الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ تَكُونَ عِبَادَةُ اللَّهِ عِنْدَهَا ذَرِيعَةً إِلَى عِبَادَتِهَا مِمَّنْ يَخْلُفُهُمْ، فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا عليه السلام فَلَبِثَ فِيهِمْ مَا لَبِثَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْحَقِّ، حَتَّى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّوفَانِ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ عَادٌ عَبَدُوا آلِهَةً مَعَ اللَّهِ مِنْهَا هَدًّا وَصَدًى صمودا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عز وجل إِلَيْهِمْ هُودًا عليه السلام فَلَبِثَ فِيهِمْ مَا لَبِثَ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عز وجل، فَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّيحِ. ثُمَّ ثَمُودُ كَذَلِكَ وَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا عليه السلام فكذبوه فَأُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ. ثُمَّ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبَدُوا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كُلَّ ذَلِكَ مُفَصَّلًا عَنِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ.
وَعَبَدَ أَوَّلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ وَآخِرُهُمْ عَبَدُوا عُزَيْرًا، وَعَبَدَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ، وَعَبَدَتِ الْمَجُوسُ النَّارَ، وَعَبَدَ قَوْمٌ الْمَاءَ، وَعَبَدَ كُلُّ قَوْمٍ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ، هَذَا فِي الْأُمَمِ الْأُولَى وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَارِثٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ، فَالْأَصْنَامُ الَّتِي فِي قَوْمِ نُوحٍ قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْعَرَبِ فِي زَمَنِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ -قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدُومَةَ الْجَنْدَلِ، وَسُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غَطِيفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَأٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذي الكلاع. ا. هـ1.
[دُخُولُ الْوَثَنِيَّةِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى يَدِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيِّ] :
وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ كَاهِنًا وَلَهُ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ لَهُ: عَجِّلِ السَّيْرَ وَالظَّعْنَ مِنْ تِهَامَةَ، بِالسَّعْدِ وَالسَّلَامَةِ، إِئْتِ جُدَّةَ، تَجِدْ فِيهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً، فَأَوْرِدْهَا تِهَامَةَ وَلَا تَهَبْ، ثُمَّ ادْعُ الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا تُجَبْ. فَأَتَى نَهْرَ جُدَّةَ فَاسْتَثَارَهَا ثُمَّ حَمَلَهَا حَتَّى وَرَدَ تِهَامَةَ وَحَضَرَ الْحَجَّ فَدَعَا الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا قَاطِبَةً، فَأَجَابَهُ عَوْفُ بْنُ عَدْنِ بْنِ زَيْدِ اللَّاتِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ وَدًّا
1 البخاري "8/ 667" في تفسير سورة نوح، باب: ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق.
فَحَمَلَهُ، فَكَانَ بِوَادِي الْقُرَى بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَسَمَّى ابْنَهُ عَبْدَ وَدٍّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ، وَجَعَلَ عَوْفٌ ابْنَهُ عَامِرًا سَادِنًا لَهُ فَلَمْ يَزَلْ بَنُوهُ يَسْدِنُونَهُ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَحَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ حَارِثَةَ أَنَّهُ رَأَى وَدًّا، قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَبْعَثُنِي بِاللَّبَنِ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: اسْقِهِ إِلَهَكَ فَأَشْرَبُهُ، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رضي الله عنه كَسَرَهُ فَجَعَلَهُ جُذَاذًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِهَدْمِهِ فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَدْمِهِ بَنُو عُذْرَةَ وَبَنُو عَامِرٍ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَهَدَمَهُ وَكَسَرَهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَقُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ حَارِثِةَ: صِفْ لِي وَدًّا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ قال: كان تمثال رَجُلٍ كَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ، قَدْ دُبِّرَ، أَيْ: نُقِشَ، عَلَيْهِ حُلَّتَانِ مُتَّزِرٌ بِحُلَّةٍ، مُرْتَدٍ بِأُخْرَى، عَلَيْهِ سَيْفٌ قَدْ تَقَلَّدَهُ وَقَدْ تَنَكَّبَ قَوْسًا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ حَرْبَةٌ فِيهَا لِوَاءٌ وَقَبْضَةٌ فِيهَا نَبْلٌ بِغَيْرِ جُعْبَةٍ. وَأَجَابَتْ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ فَدَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ سُوَاعًا، فَكَانَ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: وِهَاطُ مِنْ بَطْنِ نَخْلَةَ يَعْبُدُهُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ مُضَرَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ:
تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتِهِمْ عُكُوفًا
…
كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعِ
وَأَجَابَتْهُ مَذْحِجٌ فَدَفَعَ إِلَى أَنْعَمَ بْنِ عَمْرٍو الْمُرَادِيِّ يَغُوثَ، وَكَانَ بِأَكَمَةٍ بِالْيَمَنِ تَعْبُدُهُ مَذْحِجٌ وَمَنْ وَالَاهَا، وَأَجَابَتْهُ هَمْدَانُ فَدَفَعَ إِلَى مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمٍ يَعُوقَ فَكَانَ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: خَيْوَانُ، فَعَبَدَتْهُ هَمْدَانُ وَمَنْ وَالَاهَا مِنَ الْيَمَنِ، وَأَجَابَتْهُ حِمْيَرُ فَدَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ ذِي رَعَيْنٍ يقال له: معديكرب نَسْرًا فَكَانَ بِمَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِ سَبَأٍ يُقَالُ لَهُ: بَلْخَعٌ تَعْبُدُهُ حِمْيَرُ وَمَنْ وَالَاهَا، فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُونَهُ حَتَّى هَوَّدَهُمْ ذُو نُوَاسٍ، فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تُعْبَدُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَهَدَمَهَا وَكَسَرَهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ"1.
1 البخاري "8/ 283" في تفسير سورة المائدة، باب ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
ومسلم "4/ 2191/ ح2856" في الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء.
وَفِي لَفْظٍ: "وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ"1. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْفِ الْخُزَاعِيِّ: "يَا أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدَفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلَا بِكَ مِنْهُ" فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَلَّا يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَامِي" 2. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ مُآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ -وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ وَلَدُ عِمْلَاقٍ وَيُقَالُ: عَمْلِيقُ بْنُ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ- رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ نَعْبُدُهَا فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا، وَنَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا. فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونَنِي مِنْهَا صَنَمًا فَأَسِيرُ بِهِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُونَهُ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ: هُبَلُ، فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ3. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى مَوْضِعِ زَمْزَمٍ يَنْحَرُونَ عِنْدَهُمَا، وَكَانَ إِسَافٌ وَنَائِلَةُ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ هُوَ إِسَافُ بْنُ بَغِيٍّ وَنَائِلَةُ بِنْتُ دِيكٍ فَوَقَعَ إِسَافُ عَلَى نَائِلَةَ فِي الْكَعْبَةِ، فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ4. قَالَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ
…
بِمُفْضِي السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ
وَاتَّخَذُوا حَوْلَ الْكَعْبَةِ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لَخَوْلَانَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: عَمُّ أَنَسٍ بِأَرْضِ خَوْلَانَ، يُقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قِسْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ، فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ عَمِّ أَنَسٍ مِنْ حَقِّ اللَّهِ
1 ليس هذا اللفظ في الصحيحين ولا في أحدهما، ومعناه عند أحمد في المسند "3/ 353" من رواية جابر رضي الله عنه، والرواية الآتية.
2 ابن هشام "1/ 78" وسنده صحيح، وابن إسحاق صرح بالتحديث، ورواه أحمد في مسنده من حديث جابر رضي الله عنه "3/ 353" و"5/ 137".
3 سيرة ابن هشام "1/ 79".
4 سيرة ابن هشام "1/ 84".
تَعَالَى الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ، وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِّ عَمِّ أَنَسٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِ. وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ خَوْلَانَ يُقَالُ لَهُمُ: الْأَدِيمُ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِيمَا يَذْكُرُونَ:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 136]، قَالَ: وَكَانَ لِبَنِي مَلْكَانَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: سَعْدٌ، صَخْرَةٌ بِفَلَاةٍ مِنْ أَرْضِهِمْ طَوِيلَةٌ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَلْكَانَ بِإِبِلٍ لَهُ مُؤَبَّلَةٍ لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهِ فِيمَا يَزْعُمُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْإِبِلُ -وَكَانَتْ مَرْعِيَّةً لَا تُرْكَبُ وَكَانَ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ- نَفَرَتْ مِنْهُ فَذَهَبَتْ فِي كُلِّ وَجْهٍ وَغَضِبَ رَبُّهَا الْمَلْكَانِيُّ فَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، نَفَّرْتَ عَلَيَّ إِبِلِي. ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى جَمَعَهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ:
أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا
…
فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدٌ الَّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ
…
مِنَ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو لِغَيٍّ وَلَا رُشْدِ
وَكَانَ لِدَوْسٍ صَنَمٌ لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ. قَالَ: وَكَانَ لِقُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ العزى بنخلة وكان سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا بَنُو شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمِ حُلَفَاءَ أَبِي طَالِبٍ1، قُلْتُ: فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رضي الله عنه فَهَدَمَهَا2. قَالَ: وَكَانَتِ اللَّاتُ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ وَكَانَ سدنتها وحجابها بنو مُعَتِّبٍ مِنْ ثَقِيفٍ. قَالَ: وَكَانَ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلَّلِ بِقَدِيدٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ رضي الله عنه فَهَدَمَهَا وَيُقَالُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ وَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ رضي الله عنه
1 سيرة ابن هشام "1/ 82-85".
2 ذكرها ابن القيم في إغاثة اللهفان "2/ 214" من رواية أبي صالح عن ابن عباس، وهو ضعيف يرسل.
3 ابن هشام "1/ 88"، والبداية والنهاية "2/ 192".
فَهَدَمَهَا1. قَالَ: وَكَانَتْ قَلَسٌ لِطَيِّءٍ وَمَنْ يَلِيهَا بِجَبَلِ طَيِّءٍ بَيْنَ سَلْمَى وَأَجَأَ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَهَدَمَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا سَيْفَيْنِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الرَّسُوبُ وَلِلْآخِرِ: الْمُخَذَّمِ، فَوَهَبَهُمَا لَهُ فَهُمَا سَيْفَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2، قَالَ: وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ بَيْتٌ بِصَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ: رِئَامُ3. قَالَ: وَكَانَتْ رِضَاءُ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، وَفِيهَا يَقُولُ الْمُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ هَدَمَهَا فِي الْإِسْلَامِ:
وَلَقَدْ شَدَدْتُ عَلَى رِضَاءٍ شِدَّةً
…
فَتَرَكْتُهَا قَفْرًا بِقَاعٍ أَسْحَمَا4
وَكَانَ ذُو الْكَعْبَاتِ لِبَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ وَإِيَادٍ بِسِنْدَادِ، وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسٍ:
بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ
…
وَالْبَيْتِ ذِي الشُّرُفَاتِ مِنْ سِنْدَادِ5
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَشَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ: مَنَاةُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ -مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُهُ ومعاذ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجُمُوحِ وَغَيْرُهُمْ- مِمَّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، كانوا يُدْلِجُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلِمَةَ وَفِيهَا عَذِرَاتُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيَلْكُمُ مَنْ عَدَا عَلَى آلِهَتِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: ثُمَّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا لَأَخْزَيْتُهُ. فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ غَدَوْا فَفَعَلُوا بِصَنَمِهِ مثل ذلك، فيغدو يَلْتَمِسُهُ فَيَجِدُ بِهِ مِثْلَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى فَيَغْسِلُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُطَيِّبُهُ، فَيَغْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى فَيَفْعَلُونَ بِهِ ذَلِكَ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ فَغَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا تَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ
1 ابن هشام "1/ 88، 89"، والبداية والنهاية "2/ 192".
2 ابن هشام "1/ 89".
3 ابن هشام "1/ 89".
4 ابن هشام "1/ 89، 90"، والبداية والنهاية "2/ 192".
5 ابن هشام "1/ 91".
خَيْرٌ فَامْتَنِعْ فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ. فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ غَدَوْا عَلَيْهِ فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلٍ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارٍ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عَذَرُ النَّاسِ، وَغَدَا عَمْرٌو فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ، وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ، وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ، وَشَكَرَ اللَّهَ إِذْ أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَمَى وَالضَّلَالَةِ:
وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ
…
أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ
أُفٍّ لِمَلَقَاكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ
…
تهان أو تسأل عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ
…
الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ
هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ
…
أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ1
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذَ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ، فَإِذَا أَرَادَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسَّحَ بِهِ فَيَكُونُ آخِرَ عَهْدِهِ وَأَوَّلَ عَهْدِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالتَّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ وَيُهْدَى لَهَا كَمَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ وَيُطَافُ بِهَا كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ وَيُنْحَرُ عِنْدَهَا كَمَا يُنْحَرُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ2، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ فَنَظَرَ إِلَى أَحْسَنِهَا فَاتَّخَذَهُ رَبًّا، وَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ أَثَافِيَّ لِقِدْرِهِ، فَإِذَا ارْتَحَلَ تَرَكَهُ، فَإِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا آخَرَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ3.
وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْنَا بِهِ، سَمِعْنَا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَلَحِقْنَا بِالنَّارِ، قَالَ: وَكُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ نُلْقِي ذَاكَ وَنَأْخُذُهُ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْيَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا
1 البداية والنهاية "3/ 165، 166".
2 ابن هشام "1/ 85".
3 إغاثة اللهفان "2/ 220".