الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّحْمَنِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42] فَهُمُ الَّذِينَ حَقَّقُوا قَوْلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَخْلَصُوا فِي قَوْلِهَا وَصَدَّقُوا قَوْلَهُمْ بِفِعْلِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مَحَبَّةً وَرَجَاءً وَخَشْيَةً وَطَاعَةً وَتَوَكُّلًا، وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ حَقًّا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِلِسَانِهِ ثُمَّ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَهَوَاهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمُخَالَفَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، وَنَقَصَ مِنْ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَالْهَوَى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [الْقَصَصِ: 50]، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ثُمَّ قَالَ رحمه الله: فَيَا هَذَا كُنْ عَبْدًا لِلَّهِ لَا عَبْدًا لِلْهَوَى، فَإِنَّ الْهَوَى يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يُوسُفَ: 39] ، "تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ" وَاللَّهِ لا ينجو غدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَقَّقَ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَغْيَارِ، مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِلَهَهُ وَمَعْبُودَهُ فَرْدٌ فَلْيُفْرِدْهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
[[الفصل الثالث في تعريف العبادة وذكر بعض أنواعها وأن من صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك]]
فَصْلٌ فِي تَعْرِيفِ الْعِبَادَةِ وَذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِهَا وَأَنَّ مَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ:
قَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَأْلُوهُ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ أَيْ: تَعْبُدُهُ مَحَبَّةً وَتَذَلُّلًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَرَغَبًا وَرَهَبًا وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَاطِّرَاحًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتِعَانَةً بِهِ وَالْتِجَاءً إِلَيْهِ وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ. وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ عز وجل خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ وَمُصَوِّرِهِ وَمُصَرِّفِهِ وَمُدَبِّرِهِ، مُبْدِى الْخَلْقِ وَمُعِيدِهِ، وَمُحْيِيهِ وَمُبِيدِهِ، الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، الَّذِي لَا ملجأ ولا منجى مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
1 جامع العلوم والحكم.
يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} . وَالْعَبْدُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُعَبَّدُ أَيِ: الْمُذَلَّلُ الْمُسَخَّرُ، دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنْ عَاقِلٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَمُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ وَظَاهِرٍ وَكَامِنٍ وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، الْكُلُّ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ عز وجل مُسَخَّرٌ بِتَسْخِيرِهِ مُدَبَّرٌ بِتَدْبِيرِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا رَسْمٌ يَقِفُ عَلَيْهِ وَحَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لَا يَتَجَاوَزُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَلِيمِ وَتَدْبِيرُ الْعَدْلِ الْحَكِيمِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَابِدُ خُصَّ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عز وجل وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ لَمَّا عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَأَشْرَكُوهُ مَعَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ هَبَاءً مَنْثُورًا:{كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 18] وَ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [الْبَقَرَةِ: 264] وَ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39]، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّورٍ: 40] . ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَ {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 28] وَتَوَلَّوُا الطَّاغُوتَ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، وَعَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَقَدْ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُ وَبَيَّنَ لَهُمْ عَدَاوَتَهُ وَقَالَ:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فَاطِرٍ: 6] وَقَالَ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الْكَهْفِ: 50] فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَتَوَلَّوْا أَعْدَاءَهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَحَارَبُوا حِزْبَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَأَرَادُوا تَشْيِيدَ الْكُفْرِ وَإِعْلَاءَهُ وَرَدَّ الْحَقِّ وَإِبَاءَهُ؛ فَأَبَى اللَّهُ عز وجل إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَيُظْهِرَ دِينَهُ وَيُعْلِيَ كَلِمَتَهُ وَيَنْصُرَ أَوْلِيَاءَهُ وَيُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، وَيَجْعَلَ حِزْبَهُ -هُمُ- الْغَالِبِينَ وَيَجْعَلَ
الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، لَكِنِ الْمُؤْمِنُونَ هُمْ عِبَادُهُ حَقًّا الَّذِينَ أَفْرَدُوهُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَمْ يُشَبِّهُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، ولم يسووا شيئا مَنْ خَلَقَهُ بِهِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ تُضَاعَفُ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الْأَنْعَامِ: 160] وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 261] وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 245] تَوَلَّوُا اللَّهَ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَمِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْغَيِّ إِلَى نُورِ الرَّشَادِ:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [الْمَائِدَةِ: 56] مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَلَمْ تَتَّسِعُ لِغَيْرِهِ، دَنَا الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَاحْتَرَقَ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبِهِ خَاسِئًا حَسِيرًا، وَأَيِسَ مِنْهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَانْقَلَبَ مَذْمُومًا مَدْحُورًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَّى نَفْسَهُ اللَّعِينُ وَقَالَ:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الْحِجْرِ: 40] وَقَالَ عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42] حَفِظُوا اللَّهَ فَحَفِظَهُمْ وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْكُثُوا أَيْمَانَهُمْ، تَعَرَّفُوا إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ بِالْعِبَادَةِ فَعَرَفَهُمْ فِي الشِّدَّةِ بِالْفَرَجِ، صدقوا رُسُلَهُ وَآمَنُوا بِكِتَابِهِ وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ وَانْكَفُّوا عَمَّا نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ تَجَرَّدُوا لِنُصْرَةِ دِينِهِ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِهِ وَدَخَلَ النَّاسُ بِذَلِكَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا طَوْعًا وَكَرْهًا، وَقَادُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ. نَصَرُوا اللَّهَ فَنَصَرَهُمْ وَشَكَرُوهُ فَشَكَرَهُمْ وَذَكَرُوهُ فَذَكَرَهُمْ. عَرَفُوا مَا خُلِقُوا لَهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَرَأَوْا مَا سِوَاهُ مِمَّا لَا يَعْنِيهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَآثَرُوا مَا يَبْقَى على ما ينفى وَتَعَلَّقَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، أُولَئِكَ هُمْ خَاصَّةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَالْمُصْطَفَوْنَ مِنْ عِبَادِهِ، أُولَئِكَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُهُ الْغَالِبُونَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
ثُمَّ الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعُ
…
لِكُلِّ مَا يَرْضَى الْإِلَهُ السَّامِعُ
"ثُمَّ الْعِبَادَةُ" الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ لَهَا الْخَلْقَ، وَأَخَذَ بِهَا عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، أرسل بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ "هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا" يُحِبُّ وَ"يَرْضَى" مَبْنِيٌّ لِلْمَعْرُوفِ فَاعِلُهُ "الْإِلَهُ السَّامِعُ" وَهُوَ اللَّهُ عز وجل مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَالظَّاهِرَةُ كَالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْبَاطِنَةُ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مَا لَمْ يُسَاعِدْهَا عَمَلُ الْقَلْبِ، وَمَنَاطُ الْعِبَادَةِ هِيَ غَايَةُ الْحُبِّ مَعَ غَايَةِ الذُّلِّ وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَةٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ وَلِذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيُّ، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مؤمن موحد. ا. هـ.1.
قُلْتُ: وَبَيَانُ كَلَامِهِمْ هَذَا أَنَّ دَعْوَى الْحُبِّ لِلَّهِ بِلَا تَذَلُّلٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ وَلَا خَشْيَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ وَلَا خُضُوعٍ دَعْوَى كَاذِبَةٌ؛ وَلِذَا تَرَى مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ عز وجل وَيَرْتَكِبُهَا وَلَا يُبَالِي، وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الْأَنْعَامِ: 148] وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزُّخْرُفِ: 20] وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِمَامُهُمْ فِي ذَلِكَ الِاحْتِجَاجِ هُوَ إِبْلِيسُ إِذْ قَالَ:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ نَفْسُ وِفَاقِ الْعَبْدِ رَبَّهُ: فَيُحِبُّ
1 انظر العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ومجموع الفتاوى "10/ 149" وما بعدها.
مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى مَعْرِفَةُ مَحَابِّ اللَّهِ وَمَعَاصِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِمُتَابَعَةِ الشَّارِعِ؛ وَلِذَا قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ادَّعَى قَوْمٌ مُحِبَّةَ اللَّهِ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُ مُتَّبِعًا رَسُولَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تُصَدِّقُوهُ حَتَّى تَعْلَمُوا مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ وَحْدَهُ إِذَا اسْتَرْسَلَ فِيهِ الْعَبْدُ تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَأَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 99] . وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ وَحْدَهُ إِذَا اسْتَرْسَلَ فِيهِ الْعَبْدُ سَاءَ ظَنُّهُ بِرَبِّهِ وَقَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَئِسَ مِنْ رَوْحِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يُوسُفَ: 87] وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الْحِجْرِ: 56] . فَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ خُسْرَانٌ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِهِ كُفْرَانٌ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ضَلَالٌ وَطُغْيَانٌ وَعِبَادَةُ اللَّهِ عز وجل بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وتوحيد وَإِيمَانٌ. فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسرء: 57] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] وَبَيَّنَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى في آل زكريا عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 9] فَتَارَةً يَمُدُّهُ الرَّجَاءُ وَالرَّغْبَةُ فَيَكَادُ أَنْ يَطِيرَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ، وَطَوْرًا يَقْبِضُهُ الْخَوْفُ وَالرَّهْبَةُ فَيَكَادُ أَنْ يَذُوبَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ دَائِبٌ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، خَائِفٌ مِنْ عُقُوبَاتِهِ مُلْتَجِئٌ مِنْهُ إِلَيْهِ، عَائِذٌ بِهِ مِنْهُ رَاغِبٌ فِيمَا لَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل، لا نافي ولا مُشَبِّهٌ، وَفِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا جَبْرِيٌّ وَلَا قَدَرِيٌّ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ بَيْتِهِ لَيْسَ بِذِي النَّصْبِ وَلَا التَّشَيُّعِ، وَفِي الْوَعْدِ الوعيد لَيْسَ بِخَارِجِيٍّ وَلَا مُرْجِئٍ. فَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ وَالتَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ
1 انظر سير أعلام النبلاء "10/ 23".
الْأَوْسَاطُ. وَلِلْعِبَادَةِ رُكْنَانِ لَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِمَا وَهُمَا: الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ. وَحَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْعَبْدِ جه اللَّهِ عز وجل وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [اللَّيْلِ: 17-21] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 18-19] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 145] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هُودٍ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الْبَقَرَةِ: 264، 265] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"1. وَفِي صَحِيحِ
1 البخاري "1/ 9" في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي وغيره. ومسلم "3/ 1515/ ح1907" في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنية".
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"1. وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ2. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ أَحَادِيثَ الْإِخْلَاصِ لَطَالَ الْفَصْلُ. وَأَمَّا الصِّدْقُ فَهُوَ بَذْلُ الْعَبْدِ جُهْدَهُ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ اللَّهِ، وَتَرْكُ الْعَجْزِ وَتَرْكُ التَّكَاسُلِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِمْسَاكُ النَّفْسِ بِلِجَامِ التَّقْوَى عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَطَرْدُ الشَّيْطَانِ عَنْهُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التَّوْبَةِ: 119] وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] الْآيَةَ، وَقَالَ تبارك وتعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 1-11] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [الْبَقَرَةِ: 214] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إِلَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
1 مسلم "4/ 1987/ ح2564" في البرّ والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله. وفيه زيادة:"وأعمالكم" في آخره.
2 البخاري "6/ 27" في الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
ومسلم "3/ 1512/ ح1904" في الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 142-146] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنَّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" 1، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:"الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ"2. وَإِذَا اجْتَمَعَتِ النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ وَالْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ فِي هَذَا الْعَبْدِ قَامَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عز وجل. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَيَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى بِوَفْقِ مَا شَرَعَ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ" 3، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مَنْ
1 مسلم "4/ 2052/ ح2664" في القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز.
2 ضعيف رواه الترمذي "4/ 638/ ح2499" في صفة القيامة، باب رقم 25، وابن ماجه "2/ 1423/ ح4260" في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، وأحمد "4/ 124".
والحاكم "1/ 57" و"4/ 251" وقال في الأولى: صحيح على شرط البخاري، وقال في الثانية: هذا صحيح الإسناد. ولم يوافقه الذهبي في الأولى وقال: لا والله أبو بكر واهٍ ووافقه في الثانية. قلت: الحديث ضعيف، فيه أبو بكر بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف. "والحديث من رواية شداد بن أوس رضي الله عنه".
3 البخاري "5/ 301" في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود. ومسلم "3/ 1343/ ح1718" في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة.
عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ" 1. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَرْكَانِ شُرُوطٌ فِي الْعِبَادَةِ لَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهَا؛ فَالْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ شَرْطٌ فِي صُدُورِهَا، وَالنِّيَّةُ الْخَالِصَةُ، وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ شَرْطٌ فِي قَبُولِهَا، فَلَا تَكُونُ عِبَادَةً مَقْبُولَةً إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا، فَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ بِدُونِ صِدْقِ الْعَزِيمَةِ هَوَسٌ وَتَطْوِيلُ أَمَلٍ وَتَمَنٍّ عَلَى اللَّهِ وَتَسْوِيفٌ فِي الْعَمَلِ وَتَفْرِيطٌ فِيهِ، وَصِدْقُ الْعَزِيمَةِ بِدُونِ إِخْلَاصٍ فِيهِ يَكُونُ شِرْكًا أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنَ الْإِخْلَاصِ. فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ أَصْلِهِ هُوَ إِرَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فَنِفَاقٌ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ الرِّيَاءُ فِي تَزْيِينِ الْعَمَلِ وَكَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِرَادَةَ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ كَانَ شِرْكًا أَصْغَرَ بِحَسَبِهِ حَتَّى إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْتَحَقَ بِالْأَكْبَرِ. وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ مَعَ صِدْقِ الْعَزِيمَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ السُّنَّةِ كَانَ بِدْعَةً وَحَدَثًا فِي الدِّينِ وَشَرْعَ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى صَاحِبِهِ وَوَبَالًا عَلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَلَا يَصْدُرُ الْعَمَلُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا بِصِدْقِ الْعَزِيمَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَإِتْبَاعِ السُّنَّةِ؛ وَلِذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ2، يَعْنِي: خَالِصًا مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ مُخُّهَا الدُّعَاءُ
…
خَوْفٌ تَوَكُّلٌ كَذَا الرَّجَاءُ
وَرَغْبَةٌ وَرَهْبَةٌ خُشُوعُ
…
وَخَشْيَةٌ إِنَابَةٌ خُضُوعُ
وَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِعَانَهْ
…
كَذَا اسْتِغَاثَةٌ بِهِ سُبْحَانَهْ
وَالذَّبْحُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُ ذَلِكْ
…
فَافْهَمْ هُدِيتَ أَوْضَحَ الْمَسَالِكْ
وَصَرْفُ بَعْضِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ
…
شِرْكٌ وَذَاكَ أَقْبَحُ الْمَنَاهِي
"وَ" ثَبَتَ "فِي الْحَدِيثِ" الَّذِي فِي السُّنَنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ "مُخُّهَا" أَيْ: مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبُّهَا "الدُّعَاءُ" قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
1 مسلم "3/ 1343/ ح1718" في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة.
2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام "11/ 600" وتمامه: قيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون صوابا خالصا.