الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتُدْحَضُ شُبْهَةُ الْمُعَانِدِينَ، وَيُدْمَغُ بَاطِلُ الْمُلْحِدِينَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
[[الفصل الرابع: في بيان ضد التوحيد، وهو الشرك وكونه ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر، وبيان كل منهما]]
فَصَلٌ: فِي بَيَانِ ضِدِّ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَكَوْنِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ، وَبَيَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا
قَدْ قَدَّمَنَا انْقِسَامَ التَّوْحِيدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: تَوْحِيدُ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضِدٌّ يُفْهَمُ مِنْ تَعْرِيفِهِ؛ فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الخالق الرازق المحيي الْمُمِيتُ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ المتصرف في كل مَخْلُوقَاتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، فَضِدُّ ذَلِكَ هُوَ اعْتِقَادُ الْعَبْدِ وُجُودَ مُتَصَرِّفٍ مَعَ اللَّهِ غَيْرِهِ، فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عز وجل. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تَوْحِيدَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ أَنْ يُدْعَى اللَّهُ تَعَالَى بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ وَيُوصَفَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَيُنْفَى عَنْهُ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ، فَضِدُّ ذَلِكَ شَيْئَانِ وَيَعُمُّهُمَا اسْمُ الْإِلْحَادِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عز وجل وَتَعْطِيلُهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثَانِيهِمَا: تَشْبِيهُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] . وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَنَفْيُ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تبارك وتعالى، فَضِدُّ ذَلِكَ هُوَ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهَا.
[أَوَّلُ ظُهُورِ الشِّرْكِ] :
وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَدْ كَانَ بَنُو آدَمَ عَلَى مِلَّةِ أَبِيهِمْ عليه السلام نَحْوَ عَشَرَةِ قُرُونٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِي
تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْبَقَرَةِ: 213] وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ -لَعَنَهُ اللَّهُ- لَمْ يَزَلْ دَائِبًا جَادًّا مُشَمِّرًا فِي عَدَاوَةِ بَنِي آدَمَ عليه السلام مُنْذُ كَانَ أَبُوهُمْ طِينًا، فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ الرُّوحَ وَعَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وقال:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الْإِسْرَاءِ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الْحِجْرِ: 33] فَلَمَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عز وجل عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ لَهُ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الْأَعْرَافِ: 12] فَأَجَابَ الْخَبِيثُ مُفْتَخِرًا بِأَصْلِهِ طَاعِنًا عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الْأَعْرَافِ: 12] ، فَعَامَلَهُ الْجَبَّارُ بِنَقِيضِ مَا قَصَدَهُ وَأَذَاقَهُ وَبَالَ حَسَدِهِ، وَأَثْمَرَ لَهُ اسْتِكْبَارُهُ الذُّلَّ الْأَبَدِيَّ الَّذِي لَا عِزَّ بَعْدَهُ:{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 13] وَقَالَ: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الْأَعْرَافِ: 18] الْآيَةَ، وَقَالَ:{فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الْحِجْرِ: 34-35] فَطَلَبَ الْإِنْظَارَ لِيَأْخُذَ بِزَعْمِهِ مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِالثَّأْرِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَزْدَادُ مِنْ غَضَبِ الْجَبَّارِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَّا عَلَى حِزْبِهِ وَتَابِعِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ هُوَ إِمَامُهُمْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِكْبَارِ {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص: 79، 80] أَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى طِلْبَتِهِ لِيَمْتَحِنَ عِبَادَهُ اخْتِبَارًا وَابْتِلَاءً:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [تبارك: 2] فَقَابَلَ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ وَجَدَّدَ صَفْقَةَ الْخُسْرَانِ وَأَقْسَمَ لَيَسْتَعْمِلَنَّ
1 سيأتي بعد قليل مع مصادره.
مُدَّتَهُ وَلَيَسْتَغْرِقَنَّ حَيَاتَهُ فِي إِغْوَاءِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ الَّذِينَ كَانَ طَرْدُهُ وَإِبْعَادُهُ بِسَبَبِهِمْ؛ إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِأَبِيهِمْ، وَلَا رَأَى أَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِكْبَارِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، بَلْ قَدَّسَ نَفْسَهُ اللَّئِيمَةَ وَأَسْنَدَ الْإِغْوَاءَ إِلَى رَبِّهِ مُخَاصَمَةً وَمُحَادَّةً وَمُشَاقَّةً:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 16-17]، وَلَمْ يَقُلِ اللَّعِينُ:"مِنْ فَوْقِهِمْ" لِعِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ فَوْقِهِمْ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42]، وَقَدْ عَلِمَ الرَّجِيمُ ذَلِكَ فَقَالَ آيِسًا مِنْهُمْ:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الْحِجْرِ: 40] ، ثُمَّ لَمَّا سَعَى إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ زَوْجِهِ فِي الْجَنَّةِ وَدَلَّهُمَا عَلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عز وجل عَنْهَا أَنْ يَقْرَبُوهَا، وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا سِوَاهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَاسْتَدْرَجَهُمُ اللَّعِينُ بِخِدَاعِهِ وحيلته البائرة، وغيرهم بِتِلْكَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الْأَعْرَافِ: 21]، فَنَفَذَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ بِأَكْلِهِمَا مِنْهَا:{لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الْأَنْفَالِ: 42] ، وَظَنَّ اللَّعِينُ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِثَأْرِهِ مِنْ آدَمَ وَأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَهُ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَضْلِ اللَّهِ عز وجل وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ:{وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْحَدِيدِ: 29]، فَلَمَّا عَاتَبَهُمَا اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الْأَعْرَافِ: 22]، فَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَلَمْ يَحْتَجَّا بِذَلِكَ عَلَى ارْتِكَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُخَاصِمَا بِهِ كَمَا قَالَ اللَّعِينُ مُوَاجِهًا رَبَّهُ بِقَوْلِهِ:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16]، بَلِ اعْتَرَفَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَأَقَرَّا بِظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَصَرَّحًا بِافْتِقَارِهِمَا إِلَى رَبِّهِمَا وَبِكَمَالِ غِنَاهُ عَنْهُمَا:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 23]، وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عز وجل:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 37] .
ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُهْبِطَهَمْ إِلَى دَارٍ أُخْرَى، هِيَ دَارُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ
لِيَتَبَيَّنَ حِزْبَهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رُسُلَهُ وَيُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُ، وَيَغْرِسَ لَهُمْ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ، وَيَتَبَيَّنَ حِزْبَ عَدُوِّهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَأَطَاعُوهُ وَصَارُوا مِنْ خَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَأَلْقَى الْعَدَاوَةَ وَنَصَبَ الْحَرْبَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحِزْبَيْنِ فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمُهُ جَمِيعًا، فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ فَقَالَ تَعَالَى:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 38] ، ثُمَّ كَانَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ عز وجل مِنْ إِلْقَائِهِ الْفِتْنَةَ بَيْنَ ابْنَيْ آدَمَ، وَقَتْلِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَلَمَّا مَاتَ آدَمُ عليه السلام كَانَ وَصِيُّهُ شِيثًا عليه السلام، وَمَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ1.
وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ -لَعَنَهُ اللَّهُ- لِقَوْمِ نُوحٍ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَكَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ زَيَّنَ لَهُمْ تَعْظِيمَ الْقُبُورِ وَالْعُكُوفَ عَلَيْهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ أَنْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتُنُوسِيَ العلم عبدت ا. هـ.2. فَلَوْ جَاءَهُمُ اللَّعِينُ وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِعِبَادَتِهِمْ لَمْ يَقْبَلُوا وَلَمْ يُطِيعُوهُ، بَلْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ بِنَصْبِ الصُّوَرِ لِتَكُونَ ذَرِيعَةً
1 ابن جرير "جامع البيان 2/ 334" وسنده صحيح. ورواه الحاكم في مستدركه "2/ 442" وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
2 البخاري "8/ 667" في التفسير، وتفسير سورة نوح، باب: ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق.