المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٣

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌[الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، وصومه، وقراءته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أذكار وأدعية]

- ‌[الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة]

- ‌[الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم]

- ‌(حرف الهمزة) ]

- ‌(حرف الباء) ]

- ‌(حرف التّاء) ]

- ‌(حرف الثّاء) ]

- ‌(حرف الجيم) ]

- ‌(حرف الحاء) ]

- ‌(حرف الخاء) ]

- ‌(حرف الدّال) ]

- ‌(حرف الذّال) ]

- ‌(حرف الرّاء) ]

- ‌(حرف الزّاي) ]

- ‌(حرف السّين) ]

- ‌(حرف الشّين) ]

- ‌(حرف الصّاد) ]

- ‌(حرف الضّاد) ]

- ‌(حرف الطّاء) ]

- ‌(حرف الظّاء) ]

- ‌(حرف العين) ]

- ‌(حرف الغين) ]

- ‌(حرف الفاء) ]

- ‌(حرف القاف) ]

- ‌(حرف الكاف) ]

- ‌(حرف اللّام) ]

- ‌فهرسة الجزء الثالث من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌[الفصل الأول في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته]

[الفصل الأوّل في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته]

الفصل الأوّل في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدّكم له خشية» .

(الفصل الأوّل) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة عبادته)

بكسر العين المهملة وتخفيف الموحّدة- صلى الله عليه وسلم، و) في صفة (صلاته) النافلة كمّا وكيفا صلى الله عليه وسلم.

(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم، وأورده المصنف هنا بالمعنى- (: «أنا أتقاكم) - أي: أكثركم تقوى- (لله تعالى) التقوى- في اللغة- بمعنى الاتقاء، وهو: اتّخاذ الوقاية، وعند أهل الحقيقة-: هو الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو: صيانة النفس عما تستحقّ به العقوبة من فعل أو ترك.

والتقوى في الطاعة يراد به الإخلاص، وفي المعصية يراد به الترك والحذر

(وأشدّكم له خشية» ) ، لأن الخوف على قدر المعرفة، وهو أعرف خلق الله بالله تعالى. ولله درّ من قال:

على قدر علم المرء يعظم خوفه

فلا عالم إلّا من الله خائف

فامن مكر الله: بالله جاهل

وخائف مكر الله: بالله عارف

قال بعضهم: الخشية تألّم القلب بسبب توقّع مكروه في المستقبل؛ يكون تارة بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته، وخشية الإنسان من هذا القبيل. انتهى.

وقد ترجم البخاري في «صحيحه» بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلمكم بالله» ، وأورد فيه

ص: 6

وفي «صحيح البخاريّ» : «إنّي لأعلمكم بالله، وأشدّكم له خشية» .

عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يطيقون؛ قالوا: إنّا لسنا كهيئتك؛ يا رسول الله، إنّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!! فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه. ثم يقول:

«إنّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» .

ولفظ ترجمة البخاري لأبي ذرّ: «أنا أعرفكم بالله» وكأنه مذكور بالمعنى؛ بناء على ترادفهما.

(وفي «صحيح) الإمام (البخاريّ» ) في «كتاب الأدب» ، وفي «كتاب الاعتصام» ؛ عن مسروق قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ترخّص فيه، فتنزّه عنه قوم!! فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم قال:

«ما بال أقوام يتنزّهون عن الشّيء أصنعه!! فو الله؛ (إنّي لأعلمكم) - أي: أكثركم علما- (بالله) هذا ظاهر في أنّ العلم بالله درجات، وأنّ بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته؛ وما بأحكامه، وما يتعلّق بذلك، فهذا هو الإيمان حقا. (وأشدّكم) - لفظ البخاري: «إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم- (له خشية) ، لأن الله سبحانه جمع له بين علم اليقين وعين اليقين؛ مع الخشية القلبيّة واستحضار العظمة الإلهية؛ على وجه لم يجتمع لغيره. وكلما ازداد علم العبد بربّه ازداد تقواه وخوفه منه، ومن عرف الله صفا له العيش، وهابه كلّ شيء.

فمعناه: ما أنا عليه من العلم والخشية أوفر وأكثر من علمكم وخشيتكم؛ ذكره القاضي عياض.

وقال القرطبي: إنّما كان كذلك!! لما خصّ به في أصل خلقته؛ من كمال الفطنة، وجودة القريحة، وسداد النظر، وسرعة الإدراك، ولما رفع عنه من موانع الإدراك، وقواطع النظر قبل تمامه. ومن اجتمعت هذه الأمور [فيه] سهّل الله عليه الوصول إلى العلوم النظرية، وصارت في حقّه كالضروريّة.

ص: 7

وفيه: عن أبي هريرة رضي الله [تعالى] عنه: «لو تعلمون ما أعلم.. لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» .

وفي «صحيح مسلم» : عن أنس رضي الله [تعالى] عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والّذي نفس محمّد بيده، لو رأيتم ما رأيت.. لضحكتم قليلا ولبكيتم

ثمّ إنّه تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه وأحوال العالم ما لم يطلع عليه غيره، وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس؛ لزم أن يكون أخشاهم، لأن الخشية منبعثة عن العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [28/ فاطر] انتهى من «شرح المناوي» رحمه الله.

(وفيه) ؛ أي «صحيح البخاري» ؛ في «كتاب الرّقاق» (عن أبي هريرة رضي الله) تعالى (عنه: «لو تعلمون ما أعلم) - من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وأهوال القيامة وأحوالها، أي: لو تعلمون ما علمته لما ضحكتم أصلا؛ المعبّر عنه بقوله: - (لضحكتم قليلا) إذ القليل بمعنى العديم على ما يقتضيه السياق، لأن «لو» حرف امتناع لامتناع. والمعنى: لو دام علمكم كما دام علمي. لأنّ علمه متواصل بخلاف غيره! لتركتم الضّحك (ولبكيتم كثيرا» ) لغلبة الحزن، واستيلاء الخوف، واستحكام الوجل. ورواه البخاري أيضا في «كتاب الرقاق» ؛ عن أنس، وفي «كتاب الكسوف» ؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(وفي «صحيح) الإمام (مسلم» ) ؛ في الصلاة «باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود» ؛ (عن أنس رضي الله عنه قال:

صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه؛ فقال:

«يا أيّها النّاس؛ إنّي إمامكم، فلا تسبقوني بالرّكوع ولا بالسّجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإنّي أراكم من أمامي ومن خلفي» .

ثمّ قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والّذي نفس محمّد بيده؛ لو رأيتم ما رأيت) - وعلمتم ما علمت ممّا رأيته اليوم وقبل اليوم- (لضحكتم قليلا ولبكيتم

ص: 8

كثيرا» . قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنّة والنّار» .

وعن المغيرة بن شعبة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا:

صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى انتفخت قدماه،

كثيرا» ) أي: لاشتدّ خوفكم وقلّ ضحككم وكثر بكاؤكم؛ وقدّم الضحك!! لكونه من المسرّة، وفيه من أنواع البديع مقابلة الضحك بالبكاء؛ والقلّة بالكثرة، ومطابقة كلّ منهما بالآخر.

(قالوا) ؛ أي: الصحابة (: وما رأيت) - بفتح التاء- (يا رسول الله!؟ قال: «رأيت الجنّة والنّار» ) .

فيه دليل على أنّ الجنة والنار مخلوقتان، وفيه نصح المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمّته، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرّهم، وتعذيب أهل الوعيد.

وفيه دليل على أنه لا كراهة في استعمال لفظة «لو» في مثل هذا. والله أعلم.

قال بعضهم: من الحكم والفوائد التي اشتمل عليها رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم الجنة والنّار الأنس بأهوال القيامة ليتفرّغ فيه لشفاعة أمته ويقول «أمّتي أمّتي» حيث يقول غيره من عظيم الهول «نفسي نفسي» . انتهى مناوي على «الجامع» .

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنّسائيّ، وابن ماجه باختلاف في الألفاظ: كلّهم؛

(عن المغيرة بن شعبة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما) ، وهذه رواية المغيرة اقتصر عليها المؤلّف، ولم يذكر رواية أبي هريرة!! لموافقتها لها في المعنى كرواية «الصحيحين» ، وسنذكر رواية أبي هريرة فيما بعد!! (قالا) ؛ أي:

المغيرة وأبو هريرة، لكن الموجود في المتن هو رواية المغيرة؛ قال:

(صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: اجتهد في الصلاة واستمرّ على الاجتهاد (حتّى انتفخت) - أي: تورّمت- (قدماه) الشريفتان من طول قيامه فيها واعتماده

ص: 9

فقيل له: أتتكلّف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!» .

عليهما، فهو صلى الله عليه وسلم أعظم المخلوقات طاعة لربّه، فيندب تشمير ساق الجدّ في العبادة؛ وإن أدّى لمشقّة؛ ما لم يلزم عليه ملل وسامة، وإلّا!! فالأولى ترك ما لزم منه الملل، لخبر:«عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا» أي: عليكم من الأعمال ما تطيقون الدوام عليه، فإنّ الله لا يقطع ثوابه عنكم حتى تملّوا من العبادة. فالمراد من الملل في حقّه تعالى قطع ثوابه. انتهى «باجوري» .

(فقيل له) ؛ أي: قال بعض أكابر الصّحب له، وفي رواية أنّه عمر (: أتتكلّف) - وفي رواية: أتكلّف- (هذا) ، بحذف إحدى التاءين، والأصل «أتتكلّف» كما في الرواية الأولى، أي: أتتحمّل هذه الكلفة العظيمة؟!

والتكلّف نوعان: 1- أن يفعل الإنسان فعلا بمشقّة، وهو ممدوح. وهو المراد هنا. و 2- أن يفعل فعلا تصنّعا، وهو مذموم. وهذا ليس مرادا هنا.

(و) الحال أنّه (قد غفر الله لك)، وفي رواية: وقد غفر لك- بالبناء للمجهول- وهي ترجع للرواية الأولى، أي: غفر الله لك (ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!؟) ، كما قال تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [2/ الفتح] .

(قال) ؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا للسؤال المذكور، وكأنّ السائل ظنّ أنّه صلى الله عليه وسلم بالغ في الاجتهاد في العبادة وتحمّل المشاقّ التي لا تطاق؛ خوفا من الذنوب، أو رجاء العفو، لأننا شأننا ذلك، فتعجب من ذلك مع كونه مغفورا له، فسأل هذا السؤال!. فبيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:( «أفلا أكون عبدا شكورا!؟» ) أنّه سبب آخر أتمّ وأكمل، وهو الشكر على التأهّل لها مع المغفرة، وإجزال النعمة، فهو إنما يبالغ في الاجتهاد لأداء شكر خالق العباد، أي: أأترك المبالغة في العبادة؛ فلا أكون عبدا شكورا!!؟ فالهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة

ص: 10

قال الباجوريّ: (واستشكل هذا قديما وحديثا

على ذلك المحذوف، أي: فإذا أكرمني مولاي بغفرانه؛ أأترك المبالغة في العبادة فلا أكون عبدا شكورا لإحسانه!!

والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة. فمن أدام بذل الجهد في ذلك كان شكورا وَقَلِيلٌ ما هُمْ [24/ ص] .

ولا يخفى أنّ ذكر «العبد» في هذا المقام أدعى على الشكر على الدوام، ولم يظفر أحد بعليّ هذا المنصب إلّا الأنبياء، وأعلاهم فيه رئيسهم الأعظم والملاذ الأفخم؛ سيّدنا محمّد الأكرم صلى الله عليه وسلم.

فائدة: نقل في «ربيع الأبرار» عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال: إنّ قوما عبدوا رغبة؛ فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوما عبدوا رهبة؛ فتلك عبادة العبيد. وإنّ قوما عبدوا شكرا؛ فتلك عبادة الأحرار. انتهى.

هذا؛ ولفظ رواية أبي هريرة رضي الله عنه في «الشمائل» من طريقين:

الأوّل: عن أبي سلمة؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتّى ترم قدماه!! فقيل له: أتفعل هذا؛ وقد جاء أنّ الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!!؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا!» .

والثاني: عن أبي صالح؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم يصلّي حتّى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا؛ وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» .

انتهى.

(قال) شيخ الإسلام العلّامة برهان الدين: إبراهيم بن محمّد (الباجوريّ) في «حاشية الشمائل» :

(واستشكل) ؛ أي: عدّ مشكلا (هذا) الغفران لذنبه صلى الله عليه وسلم المذكور في الحديث كالآية (قديما وحديثا) ؛ أي: في الزمن القديم والحديث، أي:

ص: 11

بأنّه صلى الله عليه وسلم لا ذنب عليه؛ لكونه معصوما.

وأحسن ما قيل فيه: أنّه من باب (حسنات الأبرار.. سيّئات المقرّبين) ،

استشكله العلماء المتقدّمون والمتأخّرون (بأنّه صلى الله عليه وسلم لا ذنب عليه؛ لكونه معصوما) من الذّنوب، أي: يستحيل في حقّه ارتكاب الذّنوب صغيرها وكبيرها، قبل النبوة وبعدها، فكيف يقال له: غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟!

وأجيب بأجوبة؛ منها أنّ معنى الغفران: الإحالة بينه وبين الذنوب، فلا يصدر منه ذنب، لأنّ الغفر: هو الستر، والستر؛ إمّا: بين العبد والذنب، أو: بين الذنب وعقوبته، فاللائق به وبسائر الأنبياء الأوّل. واللائق بالأمم الثاني.

أو هو مبالغة؛ ك «زيد يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه» ؛ مع أن من لا يلقاه لا يمكن ضربه.

(وأحسن ما قيل فيه) من الأجوبة (: أنّه من باب) قولهم (حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين) . هو من كلام أبي سعيد الخرّاز. كما رواه ابن عساكر في ترجمته، وهو من كبار الصوفية، مات سنة: - 280- ثمانين ومائتين.

وعدّه بعضهم حديثا! وليس كذلك، وقال النجم الغزّيّ: رواه ابن عساكر أيضا؛ عن أبي سعيد الخرّاز من قوله. وحكي عن ذي النون. انتهى.

وعزاه الزركشي في «لقطة العجلان» للجنيد، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «شرحها» : الفرق بين الأبرار والمقرّبين: أنّ المقرّبين هم الذين أخذوا عن حظوظهم وإرادتهم، واستعملوا في القيام بحقوق مولاهم؛ عبودية وطلبا لرضاه. وإن الأبرار هم الّذين بقوا مع حظوظهم وإرادتهم، وأقيموا في الأعمال الصالحة ومقامات اليقين؛ ليجزوا على مجاهدتهم برفع الدرجات.

انتهى.

ومعناه: أنّ هؤلاء المقرّبين كلّما ترقّوا في المقامات رأوا ما كانوا فيه نقصا في مراتبهم؛ فيستغفرون الله من ذلك، لأنهم يعدّونه ذنبا بالنسبة لعليّ مراتبهم، وإن

ص: 12

إذ الإنسان لا يخلو عن تقصير، من حيث ضعف العبوديّة مع عظمة الرّبوبيّة، وإن كان صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات وأرفع الدّرجات في عباداته وطاعاته.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» .

كان هو ليس ذنبا في الواقع!! وهو صلى الله عليه وسلم لا يزال يترّقى في الكمالات، ويمنح جزيل الفيوضات من ربّ البريّات، إذ ما من كمال إلّا وعند الله أكمل منه، وكلّما ترقّى شعر بالتقصير في حقّ مولاه؛ فيرى أنّ ما انتقل عنه ذنب بالنسبة إلى الذي انتقل إليه.

أو المراد بالذنب في حقّه صلى الله عليه وسلم ما عسى أن يكون وقع منه من سهو وتقصير، (إذ الإنسان لا يخلو عن تقصير) وتوان ونسيان؛ (من حيث ضعف العبوديّة مع عظمة الرّبوبيّة) ، كما قال تعالى كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)[عبس] فما كان من هذا القبيل؛ فهو مغفور له؛ فأعلمه الله عز وجل بذلك وأنّه مغفور له.

قال ملا علي قاري: والظاهر أنّ المراد ب «ما تقدّم» : ما فعله مع نوع تقصير، وب «ما تأخر» : ما تركه سهوا؛ أو نسيانا في التأخير.

(و) الحاصل أنّه و (إن كان صلى الله عليه وسلم في أعلى المقامات وأرفع الدّرجات في عباداته وطاعاته) لكن لا يستغني أحد عن فضله سبحانه، لأنّ من شأن العبد الكامل أن يرى جميع ما يأتي إليه على سبيل العبودية والذّلّ والخضوع من الطاعات كلّه نقص وقلّة أدب، قال الله تعالى ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)[74/ الحج] فيرى جميع طاعاته ناقصة يستحقّ عليها العقوبة لولا عفو الله تعالى؛ ولو بلغ أعلى درجات الكمال، وذلك بالنظر لجلال الله تعالى.

(وقد) أشار إلى ذلك معلّم الشريعة حيث (قال صلى الله عليه وسلم: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك؛ لا أحصي ثناء عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك» ) ، مع أنه قام

ص: 13

ولذلك قيل: المغفرة قسمان:

مغفرة للعوامّ، وهي: مسامحتهم من الذّنوب.

ومغفرة للخواصّ، وهي: مسامحتهم من التّقصير) اه وعن الأسود بن يزيد

حتّى تورّمت قدماه، وكان لا يضيع له وقت في غير عبادة.

(ولذلك قيل: المغفرة قسمان) ؛ أي ذات قسمين: (مغفرة للعوامّ؛ وهي:

مسامحتهم من الذّنوب) ؛ أي: عدم مؤاخذتهم بها، (ومغفرة للخواصّ) ؛ وهم من اختصّهم الله بموالاته ومحبّته؛ (وهي: مسامحتهم من التّقصير) ، فما ورد من المغفرة في حقّ الأنبياء!! فهو من القبيل الثاني.

قال الجرجاني في «التعريفات» : المغفرة هي: أن يستر القادر القبيح الصادر ممّن تحت قدرته، حتّى إنّ العبد إن ستر عيب سيّده مخافة عتابه؛ لا يقال «غفر له» . (انتهى) ؛ أي: كلام الباجوري رحمه الله تعالى ممزوجا بكلام غيره من العلماء رحمهم الله تعالى.

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذي؛ في «الشمائل» - وهذا لفظها- (عن) أبي عمرو- أو أبي عبد الرحمن- (الأسود بن يزيد) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهيل النّخعي، الكوفي التابعي الجليل، الفقيه الإمام الصالح، أخي عبد الرحمن بن يزيد، وابن أخي علقمة بن قيس، وكان أسنّ من علقمة، وهو خال إبراهيم بن يزيد النّخعي الفقيه المشهور.

رأى أبا بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وروى عن عليّ وابن مسعود ومعاذ وأبي موسى وعائشة.

روى عنه ابنه عبد الرحمن بن الأسود، وأخوه عبد الرحمن بن يزيد، وإبراهيم النّخعي وآخرون. قال أحمد ابن حنبل: هو ثقة من أهل الخير، واتفقوا على توثيقه وجلالته.

ص: 14

قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باللّيل فقالت: كان ينام أوّل اللّيل، ثمّ يقوم، فإذا كان من السّحر.. أوتر، ثمّ أتى فراشه،

قال النّووي: روّينا عن ميمون بن أبي حمزة؛ قال: سافر الأسود بن يزيد ثمانين حجة وعمرة؛ لم يجمع بينهما، وسافر ابنه عبد الرحمن ثمانين حجة وعمرة؛ لم يجمع بينهما.

وروينا أنّ ابنه عبد الرحمن كان يصلي كل يوم سبعمائة ركعة، وكانوا يقولون:

إنّه أقلّ أهل بيته اجتهادا، وإنّه صار عظاما وجلدا. رضي الله عنهم ونفعنا بهم، وأعاد علينا من بركاتهم. آمين.

(قال: سألت عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم المراد بها ما يشمل الوتر والتهجّد (باللّيل) ؛ أي: في أيّ وقت كان منه؟! (فقالت: كان ينام أوّل اللّيل) بعد صلاة العشاء إلى تمام نصفه الأول، لأنه كره النوم قبل العشاء (ثمّ يقوم) يصلّي، فيستمر يصلّي السّدس الرابع والخامس.

(فإذا كان من السّحر) - بفتحتين-؛ وهو آخر الليل- أي: إذا كان في السّحر (أوتر) ؛ أي: صلّى الوتر، وكان يوتر بثلاث يقرأ فيهن تسع سور من المفصّل؛ يقرأ في كلّ ركعة بثلاث سور آخرهنّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) . رواه الترمذي؛ عن علي رضي الله عنه مرفوعا.

وفي رواية: أنّه كان يقرأ في الأولى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ، وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) ، وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) ، والمعوذتين. رواه أبو داود، والترمذيّ؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما.

(ثمّ أتى فراشه) لينام السدس السادس؛ ليقوم لصلاة الصبح بنشاط، ويقوى على ما بعدها من الطاعات، ولأنّه يدفع صفرة السّهر عن الوجه.

ص: 15

فإذا كان له حاجة.. ألمّ بأهله، فإذا سمع الأذان.. وثب، فإن كان جنبا.. أفاض عليه من الماء، وإلّا.. توضّأ وخرج إلى الصّلاة.

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه بات عند ميمونة أمّ المؤمنين

(فإذا كان له حاجة) ؛ أي: إلى الجماع، كما يعلم من قوله (ألمّ) بالتّشديد؛ من الإلمام- (بأهله) ؛ أي: قرب من زوجته، وهو: كناية عن الجماع، يقال «ألمّ بالشيء» : قرب منه، وألمّ بالذنب: فعله، وألمّ بالقوم:

أتاهم ونزل بهم، وألمّ بالمعنى؛ إذا عرفه.

ويؤخذ من ذلك: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقدّم التهجّد، ثمّ يقضي حاجته من نسائه، فإنّ الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة. انتهى «باجوري» .

(فإذا سمع الأذان وثب) - بفتح الواو المثلاثة؛ من باب وعد: أي قام بسرعة وخفّة- (فإن كان جنبا!؟ أفاض عليه) ؛ أي: أسال على جميع بدنه (من الماء) ؛ أي: اغتسل. وأشار ب «من» التبعيضية إلى طلب تقليل الماء وتجنّب الإسراف. (وإلّا) !! بأن لم يكن جنبا (توضّأ) وضوآ جديدا، لأنّ نومه لا ينقض وضوءه، ويحتمل أنّه توضّأ لحصول ناقض غير النوم (وخرج إلى) محلّ (الصّلاة) ؛ وهو المسجد بعد ما صلّى ركعتي الفجر.

ويؤخذ من الحديث: أنّه ينبغي الاهتمام بالعبادة وعدم التكاسل بالنوم والقيام إليها بنشاط.

(و) أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنّسائيّ، وابن ماجه، و «الموطأ» باختلاف في بعض الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» :

(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه)، أي: ابن عباس (بات) - أي:

رقد- في الليل (عند ميمونة) بنت الحارث الهلالية العامرية (أمّ المؤمنين)

ص: 16

وهي خالته رضي الله تعالى عنها

رضي الله تعالى عنها، قيل كان اسمها «برّة» فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم «ميمونة» ، وكانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية ففارقها، فتزوجها أبو رهم بن عبد العزى وتوفي عنها، فتزوّجها صلى الله عليه وسلم لمّا كان بمكّة معتمرا في ذي القعدة سنة سبع بعد خيبر في عمرة القضاء، وكانت أختها لأبيها أمّ الفضل لبابة بنت الحارث تحت العبّاس، وأختها لأمّها أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى بنت عميس تحت حمزة رضي الله تعالى عنهم.

(وهي) ؛ أي: ميمونة (خالته) ؛ أي: خالة ابن عبّاس، لأنها أخت أمّه لأبيها، وهي الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم، لأنها لما جاءتها خطبته عليه الصلاة والسلام؛ وهي على بعير لها، قالت: هو وما عليه لله ولرسوله. وجعلت أمرها للعبّاس؛ فأنكحها النبيّ صلى الله عليه وسلم وبنى بها ب «سرف» «1» .

ومن النوادر أنّها ماتت ب «سرف» في المحلّ الذي تزوّجها فيه؛ فاجتمع فيه العزاء والهناء، وهو على عشرة أميال من مكة؛ بين التنعيم والوادي في طريق المدينة المنورة سنة إحدى وستين؛ أو ثلاث وستين؛ أو ستّ وستين هجرية، وصلّى عليها ابن عبّاس ودخل قبرها (رضي الله تعالى عنها) . وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

وسبب بيتوتته عندها: أنّ العبّاس أراد أن يتعرّف عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل ليفعل مثلها، فأرسل عبد الله ليتعرّفها؛ فيخبره بها.

وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم وعد العباس بذود من الإبل؛ وهو: ما بين الثلاث إلى العشر، فأرسل ابنه عبد الله يستنجزه، فأدركه المساء فبات عندها.

(1) بفتح السين وكسر الراء؛ غير منصرف، ويجوز صرفه. وهو الموضع الذي هلك فيه أبيّ بن خلف بعد أن طعنه الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم في يوم أحد كما تقدم في الجزء الثاني من هذا الكتاب عند الكلام عن جلوسه صلى الله عليه وسلم.

ص: 17

قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى إذا انتصف اللّيل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.. فاستيقظ (قال) ؛ أي: ابن عباس (: فاضطجعت) ؛ أي: وضعت جنبي بالأرض وجعلت رأسي (في) أي: على (عرض) بفتح العين على الأصحّ الأشهر، وحكي ضمها [عرض] وهو بمعنى مفتوح العين؛ أي جانب (الوسادة) - بكسر الواو- المعروفة، أي المخدّة- بكسر الميم- التي تتوسّد تحت الرأس.

(واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: وأهله- كما في رواية مسلم- أي وضع جنبه بالأرض ووضع رأسه الشريف (في) أي: على (طولها) ؛ أي: الوسادة مع زوجته ميمونة، لأن عادته صلى الله عليه وسلم أن ينام مع زوجاته، فإذا أراد القيام لوظيفته قام لها وترك أهله، فيجمع بين حقّ أهله وحقّ ربّه.

واعتزال الزوجة في النوم!! من عادة الأعاجم، وهذا إذا لم يكن عذر في اجتنابها، فإن كان؛ كخوف نشوزها؟! فالأولى اعتزالها في الفراش؛ تأديبا لها.

ويؤخذ من ذلك حلّ نوم الرجل مع أهله بغير مباشرة بحضرة محرم لها مميّز.

قال القاضي عياض: وقد جاء في بعض روايات الحديث؛ قال ابن عباس:

بتّ عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضا. قال: وهذه اللفظة؛ وإن لم يصحّ طريقها؛ فهي حسنة المعنى جدّا، إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة له صلى الله عليه وسلم فيها حاجة إلى أهله، لا سيما وهو كان في تلك الليلة مراقبا لأفعاله صلى الله عليه وسلم، ولعله لم ينم!! أو نام قليلا جدّا!!. قاله في «شرح مسلم» .

(فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية «الصحيحين» : فتحدّث مع أهله ساعة ثم رقد (حتّى إذا انتصف اللّيل) تقريبا، (أو قبله) ؛ أي: قبل انتصافه (بقليل، أو بعده) ؛ أي: بعد انتصافه (بقليل) وهذا شكّ من ابن عبّاس لعدم تحديده الوقت، (فاستيقظ) هكذا وجد في نسخ!! وكأنّ الفاء زائدة، لأنه جواب «إذا» ، وقد

ص: 18

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح النّوم عن وجهه، ثمّ قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة (آل عمران) ؛ أي: الّتي أوّلها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السّورة ثمّ قام إلى شنّ معلّق فتوضّأ منها، فأحسن الوضوء،

سقط في بعض النسخ! «أي» انتبه (رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل) ؛ أي: شرع (يمسح النّوم) ؛ أي: أثره، لأن النوم لا يمسح (عن وجهه) ؛ أي: عن عينيه.

وفي رواية الشيخين: فلما كان ثلث الليل الأخير؛ أو نصفه قعد فنظر إلى السماء.

(ثمّ قرأ العشر الآيات) - الآيات: بدل من العشر- (الخواتيم) - بالياء المثناة جمع الخاتمة- (من سورة «آل عمران» أي الّتي أوّلها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السّورة) .

فيسنّ للشخص إذا استيقظ من نومه قراءة شيء من القرآن، لأنها تزيل الكسل وتحصّل النشاط للعبادة، بل تندب هذه الآيات بخصوصها عقب الانتباه.

وفيه إباحة قول الرجل «سورة آل عمران» أو «سورة البقرة»

أو نحو ذلك، وكرّهه بعض السلف؛ وقال: بل يقال «السورة التي يذكر فيها آل عمران» .

(ثمّ قام) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (إلى شنّ) - بفتح الشين المعجمة، وبالنون المشدّدة- وهي: القربة البالية، (معلّق) لتبريد الماء؛ أو صيانته.

وذكّر وصف الشّنّ هنا!! نظرا للفظه، وأنّث ضميره في قوله (فتوضّأ منها) !! نظرا لمعناه؛ وهو القربة. وفي رواية الشيخين: فأطلق شناقها- بكسر الشين المعجمة: خيط يشدّ به فم القربة- ثمّ صبّ في الجفنة، ثمّ توضّأ منها (فأحسن الوضوء) ؛ أي: وضوءه، أي أسبغه وأكمله؛ بأن أتى بواجباته ومندوباته. وهو معنى رواية «الصحيحين» : وضوآ حسنا بين الوضوئين، لم يكثر وقد أبلغ.

أي: لم يكثر صبّ الماء؛ وقد أبلغ الوضوء أماكنه، واستوفى عدده المسنون.

ص: 19

ثمّ قام يصلّي.

قال عبد الله بن عبّاس: فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي، ثمّ أخذ بأذني اليمنى ففتلها- وفي رواية: فأخذ بأذني؛ فأدارني عن يمينه

(ثمّ قام يصلّي) وفي رواية للنسائي: فتوضّأ واستاك، ثمّ صلّى ركعتين، ثم نام، ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين، وأوتر بثلاث.

ولمسلم: فاستيقظ فتسوّك وتوضّأ؛ وهو يقول إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

حتّى ختم السورة، فصلّى ركعتين؛ أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثمّ انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات بستّ ركعات؛ كلّ ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثمّ أوتر بثلاث ركعات.

ولا تنافي بين هذه الروايات لأنّ في بعضها زيادة فيعمل بها، وإن سكتت الرواية الآخرى عنها، لأنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ، وليست الواقعة متعدّدة حتى يحمل الاختلاف عليها، وإنما هي واحدة؛ فيجب عند التعارض العمل بالأصحّ من تلك الروايات؛ وهي رواية الشيخين ثم أحدهما. انتهى. ذكره في «جمع الوسائل» .

(قال عبد الله بن عبّاس: فقمت) بعد الوضوء (إلى جنبه) ؛ كما في رواية الشيخين، فقمت وتوضّأت فقمت عن يساره (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي) ؛ أي: ليتمكّن من مسك الأذن، أو لتنزل البركة في رأسه ليحفظ جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم. (ثمّ أخذ بأذني) - بضمّ الذال وسكونها- (اليمنى ففتلها) - بالفاء العاطفة؛ على صيغة الماضي- وفي رواية «يفتلها» بصيغة المضارع.

(وفي رواية) للشيخين: (فأخذ بأذني؛ فأدارني)، أي: حوّلني (عن يمينه) ؛ تنبيها على ما هو السنة من وقوف المأموم الواحد على يمين الإمام، فإن وقف عن يساره!؟ حوّله الإمام ندبا بأخذ أذنه وفتلها.

ص: 20

- فصلّى ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين (ستّ مرّات) ، ثمّ أوتر، ثمّ اضطجع حتّى جاءه المؤذّن،

وقد قيل: إنّ المعلّم إذا فتل أذن المتعلّم كان أذكى لفهمه.

قال الربيع: ركب الشافعيّ يوما فلصقت بسرجه فجعل يفتل أذني، فأعظمت ذلك حتّى وجدته عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم فعله به، فعلمت أنّ الإمام لا يفعل شيئا إلّا عن أصل. انتهى «باجوري» .

(فصلّى ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين) أي: بتكرير الركعتين (ستّ مرّات) ؛ فتكون صلاته ثنتي عشرة ركعة، ولم يكتف بذكر ركعتين!! خشية أن يقصر ضبط السّامع من التعداد، (ثمّ أوتر) أي: أفرد ركعة وحدها فتمّت صلاته ثلاث عشرة ركعة؛ كما في «الصحيحين» ، منها ركعتان سنّة العشاء؛ أو سنة الوضوء، والإحدى عشرة وتر على المشهور، وذلك تقييد للمطلق في غيره من الروايات؛ خلافا لمن جعلها كلّها وترا، وجعل أكمل الوتر ثلاث عشرة.

وفيه أنّ السلام يسنّ من كلّ ركعتين في الوتر.

وصحّ الوصل من فعله صلى الله عليه وسلم أيضا، لكن الفصل أشهر وأصحّ، والظاهر من السياق أنّ ابن عباس صلّى معه جماعة. فيؤخذ منه جواز فعل النافلة جماعة؛ وإن لم تطلب في نحو ذلك.

(ثمّ اضطجع) ؛ أي: وضع جنبه على الأرض. وفي رواية: ثمّ اضطجع فنام حتّى نفخ، وكان إذا نام نفخ. وهذه الرواية هي المتقدّمة في «باب النوم» .

(حتّى جاءه المؤذّن) ؛ أي: بلال- كما هو الظاهر- للإعلام بدخول وقت الصلاة. فيسنّ إتيان المؤذّن للإمام ليخرج إلى الصلاة.

ص: 21

فقام فصلّى ركعتين خفيفتين، ثمّ خرج فصلّى الصّبح.

(فقام فصلّى ركعتين خفيفتين) هما سنة الصبح، فيسنّ تخفيفهما.

قال في «نظم القواعد الفقهية» للسيد أبي بكر بن أبي القاسم الأهدل:

وسنّة الفجر بلا تطويل

أفضل منها معه للدّليل

(ثمّ خرج) ؛ أي: من بيته إلى المسجد (فصلّى الصّبح)، أي: بأصحابه.

ويؤخذ من الحديث 1- أن فعل النفل في البيت أفضل؛ إلا ما استثني.

و2- أنّه يسنّ للمقتدي الفذّ الوقوف عن يمين الإمام، فإن وقف عن يساره! حوّله الإمام ندبا. و 3- أنّ الفعل القليل في الصلاة لا يضرّ، بل قد يسنّ إذا كان لمصلحة. و 4- أنّ الأمر بالمعروف مشروع حتّى في الصلاة. و 5- جواز صلاة الفرض بوضوء النفل. و 6- وأنّ المميّز كبالغ؛ جماعة وموقفا. و 7- أنّ السلام يسنّ من كلّ ركعتين في الوتر. و 8- أنّه يندب إتيان المؤذن إلى الإمام ليخرج إلى الصلاة. و 9- أنّه يستحبّ تخفيف سنة الصبح قبله. و 10- أنّ الإيتار بثلاث عشرة أكمل. كذا قيل!! وردّ بأن أكثر الروايات الاقتصار على إحدى عشرة، ورواية ثلاث عشرة واقعة حال، فعليه يحتمل أنه حسب منها ركعتين مقدّمة الوتر، أو سنّة العشاء، أو نحو ذلك. و 11- أنّ النفل في البيت أفضل.

وفيه فضل ابن عباس رضي الله عنه، وحذقه مذ كان طفلا، لمراصدته المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومراقبته أحواله إلى أن أحرم معه، وحفظ صلاته وقراءته؛ وما عمله تلك الليلة من العبادات والعادات.

هذا؛ ووتره صلى الله عليه وسلم آخر الليل هو الأغلب؛ بناء على أنه الأفضل والأكمل، وإلّا! ففي «الصحيحين» وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر من كلّ الليل؛ من أوله وأوسطه وآخره، وانتهى وتره إلى الصبح، والمراد ب «أوّله» بعد صلاة العشاء. ولعل اختلاف هذه الأوقات على ما وردت به الروايات، لاختلاف الأحوال والأعذار، فإيتاره أوّله لعلّه كان لمرض، وإيتاره

ص: 22

وفي «الصّحيح» : عن أنس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضّأ عند كلّ صلاة.

وعن ابن عبّاس أيضا؛

أوسطه!! لعله كان لسفر. انتهى «جمع الوسائل» .

(وفي «الصّحيح» ) - يعني البخاري-، وكذا أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه: كلّهم؛ (عن أنس)«1» رضي الله تعالى عنه (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ عند كلّ صلاة) ، وربّما صلّى صلوات بوضوء واحد، ولفظ رواية الترمذي: كان يتوضّأ لكلّ صلاة؛ طاهرا، أو غير طاهر. قال الطحاوي: هذا محمول على الفضيلة؛ دون الوجوب، أو هو من خصوصيّاته، أو كان يفعله وهو واجب؛ ثم نسخ. انتهى.

والأصحّ هو الأخير، بدليل حديث الترمذي: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضّأ لكلّ صلاة، فلما كان عام الفتح صلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد، فقال عمر: إنّك فعلت شيئا لم تكن فعلته!! قال: «عمدا فعلته؛ يا عمر» . قال الترمذيّ:

صحيح. قال النّوويّ: فيه جواز الصّلوات بوضوء واحد ما لم يحدث، وهو جائز بإجماع من يعتدّ به. انتهى مناوي؛ على «الجامع الصغير» .

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي، وابن ماجه: كلّهم؛ (عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما.

وقوله (أيضا) غير مناسب الإتيان به هنا، بل قد يوهم أنّ الحديث الذي قبله هو حديث ابن عبّاس، وأنّ النّسخة فيها تحريف!! وليس كذلك.

فالصواب: حذفه. ولعلّ المصنّف كتب أوّلا حديث ابن عباس في بيتوتته عند ميمونة، ثمّ حديث ابن عباس هذا، فذكر فيه لفظ «أيضا» ، ثم أدرج بينهما حديث

(1) في الأصل: عن عائشة. وما أثبتناه من «وسائل الوصول» .

ص: 23

قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعة.

وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصلّ باللّيل؛ منعه من ذلك النّوم، أو غلبته عيناه.. صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة.

أنس وغفل عن محو لفظة «أيضا» فبقيت كما هي، والله أعلم!! والأمر سهل.

(قال) أي: ابن عبّاس (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي من اللّيل) أي: في الليل (ثلاث عشرة ركعة) - بسكون الشين- قال بعضهم: أكثر الوتر ثلاث عشرة؛ لظاهر هذا الحديث.

وفيه أنّ صلاة الليل أعمّ من الوتر. وقال أكثر العلماء: أكثره إحدى عشرة، وتأوّلوا حديث ابن عبّاس بأنّ منها سنّة الصبح، وهو تأويل ضعيف جدّا. كذا قاله في «جمع الوسائل» .

وفيه نظر!! فإنّ هذا التأويل يؤيّده حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه الشيخان، وأبو داود، والنسائي: أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ منها الوتر، وركعتا الفجر. انتهى. فزعم ملّا علي قاري أنّه تأويل ضعيف مردود عليه.

قال المناوي: وحكمة الزيادة على إحدى عشرة: أنّ التهجّد والوتر يختصّان بصلاة الليل، والمغرب وتر النهار، فناسب كون صلاة الليل كالنهار في العدد جملة وتفصيلا.

(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله) تعالى (عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصلّ باللّيل) تهجّدا ووترا؛ (منعه من ذلك) الفعل؛ وهو الصلاة بالليل (النّوم) بأن رغب فيه مع إمكان اختياره تركه، (أو غلبته عيناه) يعني: غلبه النوم بحيث لا يستطاع دفعه، فالمقصود بيان سبب عدم صلاته في الليل، و «أو» للتقسيم، ويحتمل أن تكون للشكّ من الراوي.

وجواب «إذا» قوله (صلّى) بدل ما فاته (من النّهار) ؛ أي: فيه (ثنتي عشرة ركعة) ؛ تداركا لما فاته من التهجّد، لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً

ص: 24

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا قام أحدكم من اللّيل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» .

لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)[الفرقان] . وفيه دليل على جواز قضاء النّافلة، بل على استحباب قضائها؛ لئلا تعتاد النفس الترك، وعيّن وقت صلاة النهار المذكورة في حديث آخر بأنّه من طلوع الشمس إلى الاستواء.

وفي «صحيح مسلم» ؛ عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من نام عن حزبه من اللّيل، أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظّهر؛ كان كمن قرأه من اللّيل» .

وحديث عائشة في «المتن» !! أخرجه مسلم، وأبو داود؛ عنها بلفظ: كان إذا نام من اللّيل؛ أو مرض صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة.

وهذا فيه تنبيه على أنّه كان يقدّم وتره في أوّل الليل، أو سكت عن ذكر الوتر، لأنّ ندب قضائه معلوم بالأولى، لأنّه نفل مؤقّت، بخلاف التهجّد فإنّه نفل مطلق، لكن لما اتخذه وردا وعادة سنّ قضاؤه، لأنه التحق بالنفل المؤقّت.

(و) أخرجه أبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم من اللّيل) ؛ أي: فيه (فليفتتح) ندبا مؤكّدا (صلاته) ؛ أي: الأحد، أو الليل (بركعتين خفيفتين) لخفّة القراءة فيهما. والحكمة فيه: تهوين الأمر على النفس ابتداء لحصول النشاط، والإرشاد إلى أنّ من شرع في شيء فليكن قليلا قليلا حتّى تتعوّد نفسه بالعمل على التدريج، فيكون الشروع في بقية عمله بالنشاط وإتمامه على الوجه الأكمل.

وفي الحديث إشعار بأنّه لا ينبغي أن يقتصر في صلاة الليل على ركعتين إلا عند الضرورة. وفيه دليل لندب هاتين الركعتين، وهما مقدّمة لصلاة الوتر، وكما يسنّ تقديم السنّة القبلية على الفرض لنحو ذلك؛ فكذا ندب هنا، لتأكّد الوتر حتى اختلف في وجوبه.

ص: 25

وعن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال: لأرمقنّ ومناسبة هذا الحديث للباب: من حيث إنّ أمره [صلى الله عليه وسلم] بشيء يقتضي فعله.

بل ورد في «صحيح مسلم» التصريح بفعله صلى الله عليه وسلم هاتين الركعتين، ولفظه: عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: كان إذا قام من الليل ليصلّي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين.

قال المناوي: استعجالا لحلّ عقدة الشيطان على قافيته، وهو صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان منزّها عن عقده، لكنه فعله تشريعا لأمّته. ذكره الحافظ العراقي.

قال الحفني: وهذا يقتضي أنّ حلّ عقدته لا يحصل بالذكر ومسح الوجه، ولا بالوضوء، ولا بالشروع في الصلاة، بل بالفراغ منها، أي: تمام الحلّ يحصل بذلك، وأنّ أصله يحصل بالذكر ومسح الوجه والوضوء. انتهى.

(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ، ومالك في «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذيّ في «الشمائل» ، وابن ماجه: كلّهم؛

(عن) أبي عبد الرحمن- أو أبي طلحة، أو أبي زرعة- (زيد بن خالد الجهنيّ) - بضم الجيم وهاء؛ نسبة إلى قبيلة جهينة-

صحابي مشهور، سكن المدينة وشهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون حديثا؛ اتفقا منها على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه السائب بن يزيد، والسائب بن خلّاد الصحابيان، وجماعات من التابعين.

وتوفي بالمدينة المنورة، وقيل: بالكوفة، وقيل: بمصر سنة: ثمان وثمانين؛ وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل: توفي سنة اثنتين وسبعين، وقيل:

سنة ثمان وتسعين (رضي الله تعالى عنه.

أنّه قال) ؛ أي: زيد (: لأرمقنّ) - بضمّ الميم وتشديد النون؛ من الرّمق- بفتح فسكون، أو [الرّمق] بفتحتين- وهو: النظر إلى الشيء على وجه المراقبة

ص: 26

صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوسّدت عتبته، أو فسطاطه، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين خفيفتين، ثمّ صلّى ركعتين طويلتين.. طويلتين.. طويلتين.

والمحافظة، يقال: رمق يرمق رمقا؛ من بابي «نصر» و «طلب» .

وأكّد باللام والنون!! مبالغة في تحصيل معرفة ذلك وضبطه؛ أي: لأنظرنّ وأرقبنّ وأحفظنّ (صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!)، أي: في هذه الليلة حتّى أرى كم يصلّي.

وعدل عن الماضي إلى المضارع!! استحضارا لتلك الحالة الماضية؛ لتقريرها في ذهن السامع أبلغ تقرير، ثم انتقل إلى كيفية تفصيل علمه بها؛ فقال:

(فتوسّدت) ؛ أي: جعلت (عتبته) وسادة لي، والعتبة: الدرجة التي يوطأ عليها، (أو) قال (فسطاطه) ؛ أي: عتبة فسطاطه- بضمّ الفاء وكسرها- بيت من شعر، وفيه عشر لغات: 1- فسطاط- بطائين؛ مع سكون السين، أو [2- فسّطاط] تشديدها و 3- فستات- بتائين مع سكون السين-، و 4- فستاط بتاء ثم طاء-، و 5- فسّاط- بسين مشدّدة ثم طاء. فهذه خمسة كلّ بضمّ الأوّل، وكسره «1» فتلك عشرة كاملة.

ويطلق الفسطاط على مصر العتيقة، وعلى كلّ مدينة جامعة، وهذا شكّ من الراوي، والظاهر الثاني، لأنّه صلى الله عليه وسلم في الحضر يكون عند نسائه؛ فلا يمكن أن يتوسّد زيد عتبته ليرمقه، بخلافه في السفر؛ فإنه خال عن الأزواج الطاهرات «2» ؛ فيمكنه أن يتوسّد عتبة فسطاطه، والمراد بعتبة الفسطاط: بابه؛ أي: محلّ دخوله.

(فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين خفيفتين) هما مقدّمة الوتر- كما تقدّم-.

وإنّما خفّف فيهما!! لأنهما عقب كسل من أثر النوم.

(ثمّ صلّى ركعتين طويلتين.. طويلتين.. طويلتين.

(1) وبسطها هكذا: 6- فسطاط، 7- فسّطاط، 8- فستات، 9- فستاط، 10- فسّاط. (عبد الجليل) .

(2)

بل يصطحب بعضهن بالإقراع بينهن (عبد الجليل) .

ص: 27

ذكر لفظ «طويلتين» ثلاث مرّات؛ للتّأكيد مبالغة في طولهما.

ثمّ صلّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما،

ذكر لفظ «طويلتين» (ثلاث مرّات) !! للتّاكيد؛ مبالغة في طولهما) للدلالة على المبالغة في تطويل هاتين الركعتين، فكأنّهما بمنزلة ستّ ركعات طويلات.

وإنّما بولغ في تطويلهما!! لأن النشاط في أوّل الصلاة بعد المقدمة يكون أقوى، والخشوع يكون أتمّ، ومن ثمّ سنّ تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة.

(ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) ؛ أي: في الطول. وأراد طويلتين طويلتين «مرتين» .

وإنّما كانتا دون اللتين قبلهما!! لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئا فشيئا، فيخفف من التطويل على سبيل التدريج، وهكذا يقال فيما بعد.

(ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) أراد طويلتين!.

(ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) ؛ أي: فيهما بعض طول من غير مبالغة.

(ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما) أي: عاريتين عن الطول.

فقوله «ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللتين قبلهما» بتكرير ذلك أربع مرّات؛ كما هو الرواية في مسلم و «الموطأ» وغيرهما، وفي بعض النسخ جعلها مكررة ثلاث مرّات فقط، وذلك يعتبر سقطا في النسخة، لمخالفته لما يأتي من قوله ثلاث عشرة ركعة.

ص: 28

ثمّ أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة.

وعن أبي سلمة بن عبد الرّحمن- رحمه الله تعالى- أنّه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف كانت صلاة

وقوله (ثمّ أوتر) أي: بواحدة، أي: صلّى ركعة مفردة (فذلك) المجموع (ثلاث عشرة ركعة) ؛ منها ركعتان مقدّمة الوتر، والباقي وتر.

(و) أخرج الشيخان وغيرهما؛ كأبي داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ وهذا لفظها:(عن أبي سلمة) عبد الله (بن عبد الرّحمن) بن عوف القرشي الزّهري التابعي الجليل، وأمّه تماضر بنت الإصبغ.

وكان صبيح الوجه، وكان ثقة فقيها كثير الحديث، اتفقوا على جلالته وإمامته وعظيم قدره وارتفاع منزلته، وهو مدني من كبار التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة- في قول-.

سمع جماعة من الصحابة؛ منهم: عبد الله بن سلام، وابن عمر، وابن عبّاس وابن عمرو بن العاصي، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو أسيد بضم الهمزة-، ومعاوية بن الحكم، وربيعة بن كعب، وعائشة، وأم سلمة، ولم يسمع من عمر بن الخطاب، بل روايته عنه مرسلة.

وسمع جماعة من التابعين؛ منهم: عطاء بن أبي رباح، وعروة، وعمر بن عبد العزيز.

روى عنه خلائق من التابعين وغيرهم، منهم: عامر الشعبي، وعبد الرحمن الأعرج، وعراك بن مالك، وعمرو بن دينار، وأبو حازم سلمة بن دينار، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، وآخرون.

وتوفي بالمدينة المنورة سنة: أربع وتسعين- بتقديم المثناة على المهملة- وعمره: اثنتان وسبعون سنة (رحمه الله تعالى) : آمين.

(أنّه سأل) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف كانت صلاة

ص: 29

رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟

فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلّي أربعا

رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟) ؛ أي: في لياليه وقت التهجّد زيادة على ما صلّاه بعد العشاء من التراويح.

(فقالت: ما) - نافية- (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزيد) بالنصب، بتقدير «أن» بعد لام الجحود، وهي لام التأكيد بعد النفي، مثل قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [143/ البقرة] ورواية الصحيحين بدون اللام؛ أي: لم يكن صلى الله عليه وسلم يزيد (في رمضان؛ ولا في غيره) نفت كونه صلى الله عليه وسلم يزيد على إحدى عشرة ركعة بحسب ما علمته، فلا ينافي ما ثبت من الزيادة عند غيرها، لأن زيادة الثقة مقبولة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكلّ يخبر عن علمه، وقد كان عند أكثر أهل الصدر الأول أن للنبي صلى الله عليه وسلم صلوات مخصوصة اختلفوا في كيفيتها وعددها.

(على إحدى عشرة ركعة) أي: غير مقدمة الوتر، فيكون المجموع بها ثلاث عشرة ركعة، وهذا بالنسبة للصلاة التي كان يصلّيها بعد النوم، فلا ينافي أنّه كان يصلي قبل النوم نفلا آخر غير الوتر، فلا تكون منكرة لصلاة التراويح. انتهى «باجوري» .

(يصلّي أربعا) ؛ أي: مع السلام من كلّ ركعتين، ليوافق خبر زيد السابق، وإنما جمعت الأربعة لتقاربها طولا وحسنا؛ لا لكونها بإحرام واحد وسلام واحد.

انتهى «باجوري» .

وقال الإمام النووي في «شرح مسلم» : وفي رواية: «يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلّا في آخرها» .

وفي رواية أخرى: «يسلّم من كلّ ركعتين» .

وفي رواية: «يصلي أربعا، ثم أربعا، ثم ثلاثا» .

وفي رواية: «ثمان ركعات، ثم يوتر بركعة» .

ص: 30

لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعا لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ،

وفي رواية: «عشر ركعات ويوتر بسجدة» .

وفي حديث ابن عباس فصلّى ركعتين، ثم ركعتين

الخ.

وفي حديث ابن عمر: «صلاة اللّيل مثنى مثنى» .

هذا كلّه دليل على أن الوتر ليس مختصّا بركعة، ولا بإحدى عشرة، ولا بثلاث عشرة، بل يجوز ذلك وما بينه، وأنّه يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة؛. وهذا لبيان الجواز، وإلّا! فالأفضل التسليم من كلّ ركعتين؛ وهو المشهور من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بصلاة الليل مثنى مثنى.

(لا تسأل) - رواية «الصحيحين» : فلا تسأل- (عن حسنهنّ وطولهنّ!!) معناه: أنّهنّ في نهاية من كمال الحسن والطول؛ مستغنيات بظهور حسنهنّ وطولهن عن السؤال عنه والوصف.

وفي هذا الحديث مع الأحاديث المذكورة بعده في تطويل القراءة والقيام دليل لمذهب الشافعي وغيره ممّن قال: تطويل القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود، بمعنى أنّ الزمن المصروف لطول القيام أفضل من الزمن المصروف لتكرير السجود، وكون المصلي أقرب ما يكون من ربّه؛ وهو ساجد!! إنما هو بالنسبة لاستجابة الدعاء فيه.

وقالت طائفة: تكثير الركوع والسجود أفضل. وقالت طائفة أخرى: تطويل القيام في الليل أفضل، وتكثير الركوع والسجود في النهار أفضل. انتهى من المناوي، و «شرح مسلم» .

(ثمّ يصلّي أربعا) العطف ب «ثمّ» يقتضي أنّه حصل تراخ بين هذه الأربع والتي قبلها، وهكذا يقال فيما بعده (لا تسأل) - رواية «الصحيحين» : فلا تسأل- (عن حسنهنّ وطولهنّ) ، لأنهن من كمال الطول والحسن في غاية ظاهرة مغنية عن

ص: 31

ثمّ يصلّي ثلاثا.

قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» .

وعن عائشة أيضا رضي الله

السؤال، (ثمّ يصلّي ثلاثا) لم يصف هذه الثلاث بالطول؛ ولا بالحسن!! إشارة إلى أنّه خفّفها، وظاهر اللفظ يقتضي أنه صلّى الثلاث بسلام واحد، وهو جائز، بل واجب عند أبي حنيفة، لكن صلاتها بسلامين أفضل عندنا- معاشر الشافعية-، ومتعيّن عند المالكية. انتهى «باجوري» .

(قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر) ؛ أي: مع أنك أمرت بعض أصحابك- كأبي هريرة- بالوتر قبل النوم؛ مخافة أن يغلبه النوم فيفوته الوتر؟!!.

(فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ) - بتشديد الياء- (تنامان، ولا ينام قلبي» ) ؛ أي: فلا أخاف فوت الوتر، ومن أمن فوته سنّ له تأخيره، بخلاف من يخاف فوت الوتر بالاستغراق في النوم إلى الفجر، فالأولى له أن يوتر قبل أن ينام، ولمّا علم صلى الله عليه وسلم من حال أبي هريرة رضي الله عنه ذلك أمره بأن يوتر قبل أن ينام.

فالحاصل: أنّ من وثق بيقظته؛ سنّ له تأخيره، ومن لم يثق بها! سنّ له تقديمه. انتهى «باجوري» .

وعدم نوم القلب من خصائصه على أمته؛ لا على الأنبياء، فكلّهم لا تنام قلوبهم، لاستغراقها في شهود جمال الذات العليّة والحضرة المتعالية وجلالها.

وإنّما فاتته صلاة الصبح في حديث نومه في الوادي!! لأن رؤية الفجر من وظائف البصر؛ لا القلب. والله أعلم.

(و) أخرج مسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا رضي الله

ص: 32

تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي من اللّيل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها.. اضطجع على شقّه الأيمن.

تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي من اللّيل) ؛ أي: في الليل (إحدى عشرة ركعة) ؛ أي: غالبا، أو عندها، فلا ينافي ما ثبت من زيادة أو نقصان في بعض الروايات؛ كرواية الثلاث عشرة، وكرواية التسع؛ والسبع.

والحاصل: أنّ في رواية «ثلاث عشرة» ، وفي رواية «إحدى عشرة» ، وفي رواية «تسعا» ، وفي رواية «سبعا» ، ولعل اختلاف الروايات بحسب اختلاف الأوقات والحالات؛ من صحة ومرض، وقوّة وضعف!! ولذلك قال الشيخ ابن حجر: والصواب حمله على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة، فكان تارة يصلي كذا، وتارة يصلي كذا، أو للتنبيه على سعة الأمر في ذلك.

(يوتر منها بواحدة) قال الباجوري: ظاهره أنّ البقية ليست من الوتر، بل تهجّد، وذلك صحيح، لأن أقلّ الوتر ركعة، ويحتمل أن المعنى يفصل منها واحدة، فلا ينافي أنّ البقيّة من الوتر، لأنّ أكمله إحدى عشرة ركعة، وعلى كلّ فهو دليل صريح في أنّ الركعة الواحدة صلاة صحيحة، وأنّ أقلّ الوتر ركعة وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصحّ الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قطّ، والأحاديث الصحيحة تردّ عليه. انتهى «شرح مسلم» .

(فإذا فرغ منها) ؛ أي: من الإحدى عشرة ركعة (اضطجع على شقّه) - بكسر الشين المعجمة- أي: جنبه (الأيمن) حتّى يأتيه المؤذّن، فيصلي ركعتين خفيفتين. هذا تمامه في «صحيح مسلم» .

وفي هذا الحديث: أن الاضطجاع بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر، وكذا في حديث ابن عبّاس: أن الاضطجاع كان بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر. وفي الرواية الآخرى في مسلم؛ عن عائشة: أنّه كان يضطجع بعد ركعتي الفجر.

قال القاضي عياض: وفي ذلك ردّ على الشافعي وأصحابه في قولهم «إن

ص: 33

.........

الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنّة» . قال: وذهب مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة إلى أنّه بدعة، وأشار إلى أنّ رواية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مرجوحة. قال: فتقدّم رواية الاضطجاع قبلهما. قال: ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما «إنّه سنة» ؛ فكذا بعدهما. قال: وقد ذكر مسلم؛ عن عائشة رضي الله عنها قولها «فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلّا! اضطجع» فهذا يدلّ على أنّه ليس بسنّة، وأنّه تارة كان يضطجع قبل، وتارة بعد، وتارة لا يضطجع. انتهى كلام القاضي عياض؛ نقله النووي في «شرح مسلم» .

وتعقّبه النوويّ قائلا: الصحيح- أو الصواب-: أنّ الاضطجاع بعد الفجر سنّة، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلّى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» رواه أبو داود، والترمذي؛ بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح، فهذا حديث صحيح صريح في الأمر بالاضطجاع. وأما حديث عائشة بالاضطجاع بعدها وقبلها، وحديث ابن عباس قبلها!! فلا يخالف هذا، فإنّه لا يلزم من الاضطجاع قبلها ألايضطجع بعدها. ولعله صلى الله عليه وسلم ترك الاضطجاع بعدها في بعض الأوقات بيانا للجواز؛ لو ثبت الترك، ولم يثبت!! فلعله كان يضطجع قبل وبعد!!. وإذا صحّ الحديث في الأمر بالاضطجاع بعدها مع روايات الفعل الموافقة للأمر به؛ تعيّن المصير إليه. وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث!؟ لم يجز ردّ بعضها، وقد أمكن بطريقين أشرنا إليهما؛ أحدهما: أنّه اضطجع قبل وبعد. والثاني: أنّه تركه بعد في بعض الأوقات لبيان الجواز. والله أعلم. انتهى كلام النووي.

وقال العلامة السيّد محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في «سبل السلام» :

العلماء في هذه الضجعة بين مفرط ومفرّط ومتوسط.

فأفرط جماعة من أهل الظاهر؛ منهم ابن حزم ومن تابعه، فقالوا بوجوبها، وأبطلوا صلاة الفجر بتركها، وذلك لفعله المذكور في حديث عائشة الذي رواه

ص: 34

.........

البخاري؛ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شقّه الأيمن، ولحديث الأمر بها في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا صلّى أحدكم الرّكعتين قبل الصّبح فليضطجع على جنبه الأيمن» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. قال ابن تيمية: ليس بصحيح لأنه تفرّد به عبد الرحمن بن زياد، وفي حفظه مقال. قال الحافظ ابن حجر: والحقّ أنه تقوم به الحجّة، إلّا أنّه صرف الأمر عن الوجوب ما ورد من عدم مداومته صلى الله عليه وسلم على فعلها.

وفرّط جماعة؛ فقالوا بكراهتها، واحتجّوا بأن ابن عمر كان لا يفعل ذلك، ويقول: كفى بالتسليم. أخرجه عبد الرزاق، وبأنه كان يحصب «1» من يفعلها.

وقال ابن مسعود: ما بال الرجل إذا صلّى الركعتين تمعّك كما يتمعّك الحمار!!.

وتوسّط فيها طائفة؛ منهم مالك وغيره، فلم يروا بها بأسا لمن فعلها راحة وكرّهوها لمن فعلها استنانا. ومنهم من قال باستحبابها على الإطلاق؛ سواء فعلها استراحة أم لا.

قيل: وقد شرعت لمن يتهجّد من الليل، لما أخرجه عبد الرزاق؛ عن عائشة كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنّة، لكن كان يدأب ليله فيضطجع ليستريح منه. وفيه راو لم يسمّ.

وقال النووي: المختار أنّها سنّة، لظاهر حديث أبي هريرة.

قلت: وهو الأقرب، وحديث عائشة!! لو صحّ؛ فغايته أنّه إخبار عن فهمها، وعدم استمراره صلى الله عليه وسلم عليها دليل سنّيّتها. ثم إنّه يسنّ على الشقّ الأيمن. قال ابن حزم: فإن تعذّر على الأيمن!! فإنّه يومئ ولا يضطجع على الأيسر. انتهى كلام «سبل السلام» .

فائدة: ذكر سيّدي مصطفى البكري نفعنا الله بعلومه آمين؛ في كتابه «المنهل

(1) يرميه بالحصباء.

ص: 35

وعن عائشة أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي من اللّيل تسع ركعات. أي: في بعض الأوقات.

العذب» السائغ لورّاده: أنّه يقول في اضطجاعه: «اللهمّ؛ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ومحمّد صلى الله عليه وسلم، أجرني من النار» ثلاثا.

وذكر سيّدي محيي الدين ابن عربي قدس الله سره في «فتوحاته» عن بعض العلماء: أنّه قال: من لم يضطجع لا تصحّ منه صلاة الصبح. ووجّه مقالته.

قال «1» : وقد رأيت شيخنا الهمام عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى يفعله، ولم ينصّ علماؤنا على سنيّته؛ أي: علماء الحنفية، لكن نفعله لما ذكره الشيخ الأكبر رحمه الله، ومراعاة لمن يقول بسنّيّته من غير مذهبنا، ولكن ينبغي لمن علم من نفسه أنّ النوم غالبه ألايضطجع مخافة أن ينام، وكرّه مالك الاضطجاع لهذه العلة. انتهى كلام سيدي مصطفى البكري رحمه الله تعالى. ملخصا.

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة أيضا) رضي الله تعالى عنها (قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي من اللّيل تسع ركعات) . قال الباجوري: (أي في بعض الأوقات) ، فلا تنافي هذه الرواية غيرها من باقي الروايات.

وقد روى أبو داود؛ عن عبد الله بن أبي قبيس قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: يوتر بأربع وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع؛ ولا بأكثر من ثلاث عشرة.

وللبخاري؛ عن مسروق أنّه سألها عن صلاته. فقالت: سبعا، وتسعا، وإحدى عشرة ركعة سوى ركعتي الفجر. قال القرطبي: أشكل حديثها على كثير، حتى نسب للاضطراب. قال ابن حجر الهيتميّ المكّيّ: وإنما يتمّ لو اتّحد الراوي

(1) أي: السيد مصطفى البكري.

ص: 36

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من اللّيل، قال: فلمّا دخل في الصّلاة..

قال: «الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» .

عنها، والوقت، والصلاة. والصواب أنّ ما ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعدّدة وأحوال مختلفة بحسب النشاط، فكان تارة يصلّي سبعا، وتارة تسعا، وتارة إحدى عشرة؛ وهو الأغلب. انتهى.

وقد كان صلى الله عليه وسلم تارة يصلي قائما وهو الأغلب، وتارة جالسا؛ ثم قبل الركوع يقوم.

(و) أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذيّ؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي، وابن ماجه مع تخالف في بعضه، وهذا لفظ «الشمائل» :(عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من اللّيل) أي: في الليل. ولفظ أحمد والنسائي أنّه صلّى معه في ليلة من رمضان.

(قال) - أي: حذيفة- (فلمّا دخل في الصّلاة) ؛ أي: بتكبيرة الإحرام (قال الله أكبر) من كلّ شيء. والظاهر أنّه قال ذلك بعد تكبيرة الإحرام بدليل زيادة الكلمات الآتية، كما قاله العلّامة ملا علي قاري رحمه الله تعالى؛ فيكون هذا صيغة من صيغ دعاء الافتتاح الواردة، ويؤيّد ذلك رواية أبي داود: قال الله أكبر «ثلاثا» .

(ذو الملكوت) أي: صاحب الملك والعزّة، لأن الملكوت- بفتحتين-: الملك والعزّة. وصيغة «فعلوت» للمبالغة، والكثرة، كما في: رحموت ورهبوت.

(والجبروت) - بفتحتين أيضا- أي: الجبر والقهر، والتاء فيه للمبالغة.

(والكبرياء) - بالمدّ- أي: الترفّع عن جميع الخلق مع انقيادهم، والتنزّه عن كلّ نقص، ولا يوصف بهذين الوصفين غيره سبحانه وتعالى.

(والعظمة) : تجاوز القدر عن الإحاطة به.

وقيل: الكبرياء: عبارة عن كمال الذات، والعظمة: عبارة عن جمال الصفات.

ص: 37

قال: ثمّ قرأ (البقرة) ، ثمّ ركع؛ فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول:«سبحان ربّي العظيم، سبحان ربّي العظيم» ، ثمّ رفع رأسه؛ فكان قيامه نحوا من ركوعه، وكان يقول:«لربّي الحمد، لربّي الحمد» ،

(قال) - أي حذيفة- (: ثمّ قرأ) سورة ( «البقرة» ) - أي- بكمالها بعد الفاتحة؛ وإن لم يذكرها، اعتمادا على ما هو معلوم من أنّه صلى الله عليه وسلم لم يخل صلاة عن الفاتحة.

(ثمّ ركع؛ فكان ركوعه نحوا من قيامه)، أي: قريبا منه، فيكون قدر طول الركوع قريبا من هذا القيام الطويل، ولا مانع منه، لأنه ركن طويل.

(وكان يقول: «سبحان ربّي العظيم) - بفتح ياء الإضافة، ويجوز إسكانها- (سبحان ربّي العظيم» ) ؛ أي: وهكذا، فالمرّتان المراد منهما التكرار مرارا كثيرة؛ لا خصوص المرتين، على حدّ قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [4/ الملك] فكان يكرّر هذه الكلمة ما دام راكعا.

(ثمّ رفع رأسه) من الركوع (فكان قيامه) ؛ أي: مكث في الاعتدال (نحوا من ركوعه) .

قال النووي في «شرح مسلم» : هذا فيه دليل لجواز تطويل الاعتدال.

وأصحابنا يقولون: لا يجوز، ويبطلون به الصلاة. انتهى.

وقال المناوي: زاد كلمة «من» في قوله «نحوا من ركوعه» !! تنبيها على أن قيامه؛ أي: اعتداله كان يقرب من ركوعه؛ لا أنّه يماثله، وقربه من الركوع أمر نسبيّ، فلا دليل فيه لما اختاره كثير من الشافعية- ومنهم النووي-: أنّ الاعتدال والقعود بين السجدتين ركنان طويلان؛ بل المذهب أنّهما قصيران، فمتى زاد على قدر الذكر المشروع فيهما عمدا بطلت الصلاة هذا محصول المذهب.

(وكان يقول) في الاعتدال: ( «لربّي الحمد، لربّي الحمد» ) . أي: كان

ص: 38

ثمّ سجد؛ فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول:«سبحان ربّي الأعلى، سبحان ربّي الأعلى» ، ثمّ رفع رأسه فكان ما بين السّجدتين نحوا من السّجود، وكان يقول:«ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي» حتّى قرأ (البقرة) ، و (آل عمران) ،

يكرّر ذلك مادام في الاعتدال، فليس المراد الإتيان بالمرّتين فقط، نظير ما سبق، لكن المقرّر في الفروع أنّه لا يندب تكرار ذلك، بل يأتي بالأذكار المخصوصة؛ وهي «ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد؛ أهل الثناء والمجد

» إلى آخره ولعلّ ما وقع هنا لبيان الجواز!! والله أعلم.

(ثمّ سجد؛ فكان سجوده نحوا من قيامه)، أي: اعتداله من الركوع؛ قاله ملّا علي قاري. وقال المناوي: أي: من قيامه للقراءة، لا من قيامه من الركوع، وإلّا! لكان الطويل أقصر من القصير. انتهى وتبعه الباجوري.

(وكان يقول) في سجوده: ( «سبحان ربّي الأعلى، سبحان ربّي الأعلى» ) ؛ أي: كان يكرّر ذلك مادام ساجدا- كما تقدّم في نظيره-.

(ثمّ رفع رأسه) - أي- من السجود الأول إلى الجلوس بين السجدتين.

(فكان) الجلوس (ما) - أي الذي- (بين السّجدتين نحوا) - أي: قريبا- (من السّجود) وقد علمت ما فيه!!.

(وكان يقول) - أي- في جلوسه بين السجدتين: ( «ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي» ) ؛ أي: كان يكرّر ذلك ما دام جالسا، ويأتي فيه نظير ما تقدّم في تكراره «لربي الحمد» في الاعتدال، ولم يذكر السجود الثاني، ولا تطويله، ولا ما قاله فيه!! لعلّه لسهو من الراوي، أو للاختصار لكونه يعلم بالمقايسة على السجود الأوّل.

(حتّى) غاية لمحذوف، والتقدير واستمرّ يطوّل حتّى (قرأ) سورة ( «البقرة» ) أي: في الركعة الأولى، (و) سورة ( «آل عمران» ) - أي- في

ص: 39

و (النّساء) ، و (المائدة)، أو (الأنعام) ؛ أي: أنّه صلّى أربع ركعات قرأ في الأولى: (البقرة)، وفي الثّانية:(آل عمران)، وفي الثّالثة:(النّساء)، وفي الرّابعة:(المائدة) أو (الأنعام)«1» . والشّكّ فيهما من شعبة

الثانية، (و) سورة ( «النّساء» ) - أي- في الثالثة، (و) سورة ( «المائدة» ؛ أو) قال: سورة (الأنعام) في الرابعة.

(والشّكّ فيهما) أي: السورتين- وهما المائدة والأنعام- (من) الإمام الحافظ الحجّة العابد الصالح أمير المؤمنين في الحديث؛ أبي بسطام:

(شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي «مولاهم» الواسطي، ثم البصري «مولى عبدة بن الأعز» ، وعبدة «مولى يزيد بن المهلب الأزدي» .

كان شعبة من واسط، ثم انتقل إلى البصرة فاستوطنها.

وهو من تابعي التابعين، وأعلام المحدثين وكبار المحققين.

رأى الحسن البصري، ومحمّد بن سيرين، وسمع أنس بن سيرين، وعمرو بن دينار، والشعبي، وخلائق لا يحصون من التابعين، وخلائق من غيرهم.

روى عنه الأعمش، وأيوب السختياني، ومحمد بن إسحاق التابعيون، والثوري وابن مهدي ووكيع وعبد الله بن المبارك ويحيى القطّان، وخلائق لا يحصون من كبار الأئمة.

وأجمعوا على إمامته في الحديث وجلالته وتحرّيه واحتياطه وإتقانه.

وتوفي بالبصرة في أول سنة: - 160- ستين ومائة، وهو: ابن سبع وسبعين

(1) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من «وسائل الوصول» ، ولكن الشارح- رحمه الله قد ضمّنها في الشرح.

ص: 40

راوي هذا الحديث.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم باية من القرآن ليلة.

سنة- بتقديم المهملة على الموحدة فيهما- أي: فعمره ثمانون سنة إلّا ثلاث سنوات. رحمه الله تعالى.

(راوي هذا الحديث) يعني أنّه شكّ في السورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في الرابعة؛ هل هي المائدة، أو الأنعام!!

وظاهر الخبر أنّه قرأ السور الأربع في الركعات الأربع، وبه صرّحت رواية أبي داود، ولكن رواية مسلم والنسائي ظاهرة في أنّه قرأ الكلّ في ركعة واحدة، فلعل الواقعة تعدّدت!! فتكون صلاة حذيفة مع النبي صلى الله عليه وسلم وقعت في ليلتين في إحداهما قرأ السور في ركعة، وفي الليلة الآخرى قرأ السور الأربع في أربع ركعات.

أو يقال: إن في رواية أبي داود والترمذي وهما، والصواب رواية مسلم والنسائي!!.

ويؤيّده: اتحاد المخرج وهو صلة بن زفر. ولعل البخاريّ لم يخرجه في «صحيحه» ؛ لما فيه من الاختلاف والاضطراب! والله أعلم. انتهى من كتاب «جمع الوسائل» لملا علي قاري رحمه الله تعالى.

وهذه القراءة كانت في صلاة الليل كما يفيده أوّل الحديث، وأمّا قراءته في الفرائض!! فوردت على أنحاء شتى. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج الترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام) - أي صلّى- (رسول الله صلى الله عليه وسلم باية) أي: متلبّسا بقراءة آية (من القرآن) ؛ وهي قوله تعالى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)[المائدة] يعني: أحيا بقراءة هذه الآية (ليلة) ؛ أي: استمرّ يكرّرها ليلته كلّها في ركعات تهجّده، فلم يقرأ فيها بغيرها، أو صار يكرّرها في قيام ركعة واحدة

ص: 41

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: صلّيت ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل قائما حتّى هممت بأمر سوء.

إلى الفجر. ويرجّح الأوّل ما في «فضائل القرآن» لأبي عبيد؛ عن أبي ذرّ: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فقرأ آية واحدة الليل كلّه حتّى أصبح؛ بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد. فقال القوم لأبي ذر: أيّة آية هي؟ فقال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)[المائدة] .

وإنما داوم على تكريرها والتفكّر في معانيها حتّى أصبح!! لما اعتراه عند قراءتها من هول ما ابتدئت به مما أوجب اشتعال نار الخوف، ومن حلاوة ما ختمت به مما أوجب اهتزازه طربا وسرورا.

ويؤخذ منه جواز تكرار آية في الصلاة، ولعل ذلك كان قبل النهي عن القراءة في الركوع والسجود!! فلا ينافيه خبر مسلم:«نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا» .

أو فعله لبيان الجواز؛ تنبيها على أنّ النهي للتنزيه؛ لا للتحريم.

وحديث «المتن» رواه النسائيّ وابن ماجه؛ عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه.

كما قاله ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» .

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، وابن ماجه، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله تعالى عنه قال:

صلّيت ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي- جماعة، فدلّ ذلك على صحّة النفل جماعة؛ وإن لم تشرع فيه ما عدا العيدين والكسوفين ونحوهما..

(فلم يزل قائما) أي: أطال القيام جدّا (حتّى هممت) أي: قصدت. والهمّ بمعنى القصد، ويعدّى بالباء (بأمر سوء) بإضافة «أمر» إلى «سوء» - كما هو الرواية- كما أفهمه كلام الحافظ ابن حجر. وقيل: إنّه روي بقطعها على الوصفيّة.

والسّوء- بفتح السين وضمّها-: نقيض المسرّة. وشاع الإضافة إلى المفتوح

ص: 42

قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي جالسا

ك «رجل سوء» ، ولا يقال سوء- بالضمّ-. وقد قرئ متواترا بالوجهين؛ في قوله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [98/ التوبة] .

(قيل له: وما هممت به؟!) أي: أيّ شيء الذي هممت به؟.

(قال) ؛ أي: ابن مسعود (: هممت أن أقعد) بلا صلاة (وأدع) - أي:

أترك- (النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي وحده؛ كما قاله القسطلاني وغيره. ولا مانع منه! لأنّ قطع النفل جائز عندنا.

وقال المناوي: بأن ينوي قطع القدوة ويتمّ صلاته منفردا، لا أنّه يقطع الصلاة؛ كما ظنّه القسطلّاني وغيره!! لأن ذلك لا يليق بجلالة ابن مسعود.

قال الباجوري: لكنّ المتبادر من قوله «أن أقعد» هو الأوّل، واحتمال أنّه يتمّ الصلاة قاعدا بعيد، فترك الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأول أمر سوء، وكذا ترك الاقتداء به على الثاني، لأنّ في كلّ حرمان الثواب العظيم الحاصل بالصلاة مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال النووي في «شرح مسلم» : فيه أنّه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار، وأن لا يخالفوا بفعل ولا قول؛ ما لم يكن حراما.

واتفق العلماء على أنّه إذا شق على المقتدي في فريضة؛ أو نافلة القيام، وعجز عنه جاز له القعود، وإنّما لم يقعد ابن مسعود!! للتأدّب مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه جواز الاقتداء في غير المكتوبات. وفيه استحباب تطويل صلاة الليل. انتهى.

(و) أخرج مسلم، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي جالسا) . قيل: كان ذلك في كبر سنّه. وقد صرّحت به عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه الشيخان.

ص: 43

فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين- أو أربعين- آية.. قام فقرأ وهو قائم،

ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنّ تطوّعه قاعدا كهو قائما، لأنّه مأمون الكسل؛ فلا ينقص أجره، بخلاف غيره، فإنّه من صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم.

ويؤخذ منه صحّة تنفّل القادر قاعدا، وهو مجمع عليه.

(فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته) ؛ أي: من مقروئه (قدر) ؛ أي:

مقدار (ما يكون ثلاثين أو أربعين آية؛ قام) . وفيه إشارة إلى أنّ الذي كان يقرأه قبل أن يقوم أكثر، لأن البقية تطلق غالبا على الأقلّ.

والظّاهر أن الترديد بين الثلاثين والأربعين من عائشة!! فيكون إشارة إلى أن المقدار المذكور مبنيّ على التخمين، فردّدت بينهما؛ تحرّزا من الكذب.

ويحتمل أنّه تارة كان يقع منه كذا وتارة كذا.

ويحتمل أنّه شكّ من بعض الرواة فيما قالته عائشة، وهي إنّما قالت أحدهما!! وأيّده الحافظ العراقي برواية في «صحيح مسلم» عنها: فإذا أراد أن يركع؛ قام قدر ما يقرأ الإنسان أربعين آية.

ويؤخذ من ذلك صحّة بعض النفل قاعدا وبعضه قائما، وصحّة بعض الركعة قاعدا وبعضها قائما، وجعل بعض القراءة في القعود وبعضها في القيام، وسواء في ذلك كلّه قعد ثم قام، أو قام ثمّ قعد، وسواء نوى القيام؛ ثم أراد القعود، أو نوى القعود؛ ثم أراد القيام. وهو قول الأئمة الأربعة، ولكن يمنع بعض المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام. انتهى «باجوري ومناوي» .

(فقرأ؛ وهو قائم) أي: والحال أنّه قائم، أي: مستقرّ على القيام.

وظاهر التعبير بالفاء: أنه لا تراخي بين القيام والقراءة. وظاهره أيضا أنّ من افتتح الصلاة قاعدا ثم قام؛ لا يقرأ حال نهوضه، لانتقاله إلى أكمل منه، بخلاف عكسه، فيقرأ في حال الهويّ. وبه صرّح الشافعية في فرض المعذور.

ص: 44

ثمّ ركع وسجد، ثمّ صنع في الرّكعة الثّانية مثل ذلك.

وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تطوّعه؟

وأما مسألة الحديث؛ وهو النفل قاعدا مع القدرة؛ ثم ينتقل إلى القيام، أو بالعكس؟! فهو مخيّر بين القراءة في النهوض والهوي، لكن الأفضل القراءة هاويا؛ لا ناهضا. انتهى «مناوي وباجوري» .

(ثمّ ركع وسجد) ؛ أي: من قيام. قال الحافظ ابن حجر: في الحديث ردّ على من شرط- على من افتتح النفل قاعدا- أن يركع قاعدا، وعلى من افتتحه قائما- أن يركع قائما، وهو محكيّ عن بعض الحنفية والمالكية، لرواية في مسلم أي: ستأتي بعد هذا- لكن لا يلزم منه منع ما دلّت عليه هذه الرواية، فيجمع بأنه كان يفعل كلّا من ذلك بحسب النشاط وعدمه.

(ثمّ صنع في الرّكعة الثّانية مثل ذلك) ؛ أي: قرأ وهو جالس، حتّى إذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين، أو أربعين آية؛ قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع وسجد، فبعد أن قام في أثناء الأولى قعد في أوّل الثانية، فقد انتقل من القيام للقعود؛ وإن كان في ركعة أخرى. وهو حجّة على من منع ذلك.

(و) أخرج مسلم، والترمذي؛ في «الشمائل» ؛

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بن شقيق) العقيلي- بالضمّ مصغّرا- البصري، روى عن عمر وعثمان وأبي ذر، وعنه ابن سيرين وقتادة وجعفر بن أبي وحشية، وثّقه أحمد وابن معين، وقال أحمد: ثقة ناصبيّ؛ يحمل على علي بن أبي طالب. خرّج له مسلم والأربعة، قيل: مات سنة: ثمان ومائة رحمه الله تعالى. آمين.

(قال) ؛ أي: عبد الله بن شقيق: (سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: عن كيفيتها (في تطوّعه) بدل مما قبله بإعادة الجار.

والتطوّع: فعل شيء مما يتقرّب به إلى الله تعالى؛ تبرّعا من النفس.

ص: 45

فقالت: كان يصلّي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم.. ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس.. ركع وسجد وهو جالس.

(فقالت: كان يصلّي ليلا طويلا) بدل من «الليل» بدل بعض من كلّ، أي:

زمنا طويلا من الليل، لا أنّه يجعل صلاته طويلة. انتهى «مناوي»

(قائما) حال من فاعل «يصلي» ؛ أي: يصلّي زمنا طويلا حال كونه قائما فيه.

(وليلا) ؛ أي: زمنا (طويلا) حال كونه (قاعدا) فيه في كلّ صلاته؛ أو بعضها، فالحال مبنيّة على أن المراد بطول زمن الصلاة طول قيامها؛ أو قعودها.

انتهى «مناوي» .

ويؤخذ من ذلك ندب تطويل القراءة في صلاة الليل وتطويل القيام فيها، وهو أفضل من تكثير الركوع والسجود مع تقصير القراءة- على الأصحّ عند الشافعية-، ولا يعارضه حديث «عليك بكثرة السّجود» !! لأن المراد كثرة الصلاة؛ لا كثرة السجود حقيقة. انتهى «باجوري ومناوي» .

(فإذا) الفاء تفصيلية (قرأ وهو قائم؛ ركع وسجد؛ وهو قائم)، أي: انتقل إلى الركوع والسجود، والحال أنّه قائم تحرّزا عن الجلوس قبل الركوع والسجود.

(وإذا قرأ وهو جالس! ركع وسجد؛ وهو جالس) أي: انتقل إلى الركوع والسجود، والحال أنّه جالس تحرّزا عن القيام قبل الركوع والسجود.

قال المناوي- بعد ذكر مثل هذا التقرير- ما نصّه: ذكر ذلك كله الشّرّاح!!.

وأنت خبير بأنها كلّها توجيهات لا تخلو عن ركاكة وتكلّف. انتهى.

ثم نقل عن الزين العراقي أنّ ذلك محمول على أنّه صلى الله عليه وسلم كان له أحوال مختلفة في تهجّده وغيره، فكان يفعل مرّة كذا، ومرّة كذا، ومرة يفتتح قاعدا؛ ويتمّ قراءته قاعدا؛ ويركع قاعدا. ومرّة يفتتح قاعدا، ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما؛

ص: 46

وعن حفصة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في سبحته- أي: نافلته- قاعدا، ويقرأ بالسّورة ويرتّلها حتّى تكون أطول من أطول منها

ويركع قائما. فإن لفظة «كان» لا تقتضي الدوام عند جمع من العلماء الأعلام.

انتهى.

(و) أخرج مسلم في «صحيحه» ، ومالك في «الموطأ» ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ لها- والنسائيّ؛

(عن) أمّ المؤمنين (حفصة) بنت عمر بن الخطّاب (زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في سبحته) - بضم السين المهملة وسكون الموحدة- (أي نافلته) . سمّيت «سبحة» !! لاشتمالها على التسبيح، وخصّت النافلة بذلك!! لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة فأشبهت صلاة النفل، وهذا التخصيص أمر غالبيّ، فقد يطلق التسبيح على الصلاة مطلقا؛ تقول (فلان يسبّح) أي: يصلي فرضا أو نفلا. ومنه قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [98/ الحجر] أي: صلّ.

وقوله فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)[الصافات] أي: المصلين، (قاعدا) حال من فاعل «يصلي» .

وزاد مسلم في أوّل الحديث زيادة هي قول حفصة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في سبحته قاعدا حتّى إذا كان قبل موته بعام؛ فكان يصلي في سبحته قاعدا، (و) كان (يقرأ بالسّورة) من القرآن- الباء زائدة- (ويرتّلها) ؛ أي: يتأنّى في قراءتها، ويبيّن الحروف والحركات والوقوف، (حتّى تكون أطول من أطول منها) ؛

أي: حتى تصير السورة القصيرة- كالأنفال مثلا- لاشتمالها على الترتيل أطول من طويلة خلت عنه- كالأعراف-.

وهذا معنى قول بعضهم «إنّه يمكث في قراءة هذه مرتّلا متدبّرا بحيث تصير

ص: 47

وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والّذي نفسي بيده، ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى كان أكثر صلاته قاعدا، إلّا المكتوبة.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع قيام اللّيل، وكان إذا مرض أو كسل.. صلّى قاعدا.

أطول من السورة التي أطول من هذه السورة؛ بحسب عدد الآيات عند عدم الترتيل في السورة الطويلة» .

(و) أخرج النسائي، وابن ماجه؛ (عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: و) الله (الّذي نفسي بيده) ؛ أي: روحي في قبضة قدرته (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى كان أكثر صلاته قاعدا؛ إلّا المكتوبة) .

حديث أمّ سلمة هذا رواه ابن حبّان في «صحيحه» بلفظ: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى كان أكثر صلاته؛ وهو جالس، وكان أحبّ العمل إليه ما داوم عليه صاحبه؛ وإن كان يسيرا.

وأخرج مسلم في «صحيحه» ، والترمذيّ في «الشمائل» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت حتّى كان أكثر صلاته وهو جالس.

قال الحافظ العراقي: ولا منافاة بين حديث حفصة وحديث عائشة- كما قد يتوهّم-!! فقول عائشة «كان يصلّي جالسا» لا يلزم منه كونه صلّى جالسا قبل وفاته بأكثر من عام، فإنّ «كان» لا يقتضي الدوام؛ بل ولا التكرار على أحد قولي أهل الأصول، وبتقدير كونه «صلّى في تطوّعه قاعدا قبل وفاته بأكثر من عام» لا ينافي حديث حفصة، لأنها إنّما نفت رؤيتها؛ لا الوقوع بالكليّة. انتهى.

(و) أخرج أبو داود، والحاكم؛ (عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع قيام اللّيل) - يعني التهجّد؛ وهو الصلاة في الليل بعد النوم- (وكان إذا مرض أو كسل) - ك «فرح» - (صلّى قاعدا) ، ومع ذلك فصلاته قاعدا

ص: 48

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته.

كصلاته قائما في مقدار الأجر، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره، فإن صلاته قاعدا على النصف من صلاة القائم.

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائيّ؛ باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» ؛

(عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب (رضي الله تعالى عنهما؛ قال:

صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: شاركته في الصلاة، بمعنى: أنّ كلّا منهما فعل تلك الصلاة، وليس المراد أنّه صلى معه جماعة، لأنه يبعد ذلك هنا؛ وإن كانت الجماعة جائزة في الرواتب، لكنها غير مشروعة فيها.

(ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب؛ في بيته) .

راجع لسنّة المغرب فقط. وقال الباجوري كالمناوي: إنّه راجع للأقسام الثلاثة قبله، لأن القيد يرجع لجميع ما تقدّمه- كما صرّح به بعضهم-.

لكن قد يقال: هلا اكتفى بقوله «في بيته» الثانية المذكورة في قوله (وركعتين بعد العشاء في بيته) !! لأنّه يرجع لجميع ما تقدّمه؛ كما علمت. إلّا أن يقال صرّح به هنا!! اهتماما به. انتهى كلام الباجوري. وفي «جمع الوسائل» : إنّه يحتمل رجوعه للثلاثة قبله، ولسنّة المغرب فقط. ذكره ابن حجر. انتهى.

وعجيب منهم هذه الاحتمالات؛ مع أن الحديث مفصّل في «صحيح مسلم» بوضوح، فلا يحتاج لهذه الاحتمالات!! ولفظه في «صحيح مسلم» : عن ابن عمر؛ قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين- يعني: ركعتين- وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين، وبعد الجمعة

ص: 49

.........

سجدتين، فأمّا المغرب والعشاء والجمعة! فصلّيت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته. انتهى.

فهذا مما يوضّح رجوع قوله «في بيته» الأول للمغرب، والثاني للعشاء فقط؛ كما هو أحد الاحتمالين اللذين أبداهما المحقّق ابن حجر، ولعلّهم لم يستحضروا رواية «صحيح مسلم» المذكورة!! ثم هي تشتمل على عشر ركعات من الرّواتب.

وزاد في «صحيح البخاري» : قبل الصبح ركعتين، فالمجموع اثنتا عشرة ركعة. قال الإمام النووي في «شرح مسلم» : وليس للعصر ذكر في «الصحيحين» !! وجاء في «سنن أبي داود» بإسناد صحيح؛ عن عليّ رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي قبل العصر ركعتين.

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله امرأ صلّى قبل العصر أربعا» . رواه أبو داود، والتّرمذيّ؛ وقال: حديث حسن.

وجاء في أربع بعد الظهر حديث صحيح؛ عن أمّ حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حافظ على أربع ركعات قبل الظّهر وأربع بعدها حرّمه الله على النّار» رواه أبو داود، والترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن مغفّل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلّوا قبل المغرب ركعتين..» قال في الثالثة «لمن شاء» .

ولمسلم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أربعا قبل الظّهر، وركعتين بعدها، وبعد المغرب، وبعد العشاء؛ كلّها في البيت، وإذا طلع الفجر صلّى ركعتين.

وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن مغفّل؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بين كلّ أذانين صلاة» المراد بين الأذان والإقامة.

فهذه جملة من الأحاديث الصحيحة في السنن الراتبة مع الفرائض.

قال أصحابنا وجمهور العلماء بهذه الأحاديث كلّها، واستحبّوا جميع هذه النوافل المذكورة في الأحاديث السابقة.

ص: 50

وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي ركعتين خفيفتين

ولا خلاف في شيء منها عند أصحابنا؛ إلّا في الركعتين قبل المغرب؛ ففيهما وجهان لأصحابنا: أشهرهما لا يستحبّ، والصحيح عند المحققين استحبابهما بحديثي ابن مغفّل، وبحديث ابتدارهم السّواري بها؛ وهو في «الصحيحين» .

قال أصحابنا وغيرهم: واختلاف الأحاديث في أعدادها محمول على توسعة الأمر فيها، وأنّ لها أقلّ وأكمل، فيحصل أصل السنة بالأقلّ، ولكن الاختيار فعل الأكثر الأكمل، وهذا كما في اختلاف أحاديث صلاة الضحى، وكما في أحاديث الوتر، فجاءت فيها كلها أعدادها بالأقلّ والأكثر وما بينهما؛ ليدلّ على أقلّ المجزئ في تحصيل أصل السنة، وعلى الأكمل والأوسط. والله أعلم. انتهى كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى.

يقول العبد الضعيف جامع هذا الشرح: لكن المقرّر في الفروع أنّ المؤكّد من الرواتب التابعة للفرائض عشر نظمها صاحب «الزّبد» فقال:

ثنتان قبل الصّبح والظّهر كذا

وبعده ومغرب ثمّ العشا

ويؤخذ من الحديث أنّ البيت للنفل أفضل، إلّا ما استثني؛ حتّى من جوف الكعبة.

وحكمته: أنّه أخفى فيكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، وبالغ ابن أبي ليلى فقال: لا تجزيء سنّة المغرب في المسجد. انتهى «باجوري» .

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائي، وابن ماجه بألفاظ مختلفة- وهذا لفظ «الشمائل»

(عن) أمّ المؤمنين (حفصة رضي الله تعالى عنها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي ركعتين) هما سنّة الصبح (خفيفتين) ، قد صحّ تخفيفهما من طرق في «الصحيحين» وغيرهما، فيسنّ تخفيفهما؛ اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وخبر

ص: 51

حين يطلع الفجر.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع ركعتي الفجر في السّفر ولا في الحضر، ولا في الصّحّة ولا في السّقم.

تطويلهما أعلّ بالإرسال. على أنّه محمول على بيان الجواز.

وأخذ مالك رحمه الله تعالى من تخفيفهما أنّه لا يقرأ فيهما غير الفاتحة، وحكاه ابن عبد البرّ عن الأكثر. وبالغ بعض السلف؛ فقال: لا يقرأ فيهما شيئا أصلا.

وذهب الشافعيّ رضي الله عنه كالجمهور- إلى أن المراد بتخفيفهما عدم تطويلهما على الوارد فيهما، فلا ينافي ذلك ما في مسلم: كان كثيرا ما يقرأ في الأولى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [136] آية البقرة، وفي الثانية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ [64] آية آل عمران.

وروى مسلم وغيره: أنّه قرأ فيهما سورتي الإخلاص؛ يعني «الكافرون» ، و «قل هو الله أحد» . وصحّ:«نعم السّورتان تقرأ بهما في ركعتي الفجر «قل يا أيّها الكافرون» ، و «قل هو الله أحد!!» فيسنّ تخفيفهما مع قراءة ما ذكر حتّى لو قرأ جميع ذلك لم تفته سنّة التخفيف. انتهى «باجوري، ومناوي، وملا علي قاري» .

(حين يطلع) - بضم اللام؛ من باب: قعد، أي: يظهر- (الفجر) هو:

ضوء الصبح؛ وهو حمرة الشّمس في سواد اللّيل.

سمّي بذلك!! لانفجاره، أي: انبعاثه، كانفجار الماء؛ من الفجور، وهو الانبعاث في المعاصي، والمراد الفجر الصادق؛ وهو الذّي يبدو مستطيلا.

(و) أخرج الخطيب- بسند فيه عبد الله بن رجاء؛ قال فيه الذهبي: صدوق كثير الغلط والتصحيف، وأورده في «الضعفاء» أيضا-؛

(عن عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) قالت:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع ركعتي الفجر) ؛ أي صلاة سنة الصبح (في السّفر؛ ولا في الحضر، ولا في الصّحّة؛ ولا في السّقم) - بفتحتين: المرض،

ص: 52

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء.

قال ابن عمر: وحدّثتني

أو المرض الطويل- وفيه إشعار بأنهما أفضل الرّواتب، بل قال الحسن البصري بوجوبهما، لكن منع بخبر: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلّا أن تطّوّع» . فهما أفضل الرواتب عند الشافعية ما عدا الوتر.

وقد روى الشيخان وغيرهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يكن صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدّ منه تعاهدا على ركعتي الفجر.

وفي رواية لمسلم؛ عنها: ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة: ولا إلى غنيمة.

ولمسلم أيضا؛ عن عائشة: لهما أحبّ إليّ من الدّنيا جميعها.

وفي «مسلم» أيضا؛ عن عائشة مرفوعا: «ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها» .

قال في «جمع الوسائل» : ولهذا روي عن أبي حنيفة أنّهما واجبتان، فلا شكّ أنّهما أفضل من سائر الرواتب. انتهى.

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ؛ في «الشمائل» - وهذا لفظها-:

(عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان ركعات) - أي: من السنن المؤكّدة-

(: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب) .

ويسنّ ألايتكلّم قبلهما، لخبر رزين:«من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلّم رفعت صلاته في علّيّين» . وفيه ردّ على من لم يجوّزهما في المسجد.

(وركعتين بعد العشاء. قال) عبد الله (بن عمر) بن الخطّاب: (وحدّثتني

ص: 53

حفصة بركعتي الغداة، ولم أكن أراهما من النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

حفصة) بنت عمر (بركعتي الغداة) ؛ أي: الفجر.

وأصل الغداة: ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.

(ولم أكن أراهما) - بفتح الهمزة-؛ أي: أبصرهما. يعني: لم أكن عالما بركعتي الغداة (من النّبيّ صلى الله عليه وسلم!!) ؛ أي: لأنّه كان يفعلهما عند نسائه قبل خروجه إلى المسجد دائما؛ أو غالبا، بخلاف بقية الرواتب، فإنّه ربّما فعلها في المسجد.

ونفيه لرؤيتهما!! ينافيه ما رواه الترمذي في «جامعه» ، والنسائي؛ عن ابن عمر أيضا: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا- وفي رواية: أربعين صباحا- فكان يقرأ بهما أي: بسورتي الكافرون والإخلاص- في ركعتي الفجر.

فهذا صريح في أنّه رآه يصلّيهما، وأجاب الشّبراملّسي بأن الأوّل محمول على الحضر، فإنّه كان فيه يصلّيهما عند نسائه. والثاني محمول على السفر، فإنّه كان فيه يصلّيهما عند صحبه.

وأجاب العلّامة ملّا علي قاري بأن نفي رؤيته قبل أن تحدّثه حفصة، وإثباتها بعده؛ كما يشير إلى ذلك قوله «رمقت» . انتهى «باجوري» .

وفي «الشمائل» للترمذي؛ عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالت: كان يصلّي قبل الظّهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ثنتين. انتهى.

وهذا السؤال عن السنن المؤكّدة، فلذلك أجابته عائشة بالعشر المؤكّدة.

ولا ينافيه ما ورد في أخبار أنّه كان يصلّي أربعا قبل الظهر، وأربعا بعدها، وأربعا قبل العصر، وركعتين قبل المغرب، وركعتين قبل العشاء!! لاحتمال أنّه كان يصلّي هذه العشر في المسجد؛ وتلك في بيته، فأخبر كلّ راو بما اطلع عليه، أو أنّه كان يواظب على هذه؛ دون تلك، فهذه العشر هي الرواتب المؤكّدة،

ص: 54

وعن معاذة قالت: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الضّحى؟ قالت: نعم.. أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله عز وجل.

لمواظبة المصطفى صلى الله عليه وسلم عليهنّ، وبقيت رواتب أخرى لكنها لا تتأكّد كتلك.

وأفضل الرواتب ركعتا الفجر؛ للخلاف في وجوبهما، كما تقرّر.

قال المحقّق العراقيّ: ولم أر لأصحابنا تعرّضا لآكدها بعدهما، وقالت المالكية والحنابلة: آكدها بعدها الركعتان بعد المغرب، ويشهد له أنّ الحسن قال بوجوبهما أيضا. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه، والترمذي؛ في «الشمائل» وهذا لفظها- (عن معاذة) - بضم الميم- بنت عبد الله العدوية؛ أم الصّهباء البصرية، ثقة من الثالثة، خرّج لها الستة؛ قاله المناوي.

(قالت: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الضّحى؟!) ؛ أي: الصلاة التي تفعل في الضحى- بضم الضاد والقصر-: اسم للوقت الذي يكون من تمام ضوء الشمس إلى تمام ربع النهار، وقبله من طلوع الشمس إلى تمام ضوئها يقال له «ضحوة» ك «طلحة» ، و «ضحو» ك «فلس» ، و «ضحيّة» ك «هديّة» ، وبعده من تمام الربع إلى الزوال؛ يقال له «ضحاء» - بالفتح والمد-؛ ك «سماء» .

فتلخص: أنّ الوقت من طلوع الشمس إلى الزوال ينقسم ثلاثة أقسام؛ كما يؤخذ من «القاموس» و «المختار» و «المصباح» .

ووقتها الشرعيّ: من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى الزوال، لكن الأفضل تأخيرها إلى أن يمضي ربع النهار، ليكون في كلّ ربع صلاة. انتهى «باجوري» .

(قالت: نعم) ؛ أي: كان يصلّيها، وهذا كاف في الجواب.

وقولها (أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله عز وجل ؛ زيادة على المطلوب،

ص: 55

.........

لكنّها تتعلّق بالمطلوب، وهي محمودة حينئذ.

و «أربع ركعات» معمول لمحذوف؛ أي: كان يصلّي أربع ركعات.

والمراد أنّه كان يصلّيها أربع ركعات في أغلب أحواله، كما أشارت إليه بقولها «ويزيد ما شاء الله عز وجل» ؛ أي: وينقص، ففي كلامها «اكتفاء» ، والمراد أنّه يزيد زيادة محصورة؛ وإن كان ظاهر العبارة الزيادة بلا حصر، لكنه محمول على المبالغة.

فالحاصل: أنّه صلّاها تارة ركعتين؛ وهو أقلّها، وتارة أربعا؛ وهو أغلب أحواله، وتارة ستّا، وتارة ثمانية؛ وهو أكثرها فضلا وعددا- على الراجح-.

وقيل: أفضلها ثمان، وأكثرها اثنتا عشرة. ولا ينافي ذلك قول الفقهاء «كلّ ما كثر وشقّ كان أفضل» !! لأنه غالبي، فقد صرّحوا بأن العمل القليل قد يفضل الكثير في صور كثيرة، لأنّه قد يرى المجتهد من المصالح المحتفّة بالعمل القليل ما يفضله على الكثير.

هذا؛ وقد ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رأيته سبّحها؛ أي: صلّاها- تعني صلاة الضحى-.

وجمع البيهقيّ بين هذا وبين ما تقدّم عنها بحمل قولها «ما رأيته سبّحها» على نفي رؤية مداومته عليها؛ وقولها «نعم» على الغالب من أحواله، فقد شهد تسعة عشر من أكابر الصحب أنّهم رأوا المصطفى صلى الله عليه وسلم يصلّيها.

وقال في «فتح الباري» - بعد أن ذكر في الضحى أقوالا ستّة- ما نصّه:

قد جمع الحاكم الأحاديث الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، وذكر لغالب هذه الأقوال مستندا، وبلّغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسا من الصّحابة. انتهى.

قال الحاكم: وفي الباب عن 1- أبي سعيد، و 2- أبي ذر، و 3- زيد بن أرقم، و 4- أبي هريرة، و 5- بريدة الأسلمي، و 6- أبي الدرداء،

ص: 56

.........

و7- عبد الله بن أبي أوفى، و 8- عتبان بن مالك، و 9- عتبة بن عبد السّلمي، و 10- نعيم بن همار، و 11- أبي أمامة الباهلي، و 12- عائشة بنت أبي بكر، و 13- أمّ هانئ، و 14- أم سلمة: كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضحى. انتهى.

بل قال ابن جرير: أحاديثها بلغت حدّ التواتر.

وفي «مصنف ابن أبي شيبة» ؛ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنّها لفي كتاب الله تعالى، ولا يغوص عليها إلّا الغوّاص.

قال ابن العربي: وهي كانت صلاة الأنبياء قبل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويسنّ فعلها في المسجد لخبر فيه، وأما ما صحّ عن ابن عمر من قوله «إنها بدعة ونعمت البدعة» .

ومن قوله «لقد قتل عثمان؛ وما أحد يسبّحها، وما أحدث الناس شيئا أحبّ إلي منها» !! فمحمول على أنّه لم يبلغه هذه الأخبار، أو أنّه أراد أنّه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها، أو أنّ التجمّع لها في نحو مسجد هو البدعة.

وبالجملة: فقد قام الإجماع على استحبابها، وإنّما اختلفوا في أنّها مأخوذة من سنة مخصوصة؛ أو من عمومات!! وقد ورد في شأنها أحاديث كثيرة تدلّ على مزيد فضلها كخبر أحمد:«من حافظ على صلاة الضّحى غفرت له ذنوبه؛ وإن كانت مثل زبد البحر» .

ومن فوائدها أنّها تجزئ عن الصدقة التي تطلب عن مفاصل الإنسان الثلاث مئة وستين مفصلا كلّ يوم تطلع فيه الشمس، كما رواه مسلم وغيره.

وقد اشتهر بين العوام أنّ قطعها يورث العمى! ولا أصل له. انتهى «باجوري» مع زيادة من المناوي وغيره.

ص: 57

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضّحى ستّ ركعات.

وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الضّحى حتّى نقول لا يدعها، ويدعها (و) أخرج التّرمذيّ؛ في «الشمائل» ، والحاكم في «صلاة الضحى» ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضّحى ستّ ركعات) .

أي: في بعض الأوقات، فلا تنافي بين الروايات، قال المناوي: وهذا روي أيضا من حديث علي، وجابر، وعائشة. قال القسطلاني: لكن لا يخلو إسناد كلّ منها من مقال. انتهى.

(و) أخرج الترمذي؛ في «الجامع» وحسّنه، وفي «الشمائل» ، والحاكم وصحّحه؛ من طريق عطية بن سعد العوفي- وهو ضعيف؛ كما قال النووي-.

(عن أبي سعيد الخدريّ) ؛ نسبة إلى «خدرة» جدّ له (رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الضّحى) ؛ أي: يواظب عليها أيّاما متوالية لمحبّته لها؛ (حتّى نقول) - أي: في أنفسنا، أو يقول بعضنا لبعض-:(لا يدعها) ؛ أي: لا يتركها بعد هذه المواظبة، (ويدعها) ؛ أي: يتركها أحيانا؛ خوفا من أن يعتقد الناس وجوبها لو واظب عليها دائما، وقد أمن هذا بعده؛ لاستقرار الشريعة؛ فتطلب المواظبة عليها الآن.

ويقرأ فيها بسورتي «الشمس» و «الضحى» ، كما رواه الحاكم؛ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلّي الضحى بسورتيها: «والشمس وضحاها» ؛ «والضحى» . ومناسبتها ظاهرة كالشمس، والأنسب إذا صلّاها أربعا أن يقرأ فيها ب «الشمس» و «الليل» و «الضحى» و «ألم نشرح» .

ص: 58

حتّى نقول لا يصلّيها.

وعن أبي أيّوب الأنصاريّ

ومن فوائد صلاة الضحى: أنّها تجزئ عن الصدقات التي تصبح على مفاصل الإنسان الثلاث مائة وستين مفصلا؛ كما أخرجه مسلم، وقال:«وتجزئ عن ذلك ركعتا الضّحى» .

قال الحافظ زين الدين العراقي: إنّه اشتهر بين العوامّ أنّ من صلّى الضحى ثمّ قطعها يعمى، فصار كثير منهم يتركها أصلا لذلك!! وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنّه ممّا ألقاه الشيطان على ألسنتهم ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما إجزاؤها عن تلك الصّدقات. وكذا اشتهر هذا القول بين النساء فتوهّمن أنّ تركها حالة الحيض والنفاس مما يقطعها فتركنها من أصلها؛ وقلن إنّما تصلي الضحى المرأة المنقطعة «1» . انتهى «جمع الوسائل» .

(حتّى نقول) - أي: في أنفسنا، أو يقول بعضنا لبعض- (: لا يصلّيها) ، أي: لا يعود لصلاتها أبدا لنسخها، أو اختلاف اجتهاده فيها.

والحاصل: أنه كان يحبّها، فكان يواظب عليها أيّاما؛ ويتركها أحيانا للخوف من اعتقاد فرضيّتها، وهذا الحديث قد عورض بحديث مسلم أنّه كان إذا صلّى صلاة أثبتها، وقد صلّى مرة الضحى بعد صلاة العصر؛ فلم يتركه. قال البيهقي: وهذا من خصائصه. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج أبو داود، وابن ماجه، والترمذي؛ في «الشمائل» - باختلاف في الألفاظ، وهذا لفظ «الشمائل» -:(عن أبي أيّوب) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار (الأنصاريّ) الخزرجي النجّاري المدني الصحابي الجليل. شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة مهاجرا،

(1) أي: الآيسة.

ص: 59

رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشّمس، فقلت: يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟ فقال: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس،

وأقام عنده شهرا حتى بنيت مساكنه ومسجده.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وخمسون حديثا؛ اتفق البخاري ومسلم على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة.

روى عنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد الجهني، وابن عبّاس، وعبد الله بن يزيد الخطمي؛ وكلّهم صحابة. وسعيد بن المسيّب، وسالم بن عبد الله، وعروة بن الزّبير، وعطاء بن يزيد الليثي، وعبد الله بن حنين، وخلائق سواهم.

توفي بأرض الروم غازيا سنة: خمسين- وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثنتين وخمسين- وقبره بالقسطنطينية (رضي الله تعالى عنه.

أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدمن) - من الإدمان بمعنى المداومة؛ أي: يلازم- (أربع ركعات عند زوال الشّمس؟!)، أي: عقبه لعدم التراخي كأنّها عنده، وهذه الصلاة هي سنّة الزوال، وقيل: سنّة الظهر القبلية. ويبعد الأوّل التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلم واظب على شيء من السنن بعد الزوال، إلّا على راتبة الظهر.

(فقلت) - أي: قال أبو أيّوب الأنصاري-: (يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟!) ؛ أي: تديمها، والقصد الاستفهام عن حكمة ذلك.

(فقال) ؛ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس) ؛ أي: لصعود الطاعة ونزول الرحمة، كما جاء في حديث البزار عن ثوبان أنّه صلى الله عليه وسلم كان

ص: 60

فلا ترتج حتّى يصلّى الظّهر، فأحبّ أن يصعد لي في تلك السّاعة خير» ؛ قلت: أفي كلّهنّ قراءة؟ قال: «نعم» ، قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟ قال: «لا» .

يستحبّ أن يصلّي بعد نصف النهار، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله؛ أراك تستحبّ الصلاة هذه الساعة؟! فقال: «تفتح فيها أبواب السّماء، وينظر الله إلى خلقه بالرّحمة، وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصّلاة والسّلام» . انتهى «ملّا علي قاري» .

(فلا ترتج) - بضمّ التاء الأولى، وفتح الثانية؛ بينهما راء ساكنة وآخره جيم مخففة-؛ أي: لا تغلق (حتّى يصلّى الظّهر) ؛ أي: صلاة الظهر. (فأحبّ أن يصعد) - بفتح أوله ويجوز ضمّه- أي: يطلع ويرفع (لي في تلك السّاعة خير» ) أي: عمل خير من النوافل؛ زيادة على ما كتب ليدلّ على كمال العبودية.

واستشكل هذا بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلّا بعد صلاة الصبح، ويبعد أنّ العمل يصعد قبل صعودهم!! وقد يراد بالصعود القبول.

(قلت) أي: - للنبي صلى الله عليه وسلم (: أفي كلّهنّ قراءة؟!) ؛ أي: قراءة سورة غير الفاتحة، وإلّا! فالنفل لا يصحّ بدون الفاتحة، كما هو معلوم.

(قال: «نعم» . قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟)، أي: بين الركعتين الأوليين والركعتين الآخريين! (قال: «لا» ) . أي ليس فيهن تسليم فاصل.

وبهذا استدلّ من جعل صلاة النهار أربعا أربعا. ويمكن أن يقال: المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أنّ الأفضل مثنى مثنى؛ ليلا ونهارا، لخبر أبي داود وغيره:«صلاة اللّيل والنّهار مثنى مثنى» . وبه قال الأئمة الثلاثة. وقال أبو حنيفة: الأفضل أربعا أربعا مطلقا، ووافقه صاحباه في النهار؛ دون الليل.

وهذا الحديث وما في معناه حجّة لهم. انتهى «مناوي وباجوري» .

ص: 61

ومعنى (لا ترتج) : لا تغلق.

وعن أمّ هانئ رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل، فسبّح- أي: صلّى

(ومعنى «لا ترتج» ) - بضم المثناة الفوقية الأولى وفتح الثانية وتخفيف الجيم- (لا تغلق) ؛ ذكره شرّاح «الشمائل» .

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه- باختلاف في الألفاظ-: كلّهم

(عن أمّ هانئ) - بالهمزة-: فاختة بنت أبي طالب (رضي الله تعالى عنها؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة)

لا يعارضه رواية الشيخين وغيرهما عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح؛ فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب

الحديث. لاحتمال تعدّد الواقعة؛ فمرّة كان في بيتها، ومرّة ذهبت له، أو كان في بيتها في ناحية عنها وعنده فاطمة، فمجيئها له لا ينفي كونه في بيتها، وكان ذهابها إليه لشكوى أخيها عليّ، إذ أراد أن يقتل من أجارته.

لكن وقع في «الموطأ» ومسلم؛ من طريق أبي مرة؛ عن أمّ هانئ «أنّها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل» .

ويجمع بينهما بأن ذلك تكرّر منه. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكّة؛ وكانت هي في بيت آخر بمكّة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل. فيصحّ القولان.

فعلى هذا يكون لها بيتان أحدهما كان صلى الله عليه وسلم سكن فيه، والآخر سكناها، فالإضافة باعتبار مالكيّتها. انتهى. «جمع الوسائل ومناوي» .

(فاغتسل) أخذ منه الشافعية أنّه يسنّ لمن دخل مكة أن يغتسل أوّل يوم لصلاة الضحى؛ تأسّيا به صلى الله عليه وسلم. (فسبّح؛ أي: صلى) ؛ من باب تسمية الكلّ باسم

ص: 62

ثمان ركعات- ما رأيته صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة قطّ أخفّ منها، غير أنّه كان يتمّ الرّكوع والسّجود.

البعض، لاشتمال الصلاة على التسبيح، وقد يطلق التسبيح على صلاة التطوّع على أنّ رواية «الصحيحين» : فصلّى (ثمان) منسوب إلى الثّمن، لأنّه الجزء الذي صيّر السبعة ثمانية؛ فهو ثمنها، ثم فتحوا أوّله، لأنّهم يغيّرون في النسبة، وحذفوا منها إحدى ياءي النسب وعوّضوا منها الألف، وقد تحذف منه الياء، ويكتفى بكسر النون، أو يفتح تخفيفا. كذا حقّقه العلّامة الكرماني. انتهى. «مناوي وملّا علي قاري»

(ركعات) زاد ابن خزيمة في روايته؛ عن أمّ هانئ: «فسلّم من كلّ ركعتين» وفيه ردّ على من تمسّك به في صلاتها موصولة، سواء صلّى ثمان ركعات؛ أو أقل.

ولمسلم أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى في بيتها عام الفتح ثمان ركعات في ثوب واحد؛ قد خالف بين طرفيه (: ما رأيته)، أي: النبي صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة قطّ) ؛ أي: أبدا (أخفّ منها) أي: من تلك الصلاة التي صلّاها صلى الله عليه وسلم.

زاد في رواية مسلم: لا أدري أقيامه فيها أطول؛ أم ركوعه؛ أم سجوده!!.

ولا يؤخذ من هذا الحديث ندب التخفيف في صلاة الضحى؛ خلافا لمن أخذه، لأنّه لا يدلّ على أنّه واظب على ذلك، بخلافه في سنة الفجر.

بل ثبت أنّه طوّل في صلاة الضحى؛ كما رواه ابن أبي شيبة. وإنّما خفّفها يوم الفتح!! لاشتغاله بمهمّاته.

(غير أنّه) - نصب على الاستثناء-، ولعلّه لما كان ينشأ من قولها «ما رأيته صلّى صلاة قطّ أخفّ منها» توهّم أنه لم يتمّ الركوع والسجود؛ دفعت ذلك التوهّم بأنّه صلى الله عليه وسلم (كان يتمّ الرّكوع والسّجود) يعني: لا يخفّفهما جدّا، وإلّا فهو يتمّ سائر الأركان مع التخفيف.

ص: 63

[وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخفّ النّاس صلاة في تمام]«1» .

وعن أبي واقد اللّيثيّ رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخفّ النّاس صلاة على النّاس، وأطول النّاس صلاة لنفسه.

(و) أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» ، والترمذيّ، والنّسائي (عن أنس رضي الله تعالى عنه) قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخفّ النّاس) - لفظ رواية مسلم:

«من أخفّ الناس» - (صلاة) إذا صلّى إماما؛ لا منفردا، كما صرّح به الحديث الآتي عقبه.

(في تمام) للأركان. قيّد به!! دفعا لتوهّم من يفهم أنّه ينقص منها حيث عبّر ب «أخفّ» .

قال ابن تيمية: فالتخفيف الذي كان يفعله هو تخفيف القيام والقعود؛ وإن كان يتمّ الركوع والسجود ويطيلهما؛ فلذلك صارت صلاته قريبا من السواء.

وقال بعضهم: محمول على بعض الأحوال، وإلّا!! فقد ثبت عنه التطويل أيضا جدّا أحيانا، وفي رواية لمسلم أيضا: كان يوجز في الصلاة ويتمّ. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو يعلى بإسناد جيد؛ (عن أبي واقد) - بقاف مهملة- (اللّيثيّ) بمثلاثة بعد التحتية، واسمه: الحارث بن مالك المديني، شهد بدرا (رضي الله تعالى عنه) قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخفّ النّاس صلاة على النّاس) - يعني: المقتدين به- (وأطول النّاس صلاة لنفسه) ، ما لم يعرض ما يقتضي التخفيف؛ كما فعل في قصّة بكاء الصبي ونحوه.

(1) إضافة من الشارح.

ص: 64

وعن عبد الله بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في بيتي، والصّلاة في المسجد؟

قال: «قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد؛ إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» ؛ وفيه- كالذي قبله- أنّه يندب للإمام التخفيف من غير ترك شيء من الأبعاض والهيئات، لكن لا بأس بالتطويل برضاهم؛ إن انحصروا، كما استفيد من حديث آخر. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج ابن ماجه، والترمذي في «الشمائل» ؛

(عن عبد الله بن سعد) الأنصاري الحرامي- وقيل: القرشي الأموي- عمّ حرام بن حكيم، صحابيّ؛ نقل أنه شهد فتح القادسية، وكان يومئذ على مقدّمة الجيش.

روى عنه حرام بن حكيم وخالد بن معدان.

وزعم الخطيب: أن حرام بن حكيم هذا هو حرام بن معاوية الأنصاري، وأنّهما متّحدان!! وقد فرّق بينهما البخاريّ، والدارقطني، والعسكري وغيرهم.

انتهى «إصابة» . (رضي الله تعالى عنه؛ قال:

سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في بيتي؛ والصّلاة في المسجد؟!) ؛ أي:

أيّتهما أفضل، والمراد صلاة النفل (قال:«قد) : للتحقيق (ترى) : الرؤية بصرية، والخطاب لعبد الله بن سعد (ما أقرب بيتي من المسجد) أي: قد ترى كأقرب بيتي من المسجد (فلأن أصلّي في بيتي) الفاء: فصيحة، و «أن» مصدرية؛ أي: إذا كنت ترى ذلك؛ فلصلاتي في بيتي مع كمال قربه من المسجد (أحبّ إليّ من أن أصلّي) ؛ أي: من صلاتي (في المسجد) أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، ولتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشيطان- كما سيأتي-.

(إلّا أن تكون) الصلاة (صلاة مكتوبة» ) ؛ أي: مفروضة، فإنّ الأحبّ إليّ

ص: 65

أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، وتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشّيطان.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ البرد.. بكّر بالصّلاة، وإذا اشتدّ الحرّ.. أبرد بالصّلاة.

صلاتها في المسجد، لأنها من شعائر الإسلام، وقول (أي: لتحصل البركة للبيت وأهله) ؛ أي: بصلاة النفل فيه، (وتنزل الملائكة) لاستماع القرآن، (وليذهب عنه الشّيطان) ؛ بسبب وجود العبادة وعدم الغافلة.

ومعنى الحديث: أنّه مع كمال قرب بيتي من المسجد صلاتي في بيتي أحبّ إليّ من صلاتي في المسجد إلّا المكتوبة. وهو معنى حديث «الصحيحين» : «أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» . وفي «الصحيحين» : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتّخذوها قبورا» . وكذلك يستثنى من النفل ما تسنّ فيه الجماعة، والضحى، وسنّة الطواف، والإحرام، والاستخارة.. وغير ذلك ممّا هو مبيّن في الفروع. انتهى «مناوي» .

(و) أخرج البخاري والنّسائيّ؛ (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ البرد بكّر بالصّلاة) ؛ أي: بصلاة الظهر، يعني صلّاها في أوّل وقتها، وكلّ من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه.

(وإذا اشتدّ الحرّ أبرد بالصّلاة) ؛ أي: دخل بها في البرد، بأن يؤخّرها إلى أن يصير للحيطان ظلّ فيه يمشي قاصد الجماعة.

قال المناويّ: قال الإمام البخاريّ: يعني هنا صلاة الجمعة؛ قياسا على الظهر، لا بالنصّ؛ لأن أكثر الأحاديث تدلّ على الإبراد بالظهر، وعلى التبكير بالجمعة مطلقا، وقوله- أعني البخاري- «يعني الجمعة» !! يحتمل كونه قول التابعي مما فهم، وكونه من تفقّهه؛ فترجّح عنده إلحاقا بالظهر، لأنها إما ظهر

ص: 66

.........

وزيادة، أو بدل عن الظهر، لكنّ الأصحّ من مذهب الشافعي عدم الإبراد بها. انتهى.

وإنّما يسنّ الإبراد عند الشافعية بشروط: 1- كونه بصلاة الظهر، و 2- كونه في الحرّ الشديد، و 3- كونه بالبلد الحارّ، و 4- كونه لمن يصلّي جماعة، و 5- كونها تقام في موضع بعيد بأن يكون في مجيئه مشقّة تذهب الخشوع؛ أو كماله، و 6- كونهم يمشون إليها في الشمس.

فلا يسنّ الإبراد بالجمعة، ولا في غير شدّة الحرّ؛ ولو بقطر حار، ولا في قطر بارد؛ أو معتدل؛ وإن اتفق فيه شدّة حرّ، ولا لمن يصلي منفردا.

لكن اعتمد في «التحفة» و «النهاية» وغيرهما: أنّه يسنّ الإبراد لمنفرد يريد الصلاة في المسجد، ولا يسنّ الإبراد لمن يأتي من قرب، أو من بعد، لكن يجد ظلّا يمشي فيه، إذ ليس في ذلك كبير مشقّة.

وإذا سنّ الإبراد بالشروط المذكورة سنّ التأخير إلى حصول الظلّ الذي يقي طالب الجماعة من الشمس؛ وغايته نصف الوقت.

وهذا أحد المسائل المستثناة من قولهم «كلّ عبادة مؤقّتة فالأفضل تعجيلها أوّل الوقت» ، واستثنوا من ذلك فصولا؛ منها: الإبراد المذكور بشرطه، ومنها:

صلاة الضحّى أوّل وقتها طلوع الشمس، ويسنّ تأخيرها لربع النهار، ومنها: صلاة العيدين؛ يسنّ تأخيرها لارتفاع الشمس، ومنها: الفطرة أوّل وقتها غروب شمس ليلة العيد ويسنّ تأخيرها ليوم العيد، ورمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة والحلق كلّها يدخل وقتها بنصف ليلة النحر، ويستحبّ تأخيرها ليوم النحر.

وقد نظم هذه المستثنيات الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى؛ فقال:

أوّل الوقت في العبادة أولى

ما عدا سبعة أنا المستقري

الضّحى العيد فطرة ثمّ ظهر

حيث الابراد سائغ بالحرّ

وطواف الحجيج ثمّ حلاق

بعد حجّ ورمي يوم النّحر

ص: 67

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا.

وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه- وفي رواية: حزنه- أمر.. صلّى؛

(و) أخرج أبو نعيم في «أماليه الحديثية» ، والخطيب، وابن عساكر في «تاريخه» : كلّهم؛ (عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) - وإسناده حسن؛ كما في العزيزي- قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا) كيف؛ وهو أعلم الناس بالله، وأعرفهم به!! ولهذا قام في الصلاة حتّى تورّمت قدماه.

(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود؛ وسكت عليه (عن حذيفة) بن اليمان (رضي الله تعالى عنه) وعن والده «1» - وهو حديث صحيح؛ كما في العزيزي- قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه) - بحاء مهملة وزاي فموحدة مفتوحة مخففة- أي: هجم عليه، أو نزل به. (وفي رواية: حزنه) - بنون- (أمر) أي: أوقعه في الحزن، يقال: حزنني الأمر، وأحزنني الأمر؛ فأنا محزون. ولا يقال «محزن» .

(صلّى) ، لأن الصلاة معينة على دفع جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرّب إليه.

(1) يجدر التنبيه أن والده ليس اسمه «اليمان» ! وإنما هو لقب له «هامش الأصل» . واسمه العلم: حسيل.

ص: 68

أي: إذا نزل به همّ، وأصابه غمّ.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا.. لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين.

ومنه أخذ بعضهم ندب صلاة المصيبة؛ وهي ركعتان عقبها، وكان ابن عبّاس يفعل ذلك، ويقول: نفعل ما أمرنا الله به بقوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [153/ البقرة] . فينبغي لمن نزل به غمّ أن يشتغل بخدمة مولاه؛ من صلاة وذكر ونحوهما، فإنّه تعالى يفرّجه عنه. انتهى شروح «الجامع الصغير» .

قال في «النهاية» : معنى إذا حزبه أمر: (أي: إذا نزل به همّ) ؛ هو الكرب يحصل بسبب ما يتوقّع حصوله من أذى، (وأصابه غمّ) الكرب: يحصل للقلب بسبب ما حصل من الأذى، وقيل: هما بمعنى واحد، وقال بالفرق بينهما القاضي عياض وغيره. انتهى شرح «القاموس» .

(و) أخرج البيهقيّ في «سننه» ؛ (عن أنس) أي: ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم (رضي الله تعالى عنه) قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا) في سفره- لنحو استراحة؛ أو قيلولة؛ أو تعريس- (لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين) ؛ أي: نفلا غير الفريضة.

ويحتمل أنّ المراد به ركعتا الفرض؛ أي: الظهر مثلا مقصورة.

قال المناوي: قال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح السند معلول المتن؛ خرّجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة بلفظ «الظهر ركعتين» ، فظهر أنّ في رواية الأوّل وهما؛ أو سقوطا. والتقدير: حتى يصلّي الظهر ركعتين. وقد جاء صريحا في «الصحيحين» . انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى.

(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم في «الصلاة» وقال: على شرطهما؛ وأقرّه الذهبي، وقال العزيزي: إسناده صحيح-: كلّهم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:

ص: 69

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة؛ ليحافظوا عنه.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يفارق مصلّاه سواكه ومشطه.

وروى الإمام أحمد،

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة) .

قال ابن حجر: وحبّ المصطفى صلى الله عليه وسلم للشيء!! إما بإخباره للصحابي بذلك، وإما بالقرائن (ليحافظوا عنه) كيفية الصلاة المشتملة على فروض وأبعاض وهيئات؛ فيرشدون الجاهل وينبّهون الغافل.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي قال: (كان صلى الله عليه وسلم لا يفارق مصلّاه) موضع صلاته (سواكه) ؛ أي: آلة السواك (ومشطه) . ورمز له برمز الطبراني.

(وروى الإمام) الحافظ أبو عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي البغداديّ، الإمام البارع المجمع على جلالته وإمامته، وورعه وزهادته، وحفظه ووفور علمه، وسيادته.

خرج من مرو حملا، وولد ببغداد، ونشأ بها إلى أن توفّي بها، ودخل مكّة والمدينة المنورة، والشام، واليمن، والكوفة، والبصرة، والجزيرة.

سمع سفيان بن عيينة، ويحيى القطّان، ووكيعا، وابن مهدي، وعبد الرزاق، وخلائق.

وروى عنه شيخه عبد الرزاق، وعلي بن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة الرازي، وبقي بن مخلد الأندلسي، وخلائق قال أبو حاتم:

كان أحمد ابن حنبل بارع الفهم بمعرفة صحيح الحديث وسقيمه.

وكانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة: أربع وستين ومائة، وتوفي في ضحوة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة: إحدى وأربعين ومائتين، ودفن ببغداد، وقبره مشهور معروف يتبرّك به رحمه الله تعالى.

ص: 70

ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته.. استغفر (ثلاثا)، ثمّ قال:

(و) الإمام (مسلم) بن الحجاج في «كتاب الصلاة» ،

(و) الإمام (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني في «الصلاة» أيضا

(و) الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة (التّرمذيّ) نسبة إلى «ترمذ» : مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له «جيحون» وتقدّمت ترجمته.

(و) الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار (النّسائيّ) - بفتح النون والسين المهملة المخفّفة-؛ بعدها ألف ممدودة؛ أو مقصورة؛ منسوب إلى «نسا» مدينة بخراسان، قال بعضهم:

والنّسئيّ نسبة لنسإ

مدينة في الوزن مثل سبإ

(و) الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي «مولاهم» القزوينيّ المعروف بلقب (ابن ماجه) ؛ بسكون الهاء وصلا ووقفا لأنه اسم أعجمي، و «ماجه» لقب يزيد والد محمّد؛ لا جدّه كما في «القاموس» ، وقد تقدّمت ترجمته.

كلّهم رووه عن ثوبان مولى المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته) ؛ أي: سلّم منها (استغفر) ؛ أي: طلب المغفرة من ربّه تعالى (ثلاثا) من المرّات. زاد البزّار في روايته: «ومسح جبهته بيده اليمنى» .

قيل للأوزاعي- وهو أحد رواة الحديث-: كيف الاستغفار؟ قال: يقول «أستغفر الله.. أستغفر الله» .

قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ رحمه الله تعالى: استغفاره عقب الفراغ من الصلاة استغفار من رؤية الصلاة، أو للتشريع؛ تعليما لأمته، ويحتمل أن يكون لهما.

(ثمّ قال) ؛ بعد الاستغفار، والظاهر أنّ التراخي المستفاد من «ثمّ» غير مراد

ص: 71

«اللهمّ؛ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .

هنا: ( «اللهمّ؛ أنت السّلام) - أي: المختصّ بالتنزّه عن النقائص والعيوب لا غيرك- (ومنك السّلام) ؛ أي: الأمان والسلامة من النقائص لمن أردت له ذلك. (تباركت) ؛ أي: تعظّمت وتمجّدت (يا ذا الجلال والإكرام» ) ، لا تستعمل هذه الكلمة في غير الله تعالى. انتهى عزيزي على «الجامع» .

ص: 72