الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحق أنه ليس من أقسام السنة لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له وليس ذلك مما آتانا الرسول ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال: "لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم". انتهى.
قلت: وإنما ينظر إلى الفعل الذي همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم على القرائن المحتف بذلك الفعل ثُمَّ يُحكم عليه بسبب تلك القرائن بالحكم المناسب له.
القاعدة الثامنة: الفعل الجبليِّ المحض الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقرب المكلَّف بفعله إلى الله عز وجل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى "1/280": وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم وينزل مواضع منزله، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها، ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحباً، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر، ولو رأوه مستحباً لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به، وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة
شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند اسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة والمزدلفة وغيرها، وما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التميمي عن المعرور بن سويد قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه ويقولون: صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا أبنياءهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض..، وهذا هو الأصل فإن المتابعة، في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل. انتهى.
وللعلامة أحمد العدوي في كتابه أصول في البدع والسنن "56": كلام طويل في هذه المسألة أنقله بتمامه لأهميته قال: محض الفعل لا يدل على أن الفعل قربة، بل يدل على أنه ليس بمحرم فقط وأما كونه قربة على الخصوص فذلك شيء آخر، فإن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أعلم الناس بالدين وأحرص الناس على اتباع الرسول في كل ما يقرب إلى الله تعالى كانوا يشاهدون من النبي صلى الله عليه وسلم أفعالاً، ولما لم يظهر لهم فيها قصد
القربة لم يتخذوها ديناً يتعبدون به ويدعون الناس إليه ولذلك أمثلة كثيرة.
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان مهاجراً إلى المدينة أخذ طريق الساحل، لأنه أبعد عن العدو، ولو كان مجرد الفعل يدل على القربة لاقتضى أن كل مسافر من مكة إلى المدينة يستن له أن يسلك طريق الساحل وإن كان بعيداً، ولم يقل بذلك أحد من الصحابة، فدلَّ ذلك على أنه ليس بسنة من سنن الدين.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم اختفى هو وصاحبه في الغار عن أعدائه المشركين ومكث به أياماً يعبد الله حتى تمكن من السفر، ولو كان محض الفعل يفيد الندب لذهبت الصحابة إلى ذلك الغار لتعبد الله تعالى فيه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث لم ينقل لنا أن أحداً من الصحابة كان يذهب إلى الغار ليتعبد فيه علم أن العبادة في خصوص الغار ليست مقصودة وأن الفعل بمجرده لا يفيد القربة.
3 -
روي عن أنس رضي الله عنه قال: كان لِنَعْليْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان. رواه الخمسة إلا مسلماً، فهذا الصنف هو حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يكون لبس هذا الصنف سنة من سنن الدين، ومن لم يلبسه يكون تاركاً لسنة ويعاتب عليها؟ أم هذا لا يقوله أحد، ولو كان الفعل المجرد يدل على الندب لكان لبس هذا النوع من الأحذية سنة تبقى ببقاء الأيام.
4 -
ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر جاء إلى أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل،
أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:"بل هو الرأي والحرب والمكيدة" فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نُغوِّر ما وراءه إلخ ما قال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد أشرت بالرأي" وعمل برأيه، وهذا يدل على أن محض الفعل لا يفيد أنه قربة. ووجه الدلالة أن الصحابة لا يرون أن كل فعل للنبي صلى الله عليه وسلم عن وحي من الله تعالى، بل منه ما هو مستند إلى وحي كالفعل الذي يظهر فيه قصد القربة، ومنه ما هو مبني على رأي واجتهاد، ولذلك سأل الحباب بن المنذر بجمع من الصحابة عن المنزل الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم هل النزول فيه عن وحي حتى يذعنوا له، أو عن رأي واجتهاد حتى يشاركوه فيه، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عن رأي واجتهاد، وقد رأوا أن ينزلوا منزلاً آخر هو أنفع منه للحرب، وأقرب للنكاية بالعدو، ولو كان فعل الرسول لا يكون إلا عن وحي ما كان لذلك السؤال وجه، وما صحّ منه موافقتهم وترك الوحي.
5 -
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من القوت التمر والشعير، ومن الفاكهة الرطب والبطيخ والقثاء، وكان يلبس وهو بالمدينة من نسيج اليمن، فهل إذا وُجِد الرجل ببلد آخر، ورأى قوتهم البر والذرة، وفاكهتهم الرمان والعنب، وملابسهم غير ملابس اليمنيين، أيندب له شرعاً أن يبحث عن قوت غير القوت، وفاكهة غير الفاكهة، وأن يطلب ملبساً من نسيج اليمن؟ وكيف يلتئم هذا، وقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
فظهر مما سقناه من الأمثلة أن الفعل إذا لم يظهر فيه قصد القربة لا يدل على الندب كما لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على رفع الحرج، وهو ما اختاره الآمدي.
وأما قول الشوكاني: إن القول بإفادته الندب هو الحق، وتعلله ذلك بأن قوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يظهر فيه قصد القربة، فهو لا بد أن يكون قربة، فهو مجرد دعوى لم يقم عليها دليل، بل عمل الصحابة يدل على بطلانها، ولم يأخذ بفعل الرسول في كل شيء حتى في العاديات المحضة سوى عبد الله بن عمر، كان يتحرى المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيه حاجته ليقضي هو فيه حاجته، ولم يوافقه جمهور الصحابة، بل كانوا يفرقون بين الفعل العادي وبين العبادة، وممن خالفه في ذلك أبوه عمر بن الخطاب، حتى لا يلتبس على الناس أمر العادات بالعبادات.
وأما قول الشوكاني: [لا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة، فإن إباحة الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل الشرع، فالقول به إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم فهو تفريط كما أن حمل الفعل المجرد على الوجوب إفراط] فيرده أن الأصوليين عدا المعتزلة اتفقوا على أن الإباحة حكم شرعي، فهي لم تثبت إلا بالشرع، فالقول بأن الفعل يدل على الإباحة ليس إهمالاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلم أنها موجودة قبل الشرع، فالفعل جاء مقرراً له فكيف يكون مهملاً؟ وماذا يقول الشوكاني في أدلة