الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع أننا نجد أن الحافظ ابن الجزري يجزم بأن التواتر شرط للقراءة الصحيحة بقوله: «الباب السادس: في أن العشرة بعض الأحرف السبعة، وأنها متواترة فرشا وأصولا حال اجتماعهم وافتراقهم، وحل مشكلات ذلك» (1).
وقد شذذ جمهور القراء قول مكي وابن الجزري حيث قال الصفاقسي: «مذهب الأصوليين وفقهاء المذاهب الأربعة والمحدثين والقراء: أن التواتر شرط في صحة القراءة، ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر، ولو وافقت رسم المصاحف العثمانية، وهو قول محدث لا يعول عليه، ويؤدي إلى تسوية غير القرآن بالقرآن» (2).
وعليه: فالقراءة الصحيحة المتواترة، هي القراءة التي توافرت فيها الأركان الثلاثة المتقدمة، وأنه بناء عليها تعتبر هذه الرواية قراءة قرآنية، تصح القراءة بها في الصلاة، وفي خارجها، ولا خلاف عند العلماء في ذلك كما تقدم من قول الصفاقسي:«أنه قول عامة العلماء» .
القسم الثاني: القراءات الشاذة:
أولا: مفهومها لغة واصطلاحا:
الشاذ لغة: المنفرد، وهو ما ندر عن الجمهور (4).
(1) منجد المقرئين، ص 54 وما بعدها، وقد جعل بعض الباحثين هذا تناقضا من ابن الجزري- رحمه الله، فتارة يقول بصحة السند مع الاشتهار، كما في النشر، وتارة يجزم بشرط التواتر كما في منجد المقرئين، والمهم: أن غاية قوله رحمه الله هو القول بشرط التواتر وهو ما نرجحه.
(2)
الصفاقسي، غيث النفع في القراءات السبع، ص 17، وانظر: ابن النجار الفتوحي، شرح الكوكب المنير (2: 136).
(3)
ابن عابدين، رد المحتار (1: 486).
(4)
الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة:(شذذ)، ص 427.
وأما القراءة الشاذة اصطلاحا، فهي ما اختل فيها ركن من أركان القراءة الثلاثة المتقدمة: التواتر، وموافقة الرسم العثماني، وموافقة وجه من وجوه اللغة العربية (1).
غير أن جمهور القراء يعتبرون الشاذ ما كان غير متواتر، فالآحاد عندهم في حكم الشاذ، وهي القراءة التي اختل فيها ركنها الركين وهو التواتر، وهذا الركن يعد الركن الأهم، والمعول عليه في اعتبار إثبات قرآنية الرواية، فمتى فقدت الرواية أحد هذه الشروط، تكون شاذة ويحكم بعدم قرآنيتها، ولا تعتبر قرآنا.
قال الحافظ ابن الجزري: «
…
ومتى اختل ركن من الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة
…
هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف» (2).
ثانيا: رواة القراءات الشاذة:
وهم ينقسمون إلى قسمين (3):
القسم الأول: الذين رووا القراءات الشاذة بصورة عامة، وهم كثير حتى روي عن بعض الأئمة العشرة رواية بعض القراءات الشاذة، ومنهم بعض الصحابة كابن مسعود (ت 32 هـ)، ومسروق بن الأجدع بن مالك (ت 62 هـ)، وعبد الله بن الزبير (ت 73 هـ) رضي الله عنهم، ومن التابعين: كنصر بن عاصم الليثي البصري (ت 99 هـ)، ومجاهد بن جبر (ت 103 هـ)، وأبان بن عثمان بن عفان (ت 105 هـ)، والضحاك بن مزاحم (ت 105 هـ)، ومحمد بن سيرين (ت 110 هـ)، وقتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسي (ت 117 هـ)، وغيرهم.
القسم الثاني: وهم أشهر أصحاب القراءات الشاذة، وهم أربعة، جمعهم بعض العلماء كالقباقبي في إيضاح الرموز ومفتاح الكنوز، والدمياطي في إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، وسأعرف بهم بصورة موجزة على النحو التالي:
1 -
ابن محيصن: هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي مولاهم المكي، مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة، روى له مسلم، قال ابن مجاهد: «كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج به عن إجماع أهل بلده،
(1) أبو شامة، المرشد الوجيز، ص 171 - 172، 184.
(2)
ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (1: 9).
(3)
الدكتور شعبان محمد إسماعيل، القراءات، أحكامها ومصدرها، ص 128.
فرغب الناس عن قراءته، وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه» (1)، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة بمكة.
2 -
يحيى اليزيدي: هو أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي البصري، المعروف باليزيدي، إمام نحوي مقرئ، توفي سنة اثنتين ومائتين.
3 -
الحسن البصري: هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، إمام أهل زمانه علما، وعملا، وفصاحة ونبلا، توفي سنة عشر ومائة.
4 -
الأعمش: هو أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش، الأسدي الكوفي مولاهم الإمام الجليل، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة (2).
ثالثا: أنواع القراءات الشاذة:
النوع الأول: ما ورد آحادا وصح سنده، ولكنه خالف رسم المصحف أو خالف قواعد العربية أو لم يشتهر الاشتهار الذي اشترطه مكي وابن الجزري رحمهما الله تعالى،
ومثال هذا النوع: ما أخرجه الحاكم من طريق عاصم الجحدري عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: «متكئين على رفارف خضر، وعباقري حسان» ، وأخرج من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ:«فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرات أعين» ، وغيرها من الأمثلة (3).
النوع الثاني: ما لم يصح إسناده، ومن ذلك قراءة «ملك يوم الدين» بصيغة الماضي، ونصب «يوم» ، و «إياك يعبد» ببنائه للمفعول.
النوع الثالث: وهو الموضوع المختلق (4).
النوع الرابع: القراءات التفسيرية، وهي التي سيقت على سبيل التفسير وهو يشبه من أنواع الحديث المدرج (5)، مثل قراءة سعد بن أبي وقاص «وله أخ أو أخت من
(1) ابن مجاهد، السبعة، ص 65، وابن الجزري، غاية النهاية (2: 167).
(2)
عبد الفتاح القاضي، القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب، ص 11 - 19.
(3)
السيوطي، الإتقان في علوم القرآن (1: 168)، ومكي بن أبي طالب، الإبانة عن معاني القراءات ص 85 - 89، والعلوي الشنقيطي، نشر البنود على مراقي السعود (1/ 83).
(4)
السيوطي، الإتقان في علوم القرآن (1: 168)، ومكي بن أبي طالب، الإبانة عن معاني القراءات ص 85 - 89.
(5)
المدرج عند المحدثين: أن تزاد لفظة في متن الحديث، أو سنده من كلام الراوي، فيحسبها من
أم»، وكقراءة ابن عباس:«ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج» ، وغيرها (1)، وقد كانوا يدخلون هذا النوع في التفسير؛ لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين حضروا التنزيل وهم أولى الناس بتأويله.
قال أبو عبيد القاسم بن سلّام: «المقصد من القراءة الشاذة: تفسير القراءة المشهورة، وتبيين معانيها كقراءة عائشة، وحفصة رضي الله عنهما: «والصلاة الوسطى، صلاة القصر» ، وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه:«فاقطعوا أيمانهما» ، وقراءة جابر رضي الله عنه:«فإن الله من بعد إكراهن لهن غفور رحيم» ، فهذه الحروف، وما شاكلها قد صارت مفسّرة للقرآن، وقد كان يروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن، فكيف إذا روي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة فهو أكثر من التفسير وأقوى فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل» (2).
وقد اتفق القراء جميعا بعد ذلك: على أن ما وراء القراءات العشر التي جمعها القراء العشرة والواردة في طيبة النشر لابن الجزري شاذ، أي: غير متواتر، ولا يجوز اعتقاد قرآنيته، ولا تصح الصلاة به (3).
رابعا: حكم القراءات الشاذة:
القراءات الشاذة لا تعتبر قرآنا، ولا يجوز اعتقاد قرآنيتها، ولذلك لا تجوز قراءتها في الصلاة وفي خارجها، ولكن يجوز تعلمها وتعليمها وتدوينها في الكتب، وبيان وجهها من حيث اللغة والإعراب (4).
- يسمعها مرفوعة في الحديث، وهو محرم إذا كان المدرج متعمدا إلا أن يكون على سبيل التفسير والتوضيح فلا بأس به، والأولى أن ينص الراوي على الكلمات التي أدرجها، وانظر: أحمد محمد شاكر، الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير، ص 69 - 73.
(1)
السيوطي، الإتقان في علوم القرآن (1: 168).
(2)
نقلا عن: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن (1: 168).
(3)
الصفاقسي، غيث النفع في القراءات السبع، ص 18، وهو المفهوم من قول الفقهاء والأصوليين، وانظر مثلا: ابن عابدين، رد المحتار (: 486)، وابن السبكي، جمع الجوامع، ومعه حاشية العطار عليه (1: 299).
(4)
أبو شامة، المرشد الوجيز، ص 181، وعبد الفتاح القاضي، القراءات الشاذة وتوجيهها في لغة العرب، ص 10.
كما أن القراءة الشاذة حجة عند الأصوليين في استنباط الحكم الشرعي وإثباته بها (1).
خامسا: أهم المصنفات في القراءات الشاذة:
للقراءات الشاذة مصنفات خاصة بها، ومن أهمها:
1 -
الشواذ في القراءات: لابن مجاهد (ت 324 هـ) ولابن جني توجيه القراءات التي فيه بكتابه: المحتسب.
2 -
البديع في القراءات، ومختصره، وقد نشر المختصر بعنوان: مختصر في شواذ القرآن، كلاهما لابن خالويه (ت 370 هـ).
3 -
التعريف بالقراءات الشواذ لأبي عمرو الداني (ت 444 هـ).
4 -
الإقناع في القراءات الشاذة لأبي علي الأهوازي (ت 446 هـ).
5 -
اللوامح في شواذ القراءات لأبي الفضل الرازي (ت 454 هـ).
6 -
شواذ القراءات واختلاف المصاحف لمحمود بن عبد الله الكرماني (ت 505 هـ).
7 -
التقريب والبيان في معرفة شواذ القرآن لعبد الرحمن الصفراوي (ت 634 هـ).
8 -
نهاية البررة فيما زاد على العشرة لابن الجزري (ت 833 هـ).
9 -
مقدمة في مذاهب القراء الأربعة الزائدة على العشرة لسلطان المزاحي (ت 1075 هـ).
10 -
الإفادة المقنعة في قراءات الأئمة الأربعة لعبد الله بن مصطفى الكوبريلي (ت 1148 هـ).
11 -
الفوائد المعتبرة في القراءات الأربعة الزائدة على العشرة، منظومة، وشرحها:
موارد البررة كلاهما للمتولي (ت 1313 هـ).
12 -
القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب لعبد الفتاح القاضي (ت 1403 هـ).
(1) انظر: د. محمد خالد منصور، حكم الاحتجاج بالقراءة الشاذة عند الأصوليين، ص 13 وما بعدها، بحث منشور في مجلة دراسات الجامعة الأردنية، المجلد (26)، العدد (2)، شهر (7)، 1999 م.
سادسا: طريقة معرفة القراءة الشاذة:
يمكن لطالب العلم أن يتعرف على القراءات الشاذة عن طريق مراجعة الكتب الصحيحة المؤلفة في القراءات السبع أو العشر المتواترة، فإن ما سواهما شاذ، أو مراجعة الكتب المتخصصة في البحث في القراءات الشاذة أو مراجعة كتب التفسير التي تعتني ببيان القراءات إجمالا كتفسير الطبري والزمخشري وأبي حيان الأندلسي، وأخيرا مراجعة أئمة القراءة المعروفين الضابطين المتقنين (1).
سابعا: أمثلة القراءات الشاذة (2):
1 -
قرأ الضحاك بن مزاحم: «وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ» أي: داود وسليمان- عليهما السلام، وسبب شذوذ هذه القراءة، أنها غير متواترة، والقراءة المتواترة هي قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة: 102].
2 -
قرأ أبو موسى الأشعري: «ولا تناسوا الفضل بينكم» ، وسبب شذوذها: عدم التواتر، فالرسم العثماني يحتملها إن ألحقت الألف في موضعها، والقراءة المتواترة هي قوله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237].
3 -
قرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «وله أخ أو أخت من أمه» بزيادة لفظ:
«من أمه» ، وسبب شذوذها أمران، أنها غير متواترة، ومخالفة للرسم العثماني، والقراءة المتواترة هي قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء: 12].
4 -
قرأ أبي بن كعب رضي الله عنه: «تأتينكم» بتاء التأنيث، لأن الفاعل، وهو «رسل» جمع تكسير، فيجوز في فعله التذكير والتأنيث، وسبب شذوذها عدم التواتر، والقراءة المتواترة هي قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي [الأعراف: 35].
بناء على ما تقدم من تعريف القراءات، وتقسيم القراءات إلى متواترة وشاذة، يظهر أن التقسيم هو باعتبار صحة نقل الرواية، وعدد الناقلين.
(1) الدكتور شعبان محمد إسماعيل، القراءات أحكامها، ومصدرها، ص 105.
(2)
الدكتور شعبان محمد إسماعيل، القراءات، أحكامها، ومصدرها، ص 108 - 110.