108

وتصوروا لو أخذ كل طالب من بيته رغيفين أو ثوباً قديماً، وخرجت مواكبهم فدارت على حارات الفقراء ومخيمات اللاجئين، فوزعوها وقضوا يوماً بينهم في مواساة ومشاركة لهم في حياتهم. كم يكون أثر ذلك في نفوسهم وفي نفوس هؤلاء المساكين؟

والحكومة تحتاج إلى مشروعات كثيرة، تحتاج إلى آلاف من الشباب أيام الإحصاء العام، وفي النوازل والنكبات، فلو كان هنا لجان للطلاب واستعانت بهم على ما تريد من الخير لحققت في يوم واحد وبلا نفقات ما لا يمكن تحقيقه في المدة الطويلة وبالنفقات الكثيرة، عدا عمّا في ذلك من تعويد الطلاب حياة العمل والتعاون وإبعادهم عن مواطن الزلل والضعف والبطالة.

ولكل لجنة من هذه اللجان في أميركا مستشارون من الرجال الكبار يختارهم الشباب بأنفسهم، وهؤلاء المستشارون يَعلمون بأن مهمتهم هي العمل مع الشباب لا الأمر والنهي فيهم، ومنهج هذه اللجان يوصي المستشار بأن يعرض نصحه في الاجتماع بصراحة فإذا لم توافق اللجنة عليه فلا داعي للأسف ولا للغضب.

لقد كانت لجنتنا المركزية (قبل ست وعشرين سنة) تمثّل طلاب دمشق جميعاً، وكانوا يمشون وراءها صفاً واحداً وينفّذون قراراتها. فتصوروا ماذا يكون من الخير للشباب وللأمة لو أن الحكومة وضعت نظاماً على نحو النظام المتبع في أميركا والبلاد الأخرى للجان الشباب وأقامت لها إدارة تشرف عليها. إذن لوجهتها وجهة الخير وصرفتها عن العبث واللهو والبطالة والشغب

ص: 109

والحزبيات، ثم شغلتها بالأعمال النافعة التي لا يحصيها العد، وكان لها مخيمات في الصيف وكان لها نواد في الشتاء، وكان عملها المساهمة في كل مشروع عام، وتهيئة عمل في الصيف لمن يحب أن يعمل من الشباب فيساعد بما يحصله نفسه وأهله كما يصنع الطلاب في أميركا.

والشرط الأول والأخير في هذا كله أن يكون هذا العمل لله وحده، لا يُستغَلّ لمصلحة حزب ولا هيئة ولا مذهب ولا جماعة، وأن يقوم على صحة الأجساد بالرياضة وتنمية العقول بالمحاضرات وتصفية الأرواح بالعبادة والذكر وبث روح التعاون وتعويد الشباب حمل التبعات، وأن تحبب إليهم الحياة الاستقلالية لا الحياة الاتكالية، وأن يعلموا أن العمل ليس عيباً ولو كان كنس الشوارع، ولكن العيب أن يكون الشاب من أهل البطالة أو يكون من أهل الفسوق وأن يكون كلاً على أبويه وهو يستطيع أن يشتغل، وأن يقتصر على الشباب فقط فلا يكون وسيلة للاختلاط ولا يكون باباً للفساد.

* * *

ص: 110