المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(حرف الكاف) ] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٣

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌[الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، وصومه، وقراءته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أذكار وأدعية]

- ‌[الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة]

- ‌[الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم]

- ‌(حرف الهمزة) ]

- ‌(حرف الباء) ]

- ‌(حرف التّاء) ]

- ‌(حرف الثّاء) ]

- ‌(حرف الجيم) ]

- ‌(حرف الحاء) ]

- ‌(حرف الخاء) ]

- ‌(حرف الدّال) ]

- ‌(حرف الذّال) ]

- ‌(حرف الرّاء) ]

- ‌(حرف الزّاي) ]

- ‌(حرف السّين) ]

- ‌(حرف الشّين) ]

- ‌(حرف الصّاد) ]

- ‌(حرف الضّاد) ]

- ‌(حرف الطّاء) ]

- ‌(حرف الظّاء) ]

- ‌(حرف العين) ]

- ‌(حرف الغين) ]

- ‌(حرف الفاء) ]

- ‌(حرف القاف) ]

- ‌(حرف الكاف) ]

- ‌(حرف اللّام) ]

- ‌فهرسة الجزء الثالث من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌(حرف الكاف) ]

[ ‌

(حرف الكاف) ]

(حرف الكاف) 169- «كفى بالمرء إثما.. أن يضيّع من يقوت» .

(حرف الكاف) 169- ( «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» ) ؛ أي، من يلزمه قوته ونفقته، لا سيّما الزّوجة!! فإنّ نفقتها متأكّدة، وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت؛ لتعليقه الإثم على تركه، لكن إنّما يتصور ذلك في موسر لا معسر!! فعلى القادر السّعي على عياله لئلّا يضيّعهم، فمع الخوف على ضياعهم هو مضطرّ إلى الطّلب لهم، لكن لا يطلب لهم إلّا قدر الكفاية؛ لأنّ الدّنيا بغيضة، وسؤال أوساخ النّاس قروح وخموش يوم القيامة.

قال بعضهم: والضّيعة: هي التّفريط فيما له غناء وثمرة إلى ألايكون له غناء ولا ثمرة. انتهى مناوي على «الجامع» .

والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في «الزّكاة» ، والبيهقي في «سننه» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي، وصحّحه الحاكم، وأقرّه الذّهبي، وقال في «الرياض» : إسناده صحيح. ورواه عنه أيضا النّسائي، وهو عند مسلم بلفظ:«كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوته» . انتهى. مناوي على «الجامع» .

قال في «الكشف» : والمشهور على الألسنة: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يعول» . بل هي رواية الحاكم؛ كما في «النجم» . انتهى.

قال المناوي: وسببه- كما في البيهقي- أنّ ابن عمرو كان ببيت المقدس فأتاه مولى له؛ فقال: أقيم هنا رمضان، قال: هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال:

لا، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول

فذكره. انتهى.

ص: 466

170-

«كفى بك إثما.. ألاتزال مخاصما» .

171-

«كفى بالدّهر واعظا، وبالموت مفرّقا» .

170-

( «كفى بك إثما ألاتزال مخاصما!» ) ؛ أي: تكثر المخاصمة مع الخلق؛ لأنّ كثرة المخاصمة تفضي غالبا فيما يذمّ صاحبه، فالمستمرّ على الخصام الماهر فيه من أبغض الخلق إلى الله تعالى، وقد ورد التّرغيب في ترك المخاصمة، ففي أبي داود؛ عن أبي أمامة رفعه:«أنا زعيم ببيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء؛ وإن كان محقّا، وأبغض العباد إلى الله تعالى الألدّ الخصم» ؛ كما في «الصحيحين» .

فإن قيل: لا بد من الخصومة لاستيفاء الحقوق.

فالجواب ما قال الغزالي: إنّ الذّم المتأكّد إنّما هو خاصّ بباطل أو بغير علم؛ كوكلاء القاضي.

وقال بعض العارفين: إذا رأيت الرّجل لجوجا مرائيا معجبا برأيه فقد تمّت خسارته. انتهى مناوي على «الجامع» مرموزا له برمز التّرمذي؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وقال: غريب. وخرّجه عنه البيهقي والطّبراني، قال ابن حجر: وسنده ضعيف. انتهى «مناوي» .

171-

( «كفى بالدّهر) ؛ أي: كفى تقلّبه بأهله (واعظا) مذكّرا ومنبّها على زوال الدّنيا، ومرقّقا مليّنا للقلوب، (وبالموت مفرّقا» ) - بشدّ الرّاء وكسرها- لأنّ تفريقه لا عود بعده إلّا في الآخرة؛ بخلاف فرقة غير الموت.

والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» و «كنوز الحقائق» وقالا: أخرجه ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ، وكذا العسكري في «الأمثال» كلاهما؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:

جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جاري يؤذيني! فقال: «اصبر على أذاه وكفّ عنه أذاك» . فما لبثت إلّا يسيرا إذ جاءه فقال له: مات!!

فذكره.

ص: 467

172-

«كلّ آت.. قريب» .

وهذا من بديع حكمته صلى الله عليه وسلم ووجيزها؛ لأنّه لمّا علم أنّ أسباب العظات كثيرة؛ من العبر والآيات، وطوارق الآفات، وسوء عواقب الغفلات، ومفارقة الدّنيا وما بعد الممات؛ قال في عظة الموت كفاية عن جميع ذلك، لأنّ الموت ينزعه عن جميع محبوباته في الدّنيا ومخوفاته؛ إمّا إلى الجنّة، وإمّا إلى ما يكرهه، وذلك يوجب المنع من الرّكون إلى الدّنيا، والاستعداد إلى الآخرة وترك الغافلة. انتهى «مناوي» .

قال: في «الكشف» : في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره.

172-

( «كلّ آت) ؛ من الموت والقيامة والحساب والوقوف (قريب» ) ، وأنت سائر على مراحل الأيّام واللّيالي إليه، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7)[المعارج] .

فالجاهل يراه بعيدا لعمى قلبه، والمؤمن الكامل يراه بنور إيمانه قريبا؛ كأنّه يعاينه؛ فبذل دنياه لآخراه، وسلّم نفسه لمولاه، فلا تغرّنّك الدّنيا، فجديدها عمّا قليل يبلى، ونعيمها يفنى، ومن لم يتركها اختيارا؛ فعمّا قريب يتركها اضطرارا، ومن لم تزل نعمته في حياته زالت بمماته.

قال ابن عطاء الله السّكندري: لا بد لهذا الوجود أن تنهدم دعائمه، وأن تسلب كرائمه. فالعاقل من كان بما هو أبقى أوثق منه بما هو يفنى.

وقال بعض الحكماء: من كان يؤمّل أن يعيش غدا فهو يؤمل أن يعيش أبدا.

قال الماوردي: ولعمري؛ إنّه صحيح! إذ كل يوم غدا، فإذا يفضي به الأمل إلى الفوت من غير درك، ويؤديه الرّجاء إلى الإهمال بغير تلاف.

وقال الحكماء: لا تبت على غير وصيّة، وإن كنت من جسمك في صحّة، ومن عمرك في فسحة، فإنّ الدّهر خائن، وكل ما هو آت كائن. انتهى «مناوي» .

ص: 468

173-

«كلّ الصّيد في جوف الفراء» .

والحديث ذكره في «الدّرر» للسّيوطي، وقال: أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث. وذكره في «الكشف» ، وقال: رواه ابن مردويه؛ عن ابن مسعود مرفوعا وموقوفا، ولفظه:«ألا لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إنّ كلّ ما هو آت قريب، ألا إنّما البعيد ما ليس بات» .

وروى البيهقي في «الأسماء والصفات» ، عن ابن شهاب مرسلا: إنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب: «كلّ ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخلف لأمر أحد، ما شاء الله لا ما شاء النّاس، يريد الله أمرا ويريد النّاس أمرا، وما شاء الله كائن؛ ولو كره النّاس، لا مبعّد لما قرّب الله؛ ولا مقرّب لما بعّد الله، ولا يكون شيء إلّا بإذن الله» .

وعزاه في «المقاصد» للقضاعي؛ عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: تلقفت هذه الخطبة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرها، وفيها:«كلّ ما هو آت قريب» . انتهى كلام «الكشف» .

وهذه الجملة موجودة في «الجامع الصّغير» أثناء حديث طويل أوله: «أمّا بعد؛ فإنّ أصدق الحديث كتاب الله»

الخ.

173-

( «كلّ الصّيد في جوف الفراء» ) - بفتح الفاء، مقصور مهموز-: حمار الوحش، هذا خاطب به النّبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حين جاءه مسلما، بالأبواء بين مكّة والمدينة والنّبي صلى الله عليه وسلم سائر إلى فتح مكّة؛ بعد أن كان عدوّا له هجّاء، كثير الهجاء بعد البعثة، وكان يألفه قبلها، فلمّا أسلم كان لا يرفع رأسه إلى المصطفى حياء منه صلى الله عليه وسلم.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّه، ويشهد له بالجنّة، ويقول:«أرجو أن يكون خلفا من حمزة!» رضي الله عنه.

فكأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الحمار الوحشيّ من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنّك أعظم أهلي وأمسّهم رحما بي، ومن أكرم من يأتيني، وكلّ

ص: 469

.........

دونك!! قال ذلك ملاطفة له؛ لأنّه استأذن فلم يأذن له، وقال: إنّه هتك عرضي.

والحديث أخرجه الرّامهرمزي الإمام؛ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الفارسي في كتاب «الأمثال» من طريق ابن عيينة، عن وائل بن مازن، عن نصر بن عاصم الليثي؛ قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقرشي وأخّر أبا سفيان، ثم أذن له فقال:

ما كدت أن تأذن لي حتى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي وبكى، فقال:

«وما أنت وذاك يا أبا سفيان؛ إنّما أنت كما قال الأول: كلّ الصّيد في جوف الفراء» . وسنده جيد، لكنّه مرسل، لأنّ نصر بن عاصم تابعيّ وسط.

ونحوه عند العسكري، ولكنّه قال:«كلّ الصّيد في جوف الفراء- أو: جنب الفراء-» بالشّكّ.

قال في «المقاصد» : وقد أفردت فيه جزآ فيه نفائس.

والجلهمتان: تثنية الجلهمة- بضمّ الجيم وفتحها-: حافّة الوادي وناحيته.

قال الدّميري في «حياة الحيوان» : الفراء: الحمار الوحش. والجمع:

الفراء، مثل جبل وجبال، وفي المثل «كل الصّيد في جوف الفراء» ؛ قاله النّبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث، وقيل: لأبي سفيان بن حرب.

وقال السّهيلي: الصّحيح أنّه قاله لأبي سفيان بن حرب يتألّفه به؛ وذلك لأنّه استأذن على النّبي صلى الله عليه وسلم فحجب قليلا ثمّ أذن له، فلما دخل؛ قال للنّبي صلى الله عليه وسلم:

ما كدت أن تأذن لي حتّى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي!!، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا سفيان؛ أنت كما قيل- كلّ الصّيد في جوف الفراء-» . ثمّ قال:

وأصل هذا المثل أنّ جماعة ذهبوا للصّيد؛ فصاد أحدهم ظبيا، والآخر أرنبا، والآخر حمار وحش، فاستبشر الأوّلان بما نالا؛ فقاله الثالث؛ يعني أنّ ما رزقته يشتمل على ما عندكما؛ لأنّه أعظم، ثمّ اشتهر هذا المثل في كلّ شيء كان جامعا لغيره، كما قال القائل:

يقولون: كافات الشّتاء كثيرة

وما هي إلّا واحد غير مفترى

ص: 470

174-

«كلّكم.. راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .

175-

«كلّ المسلم.. على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه» .

إذا صحّ كاف الكيس فالكلّ حاصل

لديك وكلّ الصّيد في جوف الفرا

انتهى «كشف» .

174-

( «كلّكم راع) ؛ أي: حافظ مؤتمن، ملتزم بصلاح ما قام عليه، وهو ما تحت نظره من الرّعاية؛ وهي الحفظ، يعني: كلكم ملتزم بحفظ ما يطالب به؛ من العدل إن كان واليا، ومن عدم الخيانة إن كان موليا عليه؛

(وكلّكم مسؤول عن رعيّته» ) في الآخرة، فكلّ من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلّقات ذلك، فإن وفى ما عليه من الرّعاية! حصل له الحظّ الأوفر والجزاء الأكبر، وإلّا! طالبه كل أحد من رعيّته بحقّه في الآخرة.

ويدخل في ذلك الولاة، والمنفق على زوجة أو قريب أو رفيق أو بهيمة؛ هل قام بحقّها أم لا!؟

والرّعاية تختلف؛ فالسّلطان أكثر مسؤولية من غيره، فإنّ عليه حفظ جميع رعيّته والذّب عنهم، وكذا نوّابه، فكلّ عليه حفظ ما تحت يده، وهكذا الزّوج ونحوه، فالرّاعي غير مطلوب لذاته؛ بل أقيم لحفظ ما استرعاه، ويشمل المنفرد؛ إذ يصدق عليه أنّه راع في جوارحه بفعل المأمور وترك المنهي. انتهى مناوي على «الجامع» .

والحديث رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذي؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

175-

( «كلّ) ؛ مبتدأ (المسلم)(- فيه ردّ لزاعم أنّ كلّا لا تضاف إلّا إلى نكرة (على المسلم)(متعلق بالخبر، وهو قوله (حرام: دمه) - بالرّفع، وكذا ما بعده بيان لكل؛ أي: إراقة دمه أو قتله بلا حق، (وماله) ؛ أي: أخذ ماله بنحو غصب، (وعرضه» ) ؛ أي: هتك عرضه بالتّكلم فيه بما يشينه بلا

ص: 471

176-

«كلّ معروف.. صدقة» .

177-

«كلّ مؤذ.. في النّار» .

استحقاق؛ والعرض: موضع المدح والذّمّ من الإنسان.

وأدلّة تحريم هذه الثّلاثة مشهورة معروفة من الدّين بالضّرورة، وجعلها كلّ المسلم وحقيقته! لشدّة اضطراره إليها؛ فالدّم فيه حياته، ومادّته المال، فهو ماء الحياة الدّنيا، والعرض به قيام صورته المعنويّة.

واقتصر على هذه الثّلاثة؛ لأنّ ما سواها فرع عنها وراجع إليها؛ لأنّه إذا قامت الصّورة البدنيّة والمعنويّة فلا حاجة لغيرهما؛ وقيامهما إنّما هو بتلك الثّلاثة.

ولكون حرمتها هي الأصل والغالب لم يحتج لتقييدها بغير حقّ.

فقوله في رواية «إلّا بحقّها» إيضاح وبيان.

وهذا حديث عظيم الفوائد كثير العوائد مشير إلى المبادئ والمقاصد. انتهى مناوي على «الجامع» .

والحديث أخرجه مسلم، وأبو داود في «الأدب» ، وابن ماجه في «الزهد» .

176-

( «كلّ معروف) ؛ أي: عرف في الشّرع بأنّه قربة؛ من قول أو فعل، (صدقة» ) ؛ أي: كلّ ما يفعل من أعمال البرّ والخير فثوابه كثواب من تصدّق بالمال؛ وسمّيت صدقة؛ لأنّها من تصديق الوعد بنفع الطّاعة عاجلا وثوابها آجلا.

وفيه إشارة إلى أنّ الصّدقة لا تنحصر في المحسوس، فلا تختصّ بأهل اليسار مثلا، بل كلّ أحد يمكنه فعلها غالبا بلا مشقّة. انتهى «مناوي» وغيره.

والحديث أخرجه الإمام أحمد بسند رجاله رجال «الصحيح» ، والبخاريّ في «صحيحه» ؛ «باب الأدب» كلاهما؛ عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه الإمام أحمد ومسلم في «الزّكاة» ، وأبو داود في «الأدب» كلهم؛ عن حذيفة بن اليمان، وهو حديث متواتر، رواه نحو ستة عشر صحابيّا رضي الله عنهم.

177-

( «كلّ مؤذ في النّار» ) ؛ يعني: كلّ ما يؤذي؛ من نحو حشرات

ص: 472

178-

«كلّ.. ميسّر لما خلق له» .

وسباع، يكون في نار جهنّم عقوبة لأهلها؛ وقيل: هو وعيد لمن يؤذي النّاس، أي: كل من آذى الناس في الدّنيا من النّاس أو من غيرهم؛ يعذّبه الله في تلك الدّار في نار الآخرة. ذكره الزّمخشري والخطّابي. انتهى «مناوي» .

والحديث أخرجه الخطيب في ترجمة عثمان الأشج؛ المعروف ب «ابن أبي الدّنيا» ، وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» كلاهما؛ عن علي، «أمير المؤمنين» ، قال الخطيب: وعثمان عندي ليس بشيء. انتهى. وأورده الذّهبي في «المتروكين» ، وقال: خبر غريب. انتهى مناوي على «الجامع» ، وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن. اه.

178-

( «كلّ) - بالتّنوين-؛ أي: كلّ إنسان (ميسّر) - بضمّ الميم، وبالمثنّاة التّحتيّة، والمهملة الثّقيلة؛ المفتوحتين- وفي رواية يسّر (لما خلق له» ) ؛ أي: مهيّأ لما خلق لأجله، قابل له بطبعه، أي: فالأمر مغيب عنّا، فلا نعرف النّاجي من غيره، إلّا أنّ الشّارع نصب لنا دليلا على ذلك، فمن رأيناه منكبّا على الطّاعة علمنا أنّه ناج، وعكسه بعكسه.

وليس المراد بالتّيسير هنا ما يقابل التّعسير!! وقول بعضهم: «معناه كلّ موفّق لما خلق لأجله» غير سديد؛ لأنّ التّوفيق خلق قدرة الطّاعة في العبد؛ وليس المعنى هنا مقصورا عليه، بل المراد التّهيئة لما خلق لأجله من خير وشرّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)[الشمس] . انتهى مناوي على «الجامع» ، وحفني على «الجامع» .

قال العزيزي: وفي الحديث إشارة إلى أنّ المال محجوب عن المكلّف، فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به، فإنّ عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبا، وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك؛ كما في حديث ابن مسعود وغيره، لكن لا اطّلاع له على ذلك، فعليه أن يبذل جهده ويجاهد نفسه في عمل الطّاعة، ولا يترك اتّكالا على ما يؤول إليه أمره، فيلام على ترك المأمور، ويستحقّ العقوبة. انتهى.

ص: 473

179-

«كلّموا النّاس.. بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون» .

فائدة: قال الرّاغب: لما احتاج النّاس بعضهم لبعض سخّر كلّ واحد منهم لصناعة ما يتعاطاه، وجعل بين طبائعهم وصنائعهم مناسبات خفيّة واتّفاقات سماويّة؛ ليؤثر الواحد بعد الواحد حرفة ينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه لمزاولتها، فإذا جعل إليه صناعة أخرى ربّما وجده مستبلدا فيها، متبرّما منها، سخّرهم الله لذلك؛ لئلّا يختاروا كلهم صناعة واحدة، فتبطل الأقوات والمعاونات، ولولا ذلك ما اختاروا من الأسماء إلّا أحسنها، ومن البلاد إلا أطيبها، ومن الصّناعات إلا أجملها، ومن الأفعال إلّا أرفعها، ولتنازعوا فيه، لكنّ الله بحكمته جعل كلّا منهم في ذلك مخيّرا.

فالنّاس؛ إمّا راض بصنعته لا يبغي عنها حولا؛ كالحائك الّذي رضي بصناعته ويعيب الحجّام الّذي يرضى بصناعته، وبذلك انتظم أمرهم وكُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)[المؤمنون] . وإمّا كاره لها يكابدها مع كراهته إيّاها، كأنّه لا يجد عنها بدلا. وعلى ذلك دلّ هذا الحديث: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [32/ الزخرف] .

فالتّباين والتّفرق والاختلاف سبب الالتئام والاجتماع والاتّفاق، فسبحان الله ما أحسن صنعه!. انتهى مناوي على «الجامع» .

والحديث ذكره في «الجامع الصّغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد، والشّيخين: البخاري ومسلم، وأبي داود؛ عن عمران بن حصين.

والتّرمذي؛ عن عمر بن الخطّاب.

والإمام أحمد؛ عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنهم. أجمعين.

179-

( «كلّموا النّاس بما يعرفون) ؛ أي: بما يفهمونه وتدركه عقولهم، لأنّ العقول لا تحتمل إلّا على قدر طاقتها، فلها حد محدود لا تتعدّاه، وشرّ العلم الغريب؛ (ودعوا ما ينكرون» ) ؛ أي: ما يشتبه عليهم فهمه؛ لأنّ السّامع لما لا يفهمه قد يعتقد استحالته جهلا؛ فلا يصدق بوجوده.

ص: 474

180-

«كما تدين.. تدان» .

فأفاد أنّ المتشابه لا ينبغي ذكره عند العامّة.

ويؤخذ من ذلك طلب تعليم العلوم السّهلة أوّلا لقاصر العقل.

وينبغي للمدرّس أن يكلّم كلّ طالب على قدر فهمه وعقله، فيجيبه بما يحتمله حاله.

ومن اشتغل بعمارة أو تجارة أو مهنة؛ فحقّه أن يقتصر به من العلم على قدر ما يحتاج إليه من هو في رتبته من العامّة، وأن يملأ نفسه من الرّغبة والرّهبة الوارد بهما القرآن. انتهى مناوي على «الجامع» .

والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» باللّفظ الّذي أورده المصنّف مرموزا له برمز البخاري.

وفي «الكشف» أنه في «صحيح البخاري» ؛ عن علي موقوفا بلفظ: «حدّثوا النّاس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله!» .

ونحوه ما في مقدمة «صحيح مسلم» ؛ عن ابن مسعود قال: «ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة» . انتهى. ذكره في الكلام على حديث: «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» .

180-

( «كما تدين تدان» ) ؛ أي: كما تفعل تجازى بفعلك، وكما تفعل يفعل معك، سمّي الفعل المبتدأ جزاء، والجزاء هو الفعل الواقع بعده؛ ثوابا كان أو عقابا. للمشاكلة، كما في وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [40/ الشورى] .

مع أنّ الجزاء المماثل مأذون فيه شرعا؛ فيكون حسنا لا سيّئا!!

قال الميداني في ذلك: ويجوز إجراؤه على ظاهره، أي: كما تجازي أنت النّاس على صنيعهم تجازى أنت على صنيعك، والكاف في محلّ نصب للمصدر؛ أي: تدان دينا مثل دينك.

ص: 475

.........

والقصاص إن لم يكن فيك؛ أخذ من ذرّيّتك، ولهذا قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9)[النساء] .

فاتّق الله في أولاد النّاس يحفظك في ذرّيتك، وييسّر لهم ببركة تقواك ما تقرّ به عينك بعد موتك، وإن لم تتّق الله فيهم؛ فأنت مؤاخذ بذلك في نفسك وذرّيّتك، وما فعلته كله يفعل بهم، وهم وإن كانوا لم يفعلوا؛ لكنهم تبعا لأولئك الأصول، وناشئون عنهم وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف] .

والحديث ذكره في «كشف الخفا» للعجلوني، وقال: رواه أبو نعيم، والديلمي؛ عن ابن عمر رفعه في حديث بلفظ:«البرّ لا يبلى، والذّنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، فكن كما شئت، فكما تدين تدان» .

وأورده ابن عديّ أيضا في «الكامل» وفي سنده ضعيف.

قال في «اللآلئ» : رواه البيهقي في «كتاب الزّهد» ، و «الأسماء والصّفات» ؛ عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذّنب لا ينسى، والبرّ لا يبلى، والدّيّان لا يموت، وكما تدين تدان» . ثمّ قال في «اللآلئ» : هذا مرسل.

ورواه ابن عديّ في «الكامل» من حديث محمد بن عبد الملك.

وأخرجه عبد الرّزّاق في «جامعه» ؛ عن أبي قلابة رفعه مرسلا.

ووصله أحمد في «الزّهد» ، لكن جعله من قول أبي الدّرداء.

ولابن أبي عاصم في «السّنّة» بسند فيه وضّاع؛ عن أنس في حديث أنّه قال:

«يا موسى، كما تدين تدان» .

وفي «الحلية» ؛ عن يحيى بن أبي عمرو الشّيباني؛ أنّه قال: مكتوب في «التّوراة» : كما تدين تدان، وبالكأس الذي تسقي به تشرب. وفي التنزيل مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [123/ النساء] .

ص: 476

181-

«كما تكونوا.. يولّى عليكم» .

وفي النجم؛ عن فضالة بن عبيد: مكتوب في «الإنجيل» : [كما تدين تدان، وبالمكيال الّذي تكيل تكتال] . انتهى كلام «الكشف» . وفي «العزيزي» : إنّه حديث حسن لغيره.

181-

( «كما تكونوا يولّى عليكم» ) ؛ فإذا اتّقيتم الله وخفتم عقابه ولّى عليكم من يخافه فيكم، وعكسه.

وفي بعض الكتب المنزلة: [أنا الله؛ ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة؛ فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطّفهم عليكم] .

ومن دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ لا تسلّط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا» .

والرواية بحذف النّون وإثبات الياء في «يولّى» ، و «ما» مصدريّة؛ أعملت حملا على «أن» المصدريّة، كما أهملت «أن» حملا على «ما» .

وذكر السّيوطي في «فتاواه الحديثيّة» : أنّ حذف النّون على لغة من يحذفها بلا ناصب ولا جازم؛ كما في حديث: «لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا» . أو أنّ حذفها على رأي الكوفيّين الّذي ينصبون «كلّما» ، أو على أنّه من تغيير الرواة، لكن هذا بعيد جدا. انتهى.

وأنشد بعضهم في المقام:

بذنوبنا دامت بليّتنا

والله يكشفها إذا تبنا

والحديث ذكره العجلوني في «الكشف» ؛ وقال: رواه الحاكم، ومن طريقه الديلمي؛ عن أبي بكرة مرفوعا بلفظ:«يولّى عليكم أو يؤمّر عليكم» .

وأخرجه البيهقي بلفظ «يؤمّر عليكم» بدون شكّ، وبحذف «أبي بكرة» .

فهو منقطع.

ص: 477

182-

«كن في الدّنيا كأنّك غريب،

وأخرجه ابن جميع في «معجمه» ، والقضاعي؛ عن أبي بكرة بلفظ:«يولّى عليكم» بدون شكّ، وفي سنده مجاهيل.

ورواه الطّبراني بمعناه؛ عن الحسن أنّه سمع رجلا يدعو على الحجّاج، فقال له: لا تفعل، إنّكم من أنفسكم أتيتم؛ إنّا نخاف إن عزل الحجّاج أو مات أن يتولّى عليكم القردة والخنازير، فقد روي:«إنّ أعمالكم عمّالكم، وكما تكونوا يولّى عليكم» .

وقال «النجم» : روى ابن أبي شيبة، عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [129/ الأنعام] . ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد النّاس أمّر عليهم شرارهم.

وروى البيهقي؛ عن كعب قال: إنّ لكل زمان ملكا، يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم؛ بعث عليهم مصلحا، وإذا أراد هلاكهم؛ بعث عليهم مترفيهم.

وله عن الحسن: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى عليه الصلاة والسلام: سل لنا ربّك يبيّن لنا علم رضاه عنا، وعلم سخطه، فسأله، فقال: أنبئهم أنّ رضائي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وأنّ سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم. انتهى ملخصا.

182-

( «كن في الدّنيا كأنّك غريب) ؛ أي: عش بباطنك عيش الغريب عن وطنه بخروجك عن أوطان عاداتها ومألوفاتها؛ بالزّهد في الدّنيا، والتّزوّد منها للآخرة، فإنّها الوطن؛ أي: إنّ الدّار الآخرة هي دار القرار، كما أنّ الغريب حيث حلّ نازع لوطنه، ومهما نال من الطّرف أعدّها لوطنه، وكلما قرب مرحلة سرّه، وإن تعوّق ساعة ساءه، فلا يتّخذ في سفره المساكن والأصدقاء، بل يجتزئ بالقليل قدر ما يقطع به مسافة عبوره؛ لأنّ الإنسان إنّما وجد ليمتحن بالطّاعة؛ فيثاب، أو بالإثم؛ فيعاقب لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [7/ هود] ، فهو كعبد أرسله سيّده في

ص: 478

أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور» .

حاجة، فهو إمّا غريب أو عابر سبيل، فحقّه أن يبادر لقضائها ثمّ يعود إلى وطنه.

وهذا أصل عظيم في قصر الأمل، وألايتّخذ الدّنيا وطنا ومسكنا، بل يكون فيها على جناح سفر مهيّأ للرّحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا جميع الأمم.

وفيه حثّ على الزّهد والإعراض عن الدّنيا، والغريب المجتهد في الوصول إلى وطنه لا بدّ له من مركب؛ وزاد؛ ورفقاء؛ وطريق يسلكها.

فالمركب: نفسه، ولا بد من رياضة المركوب ليستقيم للرّاكب، والزّاد:

التقوى، والرّفقاء: الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين و [الطريق:] الصّراط المستقيم، وإذا سلك الطّريق لم يزل خائفا من القطّاع؛ «إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع» . انتهى مناوي على «الجامع» .

(أو) بل (عابر سبيل) طريق قال الطّيبي: ليست «أو» للشّكّ ولا للتّخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى «بل» .

فشبّه النّاسك السّالك بالغريب الّذي لا مسكن له يؤويه، ثمّ ترقى وأضرب عنه إلى عابر السّبيل لأنّ الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السّبيل، القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق! فإنّ من شأنه أن لا يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، ومن ثمّ عقّبه بقوله:(وعدّ نفسك من أهل القبور» ) ؛ أي: استمرّ سائرا ولا تفتر، فإنّك إن فترت انقطعت وهلكت في تلك الأودية، فلا تتنافس في عمارة الدّور فعل المستوطن المغرور؛ فيأتيك الموت من غير استعداد، وتقدم على سفر آخرة بغير زاد.

والحديث أخرجه البيقي في «الشّعب» ، والعسكري؛ من حديث ابن عمر بن الخطّاب مرفوعا في جملة حديث.

وأخرجه البخاري في «صحيحه» ؛ «كتاب الرّقاق» ؛ عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدّنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل» .

ص: 479

183-

«الكيّس.. من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز.. من أتبع نفسه هواها،

وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» . وهذه رواية البخاري كما في «الأربعين النّوويّة» .

وزاد أحمد، والنّسائي؛ أوّله:«اعبد الله كأنّك تراه» . ورواه التّرمذيّ بمثل رواية البخاري، إلّا أنّه قدّم جملة:«وإذا أصبحت» ، وقال: ومن حياتك قبل موتك، فإنّك لا تدري يا عبد الله! ما اسمك غدا!» . ورواه أبو داود وابن ماجه.

183-

( «الكيّس) - بتشديد الياء مكسورة؛ مأخوذة من الكيس- بفتح فسكون.

قال في «النهاية» : أي: العاقل المتبصّر في الأمور، النّاظر في العواقب.

هو: (من دان نفسه) ؛ أي: أذلّها واستعبدها وأدّبها، وقيل: حاسبها؛ يعني:

جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربّها، مجتنبة لنواهيه، فلازم الطّاعة وتجنّب المعصية.

(وعمل لما بعد الموت) قبل نزوله، ليصير على نور من ربه؛ فالموت عاقبة أمور الدّنيا، فالكيّس من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها وحجبته الشّهوات والغفلات، وعاجل الحاصل يشترك في درك ضرّه ونفعه جميع الحيوانات بالطّبع؛ وإنّما الشّأن في العمل للآجل!!

فجدير بمن الموت مصرعه، والتّراب مضجعه، ومنكر ونكير جليسه، والدّود أنيسه، والقبر مقرّه، وبطن الأرض مستقرّه، والقيامة موعده، والجنّة أو النّار مورده؛

ألايكون له فكر إلّا في الموت وما بعده، ولا ذكر إلّا له، ولا استعداد إلّا لأجله ولا تدبير إلّا فيه، ولا اهتمام إلّا به، ولا انتظار إلّا له، وحقيق أن يعدّ نفسه من الموتى ويراها في أهل القبور، فكل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بات.

(والعاجز) - بمهملة وجيم وزاي-؛ من العجز؛ أي: المقصّر في الأمور، ورواه العسكري:«الفاجر» ؛ بالفاء والرّاء؛ من الفجور.

(من أتبع) - بسكون المثنّاة الفوقيّة- (نفسه هواها) ؛ أي: صيّرها تابعة

ص: 480

وتمنّى على الله الأمانيّ» .

لميلها للشّهوات، فلم يكفّها عن اللّذّات ولم يمنعها من ارتكاب المحرمات.

قال الطيبي: العاجز الّذي غلبت عليه نفسه وقهرته فأعطاها ما تشتهيه، قوبل الكيّس بالعاجز!! والمقابل الحقيقي السّفيه؛ إيذانا بأنّ الكيّس هو القادر، والعاجز هو السّفيه.

(وتمنّى على الله الأمانيّ» ) - بتشديد الياء: جمع أمنية-؛ أي: فهو مع تقصيره في طاعة ربّه واتّباع شهوات نفسه لا يستعدّ ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنى على الله العفو والجنّة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار، فإذا قيل له: ارجع واستغفر، إلى متى هذا الانهماك والتّقصير؛ يقول: دعني، عفو الله واسع، وهو الغفور الرّحيم، ورحمته وسعت كل شيء!! وما درى هذا المسكين أنّ التّوغّل في المعاصي دليل على استدراج الله تعالى له، فالّذي ينبغي له أن يعدّ نفسه مقصّرا مستحقّا للهلاك والدّمار، لا أنّه يعد نفسه بالمغفرة والكرم، ويقول: فضل الله واسع! فإنّ ذلك تمنّ، فالشّارع أو عده بالعذاب، فكيف يعد نفسه بالمغفرة!؟

وإنّما ينبغي له الوعد بالمغفرة بعد أن يتوب، فيقول: لعلّ الله يقبل توبتي ويغفر لي، لأنّ هذا حينئذ من الترجّي، لا من التّمنّي! لأخذه في الأسباب، وسقط في رواية لفظ:«الأماني» ، وأصل الأمنية: ما يقدّره الإنسان في نفسه من منى إذا قدّر، ولذلك يطلق على الكذب، وعلى ما يتمنّى.

قال الحسن: إنّ قوما ألهتهم الأماني حتّى خرجوا من الدّنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إنّي أحسن الظّنّ بربّي. وكذب؛ لو أحس الظّنّ لأحسن العمل!! وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)[فصلت] .

وقال سعيد بن جبير: الغرّة بالله: أن يتمادى الرّجل في المعصية، ويتمنّى على الله المغفرة.

قال العسكري: وفيه: ردّ على المرجئة وإثبات الوعيد. انتهى. وفيه: ذمّ

ص: 481

.........

التّمنّي. وأمّا الرّجاء!! فمحمود؛ لأنّ التّمنّي يصاحب الكسل، بخلاف الرّجاء!! فتعليق القلب بمحبوب يحصل حالا:

إنّ الرّجاء ما يقارن العمل

وعند فقده تمنّ وكسل

انتهى من شروح «الجامع الصغير» وغيرها.

والحديث رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وابن ماجه؛ كلاهما في «الزّهد» ؛ والحاكم في «المستدرك» في «كتاب الإيمان» ، والعسكري، والقضاعي؛ من حديث أبي بكر بن أبي مريم الغسّاني، عن ضمرة بن حبيب، عن شدّاد بن أوس؛ وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. قال الذّهبي: لا والله! أبو بكر واه.

قال ابن طاهر: مدار الحديث على ابن أبي مريم، وهو ضعيف جدّا. انتهى.

لكن له شاهد عند البيهقي في «الشّعب» بإسناد فيه ضعف؛ عن أنس رفعه:

«الكيّس من عمل لما بعد الموت، والعاري: العاري من الدّين، اللهمّ؛ لا عيش إلّا عيش الآخرة» . انتهى «زرقاني» .

ص: 482