الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَتَلَ بِسِحْرِهِ قُتِلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، عَلَيْهِ الدِّيَةُ1.
هَذَا وَمِنْ أَنْوَاعِهِ وَشُعَبِهْ
…
عَلَمُ النُّجُومِ فَادِرِ هَذَا وَانْتَبِهْ
هَذَا هُوَ
الْبَحْثُ الرَّابِعُ وَهُوَ "بَيَانُ أَنْوَاعِهِ
":
فَمِنْهَا عِلْمُ التَّنْجِيمِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: أَعْظَمُهَا مَا يَفْعَلُهُ عَبْدَةُ النُّجُومِ وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَدْ بَنَوْا بُيُوتًا لِأَجْلِهَا وَصَوَّرُوا فِيهَا تَمَاثِيلَ سَمَّوْهَا بِأَسْمَاءِ النُّجُومِ، وَجَعَلُوا لَهَا مَنَاسِكَ وَشَرَائِعَ يَعْبُدُونَهَا بِكَيْفِيَّاتِهَا، وَيَلْبَسُونَ لَهَا لِبَاسًا خَاصًّا وَحِلْيَةً خَاصَّةً وَيَنْحَرُونَ لَهَا مِنَ الْأَنْعَامِ أَجْنَاسًا خَاصَّةً، لِكُلِّ نَجْمٍ مِنْهَا جِنْسٌ زَعَمُوا أَنَّهُ يُنَاسِبُهُ، وَكُلُّ نَجْمٍ جَعَلُوا لِعِبَادَتِهِ أَوْقَاتًا مَخْصُوصَةً كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَقَدُوا تَصَرُّفَهَا فِي الْكَوْنِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ بِبَابِلَ وَغَيْرِهَا، وَإِيَّاهُمْ خَاطَبَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عنهم متحديا لهم مُبَيِّنًا سَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَضَلَالَ قُلُوبِهِمْ، قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 75-78] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَكْتُبُ حُرُوفَ أَبِي جَادَ وَيَجْعَلُ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا قَدْرًا مِنَ الْعَدَدِ مَعْلُومًا، وَيُجْرِي عَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَزْمِنَةَ وَالْأَمْكِنَةَ وَغَيْرَهَا، وَيَجْمَعُ جَمْعًا مَعْرُوفًا عِنْدَهُ، وَيَطْرَحُ مِنْهَا طَرْحًا خَاصًّا، وَيُثْبِتُ إِثْبَاتًا خَاصًّا وَيَنْسِبُهُ إِلَى الْأَبْرَاجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهِلِ الْحِسَابِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ بالسعود والنحوس وغيرهما مِمَّا يُوحِيهِ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُغَيِّرُ الِاسْمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ بِذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ إِنْ جَمَعَهُمْ بَيْتٌ لَا
1 ابن كثير "1/ 152، 153".
يَعِيشُ أَحَدُهُمْ. وَقَدْ يَتَحَكَّمُ بِذَلِكَ فِي الْغَيْبِ فَيَدَّعِي أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ وَهَذَا لَا، وَهَذَا الذَّكَرُ وَهَذَا الْأُنْثَى، وَهَذَا يَكُونُ غَنِيًّا وَهَذَا يَكُونُ فَقِيرًا، وَهَذَا يَكُونُ شَرِيفًا وَهَذَا وَضِيعًا، وَهَذَا مُحَبَّبًا وَهَذَا مُبْغَضًا، كَأَنَّهُ هُوَ الْكَاتِبُ ذَلِكَ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، لَا وَاللَّهِ لَا يَدْرِيهِ الْمَلَكُ الَّذِي يَكْتُبُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَ رَبَّهُ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الرِّزْقُ وَمَا الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ لَهُ فَيَكْتُبُ. وَهَذَا الْكَاذِبُ الْمُفْتَرِي يَدَّعِي عِلْمَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُدْرِكُهُ بِصِنَاعَةٍ اخْتَرَقَهَا، وَأَكَاذِيبَ اخْتَلَقَهَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَمَنْ صَدَّقَهُ بِهِ وَاعْتَقَدَهُ فِيهِ كَفَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
وَمِنْهَا النَّظَرُ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَدَوَرَانِهَا وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَاقْتِرَانِهَا وَافْتِرَاقِهَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ لِكُلِّ نَجْمٍ مِنْهَا تَأْثِيرَاتٍ فِي كُلِّ حَرَكَاتِهِ مُنْفَرِدًا، وَلَهُ تَأْثِيرَاتٍ أُخَرَ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِغَيْرِهِ فِي غَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَرُخْصِهَا وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَسُكُونِهَا وَوُقُوعِ الْكَوَائِنِ وَالْحَوَادِثِ. وَقَدْ يَنْسِبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهَا مُطْلَقًا. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي الْمَتْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَمِنْهَا النَّظَرُ فِي مَنَازِلِ الْقَمَرِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مَعَ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرَاتِ فِي اقْتِرَانِ الْقَمَرِ بِكُلٍّ مِنْهَا وَمُفَارَقَتِهِ، وَأَنَّ فِي تِلْكَ سُعُودًا أَوْ نُحُوسًا وَتَأْلِيفًا وَتَفْرِيقًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ اعْتِقَادُ صِدْقِهَا مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَكْذِيبٌ بِشَرْعِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَاتِّبَاعٌ لِزَخَارِفِ الشَّيْطَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِذَلِكَ مِنْ سُلْطَانٍ، وَالنَّجْمُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَرْبُوبٌ مُسَخَّرٌ مُدَبَّرٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لم يكن، مسبوق بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ مُتَعَقَّبٌ بِهِ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حركة في الْكَوْنِ وَلَا سُكُونٍ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الْأَعْرَافِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فُصِّلَتْ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40] وَقَالَ تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الْفَرْقَانِ: 61، 62] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْلِ: 66] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّاتِ: 6-10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يُونُسَ: 5] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَهَابِهَا وَفَنَائِهَا وَعَوْدِهَا إِلَى الْعَدَمِ كَمَا أُوجِدَتْ بَعْدَ الْعَدَمِ:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1، 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 2] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الْقِيَامَةِ: 8، 9] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَتَادَةَ الْإِمَامِ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ؛ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً، مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ والأسود والقصير وَالطَّوِيلُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عَلَى هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ، وَقَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْلِ: 65]1. وَهَذَا كَلَامٌ جَلِيلٌ مَتِينٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا2. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ سُنَنِهِ "بَابٌ فِي النُّجُومِ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسَدَّدٌ، الْمَعْنَى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ، زَادَ مَا زَادَ" 3 وَذَكَرَ حَدِيثَ النَّوْءِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي التَّصْدِيقَ بِالنُّجُومِ، وَالتَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ، وَحَيْفَ الْأَئِمَّةِ"4. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي مِحْجَنٍ مَرْفُوعًا: "أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثًا: حَيْفَ الْأَئِمَّةِ، وَإِيمَانًا بِالنُّجُومِ، وَتَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ"5. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي بَعْدِي خَصْلَتَيْنِ: تَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ، وَإِيمَانًا بِالنُّجُومِ"6. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا: "رُبَّ مُعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبِي جَادَ دَارِسٍ فِي النُّجُومِ، لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلَاقٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"7 وَرَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ عَنْهُ بِلَفْظِ: "رُبَّ نَاظِرٍ فِي النُّجُومِ وَمُتَعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلَاقٌ"8.
1 ابن أبي حاتم في تفسيره "ابن كثير 4/ 423" وابن جرير في تفسيره "29/ 3".
2 في بدء الخلق، باب في النجوم "6/ 295".
3 أبو داود "4/ 15، 16/ ح3905" وأحمد "1/ 227 و311" وسنده صحيح.
4 عبد بن حميد "كما في الفيض للمناوي "1/ 204" وقال: حسن لغيره وهو مرسل".
5 ابن عساكر "كنز العمال ح14632" والسلسلة الصحيحة للألباني "ح1127" وابن عبد البر في جامع بيان العلم "2/ 39" وسنده ضعيف، فيه أبو سعيد البقال وهو ضعيف، وعلي بن يزيد الطائي قال عنه الحافظ: لين.
6 مسند أبي يعلى "7/ 162، 163" والكامل لابن عدي "4/ 1350" وفي سنده يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وضعفه البوصيري كما ذكر حبيب الأعظمي في المطالب العالية. ورواية أبي يعلى "خمسا" بدل "خصلتين" ولم يذكر سوى خصلتين.
7 الطبراني في الكبير "11/ 41/ ح10980" وهو حديث موضوع، فيه خالد بن يزيد العمري وهو كذاب.
8 قال المناوي في فتح القدير: ورواه حميد بن زنجويه من طريق الطبري، فهو كالذي قبله وهو موضوع، وقد صح موقوفا على ابن عباس. ورواه عبد الرزاق "11/ 26" والبيهقي "8/ 139".
وَمِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: زَجْرُ الطَّيْرِ وَالْخَطُّ بِالْأَرْضِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا حَيَّانُ -قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: حَيَّانُ بْنُ الْعَلَاءِ- حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قُبَيْصَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ" وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ1. وَالْجِبْتُ هُوَ السِّحْرُ قَالَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ2. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَيْضًا الْجِبْتُ الشَّيْطَانُ3، وَلَا يُنَافِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَعَنْهُ أَيْضًا الْجِبْتُ الشِّرْكُ4، وَعَنْهُ الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ5، وَعَنْهُ الْجِبْتُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ6، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ الْجِبْتُ كَاهِنٌ7، وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْجِبْتٌ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ8، وَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا فَإِنَّ السِّحْرَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي يَشْمَلُهُ عِبَادَةُ غير الله، وحي بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِمَّنْ خَاصَمَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالسِّحْرِ وَالْكَاهِنُ عَامِلٌ بِالسِّحْرِ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجِبْتُ بِالْكَسْرِ الصَّنَمُ وَالْكَاهِنُ وَالسَّاحِرُ وَالسِّحْرُ وَالَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ9.
وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: الْعَقْدُ وَالنَّفْثُ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الْفَلَقِ: 4] وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ نُزُولِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَرُقَيَّةِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً
1 أبو داود "4/ 16/ ح3907" في الطب، باب في الخط وزجر الطير، وأحمد "3/ 477"، وابن حبان "الإحسان 7/ 646" وسنده حسن.
2 رواية عمر بن الخطاب رواها ابن جرير الطبري "5/ 133" من طرق عن أبي إسحاق السبيعي، عن حسان بن فائد عن عمر، وحسان بن فائد قال عنه أبو حاتم: شيخ "يضعفه" ت 1028. قلت: وفيه جهالة، وانظر ابن كثير "1/ 524، 525".
3 انظر ابن كثير "1/ 525".
4 ابن كثير "1/ 525".
5 ابن كثير "1/ 525"، وانظر ابن جرير "5/ 131".
6 ابن جرير "5/ 132"، وابن كثير "1/ 525".
7 ابن كثير "1/ 525".
8 ابن جرير "5/ 132"، وابن كثير "1/ 525".
9 القاموس المحيط "باب التاء، فصل الجيم".
انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ1. وَقَالَ النَّسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ تَحْرِيمِ الدَّمِ مِنْ سُنَنِهِ "الْحُكْمُ فِي السَّحَرَةِ": أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْمُنَقِّرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إِلَيْهِ"2. وَقَدْ أُطْلِقَ السِّحْرُ عَلَى مَا فِيهِ التَّخْيِيلُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السِّحْرُ الْحَقِيقِيُّ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:"إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا" 3 يَعْنِي: لِتَضَمُّنِهِ التَّخْيِيلَ فَيُخَيِّلُ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْبَيَانُ فِي الْمُفَاخَرَةِ وَالْخُصُومَاتِ بِالْبَاطِلِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلُ الْقِصَّةِ فِي التَّمِيمِيَّيْنَ اللَّذَيْنِ تَفَاخَرَا عِنْدَهُ بِأَحْسَابِهِمَا وَطَعَنَ أَحَدُهُمَا فِي حَسَبِ الْآخَرِ وَنَسَبِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْكُمُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ" 4 أَوْ كَمَا قَالَ: وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الْبَيَانُ بِالْحَقِّ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ فَهُوَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، وَهُوَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، وَقَدْ سَمَّى صلى الله عليه وسلم مَا يَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ سِحْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ، هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ5. وَالْعَضْهُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ السِّحْرُ وَيَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ: عَاضِهٌ، فَسَمَّى النَّمِيمَةَ سِحْرًا؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المرء وزوجه وغيرها مِنَ الْمُتَحَابِّينَ، بَلْ هِيَ أَعْظَمُ فِي الْوِشَايَةِ لِأَنَّهَا
1 تقدم ذكره.
2 النسائي "7/ 112" في تحريم الدم، باب الحكم في السحرة، وسنده ضعيف فيه عباد بن ميسرة المنقري، وهو ضعيف وعنعنه الحسن.
3 البخاري "9/ 201" في النكاح، باب الخطبة، وفي الطب، باب إن من البيان سحرا "10/ 237".
ومسلم لم يخرجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وإنما من حديث عمار رضي الله عنه في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة "2، 594/ ح869".
4 البخاري "13/ 157" في الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم وغيره، ومسلم "3/ 1337، 1338/ ح1713" في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة.
5 مسلم "4/ 2012/ ح2606" في البر والصلة، باب تحريم النميمة.
تُثِيرُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، وَتُسَعِّرُ الْحَرْبَ بَيْنَ الْمُتَسَالِمَيْنَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشَاهِدٌ لَا يُنْكَرُ. وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ لِلْقَتَّاتِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَثِيرًا جِدًّا1، وَمَعَ هَذَا فَالْخِدَاعُ لِلْكُفَّارِ لِلْفَتْكِ بِهِمْ وَإِظْهَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ وَأَنْفَعِهِ وَأَشَدِّهِ نِكَايَةً فِيهِمْ، كَمَا فَعَلَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيُّ رضي الله عنه فِي تَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنَقَضَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا أَبْرَمُوهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ2.
[حُرْمَةُ حَلِّ السِّحْرِ بِالسِّحْرِ] :
وَحَلُّهُ بِالْوَحْيِ نَصًّا يُشْرَعُ
…
أَمَّا بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَيُمْنَعُ
"وَحَلُّهُ" يَعْنِي: حَلَّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ "بِـ" الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ وَالْأَدْعِيَةِ مِنْ "الْوَحْيِ" الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "نَصًّا" أَيْ: بِالنَّصِّ "يُشْرَعُ" كَمَا رَقَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَكَمَا يَشْمَلُ ذَلِكَ أَحَادِيثَ الرُّقَى الْمُتَقَدِّمَةَ فِي بَابِهَا الَّتِي أَمَرَ بِهَا الشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم وَنَدَبَ إِلَيْهَا، وَمِنْ أَعْظَمِهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ3 وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ4 وَالْمُعَوِّذَتَانِ5 وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ6، فَإِنْ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا التَّعَوُّذُ
1 القتات: هو الذي ينم الكلام بين الناس، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة قتات".
رواه البخاري "10/ 742" في الأدب، باب ما يكره من النميمة.
ومسلم "1/ 101/ ح105" في الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة.
2 انظر سيرة ابن هشام "3/ 183-185" ودلائل النبوة للبيهقي "3/ 445-447".
3 تقدمت في الرقى.
4 كحديث أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان عندما وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مال الصدقة. أخرجه البخاري تعليقا "4/ 486" في الوكالة، باب إذا وكل رجلا منزل الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز، والحديث صحيح وعليه كلام طويل انظره في الفتح.
5 تقدم ذكرها.
6 عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي
…
".
ورواه الترمذي "5/ 182/ ح2922 في فضائل القرآن، باب 22، وأحمد "5/ 26" وإسناده ضعيف.
مِنَ الشَّيَاطِينِ مُطْلَقًا وَالْآيَاتُ الَّتِي يَتَضَمَّنُ لَفْظُهَا إِبْطَالَ السِّحْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 119] وَقَوْلُهُ عز وجل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ: 81] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] وَنَحْوُهَا، كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، وَمِثْلُ الْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَاوِيذُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَارِدَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي بَابِ الرُّقَى، كحديث:"رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ، فَيَبْرَأُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ1، وَكَحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"امْسَحْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ" قَالَ: فَفَعَلْتُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ2. وَكُتُبُ السُّنَّةِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَغَيْرِهَا مَشْحُونَاتٌ بِالْأَدْعِيَةِ وَالتَّعَوُّذَاتِ الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ، بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل، فَمَنِ ابْتَغَى ذَلِكَ وَجَدَهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
"أَمَّا" حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ "بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَيَحْرُمُ" فَإِنَّهُ مُعَاوَنَةٌ لِلسَّاحِرِ وَإِقْرَارٌ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَتَقَرُّبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ لِيُبْطِلَ عَمَلَهُ عَنِ الْمَسْحُورِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: لَا يُحِلُّ السِّحْرَ إِلَّا سَاحِرٌ3، وَلَمَّا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ تَنَشَّرْتَ فَقَالَ: "أَمَّا أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ وَعَافَانِي، وَخَشِيتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ
1 أبو داود "4/ 12/ ح3892" في الطب، باب كيف الرقى؟ وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري، وهو منكر الحديث.
2 الترمذي "4/ 408/ ح2080" في الطب، باب رقم 29.
ورواه مسلم "4/ 1728/ ح2202" في السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم.
3 أي: الحسن البصري، وذكر هذا الأثر ابن الجوزي في جامع المسانيد. وانظر تفصيل النشرة في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، باب ما جاء في النشرة من ص"307".
شَرًّا" 1. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ سُنَنِهِ "بَابٌ فِي النَّشْرَةِ": حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا عَقِيلُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: "سَمِعْتُ وَهْبَ بْنِ مُنَبِّهٍ يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّشْرَةِ فَقَالَ: "هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"2. وَلِهَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنَ السَّحَرَةِ الْفَجَرَةِ فِي الْأَزْمَانِ الَّتِي لَا سَيْفَ فِيهَا يَرْدَعُهُمْ، يَتَعَمَّدُ سِحْرَ النَّاسِ مِمَّنْ يُحِبُّهُ أَوْ يُبْغِضُهُ لِيَضْطَرَّهُ بِذَلِكَ إِلَى سُؤَالِهِ حَلَّهُ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، فَيَسْتَحْوِذَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِينِهِمْ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ.
[تَصْدِيقُ الْكَاهِنِ كُفْرٌ] :
وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرْ
…
بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَبَرْ
"وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا" يَعْتَقِدُ بقلبه صدقه فيما ادَّعَاهُ مِنْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا "فَقَدْ كَفَرَ" أَيْ: بَلَغَ دَرَكَةَ الْكُفْرِ بِتَصْدِيقِهِ الْكَاهِنَ "بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ" مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللَّهِ عز وجل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِمَا أَتَى بِهِ غَيْرُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرُّسُلِ عليهم السلام. وَلْنَسُقِ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي تَعْرِيفِ الْكَاهِنِ، مَنْ هُوَ؟ ثُمَّ فِي بَيَانِ كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ، ثُمَّ فِي كُفْرِ مَنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَنَقُولُ:
الْكَاهِنُ فِي الْأَصْلِ هُوَ مَنْ يَأْتِيهِ الرِّئِيُّ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ السَّمْعَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 221] وَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل لَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ فِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ كَاهِنٌ، وَقَالُوا: فِي الْقُرْآنِ كِهَانَةً وَأَنَّهُ مِمَّا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ، فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَبَرَّأَ رَسُولَهُ وَكِتَابَهُ مِمَّا أَفَكُوهُ وَافْتَرَوْهُ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
1 تقدم، وهي تفسير قول عائشة رضي الله عنها: أفلا استخرجته؟ "البخاري في الطب" أقولها فهلا تعني: تنشرت "البخاري في الأدب".
2 أبو داود "4/ 6/ ح3868" في الطب، باب النشرة وسنده صحيح. وسميت الرقية بالنشرة؛ لأنها ينشر بها عن المريض أي: يحل عنه ما خامره من الداء "ابن الأثير في جامع الأصول".
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 192-195] إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 210-212] فَأَثْبَتَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ وَتَنْزِيلُهُ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام رَسُولٌ مِنْهُ مُبَلِّغٌ كَلَامَهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبِشْرِيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُبَلِّغٌ لَهُ إِلَى النَّاسِ، ثُمَّ نَفَى مَا افْتَرَاهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وَقَرَّرَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: بُعْدُ الشَّيَاطِينِ وَأَعْمَالِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ، وَبُعْدُهُ وَبُعْدُ مَقَاصِدِهِ مِنْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مَقَاصِدُهَا الْفَسَادُ وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي وَالْبَغْيُ وَالْعُتُوُّ وَالتَّمَرُّدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَالْقُرْآنُ آتٍ بِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، آمِرٌ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ، مُقَرِّرٌ لَهَا مُرَغِّبٌ فِيهَا، زَاجِرٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي ذَامٌّ لَهَا مُتَوَعِّدٌ عَلَيْهَا، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَا مِنْ خَيْرٍ آجِلٍ وَلَا عَاجِلٍ إِلَّا وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَالْبَيَانُ لَهُ، وَمَا مِنْ شَرٍّ عَاجِلٍ وَلَا آجِلٍ إِلَّا وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْهُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّيَاطِينِ؟ الثَّانِي: عَجْزُهُمْ عَنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَيْ: لَوِ انْبَغَى لَهُمْ مَا اسْتَطَاعُوهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ يُشْبِهُ كَلَامَ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 88] . الثَّالِثُ: عَزْلُهُمْ عَنِ السَّمْعِ وَطَرْدُهُمْ عَنْ مَقَاعِدِهِ الَّتِي كَانُوا يَقْعُدُونَ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} فَبَيَّنَ تَعَالَى -مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ- أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى مَا اسْتَطَاعُوا الْإِتْيَانَ بِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، نَفَى عَنْهُمُ الْأَوَّلَ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالثَّانِيَ بِعَزْلِهِمْ عَنِ السَّمْعِ وَطَرْدِهِمْ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الْحِجْرِ: 16-18] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّاتِ: 6-10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ رضي الله عنهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنِّ: 8-10] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم بِنَخْلٍ عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الْجِنِّ: 1، 2] فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الْجِنِّ: 1] وَهَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَطُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا1. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِ الْكُفَّارِ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشُّعَرَاءِ: 221] الْآيَاتِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ
1 البخاري "8/ 669" في التفسير، في تفسير سورة الجن، وفي صفة الصلاة، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر.
ومسلم "1/ 331/ ح449" في الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح.
يَحْفَظُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا أَكْثَرَ من مائة كذبةت" 1. وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ -وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ، فَيُقَالُ: أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ" وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ2، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحَدِّثَ فِي الْعَنَانِ -وَالْعَنَانُ: الْغَمَامُ- بِالْأَمْرِ فِي الْأَرْضِ، فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتَقُرُّهَا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ" 3 وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَ الْكَاهِنِ بِقَوْلِهِ: {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 222] فَسَمَّاهُ أَفَّاكًا وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِ بِالْكَذِبِ، وَسَمَّاهُ أَثِيمًا وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِ بِالْفُجُورِ، وَقَوْلُهُ:{وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أَيْ: أكثر ما يقولونه الْكَذِبَ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِيهِمْ صَادِقًا، يُفَسِّرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ" فَلَا يَكُونُ صِدْقًا إِلَّا الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ.
وَأَمَّا كُفْرُ الْكَاهِنِ فَمِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا كونه وليا للشيطان فَلَمْ يُوحِ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَوَلَّاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الْأَنْعَامِ: 121] وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَوَلَّى إِلَّا الْكُفَّارَ وَيَتَوَلَّوْنَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
1 البخاري "10/ 185" في الطب، باب الكهانة، وغيره.
ومسلم "4/ 1750/ ح2228" في السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
2 البخاري "8/ 537" في تفسير سورة سبأ، باب: حتى إذا فزع عن قلوبهم، وفي تفسير سورة الحجر، باب: إلا من استرق السمع، وحديث ابن عباس عند مسلم "4/ 1750/ ح2229" في السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
3 البخاري "6/ 338" في بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.
كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [الْبَقَرَةِ: 257] وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} أَيْ: نُورِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى {إِلَى الظُّلُمَاتِ} أَيْ: ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النِّسَاءِ: 119] وَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ. وَالْخَامِسُ: تَسْمِيَتُهُ طَاغُوتًا فِي قَوْلِهِ عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 60] نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى كَاهِنِ جُهَيْنَةَ، وَقَوْلُهُ:{وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أَيْ: بِالطَّاغُوتِ وَهَذَا وَجْهٌ سَادِسٌ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ مِنَ الْكُهَّانِ كَسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ رضي الله عنه لَمْ يَأْتِهِ رِئِيُّهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَزَّلْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا لِكُفْرِهِ وَتَوَلِّيهِ إِيَّاهُ، حَتَّى إِنَّهُ رضي الله عنه كَانَ يَغْضَبُ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: مَا كُنَّا فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَعْظَمُ1. الثَّامِنُ وَهُوَ أَعْظَمُهَا: تَشَبُّهُهُ بِاللَّهِ عز وجل فِي صِفَاتِهِ وَمُنَازَعَتُهُ لَهُ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ، فَإِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَلَا سَمِيَّ له ولا مُضَاهِيَ وَلَا مُشَارِكَ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} {عَالَمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} ، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} {أَعْنَدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} وَلِسَانُ حال الكاهن ومقاله يَقُولُ: نَعَمْ. التَّاسِعُ: أَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ تَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ. الْعَاشِرُ: النُّصُوصُ فِي كُفْرِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِهِ هُوَ نَفْسِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ؟! فَقَدْ رَوَى الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:
1 أخرجه الطبراني في الكبير "7/ 92-95/ ح6475" والبيهقي في الدلائل "2/ 31، 32" والحاكم في المستدرك "2/ 608-610" ونقله ابن كثير بتمامه من مسند أبي يعلى في السيرة النبوية "1/ 344-346" وقال: منقطع وكذا حكم بانقطاعه الذهبي في تلخيص المستدرك، ورواه أبو نعيم في الدلائل "280"، قال الهيثمي: وإسناده ضعيف "المجمع 8/ 250".
"مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " 1 وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ. وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"2. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" 3 فَهَذَا حُكْمُ مَنْ سَأَلَهُ مُطْلَقًا، وَالْأَوَّلُ حُكْمُ مَنْ سَأَلَهُ وَصَدَّقَهُ بِمَا قَالَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْكَاهِنَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَعْرِفَةَ الْمُغَيَّبَاتِ وَلَوْ بِغَيْرِهِ، كَالرَّمَّالِ الَّذِي يَخُطُّ بِالْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْمُنَجِّمِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ أو الطارق بالحصا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهَا أَوِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَجِيءِ الْمَطَرِ أَوْ رُجُوعِ الْغَائِبِ أَوْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ عز وجل بِعِلْمِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الْجِنِّ: 26] مَلَائِكَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ مُسْتَرِقِي السَّمْعِ وَغَيْرِهِمْ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنِّ: 28] فَمَنْ ذَا الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ عَنْ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عليه السلام:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
1 أبو داود "4/ 21/ ح3904" في الطب، باب في الكاهن. والترمذي "1/ 242، 243/ ح135" في الطهارة، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض. والنسائي في الكبرى "تحفة الأشراف ح13536".
وابن ماجه "1/ 209/ ح639" في الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض. والحاكم "1/ 8" وهو حديث صحيح، وانظر كلام أحمد شاكر عليه عند الترمذي.
2 رواه الطبراني في الكبير "18/ 162/ ح355" قال الهيثمي: وفيه إسحاق بن الربيع العطار، وثقه أبو حاتم وضعفه عمرو بن علي وبقية رجاله ثقات "المجمع 5/ 106" ورواه البزار "3/ 399، 400/ ح3044، كشف" ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة. قال الهيثمي "المجمع 5/ 120": وهو حسن.
3 مسلم "4/ 1751/ ح2230" في السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
[الْأَنْعَامِ: 50] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ هُودٍ عليه السلام:{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الْأَحْقَافِ: 23] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] الآية، وَقَالَ تَعَالَى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الْأَعْرَافِ: 188] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الْأَحْقَافِ: 9] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 31، 32] الْآيَاتِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَكَانَ رَاحِلَتِهِ حَتَّى أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ1، وَقَالَ فِي سُؤَالِ الْحَبْرِ إِيَّاهُ فَأَجَابَهُ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَهُ الْحَبْرُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِي اللَّهُ عز وجل بِهِ" وَهِيَ فِي مُسْلِمٍ2. وَفِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِمَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 3. وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الرِّسَالَةِ حَتَّى أَتَاهُ اللَّهُ عز وجل بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحَى: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشُّورَى: 52] وَقَالَ تَعَالَى:
1 رواه أبو نعيم في دلائل النبوة "ح443" والبيهقي في الدلائل "4/ 59، 60" من حديث عروة والبيهقي من حديثه وحديث موسى بن عقبة، وفي سند الأول ابن لهيعة والثاني فيه من لم أجده. وقد اضطرب الرواة في موضع القصة فبعضهم ذكرها في غزوة تبوك كابن إسحاق "4/ 166" وذكرها الحلبي في المريسيع وتبوك.
2 مسلم "1/ 252/ ح315" في الحيض، باب صفة مني الرجل والمرأة، وأن الولد مخلوق من مائهما.
3 مسلم "1/ 159/ ح177" في الإيمان، باب معنى قول الله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} .
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هُودٍ: 49] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يُونُسَ: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 113] . نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ.