الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوظيفة والموظّفون
(1)
نشرت سنة 1935
اعلَمْ -أعزّك الله- أن الوظيفة ليست غُلاًّ في العنق، ولا قيداً في الرجل، وليست مقايَضَة أو مُبادَلة آخُذُ فيها الوظيفة (2) باليمين لأعطي الضمير بالشمال، ولو أنها كانت كذلك لعزفتُ عنها واجتويتها ونفضت يدي منها، ولآثرت أن أبيع خزانة كتبي كَرّة أخرى أو أقضي وأسرتي جوعاً على أن آكل خبزي مغموساً بدم الضمير، وعلى أن أكفر بالفضيلة وأومن بالمصلحة، فأزن كلّ شيء في الدنيا بميزانٍ صنجاتُه (3) الدنانير وأبصر كلّ ما في الكون من ثقب القرش (4)، وأفكر -إذ أفكر- بعقلي الذي في كيس نقودي لا بعقلي الذي في رأسي، فأختزل المنطق كله في
(1) لهذه المقالة قصة تجدونها في «ذكريات علي الطنطاوي» ، في الحلقتين الثالثة والثمانين والخامسة والثمانين (في الجزء الثالث)(مجاهد).
(2)
الوظيفة هي الراتب، والتوظيف تعيين الوظيفة، وإذا نحن أطلقنا الوظيفة على العمل نفسه فإنما نتبع في ذلك العرف السائد.
(3)
جمع صَنجة، وهي (بالسين والصاد: سَنْجة وصَنْجة): ما يوزَن به كالأوقية والرطل (مجاهد).
(4)
كان قرشنا يومئذ مثقوباً من وسطه.
قضية واحدة، هي الأولى والأخرى، وهي الحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي الكتاب المعجِز الذي لا يُفرّط فيه من شيء ولا يعجزه شيء، فيكون المنطق كله هذه القضية:«تحصيل المال واجب» ، وفي هذا الأمر تحصيل مال، فهذا الأمر واجب! وضَعْ مكان «هذا الأمر» ما تشاء من أفعال اللؤم والخسّة، والكذب والنُّذولة، والضّعة والفُسُولة، تنتظِم القضية وتستقِم، وتصح وتطَّرد، ولا يبقَ في الدنيا رديء ولا فاسد منكَر ما دام معه المال.
لا يا سيدي! لست أسألك هذه الطريق التي لا أزال أحذّر منها مَن لم يسلكها وأصرف عنها سالكيها. وإن كان السّالكوها هم الكثرة من موظفينا وعلمائنا ومن كل ذي وظيفة أو صاحب صلة بالحكومة، حتى إن الرجل من هؤلاء ليأتي الأمر يعترف أنه مؤذٍ للأمة، منافٍ للفضيلة، مناقضٌ للشرف، فيحتجّ له بأن مصلحته تقتضيه ومعيشته تستلزمه، وأنه رجل (عاوز يعيش
…
)، ولا يعيش من لا يساير وينافق ويَذِلّ ويَتزلّف. لا يدري الجاهل أن المعيشة على الصَّعْتَر مع الشرف خير من حياة النعيم والترف من غير فضيلة ولا شرف!
* * *
ومن أنبأك -أعزّك الله (1) - أن الموظف لا يحق له أن يفكر إلاّ بعقل رؤسائه ولا يرى إلاّ بعين أمرائه، فلا يُحِقّ من الآراء ما أبطلوا ولا يقبل ما ردّوا ولا يوقّر ما سفّهوا، ولا يرى ما استقبحوا
(1) هذه المقالة رد على أحد وزراء المعارف، وكنت موظفاً في وزارته.
حسَناً ولا ما كتموا ظاهراً، ولا ما صغّروا كبيراً ولا ما عظّموا حقيراً؟ أوَلو كان رؤساؤه مخطئين؟ أوَلو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟
ومَن ذا حظر عليه ما أبيح للناس، ومنعه ما مُنحوا من حرية التفكير وحرية الرأي وحرية القول؟ ولماذا يشتهي من الطعام ما يعافه رئيسه، ويستحسن من أبيات الشعر وأصوات الغناء ما يستهجنه ويستثقله، ولا يكون عليه في ذلك من حرج، ثم لا يتخذ له من الآراء غير رأيه ومن المذاهب غير مذهبه؟ ولماذا لا ينشر هذا الرأي ويؤيد هذا المذهب، ما دام لا يأتي محرَّماً في الشرع ولا ممنوعاً في القانون؟
والوظيفة -يا سيدي- عَقْدٌ بين الدولة والموظف (1)، على أن يعمل عملاً بعينه، على جُعْلٍ بذاته. فهل يعمل الأجير في الدُّكان، والعامل في المصنع، والنّادل في الفندق، والخادم في البيت، وكلُّ مأجورٍ من الناس في عمل جلّ أو قلّ، علا أو سَفُلَ، فإذا أكمل عمله وجوّده استحق الأجر، وانطلق حراً في وقته يقضيه على ما أَحَبّ، حراً في ماله ينفقه على ما شاء، حراً في رأيه ينحو به النحو الذي أراد ويسوقه المساق الذي اختار
…
ثم لا يكون الموظف حراً أبداً ولا يملك من أمر نفسه شيئاً؟
وماذا عليّ وأنا مدرّس -إذا أنا أعدَدْتُ درسي وألقيته، وقرأت وظائف تلاميذي وصحّحتها، وفعلت كل ما يوجب
(1) لست أعني بالعقد الاجتماعي نظرية روسو المعروفة، فذاك شيء قد سقط اليوم من قائمة العلوم ودخل في سجل التاريخ.
عليّ القانون أن أفعل، وزدت على الواجبِ النوافلَ- أن أؤلّف وأكتب، وأنقد الأخلاق والكتب والعادات، وأساهم في الجهاد الإصلاحي، وأحمل القسط الذي أطيقه من أثقال الأمة؟ ومن ذا يحمله إذا لم أحمله أنا وأمثالي من الموظفين والمتعلمين؟ وكيف تتقدم الأمة وتسير في طريقها إلى غايتها إذا لم تجد بين أبنائها من يحمل أثقالها؟
فهل يريد سيدي -أعزّه الله- أن أمحو مَلَكة الكتابة من رأسي، وأطمس نور البصيرة من قلبي، وأسدل على عيني حجاباً حتى لا أرى فأسرّ فأشكر أو أبتئس فأنقد، وأهجر الكتب حتى لا أقرأ فيفتح علي الكتاب طريقاً إلى مقالة، وأتعزّل الناس حتى لا أسمع حديثاً فأكتب عن هذا الحديث، أو قصة فأدوّن هذه القصة وأدلّ على مكان العبرة منها وموطن العظة فيها؟ فهل يريد سيدي أن أذهب إلى غار في الجبل فأحبس نفسي فيه كيلا أكتب فأزعج معاليه؟
وهل توجِب الوظيفة على صاحبها أن يكون عبداً لرؤسائه، مسخَّراً لأغراضهم ساعياً في مصالحهم، ولو كانت الطريقُ إلى إرضائهم طريقاً ملتوية معوجّة لا يسلكها رجل يعرف ما هي الفضيلة ويدري ما هو الشرف؟
وهل توجب الوظيفة على الموظف أن يكون مبتوراً من جسم الأمة، فلا يشعر بشعورها ولا يألم لألمها، ولا يحسّ أنه منها ولا يشاركها في شيء من عواطفها، في حين أن المفروض في الموظف أنه من أرقى أبناء الأمة فكراً وأوسعهم اطلاعاً وأشدّهم شعوراً بـ «الواجب العام» ؟
وهل يأخذ الموظفون رواتبهم من صندوق الأمة ليناموا آمنين إذا هي خافت، ويضحكوا فرحين إذا هي تألمت، وينعموا فارهين إذا هي شقيت، ويأكلوا مسرفين إذا هي جاعت؟
كلا! كلا يا سيدي؛ فالموظف من الأمة وإلى الأمة. وليس في البلد شعب وموظفون، ولكنّ فيه شعباً واحداً يشعر بشعور واحد، ويصدر عن مبدأ واحد ويسعى إلى غاية واحدة. ولأن تعرف أنت هذه الحقيقة فتعمل بها أولى من أن أنزل أنا عند رأيك وأخضع لإرادتك فيما يؤذي الحقيقة وينافيها.
كلا! لقد انقضى ذلك العهد الذي كان الموظف فيه مسؤولاً أمام رئيسه، وأصبحنا اليوم وكلنا مسؤولون أمام الأمة والتاريخ (1). وليس هذا الراتب منحة منك حتى تمنّ به عليّ، ولكن راتبك أنت منحة من الأمة (التي أنا من أبنائها) تمنّ هي به عليك.
* * *
وبعد؛ أفليس مما يجب على قادة الفكر وأرباب الأقلام، أن يعرّفوا الناس حقيقة الوظيفة والموظفين، وحق الأمة عليهم وأمل الأمة فيهم؟ أوَليس يجب عليهم معالجة هذه النواحي من أخلاقنا، وبسط الكلام فيها، وتحذير السالمين منها، ومداواة المصابين فيها؟
* * *
(1)"وقبل ذلك وبعده أمام الله". (هذه الزيادة بقلم الشيخ رحمه الله، أضافها حين أعاد نشر المقالة في «الذكريات»: 3/ 229)(مجاهد).