المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مجنون نُشرت سنة 1959   قال لي صديق في مصر يوماً: هل لك - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌مجنون نُشرت سنة 1959   قال لي صديق في مصر يوماً: هل لك

‌مجنون

نُشرت سنة 1959

قال لي صديق في مصر يوماً: هل لك في زيارة مجنون؟

قلت: وهل فرغنا من زيارة العقلاء حتى نزور المجانين؟

قال: إنه مجنون عاقل.

فضحكت وقلت: هذا قياس فاسد؛ لأنه إن صحّ أن يكون هذا المجنون عاقلاً تكون أنت -أيها العاقل- مجنوناً.

قال: دعك من هذه الفلسفة، واذهب معي ترَ رجلاً يندر أن ترى مثله في الرجال.

قلت: ما صفته، ما شأنه؟

قال: كهل يعيش هو وزوجه العاقر. كان موظفاً فهبط عليه الغِنى فجأة، مات قريب له موسر وأورثه ماله كله، فاعتزل العمل وعاش متبطلاً.

قلت: إن الغنى سبب واضح للجنون. ولكن ما جنونه؟ هل يضرب؟ هل يخنق؟ هل يخوض في حديث طويل مع سائق الأتوبيس فيعرّض أربعين روحاً للخطر؟ هل يعتقد أن ما يكتبه

ص: 267

السباعي وعبد القدوس (1) أدب رفيع؟ هل يطرب لأغاني الأطرش وحافظ؟ هل يرتضي شعر الحداثة الذي لا جمال في لفظه ولا في معناه؟ هل يضع أولاده في المدارس الأجنبية؟ هل يؤمن بديمقراطية أميركا التي تشنق الزنجي إن قبّل امرأة بيضاء قد تكون من البغايا؟

قال: إنه على الطريق

لم يصل بعد إلى هذه الدركة من الجنون.

ومشيت معه فأخذني إلى عمارة ضخمة في حيّ الحدائق (جاردن سيتي) فيها مصعد وتدفئة عامة وهواء معدّل، وأدخلني بيتاً فيها، فخماً مفروشاً فرشاً إفرنجياً ما أظنّ أني رأيت آنق منه ولا أحكم وضعاً ولا أحسن ترتيباً. ووجدت الرجل حليق الوجه غربي اللباس، يدخّن السيكار ويرطن بالفرنسية، ووجدته حلو الحديث سريع البادرة حاضر النكتة. وقضينا معه ساعة استمتعنا فيها حقاً.

فلما خرجنا قلت لصاحبي: أين جنونه؟

قال: ستراه بعد شهرين.

وعاد بعد شهرين وقد نسيت القصة كلها فقال لي: هلمّ لزيارة المجنون.

ومشى بي في غير الطريق الذي سرنا فيه أول مرة. وما زال ينتقل بي من الترام إلى السيارة، ويسلك بي من حارة إلى

(1) يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس (مجاهد).

ص: 268

حارة، حتى صرنا عند الجبل، فأدخلني أزقة ضيقة ومسالك معوجّة حتى وَقَفني على دار قديمة طرق بابها ففُتح، وإذا الرجل ذاته ولكنه في إزار عربي وعباءة رقيقة، وله لحية خفيفة لم تكن له من قبل. ورأيت داراً شرقية قديمة مزخرفة الجدران، خالية من الكهرباء فيها المصابيح المُدلاّة والسّرُج المحلاّة وحمّالات الشموع. ووجدت فرشاً عربياً غير الفرش الأول، البُسُط والنمارق والوسائد والمتكآت، وليس في الدار كلها كرسي واحد ولا نضد. ووجدت الرجل هو الرجل، ولكن مكان السيكار النارجيلة، وبدل الرطانة بالفرنسية الحديث باللهجة البلدية وسَوْق أعرقِ الأمثال في العامية.

وكانت جلسة ساعة، فلما خرجنا قلت لصاحبي: ما هذا؟

قال: هذا جنونه؛ إنه لا يطالع ولا يعمل ويخاف الملل، فهو يتنقّل هذا التنقّل المفاجئ ليشعر بلذة التغيّر ومتعة التجدّد، وينفق على هذا جلّ ماله، فهو ينتقل في البلدان. يعيش في القاهرة حيناً وفي الإسكندرية حيناً، وتارة في أوربا وتارة في الريف. وينتقل في الحالات فهو يوماً شرقي ويوماً غربي، وآناً يعيش عيش الفلاحين يلبس لباسهم ويأكل طعامهم ويأوي إلى مساكنهم، وآناً يحيا حياة لورد من لوردات الإنكليز. ولا يفتأ يبدّل ترتيب الغُرف ونوع الأثاث وطريقة الفراش، فإن كان السرير في غرفة النوم إلى اليمين جعله بعد أيام على الشمال، وإن كانت مائدة الطعام بالطول أقامها بالعرض، فإن ملّ الجديد عاد إلى القديم.

قلت: هذا والله من كبار العقلاء. إن العادة -كما يقول علماء

ص: 269

النفس- تُضعّف الحس وتبطل الشعور. إن الموسر الذي يركب الكاديلاك كل يوم، وينام على السرير الفخم، ويأكل على المائدة الحافلة، لا يحسّ لذلك كله بعُشر اللذة التي يحس بها الفقير إذا جرّبه مرة. بل إن الغني ليمل الترف ويشتهي لوناً آخر من ألوان الحياة. خبّرني الشيخ عبد الله أبو الشامات أن أحمد باشا الشمعة (الذي كان وجه دمشق في أيامه) جاءه مرة واشتهى عليه أكلة فول مُدمّس مع البصل على أرض الحديقة. وأنت تعرف مائدة أحمد باشا الشمعة. بل تعالَ قل لي أنت: أما مللت وضع غرفة الاستقبال في بيتك وغرفة النوم؟ أما تشعر بلذة إذا بدلت غرفة بغرفة، وأنزلت هذه اللوحة التي علقتها منذ زواجك من قبل ثلاثين سنة وجئت بغيرها؟ إنها قد تكون لوحة فنية جميلة ولكن ثق أنه لم يبقَ من يشعر بجمالها، لا أنت ولا ضيوفك الذين شبعوا منها وعافوها. أما تحس بحياة جديدة إذا تركت هذه الدار التي تسكنها وانتقلت إلى حيّ جديد تشغل نفسك مدة بدراسة أحواله ومعرفة أهله وكشف أسراره وخفاياه؟

إن التبديلَ والتجديدَ حياةٌ، والجمودَ والركودَ موتٌ. وإن علة الحياة الزوجية خاصة هي الاستمرار وفقد الجديد. وأنا أرى أن يأخذ الرجل الموسر أهله وأولاده ليلة أو ليلتين إلى الفندق يبيتون فيه إذا لم يستطع السفر بهم إلى بلد آخر، ليجد في التجدّد ما يبعث في نفسه وفي أنفسهم الشعور بالحياة، وليكون من ذلك مادة للحديث والتذكّر.

المهم هو التبديل، وإلا فلماذا نصطاف في الجبال؟ ما الاصطياف؟ إذا كان فعل ذلك الرجل في تبديل المساكن جنوناً

ص: 270

فكل واحد منا يُجَنّ مرة في السنة حين يذهب إلى الجبال ليصطاف فيها. إن له من وسائل الراحة في بيته وفي بلده ما لا يجد مثله في المصيف، ولكنه حب التبديل.

والموظف في الزبداني ينتظر يوم العطلة لينزل إلى دمشق، ونحن في دمشق نرقب يوم العطلة لنذهب إلى الزبداني؛ هو يجد المتعة في دمشق ونحن نجد المتعة في الزبداني، وما اختلفت النفوس ولكنه حب التبديل. والكشافة الذين يتركون القطار المريح والسيارة السريعة، ويحملون أحمالهم ويصعدون الجبال ويؤمون المدن والقرى، يدَعون البيوت وينامون في الخيام، يهجرون الأسرّة ويهجعون على الأرض، إنما يريدون التبديل.

بل إن الحج نفسه إنما هو -أولاً- عبادة مفروضة وركن من أركان الإسلام، ثم إنه لون من ألوان التبديل في نمط المعيشة؛ إنه معسكر كشفي تدريبي لا بدّ فيه من تحمّل المشاق والصبر على المتاعب، ولو كانت حجة يمكن أن تخلو من تعب لكانت حجتنا التي حججناها سنة 1954، كنا ضيوف الحكومة، النزول في فندق بنك مصر الفخم، والسيارة على الباب، وكل شيء ميَسَّر، وقاسينا مع ذلك من مشاق الزحام في الطواف والسعي والرمي والسهر ليلة منى والامتناع عما يحرم على المحرم ما لا ننساه (1)، كأن تلك المشاق من مقاصد الشريعة في الحج ليكون معسكراً تدريبياً إلزامياً.

وإن من أسباب التوفيق في الزواج أن يبتكر فيه الزوجان

(1) لم يبق من هذا الآن إلاّ أقل من القليل.

ص: 271

أسلوباً للتجديد ودفع الحياة النَمَطية المتشابهة. أعرف رجلاً من أرباب النكتة كان يعد لزوجته كل يوم مفاجأة، فهو يتصيد الأخبار ليقصها عليها، ويخترع من النكات العلمية أنواعاً عجيبة تكون في أولها جداً كالجد ثم تكون مادة للضحك والحديث عنها شهراً.

جاء هذا الرجل يوماً فوجد زوجه منفردة في الدار تشكو الملل. وكانت امرأة عاميّة فأحبّ أن يشغلها بشيء، فجعل يلوي وجهه ويظهر الألم فارتاعت وسألته: ما لك؟ قال: لا شيء

لا تهتمي. قالت: ما لك؟ قل لي ممَّ تتألم؟ قال: لا أدري، رجلي كلها، أحسّ كأن النار تمشي فيها.

وجعل يفتش ويتحسس رجله كأنه يفتش عن موضع الألم حتى اهتدى إليه فقال: ها هو ذا، إنه هنا في خنصر رجلي، إنها علة مخيفة قرأت عنها. إن خنصر رجلي مغموس في اللحم.

ولم تنتبه المسكينة -من خوفها عليه- إلى أن كل خنصر مغموس في اللحم، وانطلقت إلى الهاتف لتدعو الطبيب. فقال: لا، لا، فتشي في الدليل عن طبيب مختص بمرض الخناصر.

وأمضى في ذلك نصف ساعة. ثم ضحك فعرفت النكتة وصارت لها مثاراً للضحك ومادة تحدّث بها جاراتها.

وأنا لا أطلب من كل زوج أن يمثل مثل هذه الرواية السخيفة، بل أريد من الأزواج أن يعلموا أن من أكبر أسباب الشقاق بين الزوجين هذه الحياة الراكدة التي تمر أيامها متشابهة متماثلة، كل يوم مثل أمسه وشبه غده، وكل شيء فيها لا يتبدّل،

ص: 272

توزيع الغرف ووضع الأثاث وألوان الطعام وأسلوب الأكل.

وما أدري ما الذي يمنع أن نأخذ الحكمة من هذا المجنون، فنعمد أبداً إلى التغيير والتبديل الذي تحتمله أموالنا ولا تسوء به أحوالنا؛ فتذهب الزوجة إلى دار أهلها فتقضي فيها أياماً ويبقى الرجل وحيداً يعالج أمره بنفسه، أو يكون ضيفاً معها عند أهلها فيجد من تبدّل الحال ما يجدد نشاطه ويشحذ شعوره، ثم يدعو أهل المرأة ليقضوا عنده أياماً مثلها. أو يأخذ زوجه وأولاده فيأكلوا يوماً في المطعم، أو يحملوا الطعام فيتعشّوا على صخرة في الجبل أو عند ساقية في البستان.

ولست أريد هذا بالذات، بل أضرب الأمثال على ما يمكن به دفع الملل وتجديد أسلوب العيش. وما أدري أجئت بشيء معقول أم أنا لا أزال في جو المجنون الذي زرته، فأنا لذلك أتكلّم كلام المجانين!

* * *

ص: 273