المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الوعد الشرقي نشرت سنة 1952   كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتاً هائلاً - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌الوعد الشرقي نشرت سنة 1952   كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتاً هائلاً

‌الوعد الشرقي

نشرت سنة 1952

كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتاً هائلاً له رنين وصدى، كأنه صوت رجل ينادي من قعر البئر أو يصرخ في الحمام، يقول: السلام عليكم.

فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن الرجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يداً كالمخباط يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يُدخل نفسه فيه فلم يستطع فلبث واقفاً، وعرض حاجته وهي دعوتي إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا. ولم يكن من عادتي إجابة مثل هذه الدعوة، وهممت بالرفض لولا أني قست بعيني طول الرجل وعرضه، وعمقه وارتفاعه، فآثرت السلامة ووعدته.

قال: أين نلتقي؟

فخفت أن أدلّه على الدار فيدخل فلا أستطيع إخراجه، فقلت له: هنا، الساعة الثالثة بالضبط.

قال: نعم. وولى ذاهباً وكأنه عمارة تمشي!

ص: 97

وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح فوقفت على الباب والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني حسبني أحد أرباب الدعاوى فقال:"ما فيها أحد، سكّرت المحكمة"، فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلاً وأضع أخرى، وأُقبل مرة وأُدبر مرة، أنظر من هنا ومن هناك، فكلما رأيت من بعيد شيئاً كبيراً أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملاً عليه حطب أو حماراً فوقه تبن، أو تاجراً من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس

حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي في عروقي غضباً منه ومن نفسي أن لنت له ولطفت به. وذهبت إلى الدار وأنا مصدوع الرأس مهيج الأعصاب، فألقيت بنفسي على الفراش. فلم أكد أستقر لحظة حتى سمعت رجة ظننت معها أن قد زلزلت الأرض بنا أو تفجرت من حولنا قنبلة، وإذا أنا بصاحبي الضخم، قد فتحت له الخادم فراعها أن رأت فيه فيلاً يمشي على رجلين، فأدخلته عليّ بلا استئذان وولّت هاربة تحدّث مَن في الدار حديث هذه الهولة المرعبة.

ونفخ الرجل من التعب كأنه قاطرة قديمة من قاطرات القرن التاسع عشر التي لا تزال تمشي بين دمشق وبيروت، وألقى بنفسه على طرف السرير، فطقطق من تحته الحديد وانحنى.

وأخرج منديلاً كأنه ملحفة، ومسح به هذه الكرة المركَّبة بين كتفيه وقال: هيك يا سيدنا؟ ما بتنتظر شوية؟ شو صار؟ حَمَّل الحج؟ سارت الباخرة؟ الإنسان مسيَّر لا مخيَّر، والغائب عذره

ص: 98

معه، والكريم مسامح. وعدنا وعد شرقي.

وعد شرقي؟ أليس عجيباً أن صار اسم «الوعد الشرقي» عَلَماً على الوعود الكاذبة، واسم «الوعد الغربي» عَلَماً على الوعد الصادق؟

من علّم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ من أين قَبَسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؟ ألم يأخذوها منا؟ من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس، بعد ذلك. وهل في الدنيا دين إلا هذا الدين «الشرقي» يجعل للعبادات موعداً لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبّد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شُرع لتقوية البدن وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع، وكل ذلك يتحقق في صوم اثنتي عشرة ساعة واثنتي عشرة ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق؟ أليس لتعليمه الدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟ والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد يوم الوقفة، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟

أوَلم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى -بعد هذا كله- كثيرين من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخالف لهم وعداً أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد والتدقيق فيه والحرص عليه نادرة يتحدث بها الناس، ويعجبون بصاحبها ويعجبون منه، وحتى صارت وعودنا مضطربة مترددة لا تعرف الضبط ولا التحديد؟

ص: 99

يقول لك الرجل: «الموعد صباحاً» . صباحاً؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة؟ في السابعة؟ في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. «الوعد بين الصلاتين» ، وبين الصلاتين أكثر من ساعتين! «الوعد بعد العشاء» ! أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم ولا قيمة لأوقاتِهم، ولا مبالاة لهم بكراماتهم!

هذه مواعيدنا في ولائمنا وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.

دُعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى من بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحداً له عند صاحب الدار منزلة. وتحدثنا وحلت ساعة الغداء، وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث ورائحةُ الطعام من شواء وقلاء وحلواء تملأ آنافنا، وتصل إلى معدنا الخاوية فتوقد فيها ناراً، حتى إذا اشتد بي الجوع قلت: هل عدلت عن الوليمة؟

فضحك ضحكة باردة وخالها نكتة، فقلت: يا أخي، جاء في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر!

فتغافل وتشاغل، ثم صرّح فقال: حتى يجيء فلان.

قلت: إذا كان فلان قد أخلف الموعد، أفنُعاقَب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنّا كنا غير مُخْلفين؟

ص: 100

والحفلات مثل الولائم. يُكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط؛ ركبت مرة الطيارة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظارَ راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أجل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد تأخر لأنه لم يحب أن يسافر حتى يدخل الحمام ويستريح بعد الخروج كيلا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد! وكنت يومئذ عائداً من رحلة رسمية، فلما وصلت إلى مطار المزّة وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل ينتظرون في الشمس منذ ساعة كاملة.

والسيارات مثل الطيّارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي؛ كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعدٌ معروف.

فيا أيها القراء خبّروني، سألتكم بالله: أي طبقة من الناس تفي بالموعد وتحرص عليه وتصدق فيه وتدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ الخيّاطون والحذّاؤون؟ سائقو السيارات؟ مَن؟ مَن يا أيها القراء؟

يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصعِّد فيك بصره ويصوبه ويقوّمك بعينه، فإن أنت لم تملأها ولم تدفعه إلى مساعدتك رغبة فيك أو رهبة

ص: 101

منك قال لك: ارجع غداً. فترجع غداً، فيرجئك إلى ما بعد غد

لا أعني موظفاً بعينه ولا عهداً بذاته، بل أصف داءً قديماً سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل.

ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة. وإن كان مدرّساً لم يأت درسه إلا متأخراً.

والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ وتركهم على مثل الجمر أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملّوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا فيها على باب الطبيب، ويذهبون يفضّلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.

أما الخياطون والخطاطون، والحذاؤون والبناؤون، وأرباب السيارات وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أنْ لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله وأخلفهم لوعد! الكذب لهم دين، والخلف عادة، ولطالما لقيت منهم ولقوا مني. وما خطت قميصاً ولا حلة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوباً إلى مصبغة لكيه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم وشويتهم بلساني. وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو

ص: 102

هجاه الحُطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقاً!

فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق؟ لا يعد فيه المرشح وعداً إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة:"إني سأقضيها لك" إلا إذا كان عازماً على قضائها، ولا الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادراً على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعاً، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب. تقول لأجير الحلاق:"أين معلمك؟ "، فيقول:"إنه هنا، سيحضر بعد دقيقة". ويكون نائماً في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين. ويقول لك الموظف: "من فضلك لحظة واحدة"، فتصير لحظته ساعة!

ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديداً صادقاً دقيقاً، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يُرجَأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شهر، ولا تعاد في تاريخنا مأساة فلسطين التي لم يكن سببها إلا إهمال ضبط المواعيد وإخلافها؟ ولو أنّا حددنا بالضبط موعد القتال وموعد الهدنة، وجئنا (أعني الدول العربية) على موعد واتفاق، لكان لنا في تاريخ فلسطين صفحة غير التي سيقرؤها الناس غداً عنا.

ص: 103

إن إخلاف الموعد الصغير هو الذي جرّ إلى إخلاف هذا الموعد الكبير. فلنأخذ مما كان درساً؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين وأعدنا ملك الجدود.

فابدؤوا بإصلاح الأخلاق، فإنها أول الطريق.

* * *

ص: 104