الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[
(حرف الهمزة) ]
(حرف الهمزة) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1-
(حرف الهمزة) ؛ أي: هذا باب الأحاديث المبدوءة بحرف الهمزة، وصدّرها بحديث «أوتيت جوامع الكلم» !! لما فيه من المناسبة للفصل الذي عقده، إذ تضمّن ذلك الحديث براعة الاستهلال، وحسن المطلع، وهي أن يأتي المتكلم في طالعة كلامه بما يشعر بمقصوده.
ومراد المصنف التنويه بفصاحته صلى الله عليه وسلم بذكر شيء من جوامع كلمه الدّالة على أنّه صلى الله عليه وسلم أحرز قصب السبق في مضمار الفصاحة والبلاغة مع ملاحظة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الأحكام ومكارم الأخلاق المطلوب من الشخص التخلّق بها والعمل بما فيها، كيما يتمّ له الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله وأخلاقه الذي هو موضوع الكتاب، فرحم الله المصنف رحمة واسعة، وجمعنا به في مستقرّ رحمته بمنّه وكرمه. آمين.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1- «أوتيت جوامع الكلم) واختصر لي الكلام اختصارا» رواه العسكري في «الأمثال» عن جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلا بهذا اللفظ، لكن في سنده من لا يعرف.
ورواه الديلمي بلا سند عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه بلفظ:
«أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.
ورواه الشيخان لكن بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم» .
وفي خبر آخر رواه أحمد: «أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه» .
وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب أنّه مرّ برجل يقرأ كتابا من التوراة فذكر
2-
للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«إنّما بعثت فاتحا وخاتما، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصرلي الحديث اختصارا» .
ولأبي يعلى عن خالد بن عرفطة قال: كنت عند عمر فجاء رجل فذكره..
وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيّها النّاس، أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصرلي الكلام اختصارا» .
وفي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة: «أعطيت فواتح الكلم» . وفي أخرى:
«أعطيت مفاتيح الكلم» . وفي أخرى: أعطيت جوامع الكلم» .
وفي حديث أبي موسى: «أعطيت فواتح الكلم وخواتمه» ، قلنا:
يا رسول الله؛ علّمنا مما علمك الله! فعلمنا التشهد.
ورواه أيضا في «المختارة» عن عمر بن الخطاب بلفظ آخر، مع بيان سبب وروده. ومعناه: أنّه صلى الله عليه وسلم أوتي ملكة يقتدر بها على إيجاز اللفظ مع سعة المعنى، بنظم لطيف، لا تعقيد فيه؛ يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار الذّهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلا ومعناها أسبق إليه. وقيل: أراد القرآن، وقيل: أراد أنّ الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الأمور المتقدمة جمعت له في الأمر الواحد والأمرين، والله أعلم.
2-
( «اتّق) - بكسر الهمزة وشد المّثناة فوق- (الله) أمر من التقوى: فعلى من الوقاية: ما يتقى به مما يخاف، فتقوى العبد لله: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه، وهي هنا الحذر (فيما تعلم» ) ؛ أي: احذره وخفه في العمل، أو في تركب العمل بالذي تعلمه- وحذف المفعول للتعميم- وذلك بأن تتجنب المنهي وتفعل المأمور.
وخاطب العالم! لأن الجاهل لا يعرف كيف يتقي من جانب الأمر، ولا من جانب النهي. والمراد أصالة العلم العيني الذي لا رخصة للمكلّف في تركه وما عداه
3-
من كمال التقوى. قال ابن القيم: وللمعاصي من الآثار القبيحة ما لا يعلمه إلّا الله، فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذف في القلب، والمعصية تطفئه؛
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأنّ العلم نور
…
ونور الله لا يهدى لعاصي
وكتب رجل إلى أخيه: إنّك أوتيت علما فلا تطفئنّ نوره بظلمة الذّنوب؛ فتبقى في الظّلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم.
أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: «يا داود أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي» .
وقال بشر: التّلذّذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم من كل تنعم في الدنيا؛ فمن أجاب شهوته فيه فما اتقى فيما علم. انتهى ذكره المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث رواه البخاري في «التاريخ» ، والترمذي: كلاهما عن زيد بن مسلمة الجعفي قال: قلت: يا رسول الله؛ سمعت منك حديثا كثيرا فإني أخاف أن ينسيني آخره أوّله فمدّني بكلمة جامعة؛ فقال: «اتق الله فيما تعلم» . قال الترمذي في «العلل» : سألت عنه محمدا- يعني البخاري- فقال: سعيد بن أشوع لم يسمع من زيد، فهو عندي مرسل. وقال السيوطي في «الجامع الكبير» : منقطع. انتهى ذكره المناوي في «شرح الجامع» وقال: رواه أيضا الطبراني من حديث سعيد بن أشوع عن زيد بن مسلمة الجعفي. انتهى
3-
( «اتّق الله) : خفه واحذره (في عسرك) - بضم فسكون-: الضيق، والصعوبة، والشدّة. (ويسرك» ) : الغنى والسهولة؛ أي: خف الله واحذره في ضيقك وشدّتك، وضدّهما بأن تجتنب ما نهى عنه وتفعل ما أمر به في جميع أحوالك يعني: إذا كنت في ضيق وشدّة وفقر؛ فخف الله أن تفعل ما نهى عنه، أو تهمل ما أمر به، وإن كنت في سرور وغنى؛ فاحذره أن تطغى وتقتحم
.........
ما لا يرضاه، فإنّ نعمته إذا زالت عن إنسان قلّما تعود إليه، وقدّم العسر على اليسر!! لأن اليسر يعقبه، كما دلّ عليه قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5)[الانشراح] ، أو اهتماما بشأن التقوى فيه.
قال بعض العارفين: من علامات التحقق بالتقوى: أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يحتسب، وإذا أتاه من حيث يحتسب ما تحقق بالتقوى، ولا اعتمد على الله؛ فإن معنى التقوى أن تتخذ الله وقاية من تأثير الأسباب في قلبك باعتمادك عليها، والإنسان أبصر بنفسه، وهو يعلم من نفسه بمن هو أوثق، وبما تسكن إليه نفسه، ولا تقل: إنّ الله أمرني بالسعي على العيال، وأوجب مؤنتهم، فلا بدّ من الكدّ في السبب الذي جرت العادة أن يرزقه فيه، فإنا ما قلنا لك لا تعمل فيها؛ بل نهيناك عن الاعتماد عليها والسكون عندها، فإن وجدت القلب يسكن إليها؛ فاتّهم إيمانك، وإن وجدت قلبك ساكنا مع الله تعالى، واستوى عندك وجود السبب المعين وفقده؛ فأنت الذي لم تشرك بالله شيئا، فإن أتى رزقك من حيث لا تحتسب! فذلك بشرى أنك من المتقين.
تنبيه: قال ابن عربي: طريق الوصول إلى علم القوم التقوى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ [96/ الأعراف] ؛ أي: أطلعناهم على العلوم المتعلّقة بالعلويات والسفليّات، وأسرار الجبروت وأنوار الملك والملكوت. وقال الله تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [2- 3/ الطلاق] .
والرزق: روحانيّ وجسمانيّ، وقال وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [282/ البقرة] أي: يعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية انتهى؛ ذكره المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث قال في «الجامع الصغير» أخرجه أبو قرّة الزبيدي- نسبة إلى زبيد المدينة المشهورة باليمن- في «سننه» واسم أبي قرة: موسى بن طارق، عن طليب- بالتصغير- ابن عرفة. قال المناوي: له وفادة، ولم يرو عنه إلا ابنه كليب وهما مجهولان، ذكره الذهبي كابن الأثير. انتهى.
4-
5-
«أتمّكم عقلا.. أشدّكم لله خوفا» .
4-
( «اتّقوا مواضع التّهم» ) ذكره في «كنوز الحقائق» . ورمز له برمز البخاري في «التاريخ» . وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نتقي مواضع التّهم؛ حيث قال لمن أبصره مع زوجته صفيّة: «إنّها أمّكما صفيّة» فاستعظما ذلك! فقال: «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
فأشفق عليهما فحرسهما، وأشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التّهمة حتى لا يتساهل العالم الورع في أحواله؛ ظنّا منه أنه لا يظّنّ به إلا الخير؛ إعجابا منه بنفسه، وهي زلة عظيمة، إذ أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا بدّ له من منقّص ومبغض! فتعيّن الاحتراز عن تهمة الأعداء والأشرار، فإنّهم لا يظنّون بالناس كلّهم إلا الشرّ.
5-
( «أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا» ) ذكره في «كنوز الحقائق» ، ورمز له برمز الغزالي، وعزاه في «شرح الإحياء» إلى داود بن المحبّر في «كتاب العقل» قال: حدثنا ميسرة، عن محمد بن زيد، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت قول الله عز وجل أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [2/ الملك] فقال صلى الله عليه وسلم: «أتمّكم عقلا أشدّكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه، وإن كانوا أقلّكم تطوّعا» .
وأخرج داود بن المحبّر في «كتاب العقل» أيضا عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «جدّ الملائكة واجتهدوا في طاعة الله سبحانه بالعقل، وجدّ المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم، فأعملهم بطاعة الله عز وجل أوفرهم عقلا» .
وأخرج داود في كتابه المذكور عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت:
يا رسول الله؛ بم يتفاضل الناس في الدنيا؟ قال: «بالعقل» . قلت: وفي الآخرة؟ قال: «بالعقل» . قلت: أليس إنما يجزون بقدر أعمالهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
6-
«اجتنبوا الخمر؛ فإنّها مفتاح كلّ شرّ» .
7-
«يا عائشة؛ وهل عملوا إلّا بقدر ما أعطاهم الله عز وجل من العقل!. فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» . قال العراقي: رواه الحكيم الترمذي في «نوادره» . ذكر ذلك كله في «الإحياء» و «شرحه» .
6-
( «اجتنبوا الخمر) ؛ مصدر خمره؛ إذا ستره، سمّي به عصير العنب إذا اشتدّ!! لأنه يخمر العقل، ولها نحو أربعمائة اسم، وتذكّر وتؤنث، والتأنيث أفصح، وهو حرام مطلقا، وكذا كلّ ما أسكر عند الأكثر؛ وإن لم يسكر لقلّته، بل الشافعي وأحمد ومالك على وصفها بذلك، فعندهم الخمر كلّ مسكر، وخالف أبو حنيفة. فالمعنى؛ على رأي الجماعة: اجتنبوا كلّ مسكر؛ أي: - ما من شأنه الإسكار-، فشمل العصير، والاعتصار، والبيع، والشراء، والحمل، والمسّ، والنظر، وغيرها. ذكره المناوي على «الجامع» .
أي: اجتنبوا تعاطيها؛ (فإنّها مفتاح كلّ شرّ» ) كان مغلقا من زوال العقل، والوقوع في المنهيات، وحصول الأسقام والآلام.
والحديث المذكور ذكره في «الجامع الصغير» ، ورمز له برمز الحاكم في «الأطعمة» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
قال في العزيزي: وهو حديث صحيح.
7-
( «الأجر على قدر النّصب» ) متفق عليه؛ من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. قال النجم الغزي: وربما قيل: على قدر المشقة» .
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة بعد اعتمارها: «أجرك على قدر نفقتك أو نصبك» وفي لفظ: «أو تعبك» وفي آخر: «إنّ لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك» بالواو.
وروى ابن الإمام أحمد في «زوائده» عن ابن المبارك عن سفيان من قوله: إنما الأجر على قدر الصّبر.
.........
قال الإمام النووي: وظاهره أن الثّواب والفضل في العبادة بكثرة النصب والنفقة. قال الحافظ ابن حجر: وهو كما قال، لكنّه ليس بمطّرد، فقد يكون بعض العبادة أحقّ من بعض، وهي أكثر فضلا وثوابا بالنسبة للزمان؛ كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام رمضان، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وإلى شرف العبادة المالية، والبدنية؛ كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها وأطول من قراءتها
…
ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر من التطوع!! أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في «القواعد» ، وقال أيضا: وقد كانت الصلاة قرّة عين النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي شاقّة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقّتها مساوية لصلاته مطلقا. والله أعلم.
انتهى؛ ذكره العجلوني في «الكشف» .
وقد جعل الفقهاء هذا الحديث أساسا لقاعدة قرّروها في كتبهم وعبّروا عنها بقولهم: ما كان أكثر فعلا كان أكثر فضلا، واستثنوا منها مسائل مذكورة في «الأشباه والنظائر» ، وقد نظمها السيد العلّامة الولي سراج الدين أبو بكر بن أبي القاسم الأهدل المتوفى سنة: - 1035- خمس وثلاثين وألف هجرية رحمه الله تعالى آمين؛ فقال:
اعلم بأنّي كنت قد نظمت
…
لهذه فيما مضى فقلت:
قاعدة: ما كان أربى فعلا
…
فإنّه يكون أزكى فضلا.
وأصلها من الحديث المنتخب
…
عن النبي: «الأجر على قدر النّصب»
وأخرجوا عن ذاك بضع عشر
…
فهاكها منظومة كدرّ
وذلك القصر على الإتمام
…
يفضل في الثّلاثة الأيّام
ثمّ الضّحى ثمان ركعات أبر
…
وإن يكن أكثرها ثنتي عشر
والوتر مهما بثلاث يفعل
…
فإنّها ممّا يزيد أفضل
لكن على قول ضعيف نقلا
…
عن «البسيط» والإمام ذي العلا
.........
كذا صلاة الصّبح كانت أفضلا
…
من غيرها وإن يكنّ أطولا
وركعة الوتر لديهم أفضل
…
من سنّة الفجر وأيضا تفضل
تهجّد اللّيل وإن كانت أقل
…
وهو مع الكثرة والطّول حصل
كذا صلاة العيد من كسوف
…
أزكى ولو مع طولها المعروف
وسنّة الفجر بلا تطويل
…
أفضل منها معه للدّليل
وفي الصّلاة سورة كمالا
…
أفضل من بعض ولو قد طالا
وقيل بل من قدرها وذاك ما
…
لم يرد البعض وإلّا قدّما
والجمع في مضمضة وما تلا
…
أفضل من فصل بستّ حصلا
كذلك الفصل بغرفتين
…
أزكى من السّت بغير مين
والحجّ والوقوف ممن ركبا
…
أفضل منه ماشيا تأدّبا
كذلك الميقات للإهلال
…
أفضل من دويرة الأهالي
ومرّة جماعة إن صلّى
…
أفضل من صلاته وأعلى
منفردا خمسا وعشرين جعل
…
وهكذا تصدّق وقد أكل
البعض من أضحيّة تبرّكا
…
فهو على بذل الجميع قد زكا
وينبغي عدّك كلّ ما أتى
…
فيه الدّليل للقليل مثبتا
كركعتي تحيّة المساجد
…
أفضل من إتيانه بزائد
واللّفظ في استعاذة بما ورد
…
في الذّكر من زيادة في المعتمد
وقس على ذلك بالتّأمّل
…
والحمد لله على التّفضّل
قال سيّدي أحمد زرّوق رحمه الله تعالى: قاعدة: الأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة، لفضل الإيمان والمعرفة والذّكر والتلاوة على ما هو أشدّ منها بكثير من الحركات الجسمانيّة. وقوله عليه الصلاة والسلام:«أجرك على قدر نصبك» !! إخبار خاصّ في خاصّ لا يلزم عمومه، لا سيّما: وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما. مع قوله: «إنّ أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا» . وكذا جاء:
…
إلى غير ذلك. والله أعلم. انتهى كلام سيدي زروق
8-
«أجملوا في طلب الدّنيا؛
…
المغربي في «قواعده» .
وهو موافق لما انتقده الشيخ أحمد بن حجر في «تحفته» حيث قال بعد استثناء هذه الصّور المنظومة سابقا: ولك أن تقول: لا يرد شيء من ذلك على القاعدة، لأن هذه كلّها لم تحصل الأفضلية فيها من حيث عدم أشقّيّتها؛ بل من حيثية أخرى اقترنت بها؛ كالاتّباع الذي يربو على ثواب الكثرة والمشقّة. فتأمله لتعلم ما في كلام الزركشي وغيره، فإنّ المجتهد قد يرى من المصالح المختصّة بالقليل ما يفضله على الكثير. انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى.
لكن قال العلّامة المحقّق الفقيه عبد الله بن سليمان الجرهزيّ اليمنيّ الزّبيديّ المتوفّى سنة: - 1201- إحدى ومائتين وألف هجرية رحمه الله تعالى آمين؛ معقّبا على كلام ابن حجر ما نصّه:
قلت: فيه ما فيه!! إذ تفضيل القليل للاتباع مناف لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأجر على قدر النّصب» ، فإن لم يحمل على الاستثناء لم يزل الإشكال. انتهى كلام الجرهزي رحمه الله تعالى.
8-
( «أجملوا) - بهمزة قطع مفتوحة، فجيم ساكنة، فميم مسكورة- أي:
ترفقوا (في طلب الدّنيا) بأن تطلبوا الرّزق طلبا جميلا؛ أي: تحسنوا السعي في نصيبكم منها بلا كدّ وتعب وتكالب، فلم يحرّم الطّلب بالكلّية، بل أمر بالإجمال فيه، وهو ما كان جميلا في الشرع؛ محمودا في العرف، فيطلب من جهة حلّه ما أمكن.
ومن إجماله اعتماد الجهة التي هيّأها الله ويسّرها له، ويسّره لها، فينتفع بها ولا يتعدّاها. ومنه ألايطلب بحرص وقلق وشره ووله، حتى لا ينسى ذكر ربّه ولا يتورّط في شبهة؛ فيدخل فيمن أثنى عليهم بقوله تعالى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [37/ النور]
…
الآية. قاله المناوي على «الجامع» .
فإنّ كلّا ميسّر لما كتب له منها»
…
ثم وجه الأمر بذلك بقوله: (فإنّ كلّا) ؛ أي: كلّ أحد من الخلق (ميسّر) بوزن معظّم- أي: مهيّأ مصروف مسهل (لما كتب) : قدّر (له منها» ) يعني:
الرزق المقدّر له سيأتيه ولا بدّ، فإنّ الله تعالى قسم الرزق وقدّره لكلّ أحد بحسب إرادته؛ لا يتقدّم ولا يتأخّر، ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه الأزليّ، وإن كان يقع ذلك بتبديل في اللّوح أو الصحف بحسب تعليق بشرط.
وقال: «أجملوا» ، وما قال:«اتركوا» !! إشارة إلى أنّ الإنسان؛ وإن علم أنّ رزقه المقدّر له لا بدّ له منه لكن لا يترك السعي رأسا، فإن من عوائد الله في خلقه تعليق الأحكام بالأسباب، وترتيب الحوادث على العلل، وهذه سنته في خلقه مطّردة، وحكمته في ملكه مستمرة، وهو وإن كان قادرا على إيجاد الأشياء اختراعا وابتداعا؛ لا بتقديم سبب وسبق علة؛ بأن يشبع الإنسان بلا أكل، ويرويه بغير شرب، وينشئ الخلق بدون جماع.. لكنّه أجرى حكمته بأنّ الشبع والرّي والولد يحصل عقب الطّعم والشرب والجماع. فلذا قال:«أجملوا» ؛ إيذانا بأنّه وإن كان هو الرزّاق، لكنه قدر حصوله بنحو سعي رفيق، وحالة كسب من الطلب جميلة، فجمع هذا الخبر بالنظر إلى السبب، والمسبب، والمسبّب له؛ وذلك هو: الله، والرزق، والعبد، والسعي.
وجمع بين المسبب والسبب!! لئلا يتّكل من تلبّس بأهل التّوكل وليس منهم، فيهلك بتأخّر الرزق؛ فربّما أوقعه في الكفر!! ولئلا ينسب الرزق لسعيه؛ فيقع في الشرك. وقد عرف بذلك أن من اجتهد في طلب الدّنيا وتهافت عليها شغل نفسه بما لا يجدي، وأتعبها فيما لا يغني، ولا يأتيه إلّا المقدور؛ فهو فقير وإن ملك الدنيا بأسرها، فالواجب على المتأدّب باداب الله تعالى أن يكل أمره إلى الله تعالى، ويسلّم له، ولا يتعدّى طوره، ولا يتجرّأ على ربّه ويترك التكلّف؛ فإنه ربّما كان
9-
«الإحسان:
…
خذلانا، ويترك التدبير فإنه قد يكون هوانا:
والمرء يرزق لا من حيث حيلته
…
ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الدّاهي
قال بزرجمهر: وكل الله تعالى الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل؛ ليعلم أنّه لو كان الرزق بالحيل؛ لكان العاقل أعلم بوجوه مطلبه والاحتيال لكسبه. قال بعضهم:
لو كان بالعقل الغنى لوجدتني
…
بنجوم أفلاك السّماء تعلّقي
لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى
…
شيئان مفترقان أيّ تفرّق
التقى ملكان فتساءلا؛ فقال أحدهما: أمرت بسوق حوت اشتهاه فلان اليهودي، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. انتهى ملخصا بعضه من المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث رمز له في «الجامع الصغير» بأنه رواه ابن ماجه، والحاكم، والطبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «سننه» ؛ عن أبي حميد السّاعدي، قال في العزيزي: وهو حديث صحيح.
وقال المناوي على «الجامع» : قال الحاكم: على شرطهما. وأقرّه الذهبي.
لكن فيه هشام بن عمار! أورده الذهبي في «ذيل الضعفاء» ، وقال أبو حاتم:
صدوق تغيّر، فكلّما لقّن تلقّن. وقال أبو داود: حدّث بأرجح من أربعمائة حديث لا أصل لها. وفيه إسماعيل بن عياش! أورده في «الضعفاء» ؛ وقال: مختلف فيه وليس بقوي. وفيه عمارة بن غزية! أورده في «الذيل» أيضا وقال: ثقة، ضعفه ابن حزم. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
9-
( «الإحسان) قال ابن حجر الهيتمي: «أل» فيه للعهد الذهني المذكور في الآيات الكثيرة نحو* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [26/ يونس] ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)[البقرة] ، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60)[الرحمن] .
أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنّه يراك» .
فلمّا كثر تكّرره وعظم ثوابه سأل عنه جبريل ليعلمهم بعظم ثوابه وكمال رفعته، وهو مصدر «أحسنت كذا» ، و «وفي كذا» إذا أحسنته وكمّلته؛ متعديا بهمزة، من حسن كذا، وبحرف الجر ك «أحسنت إليه» إذا فعلت معه ما يحسن فعله، والمراد هنا الأول إذ حاصله راجع إلى إتقان العبادات بأدائها على وجهها المأمور به مع رعاية حقوق الله تعالى فيها ومراقبته واستحضار عظمته وجلاله! ابتداء واستمرارا.
وهو على قسمين:
أحدهما غالب عليه مشاهدة الحقّ كما قال صلى الله عليه وسلم:
(أن تعبد الله) من عبد: أطاع، والتعبّد: التنسّك، والعبودية: الخضوع والذّلّ. (كأنّك تراه) . وهذا من جوامع الكلم لأنّه جمع مع وجازته بيان مراقبة العبد ربّه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال، والإخلاص له في جميع الأعمال، والحثّ عليهما مع بيان سببهما الحامل عليهما لملاحظة أنّه لو قدّر أنّ أحدا قام في عبادة وهو يعاين ربّه تعالى لم يترك شيئا ممّا يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن الصّمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها.
والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه وتعالى مطّلع عليه ومشاهد له وقد بيّنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإن لم تكن تراه! فإنّه يراك» ) مشيرا إلى أنّه ينبغي للعبد أن يكون حاله مع فرض عدم عيانه لربه تعالى كهو مع عيانه؛ لأنّه تعالى مطّلع عليه في الحالين؛ إذ هو قائم على كلّ نفس بما كسبت، مشاهد لكلّ أحد من خلقه في حركته وسكونه؛ فكما أنّه لا يقدم على تقصير في الحال الأول؛ كذلك لا ينبغي له أن يقدم عليه في الحال الثاني، لما تقرر من استوائهما بالنسبة إلى اطّلاع الله تعالى وعلمه وشهود عظيم كماله، وباهر جلاله.
10-
وقد ندب أهل الحقائق 1- إلى مجالسة الصالحين لأنه لاحترامه لهم وحيائه منهم لا يقدم على تقصير في حضرتهم. و 2- إلى أنّ العبد ينبغي له أن يكون في عبادة ربه كضعيف بين يدي جبّار؛ فإنه حينئذ يتحرّى ألايصدر منه سوء أدب بوجه. انتهى كلام ابن حجر في «شرح الأربعين» .
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام مسلم والثلاثة: أبي داود والترمذي والنسائي؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وهو قطعة من حديث طويل، أوله: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب
…
الحديث وهو مذكور بطوله في «كتاب الأربعين النووية» وكذا رمز له برمز أحمد والشيخين وابن ماجه؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
10-
( «اختلاف أمّتي رحمة» ) اعلم أن هذا الحديث قد تكلّم عليه العلماء قديما وحديثا من جهة معناه، ومن جهة عزوه، وأنا أنقل كلامهم؛ وإن وقع فيه تكرار في بعض المواضع لأجل حصول الفائدة بالوقوف على ما قيل فيه
…
قال العجلوني في كتاب «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» ما نصّه:
قال في «المقاصد» : رواه البيهقي في «المدخل» بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى؛ فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله! فسنّة منّي ماضية، فإن لم تكن سنّة منّي! فما قال أصحابي، إنّ أصحابي بمنزلة النّجوم في السماء، فأيّما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» .
ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي بلفظه، وفيه ضعيف، وعزاه الزركشي وابن حجر في «اللآلئ» لنصر المقدسي في «الحجة» مرفوعا، من غير
.........
بيان لسنده؛ ولا لصحابيّه، وعزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بغير بيان لسنده أيضا؛ بلفظ:«اختلاف أصحابي رحمة لأمّتي» وهو مرسل ضعيف.
وبهذا اللفظ أيضا ذكره البيهقي في «رسالته الأشعرية» بغير إسناد.
وفي «المدخل» له عن القاسم بن محمد من قوله: اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لعباد الله.
وفيه أيضا عن عمر بن عبد العزيز: أنّه كان يقول: ما سرّني لو أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.
وفيه أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون؛ فيحلّل هذا ويحرّم هذا. فلا يعيب هذا على هذا.
ثمّ قال في «المقاصد» أيضا: قرأت بخط شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- أنّه حديث مشهور على الألسنة. وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس» ، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمّة أنّه لا أصل له، لكنّه ذكره الخطّابي في «غريب الحديث» مستطردا؛ فقال:
اعترض هذا الحديث رجلان: أحدهما ماجن، والآخر ملحد؛ وهما إسحاق الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا: لو كان الاختلاف رحمة؛ لكان الاتفاق عذابا، ثمّ تشاغل الخطابي بردّ كلامهما، ولم يشف في عزو الحديث؛ لكنّه أشعر بأن له أصلا عنده.
ثمّ قال الخطّابي: والاختلاف في الدّين ثلاثة أقسام:
الأول: في إثبات الصانع ووحدانيّته، وإنكاره كفر.
والثاني: في صفاته ومشيئته، وإنكارهما بدعة.
والثالث: في أحكام الفروع المحتملة وجوها؛ فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث:«اختلاف أمتي رحمة» انتهى.
.........
وقال النووي في «شرح مسلم» ج 11 ص 92: ولا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضدّه عذابا، ولا يلتزم هذا ولا يذكره إلّا جاهل أو متجاهل، وقد قال تعالى وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا [73/ القصص] فسمّى اللّيل رحمة، ولا يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا انتهى.
ومثله يقال: فيما رواه ابن أبي عاصم في «السنة» عن أنس مرفوعا:
«لا تجتمع أمتي على ضلالة» ، ورواه الترمذي عن ابن عمر بلفظ:«لا يجمع الله أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» .
ورواه أحمد، والطبراني في «الكبير» عن أبي نصر الغفاري في حديث رفعه:
«سألت ربّي ألاتجتمع أمتي على ضلالة» . فقد قيل مفهومه: إن اختلاف هذه الأمة ليس رحمة ونعمة، لكن فيه ما تقدم نظيره عن النووي وغيره.
وفي «الموضوعات» للعلامة ملا علي قاري: أن السيوطي قال- يعني في «الجامع الصغير» -: أخرجه نصر المقدسي في «الحجة» ، والبيهقي في «الرسالة الأشعرية» بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي الحسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعلّه خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا!!.
ثمّ قال السيوطي؛ عقب ذكره لكلام عمر بن عبد العزيز: وهذا يدلّ على أنّ المراد اختلافهم في الأحكام الفرعية، وقيل: في الحرف والصنائع، والأصحّ الأول، فقد أخرج الخطيب في رواة مالك؛ عن إسماعيل بن أبي المجالد قال:
قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله؛ نكتب هذه الكتب- يعني مؤلفات الإمام مالك- ونفرّقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمّة؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمّة، كلّ يتبع ما صحّ عنده، وكل على هدى، وكلّ يريد الله تعالى.
وفي «مسند الفردوس» عن ابن عباس مرفوعا: «اختلاف أصحابي لكم رحمة» . وذكر ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن القاسم بن محمد أنه قال: كان
.........
اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس.
وأخرجه أبو نعيم بلفظ: كان اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لهؤلاء الناس. انتهى كلام «كشف الخفا ومزيل الإلباس» .
وذكر في «شرح الإحياء» في كتاب العلم ج 1 ص 205 بعضا مما نقلناه عن «كشف الخفاء» ، وزاد أنّه رواه أبو نصر السّجزي في «الإبانة» ؛ وقال: غريب، والخطيب، وابن عساكر في «تاريخهما» .
وقال ابن السبكي في «تخريج أحاديث المنهاج» : هذا شيء لا أصل له. وقال والده: لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع! انتهى.
وقال ابن الملقّن في «تخريج أحاديث المنهاج» : لم أر من خرّجه مرفوعا بعد البحث الشديد عنه، وإنّما نقله ابن الأثير في مقدمة «جامعه» من قول مالك.
انتهى كلام «شرح الإحياء» ملتقطا.
وفي المناوي على «الجامع الصغير» : «اختلاف» افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور؛ ذكره الحراني.
«أمّتي» ؛ أي: مجتهدي أمتي في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها، فالكلام في الاجتهاد في الأحكام؛ كما في «تفسير القاضي» قال: فالنهي مخصوص بالتفرّق في الأصول؛ لا الفروع. انتهى.
قال السبكي: ولا شكّ أن الاختلاف في الأصول ضلال؛ وسبب كلّ فساد؛ كما أشار إليه القرآن.
وأمّا ما ذهب إليه جمع؛ من أنّ المراد الاختلاف في الحرف والصنائع!
فردّه السّبكي بأنّه كان المناسب على هذا أن يقال: اختلاف الناس رحمة؛ إذ لا خصوص للأمة بذلك، فإنّ كلّ الأمم مختلفون في الحرف والصنائع! فلا بدّ من خصوصية!!
.........
قال: وما ذكره إمام الحرمين في «النهاية» كالحليمي؛ من أنّ المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب؛ فلا ينساق الذهن من لفظ «الاختلاف» إليه.
«رحمة» للناس. كذا هو ثابت في رواية من عزا المصنف الحديث إليه، فسقطت اللفظة منه سهوا؛ أي: اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعدّدة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلّها؛ لئلا تضيق بهم الأمور من إضافة الحقّ الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم، ولم يكلّفوا ما لا طاقة لهم به توسعة في شريعتهم السمحة السهلة، فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة، خصّت بها هذه الأمّة، فالمذاهب التي استنبطها أصحابه فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوّعها كشرائع متعددة، وقد وعد بوقوع ذلك فوقع، وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم: أما الاختلاف في العقائد فضلال ووبال كما تقرّر، والحقّ ما عليه أهل السّنة والجماعة فقط. فالحديث إنّما هو في الاختلاف في الأحكام.
و «رحمة» نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي عموما فيكفي في صحّته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت مّا في حال مّا على وجه مّا.
وأخرج البيهقي في «المدخل» عن القاسم بن محمد؛ أو عمر بن عبد العزيز:
لا يسرّني أنّ أصحاب محمد؛ لم يختلفوا، لأنّهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.
ويدلّ لذلك ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فبأيّهم اقتديتم اهتديتم: واختلاف أصحابي لكم رحمة» .
قال السّمهوديّ: واختلاف الصّحابة في فتيا اختلاف الأمّة.
وما روي من أن مالكا لما أراده الرشيد على الذّهاب معه إلى العراق؛ وأن يحمل الناس على «الموطأ» كما حمل عثمان الناس على القرآن؟ فقال مالك: أمّا حمل الناس على «الموطأ» فلا سبيل إليه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم افترقوا بعد موته صلى الله عليه وسلم في الأمصار، فحدّثوا، فعند أهل كلّ مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
.........
«اختلاف أمتي رحمة» كالصّريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام، كما نقله ابن الصلاح؛ عن مالك من أنّه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد.
قال: وليس كما قال ناس: فيه توسعة على الأمّة بالاجتهاد إنّما هو بالنّسبة إلى المجتهد، لقوله: فعليك بالاجتهاد، فالمجتهد مكلّف بما أدّاه إليه اجتهاده؛ فلا توسعة عليهم في اختلافهم، وإنّما التوسعة على المقلّد، فقول الحديث «اختلاف أمّتي رحمة للناس» أي: لمقلديهم، ومساق قول مالك «مخطئ ومصيب
…
الخ» إنّما هو الردّ على من قال: من كان أهلا للاجتهاد له تقليد الصحابة دون غيرهم.
وفي «العقائد» لابن قدامة الحنبلي: «إن اختلاف الأئمة رحمة واتفاقهم حجة» . انتهى.
فإن قلت: هذا كلّه لا يجامع نهي الله تعالى عن الاختلاف، بقوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [103/ آل عمران] وقوله تعالى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [105/ آل عمران] ؟! الآية.
قلت: هذه دسيسة ظهرت من بعض من في قلبه مرض، وقد قام بأعباء الردّ عليه جمع جمّ؛ منهم: ابن العربي وغيره بما منه أنّه سبحانه وتعالى إنما ذمّ كثرة الاختلاف على الرسل كفاحا، كما دلّ عليه خبر:«إنّما أهلك الّذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم» .
وأما هذه الأمّة! فمعاذ الله تعالى أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين؛ لأنه أوعد الّذين اختلفوا بعذاب عظيم. والمعترض موافق على أنّ اختلاف هذه الأمّة في الفروع مغفور لمن أخطأ منهم، فتعيّن أنّ الآية فيمن اختلف على الأنبياء؛ فلا تعارض بينها وبين الحديث.
وفيه ردّ على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض، وقد عمّت به البلوى وعظم به الخطب.
.........
قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كثير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلفات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأنّ غرضهم ليس إلا اتّباع الكتاب والسّنة، وكلّ ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل.
قال: وإذا رأيت فقيها خالف حديثا، أو ردّ حديثا، أو حرّف معناه، فلا تبادر لتغليطه؛ فقد قال عليّ كرّم الله وجهه- لمن قال له: أتظنّ أنّ طلحة والزّبير كانا على باطل!؟ -: يا هذا إنّه ملبوس عليك، وإن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله.
وما زال الاختلاف بين الأئمة واقعا في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكلّ على تعظيم الباري جل جلاله، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حقّ، وأن كتابهم واحد، ونبيّهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحقّ، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف، فإن داخلها زهو من الأكمل، وانكسار من الأصغر! فذلك دأب النفوس الزكية في بعض الأحيان غفلة عن الله تعالى؛ فما الظّنّ بالنفوس الشريرة المنطقية. انتهى.
ويجب علينا أن نعتقد أنّ الأئمة الأربعة والسّفيانين والأوزاعي وداود الظاهري وإسحاق بن راهواه وسائر الأئمة على هدى، ولا التفات لمن تكلّم فيهم بما هم بريئون منه. والصحيح- وفاقا للجمهور- أن المصيب في الفروع واحد، ولله تعالى فيما حكم عليه أمارة، وأنّ المجتهد كلّف بإصابته، وأن مخطئه لا يأثم؛ بل يؤجر، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.
نعم؛ إن قصّر المجتهد أثم اتفاقا، وعلى غير المجتهد أن يقلّد مذهبا معيّنا.
وقضية جعل الحديث «الاختلاف رحمة» جواز الانتقال من مذهب لآخر.
والصحيح عند الشافعية جوازه، لكن لا يجوز تقليد الصحابة وكذا التابعين- كما قاله إمام الحرمين- من كلّ من لم يدوّن مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحرّرت؛ حتى ظهر تقييد مطلقها
.........
وتخصيص عامّها، بخلاف غيرهم؛ لانقراض أتباعهم.
وقد نقل الإمام الرازي رحمه الله تعالى إجماع المحققين على منع العوامّ من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم. انتهى.
نعم؛ يجوز لغير عامّي من الفقهاء المقلّدين تقليد غير الأربعة في العمل لنفسه؛ إن علم نسبته لمن يجوز تقليده وجمع شروطه عنده.
لكن بشرط ألايتتبع الرّخص بأن يأخذ من كلّ مذهب بالأسهل بحيث تنحلّ ربقة التكليف من عنقه. وإلا! لم يجز. خلافا لابن عبد السلام حيث أطلق جواز تتبّعها، وقد يحمل كلامه على ما إذا تتبّعها على وجه لا يصل إلى الانحلال المذكور.
وقول ابن الحاجب كالآمدي «من عمل في مسألة بقول إمام ليس له العمل فيها بقول غيره اتفاقا» !! إن أراد به اتفاق الأصوليين، فلا يقضي على اتفاق الفقهاء والكلام فيه. وإلا! فهو مردود، أو مفروض فيما لو بقي من آثار العمل الأول ما يستلزم تركّب حقيقة لا يقول بها كلّ من الإمامين؛ كتقليد الإمام الشافعي في مسح بعض الرأس؛ والإمام مالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة؛
فعلم أنّه إنما يمتنع تقليد الغير في تلك الواقعة نفسها، لا مثلها.
كأن أفتي ببينونة زوجته بنحو تعليق فنكح أختها، ثم أفتي بأن لا بينونة ليس له الرجوع للأولى بغير إبانتها «1» . وكأن أخذ بشفعة جوار تقليدا للحنفي، ثم استحقت عليه فيمتنع تقليده للشافعي في تركها؛ لأنّ كلّا من الإمامين لا يقول به، فلو اشترى بعده عقارا وقلّد الإمام الشافعي في عدم القول بشفعة الجوار لم يمنعه ما تقدّم من تقليده في ذلك، فله الامتناع من تسليم العقار الثاني، وإن قال الآمدي وابن الحاجب ومن على قدمهما- كالمحلّي- بالمنع في هذا، وعمومه في جميع صور
(1) أي الأخت الثانية.
.........
ما وقع العمل به أوّلا؛ فهو ممنوع، وزعم الاتفاق عليه باطل.
وحكى الزركشي أنّ القاضي أبا الطيّب أقيمت صلاة الجمعة فهمّ بالتكبير؛ فذرق عليه طير، فقال: أنا حنبلي، فأحرم، ولم يمنعه عمله بمذهبه من تقليد المخالف عند الحاجة!!.
وممن جرى على ذلك السبكي فقال: المنتقل من مذهب لآخر له أحوال.
الأول: أن يعتقد رجحان مذهب الغير، فيجوز عمله به! اتباعا للراجح في ظنّه.
الثاني: ألايعتقد رجحان شيء، فيجوز.
الثالث: أن يقصد بتقليده الرخصة فيما يحتاجه؛ لحاجة لحقته أو ضرورة أرهقته، فيجوز.
الرابع: أن يقصد مجرّد الترخّص فيمتنع، لأنّه متبع لهواه؛ لا للدّين.
الخامس: أن يكثر ذلك ويجعل اتباع الرّخص ديدنه، فيمتنع؛ لما ذكر ولزيادة فحشه.
السادس: أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع! فيمتنع.
السابع: أن يعمل بتقليد الأوّل كحنفيّ يدّعي شفعة جوار فيأخذها بمذهب الحنفيّ! فتستحق عليه؛ فيريد تقليد الإمام الشافعي، فيمتنع لخطئه في الأولى أو الثانية؛ وهو شخص واحد مكلّف. قال: وكلام الآمدي وابن الحاجب منزّل عليه.
وسئل البلقيني عن التقليد في المسألة السريجيّة فقال: أنا لا أفتي بصحة الدور، لكن إذا قلّد من قال بعدم وقوع الطلاق كفى، لا يؤاخذه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها؛ أي مع التقليد. وهو ذهاب منه إلى جواز تقليد المرجوح وتتبعه.
.........
قال بعضهم: ومحل ما مرّ من منع تتبّع الرّخص إذا لم يقصد به مصلحة دينيّة، وإلا! فلا منع؛ كبيع مال الغائب، فإن السبكيّ أفتى بأن الأولى تقليد الشافعي فيه، لاحتياج الناس غالبا في نحو مأكول ومشروب إليه، والأمر إذا ضاق اتسع.
وعدم تكرير الفدية بتكرر المحرم اللّبس، فالأولى تقليد الشافعي لمالك فيه. كما أفتى به الأبشيطي رحمه الله تعالى.
وذهب الحنفية إلى منع الانتقال مطلقا. قال في «فتح القدير» : المنتقل من مذهب لمذهب باجتهاد وبرهان آثم، عليه التعزير وبدونهما أولى.
ثم حقيقة الانتقال إنما تتحقق في حكم مسألة خاصّة قلّد فيها وعمل بها، وإلا! فقوله «قلّدت أبا حنيفة فيما أفتى به من المسائل أو التزمت العمل به» على الإجمال وهو لا يعرف صورها! ليس حقيقة التقليد بل وعد به، أو تعليق له كأنّه التزم العمل بقوله فيما يقع له، فإذا أراد بهذا الالتزام؛ فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد بالزامه نفسه بذلك! قولا أو نيّة شرعا، بل الدليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما يحتاجه بقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)[الأنبياء]، والمسؤول عنه إنّما يتحقّق عند وقوع الحادثة!!. قال: والغالب أنّ مثل هذه الالتزامات لكفّ الناس عن تتبّع الرّخص، إلا أنّ أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه، ولا يدرى ما يمنع هذا من النقل والعقل. انتهى.
وذهب بعض المالكية إلى جواز الانتقال بشروط: ففي «التنقيح» للقرافي؛ عن الزناتي: التقليد يجوز بثلاثة شروط
1-
ألايجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع؛ كمن تزوّج بلا صداق، ولا وليّ ولا شهود؛ فإنه لم يقل به أحد. و 2- أن يعتقد في مقلّده الفضل، و 3- ألايتتبع الرخص والمذاهب.
وعن غيره: يجوز فيما لا ينقض فيه قضاء القاضي، وهو ما خالف الإجماع، أو القواعد الكليّة، أو القياس الجليّ.
11-
«اخزن لسانك
…
ونقل عن الحنابلة ما يدلّ للجواز.
وقد انتقل جماعة من المذاهب الأربعة من مذهبه لغيره؛
منهم عبد العزيز بن عمران كان مالكيا؛ فلمّا قدم الإمام الشافعيّ- رحمه الله تعالى- مصر تفقّه عليه.
وأبو ثور من مذهب الحنفيّ إلى مذهب الشافعيّ.
وابن عبد الحكم من مذهب مالك إلى الشافعيّ، ثم عاد إلى مذهب مالك.
وأبو جعفر بن نصر من الحنبليّ إلى الشافعيّ.
والطحاويّ من الشافعيّ إلى الحنفيّ. والإمام السّمعاني من الحنفي إلى الشافعيّ.
والخطيب البغدادي والآمدي وابن برهان من الحنبلي إلى الشافعيّ،
وابن فارس صاحب «المجمل» من الشافعيّ إلى المالكيّ،
وابن الدّهان من الحنبلي للحنفيّ؛ ثم تحول شافعيا.
وابن دقيق العيد من المالكي إلى الشافعيّ،
وأبو حيان من الظّاهريّ للشافعيّ! ذكره الإسنوي وغيره. وإنما أطلنا وخرجنا عن جادة الكتاب!! لشدّة الحاجة لذلك، وقد ذكر جمع أنه من المهمات التي يتعيّن اتقانها. انتهى كلام المناوي رحمه الله تعالى في شرح «الجامع الصغير» .
11-
( «اخزن لسانك) ؛ أي: صنه واحفظه عن التكلم فيما لا يعنيك، فإن الكلام ترجمان يعبّر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، ولا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على دفع شوارده، فحقّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه، أو الإقلال منه.
قال عليّ كرّم الله وجهه: اللسان معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل.
.........
ولله درّ القائل:
احفظ لسانك أيّها الإنسان
…
لا يلدغنّك إنّه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه
…
كانت تهاب لقاءه الشّجعان
قال ابن الأعرابي: أمراض النفس قولية وفعلية، وتفاريع القولية كثيرة، لكن عللها وأدويتها محصورة في أمرين:
الأول: ألاتتكلم إذا اشتهيت أن تتكلم.
والآخر: ألاتتكلم إلا فيما إن سكتّ عنه عصيت، وإلّا! فلا، وإيّاك والكلام عند استحسان كلامك، فإن حالتئذ من أكبر الأمراض، وما له دواء إلّا الصمت، وقد نسب إلى الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى في آفات اللسان هذه المنظومة:
تعلّم حفظ آفات اللّسان
…
لتحظى بالأمان وبالأماني
وخذها إنّها سبعون شيئا
…
حكت في نظمها عقد الجمان
فكفر والخطامع خوف كفر
…
وكذب ثمّ سبّ في هوان
وفحش غيبة ونميمة مع
…
مراء والجدال وطعن جاني
وسخرية وتعريض ولعن
…
ونوح واشتغال بالأغاني
مخاصمة وإفشاء لسرّ
…
وخوض في محلّ بافتتان
سؤال المال والدّنيا، نفاق
…
بقول والكلام لدى الأذان
سؤالك عن أغاليط وأيضا
…
عوام النّاس عن صعب المعاني
وتغليظ الكلام وأمر نكر
…
ونهي العرف عن خطأ اللّسان
سؤال عن عيوب النّاس أخذ
…
لذي الوجهين في أمر الدّهان
كلام حالة القرآن يتلى
…
وبعد طلوع فجر للعيان
وحالة خطبة وبمسجد مع
…
دخول خلا لحاجات تعاني
وفي حال الصّلاة وفي جماع
…
وفتح القول عند كبير شان
إلّا من خير» .
وبالألقاب نبز مع يمين
…
غموس أو بغير الله دان
إخافة مؤمن وفضول قول
…
وإكثار اليمين بلا توان
على غير الدّعاء كأهل ظلم
…
بدون صلاح حال كلّ آن
سؤال إمارة ووصيّة مع
…
تولّيه على دار وخان
وردّ كلام متبوع وقطع
…
لقول الغير شعر ذو امتهان
تناجي اثنين مدح مع مزاح
…
ونطق بالّذي هو غير عاني
على النّفس الدّعاء وردّ عذر
…
أتى بالرّأي تفسير القران
سؤالك عن حلال أو طهور
…
بغير محلّه قصد امتحان
وسجع والفصاحة مع سلام
…
على الذّمي وذي فسق مهان
كذا متغوّط أو بائل مع
…
كلام الأجنبيّة في مكان
وإرشاد لنحو طريق سوء
…
وإذن في المعاصي للمدان
وآفات العبادات اللّواتي
…
تعدّت والّتي قصرت لفان
كذا الآفات ضمن معاملات
…
وآفات السّكوت بلا بيان
وقد تمّت بعون الله فاخلص
…
لناظمها دعاءك بالجنان
وقد ذكر الإمام الغزالي في «إحياء علوم الدين» آفات اللّسان مفصّلة بما يشفي العليل فراجعها إن شئت.
(إلّا من خير» ) كقراءة القرآن، وذكر الله تعالى، ومذاكرة العلم، والأمر بالمعروف، وذلك أن قول الخير خير من السكوت؛ لأن قول الخير ينتفع به من يسمعه، والصّمت لا يتعدّى نفعه.
وهذا الحديث رواه الطبراني في «الصغير» ؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، وتمام الحديث:«فإنّك بذلك تغلب الشّيطان» وقد جاءت أحاديث كثيرة في التحذير من خطر اللّسان، ولا نجاة من خطره إلّا بالصّمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحثّ عليه؛ فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم
12-
«أخلص العمل
…
من قوله: «من صمت نجا» رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو- بسند فيه ضعف- وقال: غريب، وهو عند الطبراني- بسند جيّد-.
وروى الإمام أحمد والترمذيّ- وصححه- والنسائيّ وابن ماجه؛ عن عبد الله بن سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الثقفي، عن أبيه قال: قلت يا رسول الله: أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك؟ قال: «قل آمنت بالله ثمّ استقم» . قال: قلت فما أتقي؟ فأومأ بيده إلى لسانه.
وهو عند مسلم دون آخر الحديث الذي فيه ذكر اللّسان.
وأخرج الترمذي- وقال: حسن- عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: قلت:
يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك» .
وأخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه أضمن له الجنّة» .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال «من سرّه أن يسلم فليلزم الصّمت» .
رواه ابن أبي الدّنيا في «الصمت» ، وأبو الشيخ في «فضائل الأعمال» ، والبيهقي في «الشعب» كلّهم من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف-.
وأخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رفعه قال: «إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلّها تكفّر اللّسان تقول: اتّق الله فينا، فإنّك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» .
وروى ابن أبي الدنيا في «الصمت» ؛ من طريق وهيب بن الورد قال: كان يقال: الحكمة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصمت، والعاشر: عزلة الناس.
12-
( «أخلص) - بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجّمة، وكسر اللام- (العمل)، الإخلاص الكامل: أن تعبد ربك امتثالا لأمره، وقياما بحقّ ربوبيته،
يجزك منه القليل» .
لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره، ولا للسلامة من عضّة الدّهر ونكبته؛ وذلك لأن الإخلاص ثلاث درجات:
عليا: وهو أن يعمل العبد لله وحده! امتثالا لأمره وقياما بحق ربوبيّته.
ووسطى: وهو أن يعمل لثواب الآخرة.
ودنيا: وهو أن يعمل للإكرام في الدنيا والسلامة من آفاتها.
وما عدا هذه الثلاث المراتب؛ فهو من الرّياء، فإذا اخلصت العمل لله تعالى
(يجزك منه) ؛ أي: من العمل الخالص لله (القليل» ) وتكون تجارتك رابحة، وفي «التوراة» : ما أريد به وجهي فقليله كثير، وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل.
ومن كلامهم: لا تسع في إكثار الطاعة بل إخلاصها.
وقال الغزالي: أقلّ طاعة سلمت من الرياء والعجب وقارنها الإخلاص يكون لها عند الله تعالى من القيامة ما لا نهاية له. وأكثر طاعة إذا أصابتها هذه الآفة لا قيمة لها، إلّا أن يتداركها الله تعالى بلطفه.
قال ابن الكمال: الإخلاص- لغة-: ترك الرياء في الطاعة.
واصطلاحا-: تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدّر لصفائه، وكلّ شيء تصوّر أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه فخلص منه سمّي خالصا.
قال بعضهم: ولا شكّ أن كلّ من أتى بفعل اختياري فلا بدّ له فيه من غرض، فمهما كان الباعث واحدا سمّي الفعل الصادر عنه إخلاصا؛ فمن تصدّق وغرضه محض الرياء؛ فهو غير مخلص، ومن كان غرضه محض التقرّب إلى الله تعالى! فهو مخلص، لكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرّب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل، لكن خصّصته العادة
13-
«أدّ الأمانة إلى من ائتمنك،
…
بالميل عن الحقّ. ومن كان باعثه مجرّد الرّياء فهو معرّض للهلاك، فالإخلاص شرط لقبول كلّ طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أخلصوا أعمالكم لله، فإنّ الله لا يقبل إلا ما خلص له» رواه الدارقطني عن الضحّاك بن قيس رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: ولكلّ عمل من المأمورات خصوص اسم في الإخلاص، كإخلاص المنفق بأن الإنعام من الله؛ لا من العبد، وكإخلاص المجاهد بأن النّصر من الله؛ لا من العبد المجاهد، قال الله تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [126/ آل عمران] وكذا سائر الأعمال. انتهى كلام المناوي في «شرح الجامع» .
وهذا الحديث أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» ؛ من حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه- وإسناده منقطع-، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب «الإخلاص» ، وابن أبي حاتم، والحاكم، وأبو نعيم في «الحلية» من حديث معاذ؛ قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قلت: أوصني، فقال:«أخلص دينك يكفك القليل من العمل» . وقال الحاكم: صحيح، وتعقّبه الذهبي. انتهى ذكره في «شرح الإحياء» .
13-
( «أدّ) - بفتح الهمزة، وكسر الدّال- وجوبا في الواجب، وندبا فيما تطلب فيه المعاونة من الأداء. قال الراغب: وهو دفع ما يجب دفعه وتوفيته؛ أي: أوصل. (الأمانة) وهي: كلّ حقّ لزمك أداؤه وحفظه، ومن قصرها على حقّ الحقّ أو حقّ الخلق! فقد قصّر.
قال القرطبي: الأمانة تشمل أعدادا كثيرة، لكن أمهاتها: الوديعة، واللقطة، والرهن، والعاريّة. (إلى من ائتمنك) عليها، ولا مفهوم له؛ بل غالبيّ، فإنّ حفظها أثر كمال الإيمان، فإذا نقص نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت.
والمراد: من جعل لك الشرع على ماله يدا؛ فشمل ما إذا ألقت الريح ثوبا في بيتك، أو دخل فيه جائع. والمراد بأدائها: إيصالها إليه بالتخلية بينه وبينها؛
ولا تخن من خانك» .
فليست الأمانة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء؛ من أنّها الوديعة التي لم يضمنها ذو اليد إذا لم يقصر.
وقال النووي: الظاهر أن المراد بالأمانة: التكليف الذي كلّف الله به عباده، والعهد الذي أخذه الله عليهم، وهي التي في قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [72/ الأحزاب]
…
الآية.
وفي «النهاية» الأمانة: تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان.
وقال الفخر الرازيّ: قيل: هي التكليف، سمّي أمانة!! لأنّ من قصّر فعليه الغرامة، ومن وفّى فله الكرامة. وقيل: هي لا إله إلّا الله، وهو بعيد. فالأكوان ناطقة بأن الله واحد. وقيل: هي الأعضاء، فالعين أمانة ينبغي حفظها، والأذن كذلك، وبقيّة الأعضاء. وقيل: هي معرفة الله تعالى.
ولما كانت النفوس نزّاعة إلى الخيانة روّاغة عند مضائق الأمانة، وربّما تأوّلت جوازها مع من لم يلتزمها أعقبه بقوله:
(ولا تخن من خانك» ) ؛ أي: لا تعامله بمعاملته، ولا تقابل خيانته بخيانتك؛ فتكون مثله، وليس منها ما يأخذه الإنسان من مال من جحده حقّه إذ لا تعدّي فيه. أو المراد: إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته، وإن كان حسنا؛ أي: جائزا، بل قابله بالأحسن الذي هو العفو، وادفع بالّتي هي أحسن، وهذا- كما قاله الطيبي- أحسن.
وهذه مسألة تتكرّر على ألسنة الفقهاء ولهم فيها أقوال؛
الأول: لا تخن من خانك مطلقا، وهذا ظاهر الحديث.
الثاني: خن من خانك! قاله الشافعي، وهو مشهور مذهب مالك!!
وأجابوا عن هذا الحديث بأنّه لم يثبت، أو المعنى: لا تأخذ منه أزيد من حقك، أو هو إرشاد إلى الأكمل كما مرّ، واحتجّوا بقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ
.........
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [194/ البقرة]، وبحديث هند وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
الثالث: إن كان ممّا ائتمنك عليه من خانك فلا تخنه، وإن كان ليس في يدك فخذ حقّك منه؛ قاله مالك.
الرابع: إن كان من جنس حقّك فخذه، وإلّا فلا! قاله أبو حنيفة.
قال ابن العربي: والصحيح منها جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه؛ أو غير جنسه إذا عدلت؛ لأنّ ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت.
انتهى من الزرقاني على «المواهب» ، والمناوي على «الجامع» .
وهذه المسألة تلقّب عند الفقهاء ب «مسألة الظّفر» .
وتحرير القول فيها أنّ الحقّ إمّا أن يكون عينا؛ أو دينا؛ أو منفعة.
1-
فالعين إن خشي من أخذها ممّن هي عنده ضررا؛ فلا بدّ فيها من الرفع إلى الحاكم؛ تحرزا عن الضّرر، وإلّا! فله أخذها استقلالا للضرورة.
2-
والدّين إن كان على غير ممتنع من أدائه طالبه به؛ فلا يأخذ شيئا له من غير مطالبة، ولو أخذه! لم يملكه، ويلزمه ردّه، فإن تلف؟ ضمنه، وإن كان على ممتنع من أدائه! ولو مقرّا؟ جاز له أخذ جنس حقه بصفته بطريق الظّفر. ويملكه بمجرّد الأخذ؛ فلا يحتاج إلى صيغة تملك، فإن تعذّر عليه الجنس المذكور؛ بأن وجد غير جنس حقّه، أو جنس حقّه بغير صفته؟ أخذه مقدّما النقد على غيره.
ويبيعه مستقلّا كما يستقل بالأخذ؛ لما في الرفع إلى الحاكم من المؤنة والمشقّة وتضييع الزمان حيث لا حجّة له، وإلّا! فلا يبيع إلا بإذن الحاكم، ولا يبيعه إلّا بنقد البلد، فإن كان جنس حقّه! تملّكه، وإن كان غير جنس حقّه؟ اشترى به جنس حقّه ثمّ تملكه.
ولا يأخذ فوق حقّه إن أمكن الاقتصار على حقّه، فإن لم يمكن؟ أخذ فوق
.........
حقّه، ولا تضمن الزيادة لعذره، وباع منه بقدر حقّه إن أمكن تجزّؤه، وإلّا! باع الكلّ وأخذ من ثمنه قدر حقّه، وردّ الباقي بصورة هبة ونحوها.
وله أخذ مال غريم غريمه؛ إن لم يظفر بمال غريمه، وكان غريم الغريم ممتنعا أيضا.
وله فعل ما لا يصل للمال إلّا به؛ ككسر باب ونقب جدار وقطع ثوب، ولا يضمن ما فوّته بذلك، ومحلّ ذلك إذا كان ما يفعل به ذلك ملكا للمدين؛ ولم يتعلق به حقّ لازم؛ كرهن وإجارة. وما ذكر في دين آدميّ.
إمّا دين الله تعالى؟ كزكاة امتنع المالك من أدائها! فليس للمستحق الأخذ من ماله إذا ظفر به لتوقّفه على النيّة.
3-
والمنفعة إن كانت واردة على عين؛ فهي كالعين، فله استيفاؤها منها بنفسه إن لم يخش من ذلك ضررا، وإلّا! فلا بد من الرّفع إلى الحاكم.
وإن كانت واردة على ذمّة؟ فهي كالدّين، فإن كانت على غير ممتنع طالبه بها، ولا يأخذ شيئا من ماله بغير مطالبة، وإن كانت على ممتنع؛ وقدر على تحصيلها بأخذ شيء من ماله؟ فله ذلك بشرطه.
هذا تفصيل «مسألة الظّفر» في كتب الفقه الشافعي، والله أعلم.
وهذا الحديث رواه البخاري في «التاريخ» ، وأبو داود والترمذيّ في «البيوع» ؛ من رواية شريك بن عبد الله النخعي، ومن رواية قيس بن الربيع:
كلاهما عن أبي صالح السمان.
ورواه الحارث بن أبي أسامة من رواية الحسن البصري: كلاهما- أي: الحسن البصري وأبي صالح السمان- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقال الترمذي:
حديث حسن غريب.
وأخرجه الدارمي في «مسنده» والحاكم! وقال: إنه صحيح على شرط
14-
مسلم، ولكن أعلّه ابن حزم، وكذا ابن القطان والبيهقي، وقال أبو حاتم: إنّه منكر؛ أي: ضعيف.
وقال الإمام الشافعي: إنّه ليس بثابت عند أهله؛ أي: ضعيف.
وقال الإمام أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح، ولعلّ كلام الإمام أحمد باعتبار ما وقف عليه! وإلّا؛ فليس في رواته وضّاع ولا كذّاب، ويحتمل أن يكون ليس مراد الإمام أحمد حقيقة البطلان بل الضعف، بدليل قوله لا أعرفه
…
الخ.
وقال ابن ماجه: له طرق ستّة كلّها ضعيفة. قال السخاوي: لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى. أي: لأنّ تباين الطّرق وكثرتها يفيد قوّة؛ وأن للحديث أصلا.
وقد رواه الدارقطني، والطبراني في «الكبير» و «الصغير» ؛ من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، ورجاله ثقات، وصحّحه الضياء في «المختارة»
ورواه الطبراني في «الكبير» وابن عساكر والبيهقي من حديث أبي أمامة- بإسناد ضعيف-، والدارقطني عن أبيّ بن كعب بإسناد ضعيف، والطبراني أيضا عن رجل من الصحابة.
فحديث أبي هريرة لا يقصر عن درجة الحسن، وقد صحّحه ابن السّكن.
وسبب الحديث كما رواه إسحاق بن راهواه في «مسنده» أن رجلا زنى بامرأة آخر، ثمّ تمكّن الآخر من زوجة الزّاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر
…
فذكر الحديث؛ قاله الزرقاني على «المواهب» .
14-
( «أدّبني ربّي) ؛ أي: علّمني رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق الظاهرة والباطنة. (فأحسن تأديبي» ) بإفضاله عليّ بالعلوم الوهبيّة ممّا لم يقع نظيره لأحد من البريّة.
.........
قال بعضهم: أدّبه باداب العبوديّة، وهذّبه بمكارم أخلاق الربوبيّة؛ لما أراد إرساله ليكون ظاهر عبوديّته مرآة للعالم؛ كقوله:«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» وباطن حاله مرآة للصادقين في متابعته، وللصديقين في السير إليه؛ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [31/ آل عمران] .
وقال القرطبي: حفظه الله من صغره، وتولّى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كرّه إليه أحوال الجاهلية وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كلّ ذلك لطف به وعطف عليه، وجمع للمحاسن لديه. انتهى.
وقال بعضهم: أدّب الله روح رسوله وربّاها في محل القرب قبل اتصالها ببدنه باللّطف والهيبة؛ فتكامل له الأنس باللّطف، والأدب بالهيبة، واتصلت بعد ذلك بالبدن ليخرج من اتّصالها كمالات أخرى من القوّة إلى الفعل، وينال كلّ من الروح والبدن بواسطة الآخر من الكمال ما يليق بالحال، ويصير قدوة لأهل الكمال.
والأدب: استعمال ما يحمد قولا وفعلا. أو الأخذ بمكارم الأخلاق. أو الوقوف مع المستحسنات، أو تعظيم من فوقه مع الرفق بمن دونه، وقيل: غير ذلك.
والحديث المذكور رواه الإمام أبو سعد ابن السمعاني في كتاب «أدب الإملاء» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أدّبني فأحسن تأديبي، ثمّ أمرني بمكارم الأخلاق؛ فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) » [الأعراف] .
قال السخاوي: سند هذا الحديث ضعيف جدّا، وإن اقتصر شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- على الحكم عليه بالغرابة؛ في بعض «فتاويه» !!. ولكن معناه صحيح.
ولذا جزم بحكايته ابن الأثير في خطبة «النهاية» وغيرها، ثمّ قال:
15-
«إذا أراد الله بعبد خيرا.. فقّهه في الدّين،
…
وبالجملة فهو كما قال ابن تيمية: لا يعرف له إسناد ثابت. وقال السيوطي في «الدرر» : ضعّفه ابن السّمعاني وابن الجوزي، وصحّحه أبو الفضل ابن ناصر رحمهم الله تعالى، آمين.
15-
( «إذا أراد الله بعبد خيرا) كاملا (فقّهه في الدّين) ؛ أي: فهّمه الأحكام الشرعية بتصوّرها والحكم عليها، أو باستنباطها من أدلّتها، وكلّ ميسّر لما خلق له، هذا ما عليه الجمهور.
وقال الغزالي: أراد العلم بالله وصفاته الّتي تنشأ عنها المعارف القلبيّة؛ لأنّ الفقه المتعارف؛ وإن عظم نفعه في الدّين؛ لكنّه يرجع إلى الظواهر الدينيّة، إذ غاية نظر الفقيه في الصّلاة مثلا الحكم بصحّتها عند توفّر الواجبات والمعتبرات.
وفائدته: سقوط الطلب في الدنيا. وأما قبولها وترتّب الثواب فليس من تعقّله، بل يرجع إلى عمل القلب وما تلبّس به من نحو خشية ومراقبة، وحضور وعدم رياء ونحو ذلك؛ فهذا لا يكون أبدا إلا خالصا لوجه الله، فهو الّذي يصحّ كونه علامة على إرادة الخير بالعبد.
وأما الفقهاء فهم في واد والمتزوّدون للآخرة بعلمهم في واد. ألا ترى إلى قول مجاهد «إنّما الفقيه من يخاف الله» ، وقول الحسن- لمن قال «قال الفقهاء» -:
وهل رأيت فقيها؛ إنّما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة!! والفقه في المعرفة أشرف كلّ معلوم، لأن كلّ صفة من صفاته توجب أحوالا ينشأ عنها التلبّس بكلّ خلق سنيّ، وتجنّب كلّ خلق رديّ.
فالعارفون أفضل الخلق، فهم بالإرادة أخلق وأحقّ. وأمّا تخصيص الفقه بمعرفة الفروع وعللها! فتصرّف حادث بعد الصدر الأول.
انتهى؛ من المناوي على «الجامع» .
وقال الحفني على «الجامع الصغير» : الظاهر أن المراد في هذا الحديث ونظيره بالفقه: العلم بالله تعالى وصفاته والتخلّق بمقتضى ما علم؛ إذ هذا هو الذي
وزهّده في الدّنيا، وبصّره عيوبه» .
ينفع القلب. وعلم الفقه المعلوم! وإن كان خيرا كبيرا! لا دخل له في تطهير القلب، إذ هو مجرد أحكام ووقائع. انتهى.
(وزهّده) - بالتشديد-: صيّره زاهدا (في الدّنيا) ؛ أي: جعل قلبه معرضا عنها، مبغضا محقرا لها؛ رغبة به عنها، تكريما له، وتطهيرا عن أدناسها، ورفعة عن دناءتها.
(وبصّره) - بالتشديد- (عيوبه» ) ؛ أي: عرّفه بها وأوضحها له؛ ليتجنّبها كأمراض القلب؛ من نحو حسد وحقد، وغلّ وغش، وكبر ورياء، ومداهنة وخيانة، وطول أمل وقسوة قلب، وعدم حياء وقلّة رحمة.. وأمثالها.
وفيه دلالة على أنّ الزهد في الدنيا علامة إرادة الله الخير بعبده.
قال الغزالي: والزهد فيها: أن تنقطع همّته عنها ويستقذرها ويستنكرها؛ فلا يبقى لها في قلبه اختيار ولا إرادة، والدنيا وإن كانت محبوبة مطلوبة للإنسان؛ لكن لمن وفّق التوفيق الخاصّ وبصّره الله بافاتها تصير عنده كالجيفة، وإنما يتعجّب من هذا الراغبون في الدنيا، العميان عن عيوبها وآفاتها، المغترّون بزخرفها وزينتها، ومثل ذلك: إنسان صنع حلوى من أغلى السكر وعجنها بسمّ قاتل، وأبصر ذلك رجل ولم يبصره آخر. ووضعه بينهما، فمن أبصر ما جعل فيه من السّمّ زهده، وغيره يغترّ بظاهره فيحرص عليه، ولا يصبر عنه؛ قاله المناوي على «الجامع» .
والحديث رواه البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وعن محمد بن كعب القرظي مرسلا، ورواه الديلمي في «مسند الفردوس» عن أنس أيضا، قال العراقي: وإسناده ضعيف جدّا، وقال غيره:
واه؛ قاله المناوي على «الجامع» .
16-
17-
«إذا لم تستح.. فاصنع ما شئت» .
16-
( «إذا أسأت) بفعل كبيرة، أو صغيرة، أو ما لا ينبغي مع شخص (فأحسن» ) - بفتح الهمزة- أي: بالتوبة في الأول، وبفعل ما يكفّر الصغيرة في الثاني، وبالاعتذار للشخص في الثالث. قاله الحفني على «الجامع» .
وقال المناوي على «الجامع» ؛ أي: قابل الفعلة السّيّئة بخصلة حسنة، كأن تقابل الخشونة باللّين، والغضب بالكظم، والسّورة بالأناة، وقس عليه؛ ذكره الزمخشري، وشاهده إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [114/ هود] .
وهذا إشارة إلى أن الإنسان مجبول على الشهوات، ومقتضى البهيميّة والسبعيّة والملكيّة، فإذا ارتكب من تلك الرذائل رذيلة يطغيها بمقتضى الملكيّة:«أتبع السّيّئة الحسنة تمحها» . ومن البيّن أنّ الكبيرة لا يمحوها إلّا التوبة.
قال الراغب: والحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال المرء في نفسه وبدنه، والسيئة تضادّها، وهما من الألفاظ المشتركة؛ كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة. انتهى.
والحديث رواه الحاكم، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن ابن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال: أراد معاذ بن جبل سفرا فقال: يا رسول الله؛ أوصني
…
فذكره. ورواه عنه أيضا الطبراني وغيره، وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. انتهى. والله أعلم.
17-
( «إذا لم تستح) - بحذف الياء المثناة التحتيّة، وإثباتها- ويكون الجازم حذف الياء الثانية؛ لأنه من «استحيا» ، والأول من «استحى» .
(فاصنع ما شئت» ) الأمر للتهديد والتوبيخ؛ أي: إذا نزع منك الحياء وكنت لا تستحي من الله ولا تراقبه في فعل أوامره واجتناب نواهيه (فاصنع ما شئت» ) أي: ما تهواه نفسك من الرذائل، فإنّ الله مجازيك عليه، ونظيره قوله تعالى
.........
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [40/ فصلت] ، وقوله تعالى فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [15/ الزمر] فإذا ارتفع الحياء صنعت النفس ما تهوى، وأنشد بعضهم:
إذا لم تخش عاقبة اللّيالي
…
ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير
…
ولا الدّنيا إذا ذهب الحياء
وقال آخر:
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا
…
وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع
أو الأمر للإباحة؛ أي: انظر إلى ما تريد أن تفعله، فإن كان ممّا لا يستحى من الله ومن الناس في فعله؛ فافعله، وإن كان ممّا يستحى من الله ومن الناس في فعله؛ فدعه.
وعلى هذا مدار الأحكام من حيث إن الفعل إمّا أن يستحيا منه؛ وهو 1- الحرام و 2- المكروه و 3- خلاف الأولى، واجتنابها مشروع. أو لا يستحيا منه وهو 1- الواجب و 2- المندوب، و 3- المباح، وفعل الأوّلين مطلوب. والثالث جائز.
والحياء- بالمدّ- لغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به.
وقيل: انقباض وخشية يجدها الإنسان من نفسه عندما يطّلع منه على قبيح.
واصطلاحا: خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حقّ ذي الحقّ.
وأمّا الحيا- بالقصر-! فيطلق على المطر، وعلى فرج الناقة.
وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء خير كلّه؛ لا يأتي إلّا بخير» .
وحكي أنّ رجلا رأى «1» النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: أنت قلت «الحيا خير كلّه» ؟
بالقصر- فقال: لا. ثمّ رآه ثانيا فسأله مثل ذلك؛ فقال: لا، فأخبر بذلك بعض
(1) الظاهر أنه في المنام!!.
.........
العلماء، فقال: الحيا- بالقصر- فرج الناقة، والذي في الحديث- بالمدّ- فرآه الثالثة وسأله: وقال: أنت قلت: «الحياء خير كلّه» ؟. فقال: نعم.
وينبغي أن يراعى فيه القانون الشرعي، فإنّ منه ما يذمّ كالحياء المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود شروطه. فإن هذا جبن لا حياء، ومثله الحياء في العلم المانع من سؤاله عن مهمات الدّين إذا أشكلت عليه، ومن ثمّ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: نعم النّساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين، ولذا جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنّ الله لا يستحي من الحقّ؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: «نعم؛ إذا رأت الماء» . وروى البيهقي عن الأصمعي أنه قال: من لم يتحمل ذلّ التّعلم ساعة بقي في ذلّ الجهل أبدا.
ومن لم يذق ذلّ التّعلّم ساعة
…
تجرّع ذلّ الجهل طول حياته
وروى أيضا عن عمر قال: لا تتعلّم العلم لثلاث، ولا تتركه لثلاث: لا تتعلم العلم لتماري به، ولا لترائي به، ولا لتباهي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بجهالة.
وروى الترمذي أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «استحيوا من الله حقّ الحياء» ، قالوا: إنّا نستحي والحمد لله!! فقال: «ليس ذلك، ولكنّ الاستحياء من الله حقّ الحياء: أن تحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء» .
وأهل المعرفة في ذلك يتفاوتون بحسب تفاوت أحوالهم، وقد جمع الله سبحانه وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم كمال الحياء بنوعيه، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وكان في الكسبيّ واصلا إلى أعلى غايته وذروتها، والله أعلم.
والحديث المذكور رواه البخاريّ في ذكر بني إسرائيل عن أبي مسعود البدري رضي الله تعالى عنه بلفظ:
.........
«إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه؛ عن أبي مسعود المذكور بلفظ:
«آخر ما أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
وكذا رواه ابن عساكر عن أبي مسعود أيضا.
وكذا رواه الإمام أحمد عن حذيفة لكن بلفظ: «إنّ ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
ورواه الطبراني في «الأوسط» عن أبي الطّفيل مرفوعا بلفظ: «كان يقال إنّ ممّا أدرك النّاس
…
» الحديث، ورواه ابن عدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا الدمياطي عنه، وقال غريب.
انتهى ذكره العجلوني رحمه الله تعالى في «كشف الخفا» .
تنبيه: حكي أنّ بعضهم وافى البصرة نحو شعبة يسمع منه ويكثر، فصادف المجلس قد انقضى؛ وانصرف شعبة إلى منزله، فحمله السرف إلى أن سأل عن منزل شعبة؛ فأرشد إليه، فجاء فوجد الباب مفتوحا فدخل من غير استئذان، فوجد شعبة جالسا على البالوعة يبول، فقال: السلام عليكم؛ رجل غريب قدمت من بلدة بعيدة لتحدّثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأعظم شعبة ذلك، فقال: يا هذا؛ دخلت منزلي بغير إذني، وتكلّمني على مثل هذه الحال!!. فقال: إني خشيت الفوت. فقال: تأخّر عنّي حتى أصلح من شأني، فلم يفعل واستمر في إلحاح، قال: وشعبة يخاطبه وذكره في يده يستبرئ. فلما أكثر قال:
اكتب: حدثنا منصور بن المعتمر، عن ربعيّ بن حراش، عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن ممّا أدرك الناس من كلام النّبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . ثم قال:
والله؛ لا أحدّثك بعد هذا الحديث، ولا حدّثت قوما تكون فيهم. والله أعلم.
18-
«إذا نزل القضاء.. عمي البصر» .
18-
( «إذا نزل القضاء) ؛ أي: المقضيّ (عمي البصر) ؛ أي: غطّي عنه نور العقل حتّى لا يرى بنوره المنافع فيطلبها، ولا المضارّ فيجتنبها، فهو محجوب بحجاب القدرة مع بقاء صورته، فكم من متردّ في مهلكة وهو يبصرها، ومفوّت منفعة في دينه أو دنياه وهو مشرف عليها. قال تعالى وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) [الأعراف] ومنه علم: أن العبد لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، وأنّه لا رادّ لقضائه بالنقض، ولا معقّب لحكمه بالرّد.
وهذا الحديث رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرجه البيهقي من قول ابن عباس بلفظ: إنّ القدر إذا جاء حال دون البصر.
قاله جوابا عن قول نافع بن الأزرق في معناه «أرأيت الهدهد كيف يجيء فينقر الأرض فيصيب موضع الماء، ويجيء إلى الفخّ؛ وهو لا يبصره حتى يقع في عنقه» ؟!
ورواه الترمذي بلفظ: «إذا جاء القدر عمي البصر، وإذا جاء الحين غطّى العين» . ورواه ابن أبي شيبة والحاكم- وصححه- من طرق عن ابن عباس أنّه قيل له: كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطّير؛ قال: إنّ سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدلّ سليمان على الماء، فأراد أن يسأله عنه فتفقّده.
قيل: «كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخّ، ويلقى عليه التراب، ويضع له الصبيّ الحبالة؛ فيغيّبها فيصيده» ؟! فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر.
وفي رواية سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم عن يوسف بن ماهك: أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ذكر يوما الهدهد، فقال: يعرف بعد مسافة الماء في الأرض.
فقال نافع بن الأزرق: قف.. قف يا ابن عباس، كيف تزعم أنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض؛ وهو ينصب له الفخّ فيذر عليه التراب فيصاد؟!
19-
«ارحموا ترحموا» .
فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: كذا وكذا، لم أقل له شيئا! إنّ البصر ينفع ما لم يأت القدر؛ فإذا جاء القدر حال دون البصر. فقال ابن الأزرق:
لا أجادلك بعدها في شيء. وأنشد غلام ثعلب لنفسه:
إذا أراد الله أمرا بامرئ
…
وكان ذا رأي وعقل وبصر
وحيلة يعملها في كلّ ما
…
يأتي به محتوم أسباب القدر
أغواه بالجهل وأعمى عينه
…
فسلّه عن عقله سلّ الشّعر
حتّى إذا أنفذ فيه حكمه
…
ردّ عليه عقله ليعتبر
وهذا الشعر تضمّن معنى حديث: «إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم حتّى ينفذ فيهم قضاؤه وقدره، فإذا مضى أمره؛ ردّ إليهم عقولهم ووقعت النّدامة» .
رواه الديلمي في «مسند الفردوس» عن أنس وعليّ رضي الله تعالى عنهما.
وقال في «الدرر» : رواه الديلمي والخطيب؛ عن ابن عباس بسند ضعيف.
وقال في «المقاصد» : رواه أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» ، ومن طريقه الديلمي في «مسنده» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا، وكذا الخطيب وغيره بسند فيه لا حق بن حسين كذّاب وضّاع؛ بلفظ:«إنّ الله إذا أحبّ إنفاذ أمر سلب ذوي العقول عقولهم» . انتهى من «كشف الخفا» للعجلوني.
وفي «الميزان» : إنه خبر منكر؛ أي: لأن فيه سعيد بن سماك بن حرب متروك كذّاب؛ ذكره المناوي.
19-
( «ارحموا) من في الأرض (ترحموا» ) - بضمّ أوله، مبنيا للمجهول- أي: يرحمكم الله سبحانه لأنّ الرحمة من صفات الحقّ الّتي شمل بها عباده، فلذا كانت أعلى ما اتّصفت بها البشر، فندب إليها الشارع في كلّ شيء، حتّى في قتال الكفّار والذّبح وإقامة الحجج وغير ذلك.
20-
«ازهد في الدّنيا.. يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس.. يحبّك النّاس» .
وتمام الحديث: «واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرّين الّذين يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون»
أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري في «الأدب» . والبيهقي في «شعب الإيمان» والطبراني بسند جيّد؛ كما قال المنذري والعراقي.
وقال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير حبان بن زيد الشرعبي وثّقه ابن حبان؛ قاله المناوي.
وقوله: «لأقماع القول» : - بفتح الهمزة جمع قمع؛ بكسر القاف وفتح الميم كضلع-: وهو الإناء الذي ينزل في رؤوس الظروف لتملأ بالمائعات، ومنه ويل لأقماع القول شبّه أسماع الّذين يستمعون القول؛ ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع الّتي لا تعي شيئا ممّا يفرغ فيها، فكأنه يمرّ عليها مجتازا كما يمرّ الشراب في الأقماع!! والله أعلم.
20-
( «ازهد) من الزّهد- بضم أوله وقد تفتح-، وهو- لغة-: الإعراض عن الشيء احتقارا له، وشرعا-: الاقتصار على قدر الضّرورة من المال المتيقّن الحلّ فهو أخصّ من الورع؛ إذ هو ترك الحرام والمشتبه. (في الدّنيا) باستصغار جملتها واحتقار جميع شأنها لتحذير الله تعالى منها؛ أي: أعرض عنها بقلبك ولا تحصّل منها إلّا ما تحتاج إليه، فإنّك إن فعلت ذلك (يحبّك) - بفتح الباء المشددة- (الله) تعالى لكونك أعرضت عمّا أعرض عنه؛ ولم ينظر إليه منذ خلقه، ولأنّ الله تعالى يحبّ من أطاعه، وطاعته تعالى لا تجتمع مع محبة الدّنيا، كما دلّت عليه النصوص والتجربة والتواتر؛ لأنّ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» ، والله لا يحبّ الخطايا ولا أهلها.
(وازهد فيما في أيدي النّاس) ؛ أي: فيما عندهم من الدنيا (يحبّك) - بفتح الموحدة المشددة- (النّاس» ) لأنّ قلوبهم مجبولة على حبّها مطبوعة عليها.
.........
ومن نازع إنسانا في محبوبه كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه أحبّه واصطفاه.
ولهذا قال الحسن البصري: لا يزال الرجل كريما على الناس حتى يطمع في دنياهم؛ فيستخفّون به ويكرهون حديثه.
وقيل لبعض أهل البصرة: من سيّدكم؟ قالوا: الحسن البصري، قيل: بم سادكم؟ قال: احتجنا لعلمه، واستغنى عن دنيانا. انتهى.
وقال النووي في «شرح الأربعين» قوله: «ازهد في الدنيا.. الخ» الزّهد:
ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا؛ وإن كان حلالا، والاقتصار على الكفاية.
والورع: ترك الشبهات. قالوا: وأعقل الناس الزهاد؛ لأنّهم أحبوا ما أحبّ الله، وكرهوا ما كره الله تعالى من جمع الدنيا، واستعملوا الراحة لأنفسهم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو «أوصي لأعقل الناس» ! صرف إلى الزّهاد.
ولبعضهم:
كن زاهدا فيما حوت أيدي الورى
…
تضحى إلى كلّ الأنام حبيبا
أو ما ترى الخطّاف حرّم زادهم
…
فغدا رئيسا في الجحور قريبا
وللشافعي رضي الله تعالى عنه في ذمّ الدّنيا:
ومن يذق الدّنيا فإنّي طعمتها
…
وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلّا غرورا وباطلا
…
كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلّا جيفة مستحيلة
…
عليها كلاب همّهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
…
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فدع عنك فضلات الأمور فإنّها
…
حرام على نفس التّقيّ ارتكابها
قوله: «حرام على نفس التقي ارتكابها» يدلّ على تحريم الفرح بالدّنيا، وقد صرّح بذلك البغوي في تفسير قوله تعالى وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا [26/ الرعد] .
.........
ثمّ المراد بالدنيا المذمومة: طلب الزّائد على الكفاية، أمّا طلب الكفاية! فواجب.
قال بعضهم: وليس ذلك من الدنيا. وأمّا الدنيا فالزائدة على الكفاية، واستدلّ بقوله تعالى زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ [14/ آل عمران]
…
الآية، فقوله تعالى ذلك إشارة إلى ما تقدم من طلب التوسع والتبسط.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: طلب الزائد من الحلال عقوبة ابتلى الله بها أهل التوحيد. ولبعضهم:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
…
إلّا الّتي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه
…
وإن بناها بشرّ خاب بانيها
النّفس ترغب في الدّنيا وقد علمت
…
أنّ الزّهادة فيها ترك ما فيها
فاغرس أصول التّقى ما دمت مجتهدا واعلم بأنّك بعد الموت لاقيها ثمّ بعد ذلك إذا فرح بها لأجل المباهاة والتفاخر والتطاول على الناس؛ فهو مذموم، ومن فرح بها لكونها من فضل الله تعالى؛ فهو محمود.
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اللهم لا نفرح إلّا بما رزقتنا.
انتهى كلام النووي ملخصا.
والحديث!! قال السخاوي وغيره: رواه ابن ماجه، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم، وابن حبان، وأبو نعيم والبيهقي وآخرون؛ من حديث خالد بن عمر القرشي، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أنّه قال:
جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ دلّني على عمل إذا عملته أحبّني الله وأحبّني الناس!! فقال: «ازهد
…
» وذكر الحديث.
وحسّنه الترمذي، وتبعه النّوويّ، وصحّحه الحاكم، وتعقّبه الذّهبي؛ بأن فيه خالد بن عمر وضّاع، ومحمد بن كثير المصيصي ضعّفه أحمد.
21-
«استعينوا على الحاجات بالكتمان؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» .
وقال المنذري عقب عزوه لابن ماجه: وقد حسّن بعض مشايخنا إسناده! وفيه بعد، لأنّه من رواية خالد القرشي وقد ترك واتّهم!!.
قال: لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النّبوّة، ولا يمنع كونه من رواية الضعفاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله. انتهى.
وقال السخاوي: فيه خالد هذا مجمع على تركه، بل نسبوه إلى الوضع.
قال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالموضوعات.
وقال ابن عدي: خالد وضع هذا الحديث. وقال العقيلي: لا أصل له.
لكن رواه غير الحاكم عن الثوري، وأخرجه أبو نعيم من طريق مجاهد عن أنس مرفوعا، لكن في سماع مجاهد من أنس نظر!! وقد رواه الثقات فلم يجاوزوا به مجاهدا، وكذا يروى عن الربيع بن خثيم رفعه مرسلا.
وبالجملة فقد حسّن الحديث النووي؛ ثم العراقي، وكلام شيخنا- يعني الحافظ ابن حجر- ينازع فيه كما بيّنته في تخريج «الأربعين» . انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في «شرح الأربعين» : التحسين إنّما جاء باعتبار تعدد الطّرق، فهو حسن لغيره؛ لا لذاته، وهو أحد الأحاديث الأربعة الّتي عليها مدار الإسلام. انتهى.
21-
( «استعينوا على) قضاء (الحاجات بالكتمان) - بكسر الكاف- أي:
إخفائها عن الغير قبل الشروع فيها مستعينين بالله على الظّفر بها، فالكتمان؛ وإن كان سببا عاديّا لقضائها؛ لكنّه في الحقيقة لله تعالى.
وعلّل طلب الكتمان بقوله: (فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» ) يعني: إن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم فعارضوكم في مرامكم.
.........
قال السخاوي وغيره: والأحاديث الواردة في التحدث بالنّعم محمولة على ما بعد وقوعها؛ فلا تعارض هذا!!
نعم إن ترتب على التّحدث بها حسد فالكتمان أولى. انتهى.
وأخذ من الحديث أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه؛ والاجتهاد في طيّ سرّهم.
قال الشافعي: من كتم سرّه كانت الخيرة في يده. قال: وروي لنا عن عمرو بن العاصي أنّه قال: ما أفشيت إلى أحد سرّا فأفشاه فلمته، لأنّي كنت أضيق منه سرّا.
وقال بعض الحكماء: من كتم سرّه كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وكم من إظهار سرّ أراق دم صاحبه ومنع من بلوغ مأربه!! ولو كتمه كان من سطواته آمنا! ومن عواقبه سالما، وبنجاح حوائجه فائزا!
وقال بعضهم: سرّك من دمك، فإذا تكلّمت فقد أرقته.
وقال أنوشروان: من حصّن سرّه فله بتحصينه خصلتان: الظّفر بحاجته، والسّلامة من السّطوات.
وفي «منثور الحكم» : انفرد بسرّك، ولا تودعه حازما فيزول، ولا جاهلا فيحول؛ لكن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق ومشورة ناصح فيتحرّى له من يأتمنه عليه ويستودعه إيّاه؛ فليس كلّ من كان على الأموال أمينا كان على الأسرار أمينا، والعفّة عن الأموال أيسر من العفّة عن إذاعة الأسرار.
قال الراغب: إذاعة السّرّ من قلّة الصّبر وضيق الصّدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء، والسبب في صعوبة كتمان السّر أنّ للإنسان قوّتين: آخذة؛ ومعطية، وكلتاهما تتشوّف إلى الفعل المختصّ بها، ولولا أنّ الله وكّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوّة تتشوّف إلى
22-
«استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» .
فعلها الخاصّ بها، فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلّا حيث يجب إطلاقها.
انتهى.
مناوي على «الجامع» ، وزرقاني على «المواهب» .
والحديث أخرجه الطبراني في «معاجمه» الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه، لكن بلفظ:«استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان»
…
والباقي سواء.
وكذا أخرج الحديث البيهقيّ في «الشعب» ، وأبو نعيم وابن أبي الدنيا والعسكري والقضاعي وابن عديّ: كلّهم؛ عن معاذ بن جبل وفيه عند الجميع سعيد بن سلّام العطار كذّبه أحمد وغيره، وقال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وقال فيه العجلي: لا بأس به.
ولكن أخرجه العسكري أيضا من غير طريقه بسند ضعيف مع انقطاعه بلفظ:
ويستأنس له بما أخرجه الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس مرفوعا: «إنّ لأهل النّعم حسّادا فاحذروهم» .
وفي الباب عن جماعة منهم عمر؛ عند الخرائطي، وابن عباس؛ عند الخطيب، وعلي بن أبي طالب؛ عند الخلعي، فلا يسوغ دعوى وضعه كما صنع ابن الجوزي، وقد جزم الحافظ العراقي بأنه ضعيف فقط. انتهى من الزرقاني.
لكن قال العلامة الحفني في حاشية «الجامع الصغير» : الجمهور على أن هذا الحديث موضوع، والله أعلم.
22-
( «استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» ) ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز الحاكم، وذكره في «كشف الخفا» بلفظ:«استعينوا على كلّ صنعة بصالح أهلها» ، وقال: قال في «الأصل» : قد يستأنس له بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من أمر دنياكم فإليكم» .
23-
«استفت قلبك وإن أفتاك النّاس وأفتوك» .
وقال في «التمييز» : ويشهد له ما ثبت في «سنن أبي داود» عن سعد قال:
مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثدييّ حتّى وجدت بردها على فؤادي، وقال لي: «إنّك رجل مفؤد فأت الحارث بن كلدة من ثقيف، فإنّه رجل يطبّ
…
» الحديث.
23-
( «استفت قلبك) ؛ أي: اطلب الفتوى من قلبك، وعوّل على ما فيه؛ لأنّ للنفس شعورا من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته فيه وما تذمّ؛ فيطمئن القلب للعمل الصالح طمأنينة تبشّره بأمن العاقبة، ولا يطمئنّ للإثم بل يورثه نفرة وتندّما وحزازة؛ لأن الشرع لا يقرّ عليه، وفي رواية:«استفت نفسك» (وإن) غاية لمقدّر دلّ عليه ما قبله، أي: فالتزم العمل بما في قلبك وإن (أفتاك النّاس) ؛ أي: علماؤهم كما في رواية: وإن أفتاك المفتون (وأفتوك» ) بخلافه، فرّخصوا لك فيه، لأنهم إنما يطّلعون على الظّواهر لا السّرائر.
والجمع للتأكيد!! كما في قوله تعالى فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ [17/ الطارق] فأتى بالثاني تأكيدا للأول، قال النووي في «شرح الأربعين» مثاله: الهدية إذا جاءتك من شخص غالب ماله حرام وتردّدت النفس في حلّها وأفتاك المفتي بحلّ الأكل، فإن الفتوى لا تزيل الشّبهة، وكذلك إذا أخبرته امرأة بأنه ارتضع مع فلانة، فإن المفتي إذا أفتاه بجواز نكاحها لعدم استكمال النّصاب لا تكون الفتوى مزيلة للشبهة، بل ينبغي الورع؛ وإن أفتاه الناس.
لكن قال المناوي: قال حجة الإسلام الغزالي: ولم يردّ كلّ أحد لفتوى نفسه، وإنّما ذلك ل «وابصة» في واقعة تخصّه. انتهى.
قال البعض: وبفرض العموم؛ فالكلام فيمن شرح الله صدره بنور اليقين فأفتاه غيره بمجرّد حدس أو ميل من غير دليل شرعي، وإلّا! لزمه اتباعه، وإن لم ينشرح له صدره. انتهى.
.........
وبما بحثه صرّح حجّة الإسلام، لكن بزيادة بيان وإحسان، فقال ما محصوله:
ليس للمجتهد أو المقلّد إلّا الحكم بما يقع له أو لمقلّده. ثمّ يقال للورع:
استفت قلبك وإن أفتوك، إذ للإثم حزازات في القلوب، فإذا وجد قابض مال في نفسه شيئا منه؛ فليتّق الله، ولا يترخّص تعلّلا بالفتوى من علماء الظاهر، فإن لفتاويهم قيودا من الضّرورات، وفيها تخمينات واقتحام شبهات، والتّوقي عنها من شيم ذوي الدّين وعادات السالكين لطريق الآخرة. انتهى كلام المناوي.
والحديث المذكور رواه الإمام أحمد ابن حنبل والدارمي في «مسنديهما» بإسناد حسن، ورواه أبو يعلى وأبو نعيم والطبراني مرفوعا؛ كلّهم عن وابصة بن معبد الأسدي رضي الله تعالى عنه قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا لا أريد أن أدع شيئا من البّر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي:«ادن يا وابصة» . فدنوت منه حتى مسّت ركبتي ركبته، فقال:«يا وابصة؛ أخبرك بما جئت تسأل عنه، أو تسألني عنه؟» قلت: يا رسول الله، أخبرني، قال:«جئت تسأل عن البّر والإثم» . فقلت: نعم، قال: فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري؛ ويقول: «يا وابصة؛ استفت نفسك، البّرّ ما اطمأنّت إليه النّفس واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر؛ وإن أفتاك الناس وأفتوك» . قال النووي: حديث حسن.
قال العلّامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: وفي جوابه صلى الله عليه وسلم لوابصة بهذا إشارة إلى متانة فهمه وقوّة ذكائه وتنوير قلبه؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم أحاله على الإدراك القلبيّ، وعلم أنّه يدرك ذلك من نفسه، إذ لا يدرك ذلك إلّا من هو كذلك.
وأما الغليظ الطبع الضعيف الإدراك! فلا يجاب بذلك، لأنّه لا يتحصّل منه على شيء، وإنما يفصّل له ما يحتاج إليه من الأوامر والنواهي الشرعية.
وهذا من جميل عاداته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطبهم على قدر
24-
«أسلم.. تسلم» .
عقولهم، ومن ثمّ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. انتهى.
قال في «كشف الخفا ومزيل الإلباس» : وفي الباب عن النّواس وواثلة وغيرهما رضي الله تعالى عنهم. انتهى.
24-
( «أسلم) - بكسر اللام- (تسلم» ) - بفتحها-: فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني مع ما فيه من البديع؛ وهو الجناس الاشتقاقي: وهو رجوع اللّفظين في الاشتقاق إلى أصل واحد.
وهذا قطعة من كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مذكور في حديث طويل مشهور ب «حديث هرقل» ، رواه البخاري في مواضع كثيرة من «صحيحه» ، وأخرجه مسلم في «المغازي» وغيرها، ولفظ الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية البخاري في «الجهاد، وبدء الوحي» : من محمد عبد الله ورسوله- إلى هرقل عظيم الرّوم؛ سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد؛ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) » [آل عمران] انتهى «1» .
وفي رواية للبخاري في «الجهاد» : «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله
…
»
الخ بتكرار «أسلم» مع زيادة الواو في الثانية، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه. كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [136/ النساء] قاله الحافظ؛ نقله عنه الزّرقاني ثمّ قال:
(1) في اللفظ النبوي اقتباس من الآية لا تصريح بنصها! فتنبه.
25-
قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمّنها بعض هذا الكتاب على الأمر بقوله «أسلم» ، والترغيب بقوله. «تسلم، ويؤتك» ، والزجر بقوله «فإن توليت» ، والترهيب بقوله «فإن عليك» والدلالة بقوله «يا أهل الكتاب» .
وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا! وهو من كلام من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
قال: واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام- يعني: السراج البلقيني-: أن كلّ من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذّبائح، لأنّ هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، بل ممّن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال لهم «يا أهل الكتاب» ، فدلّ على أنّ لهم حكمهم، خلافا لمن خصّ ذلك بالإسرائيليّين؛ أو بمن علم أن سلفه دخل اليهوديّة أو النصرانيّة قبل التبديل.
انتهى.
25-
( «اسمح) أمر من السماح؛ قاله المناوي على «الجامع» .
وقال الحفني: «اسمح» من المسامحة وهي ترك المال؛ لا في مقابلة شيء.
فالمسامحة ترك، والسماح بذل، فثمّ فرق بينهما. انتهى.
(يسمح) - بالبناء للمفعول، والفاعل-؛ أي: يسمح الله (لك» ) في الدنيا بالإنعام، وفي العقبى بعدم المناقشة في الحساب وغير ذلك.
والمعنى: عامل الناس بالمسامحة والمساهلة يعاملك الله بمثله في الدنيا والآخرة، «كما تدين تدان» ، وهو حثّ على المساهلة في المعاملة وحسن الانقياد، وهو من سخاوة الطبع وحقارة الدنيا في القلب، فمن لم يجده من طبعه فليتخلّق به، فعسى أن يسامحه الحقّ فيما قصّر فيه من طاعته وعسر عليه في الانقياد إليه في معاملته إذا أوقفه بين يديه لمحاسبته.
ولا يخفى كمال المسامحة على ذي لبّ، فجمع بهذا اللفظ الموجز المضبوط
26-
«أصحابي كالنّجوم؛
…
بضابط العقل الذي أقامه الحقّ حجّة على الخلق ما لا يكاد يحصى من المصالح والمطالب العالية؛ قاله المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بسند رجاله رجال الصحيح؛ كما قاله الحافظ الهيثمي.
ورواه البيهقي في «شعب الإيمان» كلّهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وخطّئوا من حكم عليه بالوضع. ورواه عبد الرزاق عن عطاء مرسلا بلفظ:
وروى الشيخان وأحمد؛ عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
«أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك» .
وعندهم أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قال: «قال الله: أنفق أنفق عليك» ، وفي معناه ما في «المجالسة» من طريق عون أنّه قال: أخذ الحسن شعره فأعطى الحجام درهمين، فقيل له: يكفيه دانق، فقال: لا تدنّقوا فيدنّق عليكم.
انتهى من المناوي على «الجامع» ، ومن العجلوني.
26-
( «أصحابي كالنّجوم) في الهداية، لأنّ كلّا منهما يهتدى به؛ فالنجوم يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، والصحابة يهتدى بهم من ظلمات الجهل؛ لكن الاهتداء بالصّحابة أقوى من الاهتداء بالنّجوم، لأنّه ينجي من الهلاك الآخروي ومن الدنيوي، بخلاف الاهتداء بالنّجوم.
ولا يقال: إذا كان كذلك فكيف يشبه الصّحابة بالنجوم؛ مع أن القاعدة أن وجه الشبه يكون أقوى في المشبّه به!!
لأنّا نقول: التشبيه إنّما هو باعتبار الحسّ والمألوف. وبهذا الاعتبار يكون الاهتداء في المشبّه به أقوى من المشبّه.
وهذا لا ينافي أنّه أقوى في المشبّه باعتبار آخر.
فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» .
وفي تشبيههم بالنّجوم إشارة إلى علوّ مرتبتهم جميعا؛ كعلوّ مرتبة النجوم.
وفيه إشارة إلى تفاوت مراتب الصحابة كتفاوت مراتب النجوم.
(فبأيّهم) ؛ أي: بأيّ واحد منهم (اقتديتم) ؛ فيما اختلفوا فيه (اهتديتم» )
يوضّح ذلك ما روي من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل الربّ عما يختلف فيه أصحابه؟
فقال: «يا محمد؛ أصحابك عندي كالنجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض؛ فمن أخذ بشيء ممّا اختلفوا فيه فهو على هدى عندي» ؛ قاله الباجوري على «السّلّم المنورق» قال:
وظاهر هذين الحديثين: أنّ الصّحابة كلّهم مجتهدون، وهو ما جرى عليه ابن حجر في «شرح الهمزية» ، وعلّله بتوفّر شروط الاجتهاد في جميعهم.
قال: ولذلك لم يعرف أنّ واحدا منهم قلّد غيره في مسألة من المسائل، لكن رجّح بعضهم أن فيهم المقلّدين والمجتهدين. ثم قال- أي: الباجوري-:
فإن قيل: خطابه صلى الله عليه وسلم في قوله «بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ؛ لا يصحّ أن يكون للصّحابة كما هو ظاهر، ولا لغيرهم؛ لعدم حضورهم حين الخطاب؟!
أجيب بأنه لغيرهم على طريق استحضارهم؛ وفرضهم حاضرين؛ كذا قال بعض المحققين. ثمّ ذكر الباجوري أن الشيخ تقي الدين السبكي نقل عن تاج الدين بن عطاء الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كانت له تجليات يرى في بعضها سائر أمّته الآتية بعده؛ فيقول: مخاطبا لهم: «لا تسبّوا أصحابي؛ فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» .
قال: ومثله يقال في الخطاب الذي نحن بصدده. انتهى كلام الباجوري في «شرح السّلّم المنورق» .
قال السيد عبد الله الغماري- عافاه الله تعالى-: هذا الحديث رواه الدارقطني في «غرائب مالك» ، وابن عبد البر في «كتاب العلم» ؛ من حديث جابر بن عبد الله
27-
«أعجل الأشياء عقوبة.. البغي» .
بإسنادين ضعيفين، ورواه عبد بن حميد في «مسنده» من حديث ابن عمر بإسناد واه، والقضاعي في «مسند الشهاب» ؛ من حديث أبي هريرة بإسناد فيه كذّاب، وأبو ذرّ الهروي في «السنة» ؛ من طريق الضحّاك معضلا، وإسناده ضعيف جدّا.
وقد ثبت ما يؤدي معنى صدره كما قال البيهقي؛ وهو ما في «صحيح مسلم» عن أبي موسى مرفوعا: «النّجوم أمنة أهل السّماء، فإذا ذهب النّجوم أتى أهل السّماء ما يوعدون، وأصحابي أمنة أمّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمّتي ما يوعدون» .
وفيه- كما قال الحافظ- الإشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة.
انتهى كلام الغماري في تعليقاته على كتاب «تأييد الحقيقة العلية» للسيوطي رحمه الله تعالى.
وقال في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» : رواه البيهقي وأسنده الديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «أصحابي بمنزلة النّجوم في السّماء؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم» انتهى.
وقال الباجوري في حواشي «السلّم المنورق» : وتكلّم بعضهم في سنده حتى قال الشهاب الخفاجي في «شرح الشفاء» : إنه روي من طرق كلّها ضعيفة، بل قال ابن حزم: إنه موضوع. لكن نقل العارف بالله الشعراني في «الميزان» : إنه صحيح عند أهل الكشف؛ وإن كان فيه مقال. انتهى.
27-
( «أعجل) : أسرع (الأشياء) ؛ أي: الذنوب (عقوبة) - بالنصب- (البغي» ) : مجاوزة الحدّ والتعدي بلا حقّ، و «عقوبة» تمييز؛ محوّل عن المضاف، و «البغي» حذف منه المضاف؛ وأقيم المضاف إليه مقامه!! أي:
أسرع عقوبات الأشياء عقوبة البغي.
والمعنى: لكل ذنب عقوبة، لكنها قد تتأخر إلّا البغي فينجّز للباغي في الدّنيا إن لم يعف الله تعالى عنه، وما أحسن ما قيل:
28-
«أعدى عدوّك.. نفسك الّتي بين جنبيك» .
لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا
…
جنوده ضاق عنها السّهل والجبل
وهذا الحديث ذكره في «المواهب» ولم يعزه إلى أحد!! وكذلك شارحه الزرقاني لم يذكر من رواه! ولعلّه مرويّ بالمعنى، فكان ينبغي للمصنف حذفه، لكنّه تبع «المواهب» في ذكره، ويدلّ لما قلناه أن الزرقاني ذكر لفظ الحديث الوارد في هذا المعنى؛ فقال:
روى الطبراني في «الكبير» ، والبخاري في «التاريخ» ؛ عن أبي بكرة مرفوعا:«اثنان يعجّلهما الله تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» .
قال في «الفائق» : وأصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [150/ الأعراف] ؛ سبقتموه. انتهى.
قال المناوي- بعد ذكر الحديث الذي أورده الزرقاني-: وفيه أن البغي والعقوق من الكبائر. وخصّ هاتين الخصلتين من بين خصال الشرّ بذكر التعجيل فيهما!! لا لإخراج غيرهما؛ فإنه قد يعجل أيضا، بل لأنّ المخاطب بذلك كان لا يحترز من البغي؛ ولا يبرّ والديه، فخاطبه بما يناسب حاله؛ زجرا له، وكثيرا ما يخصّ بعض الأعمال بالحثّ عليها بحسب حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر ممّا سواها؛ إمّا لمشقتها عليه، وإمّا لتساهله في أمرها. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
28-
( «أعدى عدوّك) ؛ أي: أشد أعدائك عداوة لك (نفسك) ؛ الأمّارة بالسّوء (الّتي بين جنبيك» ) ؛ لأنّها عدوّ ملازم من داخل تعين الشّيطان على هلاكك، والعدوّ يكون للواحد والجمع والمؤنث والمذكر، وقد يثنّى، وقد يجمع، وما أحسن ما قيل:
إنّي بليت بأربع ما سلّطوا
…
إلّا لأجل شقاوتي وعنائي
إبليس والدّنيا ونفسي والهوى
…
كيف الخلاص وكلّهم أعدائي
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» ؛ معزوّا للبيهقي- يعني في
29-
«أعظم النّاس خطايا.. أكثرهم خوضا في الباطل» .
30-
«أعظم الخطايا.. اللّسان الكذوب» .
«الزّهد» بإسناد ضعيف؛ كما قاله العجلوني- قال: وله شاهد من حديث أنس رضي الله تعالى عنه. انتهى.
29-
( «أعظم النّاس خطايا) : جمع خطيئة؛ وهي الذنب الواقع عن عمد (أكثرهم خوضا) ؛ أي: كلاما (في الباطل» ) ؛ الذي لا فائدة فيه تعود على الإنسان. و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» فلا ينبغي للشخص أن يصرف أوقاته في الخوض في الباطل، فإن ذلك ضياع لعمره، وكلّ نفس من أنفاسك جوهرة؛ إن صرفته فيما ينفعك في الآخرة، أو حسرة؛ إن صرفته في الأمور التي لا خير فيها ولا ثواب تناله منها.
30-
( «أعظم الخطايا) ؛ أي: الذنوب الصّادرة عن عمد، والخطايا: جمع خطيئة، أصلها خطائي، بوزن فعائل؛ فأبدلت الياء بعد ألف الجمع همزة فصار خطائئ بهمزتين، ثمّ أبدلت الثانية ياء لتطرّفها، ثم قلبت الكسرة قبلها فتحة على حدّ عذاري، ثم قلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ فصار خطاآ بألفين بينهما همزة، فاجتمع شبه ثلاث ألفات؛ فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال.
والخطيئة: - فعيلة- من الخطي- بكسر أوله-: وهو الذنب. انتهى ذكره ابن علان في «شرح رياض الصالحين» .
(اللّسان) ؛ أي: خطيئة اللّسان (الكذوب» ) ؛ أي: الكثير الكذب الذي تكرّر كذبه حتى صار صفة له، حتى يأتي بالكبائر كلّها؛ كالقذف والبهتان وشهادة الزور وغيرها، وربّما أفضى إلى الكفر، ذلك لأنّ اللّسان أكثر الأعضاء عملا من سائر الجوارح. وما من معصية إلّا وله فيها مجال، وإذا تعوّد الكذب أورد صاحبه
31-
«أعمى العمى.. الضّلالة بعد الهدى» .
المهالك؛ فمن أهمله مرخيّ العنان؛ ينطق بما شاء من البهتان؛ سلك به في ميدان الخطايا والطّغيان، وما ينجى من شرّه إلّا أن يقيّده بلجام الشرع، ولكون جريمته عظيمة جعل له حاجزان: الأسنان والشفتان.
والحديث أخرجه ابن لال والديلمي؛ كلاهما عن ابن مسعود، وأخرجه ابن عديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وإسناده ضعيف؛ كما في العزيزي.
31-
( «أعمى العمى الضّلالة بعد الهدى» ) ؛ أي: الكفر بعد الإسلام، فهو العمى على الحقيقة، والمرتد أسوء حالا من الكافر الأصلي؛ لأنّه لا يرث ولا يورث، وماله فيء، فإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ماله
…
إلى غير ذلك من أحكام يخالف فيها الكافر الأصليّ.
وهذا الحديث هو قطعة من حديث طويل رواه البيهقي في «دلائل النبوّة» وابن عساكر في «تاريخه» ؛ عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال:
خرجنا في غزوة تبوك فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان منها على ليلة؛ فلم يستيقظ حتى كانت الشمس كرمح؛ فقال: «ألم أقل لك يا بلال إكلأ لنا الفجر» فقال:
يا رسول الله ذهب بي الّذي ذهب بك! فانتقل غير بعيد، ثمّ صلّى، ثمّ حمد الله، ثمّ أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله
…
» وهو مذكور بطوله في «الجامع الصغير» ، وكذا رواه العسكري، والديلمي؛ عن عقبة بن عامر، ورواه أبو نصر السجزي في «الإبانة» ؛ عن أبي الدرداء مرفوعا، ورواه ابن أبي شيبة، وأبو نعيم في «الحلية» ، والقضاعي في «الشهاب» ؛ عن ابن مسعود موقوفا. قال بعض شراح «الشهاب» : إنه حسن غريب؛ قاله المناوي على «الجامع» .
32-
«اعمل لوجه واحد.. يكفك الوجوه كلّها» .
33-
«أفضل الأعمال.. سرور تدخله على مسلم» .
32-
( «اعمل لوجه واحد يكفك) - بحذف الياء- من الكفاية؛ لأنّه مجزوم في جواب الأمر، والفاعل المعمول له المدلول عليه بالفعل؛ أي: اعمل لله تعالى وحده خالصا لوجهه يكفك المعمول له (الوجوه كلّها» ) ؛ أي: جميع مهماتك في حياتك وبعد مماتك.
قال الغزالي: اعمل لأجل من إذا عملت لأجله ووحّدته بقصدك وطلبت رضاه بعملك؛ أحبّك وأكرمك وأغناك عن الكلّ، ولا تشرك بعبادته عبدا حقيرا مهينا لا يغني عنك شيئا.
وهذا الحديث أخرجه ابن عديّ والديلمي في «مسند الفردوس» ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وفي سنده أبو عبد الرحمن السّلمي وضاع للصوفية.
ومحمد بن أحمد بن هارون؛ قال: الذهبي في «الضعفاء» : متّهم بالوضع، ونافع بن هرمز أبو هرمز قال في «الميزان» : كذّبه ابن معين، وتركه أبو حاتم وضعفه أحمد. انتهى. وبه يعرف أنّ سنده هلهل بالمرّة، فكان ينبغي للمصنف حذفه؛ قاله المناوي على «الجامع» .
وبه يعلم أنّ مصنّفنا تبع «الجامع الصغير» في ذكره هذا الحديث والأولى حذفه.
33-
( «أفضل الأعمال) ؛ أي: من أفضلها بعد الفرائض، والمراد الأعمال التي يفعلها المؤمن مع إخوانه (سرور) ؛ أي: سبب سرور (تدخله على مسلم» ) من المسلمين، والمراد أن تدخل على أخيك المسلم سببا ينشرح به صدره؛ إمّا من جهة الدّين، أو من جهة الدّنيا، كأن تقضي عنه دينا لزمه أداؤه، أو تطعمه طعاما لا سيّما إذا كان ممّا يشتهيه.
34-
«أفضل الأعمال.. العلم بالله تعالى» .
قيل لابن المنكدر: ما بقي ممّا يستلذّ؟ قال: الإفضال على الإخوان.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللّفظ الّذي أورده المصنف ورمز له برمز ابن عديّ، وهو موجود في «الجامع الصغير» بلفظ:«أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا أو تطعمه خبزا» . انتهى
وعزاه لابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج» والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن عديّ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
قال المناوي: وظاهر صنيع المصنف أنّ البيهقي خرّجه وسكت عليه، والأمر بخلافه، بل قال: عمّار فيه نظر، وللحديث شاهد مرسل ثمّ ذكره.
وضعّفه المنذري؛ وذلك لأنّ فيه الوليد بن شجاع! قال أبو حاتم: لا يحتجّ به، وفيه عمّار بن محمد مضعّف، ثمّ قال: والحاصل أنّه حسن لشواهده. انتهى
34-
( «أفضل الأعمال العلم بالله تعالى» ) ؛ أي معرفة ما يجب له، ويستحيل عليه سبحانه من الصفات والسلوب والإضافات، فالعلم بذلك أفضل الأعمال وأشرف العلوم وأهمّها، فإنّه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلّف مرسل للرّسل منزّل للكتب؛ لم يتصوّر علم فقه ولا حديث ولا تفسير، فجميع العلوم متوقّفة على علم الأصول، وتوقفها عليه ليس بطريق الخدمة، بل بالإضافة والرئاسة. ومن ثمّ عدّ رئيس العلوم كلّها؛ فمعرفة الله تعالى والعلم به أول واجب مقصود لذاته على المكلّف، لكن ليس المراد بالمعرفة الحقيقية لأنّ حقيقته تعالى غير معلومة للبشر، ولا العيانيّة لأنّها مختصّة بالآخرة، ولا الكشفيّة فإنّها منحة إلهيّة، ولا نكلّف بمثلها إجماعا. بل البرهانيّة أي: التي تنشأ عن البراهين، وهي الّتي كلّفنا بها.
وإيضاح ذلك أنّ المعرفة أربعة أقسام:
1-
المعرفة الحقيقية؛ أي: الإحاطة بذاته تعالى وهذا مستحيل لا نكلّف به،
35-
«أفضل الجهاد.. أن تجاهد نفسك وهواك» .
ومنه: ما عرفناك حقّ معرفتك؛ أي: ما أحطنا بذاتك.
و2- المعرفة التي لا تكون في الدنيا إلّا لنبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ وهي معرفة العيان؛ أي:
المعرفة الناشئة عن إدراك البصر؛ فإنها لا تقع لغير نبيّنا إلا في الآخرة، فلسنا مكلّفين بها أيضا.
و3- المعرفة عن كشف؛ وهي خاصّة بأولياء الله تعالى بأن يكشف عن لطيفة قلوبهم بحيث يدركون بواطن الأمور، حتى لو كشف لهم الحجاب في الآخرة لم يزدادوا يقينا. وهذه الجنّة المعجّلة في الدنيا، ولسنا مكلّفين بها أيضا، لأنها تقع بالفيض الإلهي، وإن كان لها أسباب ذكرها القوم في كتب التصوّف.
و4- المعرفة البرهانية؛ أي: الّتي تنشأ عن البراهين وهي الّتي كلّفنا بها، وذلك بأن يعلم بالدّليل وجوده تعالى وما يجب له وما يستحيل عليه كما تقرّر.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» وقال: رواه ابن عبد البر.
وذكره في «الجامع» معزوّا للحكيم الترمذي، عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ:«أفضل الأعمال العلم بالله، إنّ العلم ينفعك معه قليل العمل وكثيره، وإنّ الجهل لا ينفعك معه قليل العمل ولا كثيره» .
قال المناوي: وسبب هذا الحديث: أنّ رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «العلم بالله» . ثمّ أتاه فسأله، فقال مثل ذلك، فقال:
يا رسول الله: إنّما أسألك عن العمل؟ فقال: «إنّ العلم ينفعك
…
» الخ
قال ابن حجر الهيتمي: وفيه أن العلم بالله ومعرفة ما يجب من حقّه أعظم قدرا من مجرّد العبادة البدنيّة. انتهى كلام المناوي؛ ملخصا.
35-
( «أفضل الجهاد) بالمعنى اللّغوي: وهو ارتكاب المشاقّ، إذ الجهاد شرعا: قتال الكفار (: أن تجاهد) أيّها الإنسان (نفسك وهواك» ) في ذات الله بأن تكفّها عن الشهوات، وتمنعها عن الاسترسال في اللّذات، وتلزمها فعل الأوامر
36-
«افتضحوا فاصطلحوا» .
37-
وتجنب المناهي؛ فإنه الجهاد الأكبر، والهوى أكبر أعدائك؛ وهو ونفسك أقرب الأعداء إليك، لما أنّ ذلك بين جنبيك؛ والله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [123/ التوبة] ، ولا أكفر عندك من نفسك؛ فإنها في كلّ نفس تكفر نعمة الله تعالى عليها، وإذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك جهاد الأعداء الّذي إن قتلت فيه كنت شهيدا من الأحياء الذين عند ربهم يرزقون!!.
ولعمري إنّ جهاد النّفس لشديد! بل لا شيء أشدّ منه؛ فإنها محبوبة، وما تدعو إليه محبوب، فكيف إذا دعيت إلى محبوب؛ فإذا عكس الحال وخولف المحبوب اشتدّ الجهاد، بخلاف جهاد أعداء الدين والدنيا!.
ولهذا قال الغزالي: وأشدّ أنواع الجهاد الصّبر على مفارقة ما يهواه الإنسان ويألفه، إذ العادة طبيعة خامسة فإذا انضافت إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله، ولا يقوى باعث الدين على قمعهما؛ فلذا كان أفضل الجهاد. انتهى ذكره المناوي على «الجامع» ؛ قال:
والحديث أخرجه الحافظ أبو نعيم والديلمي؛ من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وذكره في «الجامع الصغير» معزوّا إلى ابن النجار؛ عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه بلفظ:«أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه» . انتهى.
36-
( «افتضحوا فاصطلحوا» ) هو من الأمثال السائرة، وليس بحديث، وقد رواه الخطابي في «العزلة» ، من طريق محمد بن حاتم المظفري.
قال النجم الغزي: وفي معناه: «تعالوا نقتبح ساعة ونصطلح» انتهى. ذكره العجلوني في «كشف الخفا» فكان ينبغي للمصنف ألايذكره.
37-
( «أفضل الدّين الورع» ) : الذي هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النّفس مع كل طرفة. والورع: يكون في خواطر القلوب وسائر أعمال الجوارح،
38-
«أفضل الصّدقة.. جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول» .
وإنّما كان أفضل! لما فيه من التخلّي عن الشبهات، وتجنّب المحتملات.
والحديث رواه الطبراني في «معاجيمه» الثلاثة؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما بلفظ: «أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع» وفيه محمد بن أبي ليلى ضعّفوه لسوء حفظه؛ كما قاله المنذري، ثمّ الهيثمي. نقله المناوي، وقد ذكره أيضا في «كنوز الحقائق» مقتصرا على الجملة التي في المتن.
38-
( «أفضل الصّدقة) ؛ أي: من أفضلها (جهد) - قال المناوي: روي بضم الجيم وفتحها! فبالضم-: الوسع والطّاقة وهو الأنسب هنا. وبالفتح:
المشقة والمبالغة والغاية (المقلّ) - بضمّ الميم فكسر القاف-: أي: مجهود قليل المال، يعني: قدرته واستطاعته، ولا شك أن الصّدقة بشيء مع شدّة الحاجة إليه والشهوة له أفضل من صدقة الغني، وهو أفضل الناس بشهادة خبر:«أفضل النّاس رجل يعطي جهده» .
وإنّما كان ذلك أفضل!! لدلالته على الثقة بالله والزّهد. والمراد بالمقلّ:
الغني القلب؛ ليوافق حديث مسلم وغيره: «أفضل الصّدقة ما كان عن ظهر غنى» .
(وابدأ) - بالهمز، وتركه- (بمن تعول» ) ؛ أي: بمن تلزمك مؤنته وجوبا، ثمّ بعد ذلك تدفع الصّدقة لغيرهم، لأنّ القيام بكفاية العيال واجب عليك، والصّدقة مندوب إليها، ولا يدخل في ذلك ترفّه العيال وتشهيتهم وإطعامهم لذائذ الأطعمة بما زاد على كفايتهم من التّرفّه؛ لأنّ من لم تندفع حاجته أولى بالصّدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع.
والحديث أخرجه أبو داود في «الزكاة» وسكت عليه، وأقرّه المنذري، وأخرجه الحاكم في «الزكاة» أيضا: كلاهما؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقرّه الذّهبي. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
39-
«أفضل النّاس.. أتقاهم لله، وأوصلهم للرّحم» .
40-
39-
( «أفضل النّاس أتقاهم لله) ؛ أي: أخوفهم فيما أمر ونهي (وأوصلهم للرّحم» ) ؛ أي: القرابة. وقد تقدم الكلام على صلة الرحم. وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
40-
( «أفلح) بصيغة الماضي (من رزق) - بالبناء للمفعول- (لبّا» ) - بضم اللّام وبالباء الموحدة المشددة-: يعني فاز وظفر من رزقه الله تعالى عقلا راجحا؛ اهتدى به إلى الإسلام، وفعل المأمور، وتجنّب المنهيّ.
وكلّما كان العقل في العبد أوفر؛ فسلطان الدّلالة فيه على الرشد والنهي عن الغيّ أنفذ وأظهر، ولذلك كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا ذكر له عن رجل شدّة اجتهاده وعبادته سأل عن عقله؛ لأنه مناط الفلاح.
والعقل هو الكاشف عن مقادير العبودية، ومحبوب الله ومكروهه. والعقل:
نور خلقه الله وقسمه بين عباده على قدر مشيئته فيهم، وعلمه بهم.
وأول ما فات ابن آدم من دينه العقل، فإن كان ثابت العقل يكون خاشع القلب لله، متواضعا بريئا من الكبر؛ قائما على قدميه ينظر إلى اللّيل والنّهار يعلم أنّهما في هدم عمره؛ لا يركن إلى الدنيا ركون الجاهل؛ لعلمه أنّه إذا خلف الدنيا خلف الهموم والأحزان.
قال بعض العارفين: ما قسم الله لخلقه حظّا أفضل من العقل واليقين.
قال الراغب: والفلاح: الظّفر. وإدراك البغية أربعة أشياء: 1- بقاء بلا فناء، و 2- غنى بلا فقر. و 3- عزّ بلا ذلّ. و 4- علم بلا جهل.
وقال الزمخشري: المفلح الفائز بالبغية كأنّه الّذي انفتحت له وجوه الظّفر ولم تستغلق عليه. والمفلج- بالجيم-: مثله. انتهى.
41-
«الاقتصاد في النّفقة.. نصف المعيشة، والتّودّد إلى النّاس وقال بعضهم: ليس شيء أجمع لخصال الخير من خصال الفلاح.
واللّب: العقل الخالص من الشوائب. سمي به! لأنّه خالص بما في الإنسان من قواه كاللبّاب من الشيء، وقيل: هو ما زكى من العقل، وكلّ لبّ عقل، ولا عكس. انتهى ذكره المناوي في «شرح الجامع» .
وهذا الحديث رمز له في «الجامع الصغير» برمز البخاري في «التاريخ» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن قرّة بن هبيرة بن عامر القشيري- من وجوه الوفود- قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: إنّه كان لنا أرباب نعبدهنّ فودعناهنّ
…
فذكره. قال الهيثمي: فيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. انتهى من المناوي على «الجامع» .
41-
( «الاقتصاد) ؛ أي: التوسط (في النّفقة) وتجنّب الإفراط والتفريط فيها. (نصف المعيشة) قال الطيبي: وذلك لأنّ كلا طرفي التبذير والتقتير ينغّص المعيشة، والتوسّط فيه هو العيش.
والعيش نوعان: عيش الدنيا، وعيش الآخرة. كما أن العقل صنفان:
مطبوع، ومسموع.
والمسموع: صنفان؛ معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق.
وقال غيره: التوسّط في النفقة يحصل به راحة للعبد وحسن حال، وذلك نصف ما به الحياة. فقد قيل:
كمال المعيشة شيئان: مدة الأجل، وحسن الحال. فمدّة الأجل لا دخل للعبد فيها بوجه، وحسن الحال؛ وإن كان من الله؛ لكنّه جعل للعبد مدخلا فيه بالسّعي في أسبابه المحصّله له عادة. ذكره الزرقاني على «المواهب» .
(والتودّد) ؛ أي: التحبب (إلى النّاس) بالأخذ في أسباب المحبة؛
نصف العقل، وحسن السّؤال نصف العلم» .
كملاقاتهم بالبشر وطلاقة الوجه، وحسن الخلق، والرفق، وغير ذلك (نصف العقل) لأنّه يبعث على محبتهم، وعلى السلامة من شرّهم؛ أي: نصف ما يرشد إليه العقل ويحصّله.
وجعله نصفين! مبالغة حتّى كأنّ ما يرشد إليه من المحاسن هو نفسه.
(وحسن السّؤال نصف العلم» ) فإن السائل الفطن يسأل عما يهمّه وهو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسؤول ومسؤول؛ فإذا ظفر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعليه يحمل قوله:«- لا أدري- نصف العلم» ذكره الطيبيّ.
وقال غيره: إذا أحسن سؤال شيخه أقبل عليه بقلبه وقالبه، وأوضح له ما أشكل، وأبان له ما أعضل؛ لكونه وجد استعدادا وقابلا، وإذا لم يحسن السؤال أعرض عنه وضنّ بإلقاء النفائس إليه، وفتح من الجواب بنزر يسير ممّا يورده عليه.
ذكره الزّرقاني على «المواهب» .
وهذا الحديث رواه البيهقي في «الشّعب» ، والطبراني في «مكارم الأخلاق» ، والعسكري في «الأمثال» ، وابن السني والديلمي من طريقه، والقضاعي: كلّهم من طريق نافع؛ عن ابن عمر مرفوعا.
وضعّفه البيهقي لكن له شاهد عند العسكري من حديث خلّاد بن عيسى الصّفّار أبي مسلم الكوفي، عن ثابت البناني، عن أنس رفعه:«الاقتصاد نصف المعيشة، وحسن الخلق نصف الدّين» .
وكذا أخرجه الطبراني، والخطيب، وابن لال «1» .
ومن شواهده أيضا للعسكري عن أنس رفعه: «السؤال نصف العلم، والرّفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ في اقتصاد» .
(1) اسمه أحمد بن علي. و «لال» : معناه أخرس. «هامش الأصل» .
42-
«الله في عون العبد.. ما دام العبد في عون أخيه المسلم» .
وورد: «الرّفق في المعيشة خير من بعض التّجارة» ؛ رواه الدارقطني والطبراني وغيرهما، ويروى كما في «الفردوس» :«الرّفق خير من كثير من التّجارة» .
وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: «السؤال نصف العلم، والرّفق نصف المعيشة» . وفي «صحيح ابن حبان» من حديث طويل عن أبي ذرّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا ذرّ؛ لا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق» . وهذا اللفظ عند البيهقي في «الشعب» .
وله أيضا، وللعسكريّ عن عليّ مرفوعا:«التّودّد نصف الدّين، وما عال امرؤ قطّ على اقتصاد» ؛ أي: ما افتقر من أنفق قصدا ولم يجاوزه إلى الإسراف.
وورد في حديث عند الديلمي؛ عن أنس رفعه: «إنّ أحدكم يأتيه الله عز وجل برزق عشرة أيّام في يوم واحد، فإن هو حبس عاش تسعة أيّام بخير، وإن هو وسّع وأسرف قتّر عليه تسعة أيّام» . وجاء في خبر: «من فقه الرّجل رفقه في معيشته» .
قال مجاهد: ليرفق أحدكم بما في يده، ولا يتأوّل قوله وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [39/ سبأ] فإنّ الرّزق مقسوم، فلعلّ رزقه قليل فينفق نفقة الموسّع ويبقى فقيرا حتّى يموت، بل معنى الآية: أنّ ما كان من خلف فمنه سبحانه، فلعلّه إذا أنفق بلا إسراف ولا إقتار كان خيرا من معاناة بعض التجارة. انتهى من «المواهب» وشرحها.
42-
( «الله في عون العبد) ؛ أي: إعانته وتسديده، ومثل العبد الأمة.
فالمراد الذّكر والأنثى، وإنّما عبّر بالعبد! تنبيها على شرف العبوديّة.
(ما دام العبد) كرّر «العبد» بوضع الظاهر موضع المضمر!! تفخيما لشأنه وترغيبا في سرعة الامتثال، و «ما» مصدرية ظرفية؛ أي: مدة دوام كون العبد
(في عون أخيه المسلم» ) ؛ أي: إعانة بقلبه أو بدنه أو ماله أو جاهه.
.........
قيل: وهذا إجمال لا يسع بيانه الطّروس، فإنّه مطلق في سائر الأحوال والأزمان. ومنه أنّ العبد إذا عزم على معاونة أخيه فينبغي له ألايجبن عن إنفاذ قوله وصدعه بالحقّ، وتأمّل دوام هذه الإعانة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقيّدها بحالة خاصّة، بل أخبر أنّها دائمة بدوام كون العبد في عون أخيه.
وروى الإمام أحمد: «من كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته» .
والطبراني: «أفضل الأعمال إدخال السّرور على المؤمن فكسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته» .
وعن الحسن رضي الله تعالى عنه: أنّه أمر ثابتا البناني بالمشي في حاجة، فقال: أنا معتكف! فقال له: يا أعمش؛ أما علمت أنّ مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجّة بعد حجّة؟!» .
وروى الإمام أحمد: أنّ خبّاب بن الأرتّ خرج في سرية فكان صلى الله عليه وسلم يحلب عنزا لعياله، فيملأ الجفنة حتى يفيض زيادة على حلابها؛ فلما قدم وحلبها عاد إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصّدّيق يحلب للحيّ أغنامهم؛ فلما استخلف؛ قيل: الآن لا يحلبها!، فقال: بلى؛ وإنّي لأرجو ألايغيّرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله. وذلك لأن العرب كانوا يستقبحون حلب النّساء.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يتعاهد الأرامل فيستقي لهنّ الماء باللّيل، ورآه طلحة داخلا بيت امرأة ليلا فدخل لها نهارا؛ فإذا هي عجوز عمياء مقعدة! فقال: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ فقالت له: منذ كذا وكذا يتعاهدني بما يقوم بي من البرّ، وما يصلح لي شأني، ويخرج عنّي الأذى ويقمّ لي بيتي! فقال
43-
«أمت أمر الجاهليّة
…
طلحة لنفسه: ثكلتك أمّك يا طلحة؛ أعثرات عمر تتبع!!. انتهى من «شرح الأربعين» للعلامة ابن حجر رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الذي أورده المصنف؛ مرموزا له برمز متفق عليه.
لكن رأيت في «شرح رياض الصالحين» وغيره: أنه جزء من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وابن عساكر، وأبو بكر بن أبي شيبة في «مصنفه» ، وأبو عوانة في «مستخرجه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولم أر الحديث معزوّا للبخاري في شيء من المصنفات التي راجعتها، كما أنّي لم أر فيها زيادة لفظ «المسلم» ؛ بعد لفظة «أخيه» .
وهذا لفظ الحديث بطوله: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنّة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلّا نزلت عليهم السّكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» هذا لفظ مسلم في «صحيحه» في «كتاب الدعوات» .
43-
( «أمت) - بإسكان التاء-: أمر من «أمات» ، والخطاب لمعاذ من جملة وصيته له، والمراد توصيته بأن يحيل (أمر الجاهليّة) بنقض أحكامها، وخفض أعلامها، حتى ينسى ذكرها، ويعفو أثرها؛ فتكون كالميت الذي نسي ذكره وانقطع خبره.
.........
وفي «بلوغ الأرب» للألوسي: الجاهلية الذي كثر فيه الجهّال وهي ما قبل الإسلام. وعن ابن خالويه: أنّ هذا اللفظ اسم حدث في الإسلام للزّمن الذي كان قبل البعثة.
قال الحافظ ابن حجر في «شرحه على البخاري» : وهذا هو الغالب، ومنه يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [154/ آل عمران] . ثم قال: وأما جزم النووي في عدّة مواضع في «شرح مسلم» أنّ هذا هو المراد حيث أتى!! ففيه نظر، فإنّ هذا اللّفظ- وهو «الجاهلية» - يطلق على ما مضى، والمراد ما قبل إسلامه، وضابط آخره فتح مكّة. انتهى كلام «الفتح» . أي: فلفظ «الجاهلية» لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها قبل الإسلام؛ لما كانوا عليه من مزيد الجهل في كثير من الأعمال والأحكام.
ومما أبطله الشرع من عوائدهم: أنّهم كانوا يطلّقون النساء حتى إذا قرب انقضاء عدّتهنّ راجعوهن؛ لا عن حاجة ولا لمحبّة، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مدة الانتظار، وكان الرجل يطلق امرأته أو يتزوج أو يعتق ويقول «كنت لاعبا» فأبطل الله تعالى ذلك، وردّه عليهم بقوله سبحانه وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [231/ البقرة] .
وفي الحديث: «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: النكاح، والطلاق، والرّجعة» .
ومن ذلك: أنهم كانوا يمنعون النساء أن يتزوجنّ من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ؛ حميّة جاهلية، كما يقع كثيرا من نحو الملوك؛ غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، فإنهم بسبب ما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النّخوة والكبرياء؛ يتخيّلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع، وقد أبطل الله ذلك ونهى عنه بقوله وَإِذا
.........
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)[البقرة] .
ومن ذلك: أنهم كانوا إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء أن يتزوّجها بعضهم، وإن شاؤا زوّجوها، وإن شاؤا لم يزوّجوها. فهم أحقّ بامرأته من أهلها، فنهى الله تعالى عن ذلك بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [19/ النساء] أي: لتأخذوا ميراثهن أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح.
قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى تموت؛ أو تردّ إليه صداقها. وفي رواية: إن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
وحاصل معنى الآية: لا يحل لكم أن تأخذوهنّ بطريق الإرث؛ فتزعمون أنّكم أحقّ بهنّ من غيركم، وتحبسونهنّ لأنفسكم، وكان الرجل من العرب إذا مات عن المرأة أو طلّقها قام أكبر بنيه، فإن كان له حاجة فيها طرح ثوبه عليها، وإن لم يكن له حاجة فيها تزوّجها بعض إخوته بمهر جديد، وقد أبطل الله ذلك بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22)[النساء] وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية «نكاح المقت» ، ويسمى الولد الحاصل منه «مقتي» ،
ولهم في هذا الباب غير ذلك من المنكرات، وقد ذكرت في كتب الحديث والتفسير!!.
وروى البخاري في «صحيحه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال:
إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما
إلّا ما حسّنه الإسلام» .
44-
«أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» .
كانُوا مُهْتَدِينَ (140)[الأنعام] .
(إلّا ما حسّنه الإسلام» ) وأقرّه كالقسامة والدية مئة من الإبل.
وكانت العرب في الجاهلية تحرّم أشياء نزل القرآن بتحريمها، فكانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات، إلّا ما يحكى عن حاجب بن زرارة وهو سيّد بني تميم: تزوج بنته وأولدها.
وإنما تنزّهت العرب، ولا سيّما قريش عن هذه المناكح!! حفظا لحرمة الأرحام الدّانية أن تنتهك بالمناكح العاهرة، فتضعف الحميّة وتقل الغيرة، وهم أخصّ الناس بالمناكح الطاهرة، وكان أقبح ما يصنع بعضهم أن يجمع بين الأختين.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» .
44-
( «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» ) رواه الديلمي- بسند ضعيف- عن ابن عباس مرفوعا. وفي «اللآلئ» بعد عزوه ل «مسند الفردوس» عن ابن عباس مرفوعا قال: وفي إسناده ضعيف ومجهول. انتهى.
وقال في «المقاصد» : وعزاه الحافظ ابن حجر ل «مسند الحسن بن سفيان» عن ابن عباس بلفظ: «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» قال: وسنده ضعيف جدّا.
ورواه أبو الحسن التميمي من الحنابلة في «العقل» له؛ عن ابن عباس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي أيضا بلفظ: «بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب النّاس على قدر عقولهم» .
وله شاهد عن سعيد بن المسيب مرسلا بلفظ: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا
…
»
وذكره.
.........
ورواه في «الغنية» للشيخ عبد القادر الجيلاني قدّس سرّه بلفظ: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدّث النّاس على قدر عقولهم» .
وفي «صحيح البخاري» ؛ عن عليّ موقوفا: حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله!!
ونحوه ما في «مقدمة صحيح مسلم» عن ابن مسعود قال: ما أنت بمحدّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة.
وروى العقيلي في «الضعفاء» وابن السنّي وأبو نعيم في «الرياضة» وغيرهم عن ابن عباس مرفوعا: «ما حدّث أحدكم قوما بحديث لا يفهمونه إلّا كان فتنة عليهم» .
ورواه الديلمي أيضا من طريق حمّاد بن خالد، عن ابن عباس رفعه:
«لا تحدّثوا أمّتي من أحاديثي إلّا ما تحمله عقولهم» .
وروى البيهقي في «الشعب» عن المقدام بن معدي كرب مرفوعا: «إذا حدّثتم النّاس عن ربّهم فلا تحدّثوهم بما يعزب عنهم ويشقّ عليهم» .
وصحّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: حفظت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعاءين؛ فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم.
وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعا: «عاقبوا أرقّاءكم على قدر عقولهم» .
وأخرجه الدارقطني عن عائشة مثله.
وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين؛ عن أبي ذرّ مرفوعا:
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود مرفوعا: «خالط الناس بما يشتهون؛ ودينك فلا تكلمنّه» .
ونحوه عن عليّ رفعه: «خالق الفاجر مخالفة، وخالص المؤمن مخالصة،
45-
«إنّ الله تعالى بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع أقوام وخفض آخرين» .
46-
«إنّ الله تجاوز لأمّتي عن النّسيان، وما أكرهوا عليه» .
ودينك لا تسلمه لأحد» . انتهى.
ذكر جميع ذلك العجلونيّ في «كشف الخفا» رحمه الله تعالى.
45-
( «إنّ الله تعالى بعثني) أرسلني (رحمة مهداة) - بضم الميم وسكون الهاء-: أي: هدية للمؤمنين والكافرين بتأخير العذاب. (بعثت برفع أقوام) وهم المؤمنون (وخفض آخرين» ) وهم من أبى واستكبر، وإن بلغ من الشرف المقام الأفخر، بمعنى: أنه يضع قدرهم ويذلّهم باللّسان والسّنان؛ فكان عنده مزيد الرحمة للمؤمنين، وغاية الغلظة على الكافرين؛ فاعتدل فيه الإنعام والانتقام.
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، وقال: أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
46-
( «إنّ الله تجاوز) ؛ أي: عفا «من جازه يجوزه» : إذا تعدّاه وعبر عليه (لأمّتي) أمة الإجابة (عن النّسيان) - بكسر النون-: ضد الذّكر والحفظ؛ أي:
عن إثم النّسيان، (وما أكرهوا) ؛ أي: الأمة، وذكّره «1» !! نظرا للمدلول؛ لا للفظ (عليه» ) ؛ أي: حملوا على فعله قهرا. قال المناوي: والمراد رفع الإثم، وفي ارتفاع الحكم خلف، والشافعي كالجمهور على الارتفاع.
قال العلقمي: وحدّه الإكراه: أن يهدّد قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقوبات؛ يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه، وقد غلب على ظنّه أنه يفعل به ما هدّد به؛ إن امتنع ممّا أكرهه عليه، وعجز عن الهرب والمقاومة والاستغاثة بغيره ونحوهما من أنواع الدّفع.
(1) أي ضمير «أكرهوا» .
47-
«إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» .
ويختلف الإكراه باختلاف الأشخاص والأسباب المكره عليها. انتهى «عزيزي» .
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الّذي أورده المصنف؛ مرموزا له برمز الطبراني في «الكبير» عن ثوبان الهاشمي «مولى المصطفى صلى الله عليه وسلم» ، وقال الحاكم: إنّه صحيح على شرطهما. ذكره المناوي.
وأطال العجلوني في «كشف الخفا» في تخريجه وما قيل فيه من قدح، إلى أن قال: وأصل الباب: حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في «الصحيحين» ؛ عن زرارة بن أوفى يرفعه: «إنّ الله تجاوز لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلّم به» . انتهى.
47-
( «إنّ الله جعل الحقّ) يعني: أجراه (على لسان عمر) بن الخطاب، فكان كالسّيف الصّارم والحسام القاطع. قال الطيبي:«جعل» بمعنى «أجرى» ، فعدّاه ب «على» وفيه معنى ظهور الحقّ واستعلائه على لسانه، ووضع «جعل» موضع أجراه!! إيذانا بأنّ ذلك كان خلقيّا ثابتا لازما مستقرا (وقلبه» ) فكان الغالب على قلبه جلال الله؛ فكأنّ الحقّ معتمله حتى يقوم بأمر الله وينفّذ بقاله وحاله؛ وفاء بما قلّده الله الخلق من رعاية هذا الدين الذي ارتضاه لهم. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال الحفني: أي هو زائد عن غيره في ذلك؛ وإن كان أفضل منه كأبي بكر، إذ قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فالغالب على سيّدنا أبي بكر الرأفة، والغالب على سيّدنا عمر الشدّة في دين الله تعالى، ولذا لما أسلم ووجد الناس مختفين فقال: ألسنا على الحقّ؛ يا رسول الله!! فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقال:
ففيم الاختفاء؟. فأمر بالصّلاة والطّواف جهارا فظهر الإسلام من حينئذ، وإنما قيل هو زائد
…
الخ!! لأنّ جميع الصّحابة كذلك لا يجري على ألسنتهم وقلوبهم إلّا الحق. انتهى كلام الحفني.
48-
«إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم،
…
وفي «سنن أبي داود» في «كتاب الخراج» أنّ عمر بن عبد العزيز كتب: أنّ من سأل عن مواضع الفيء، فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فرآه المؤمنون عدلا موافقا لقول النّبي صلى الله عليه وسلم:«جعل الله الحقّ على لسان عمر وقلبه» .
فرض الأعطية وعقد لأهل الأديان ذمّة بما فرض عليهم من الجزية لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم. انتهى.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما؛ وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وأخرجه أبو يعلى والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن بلال بن رباح الحبشي المؤذن، وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما.
وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود في «الخراج» ، وابن ماجه، والحاكم، وصحّحه عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه بلفظ:«إنّ الله وضع الحقّ على لسان عمر يقول به» . وفي «كشف الخفا» للعجلوني: حديث: «الحقّ بعدي مع عمر حيث كان» قال الصغاني: موضوع. انتهى.
وأقول رواه في «الجامع الكبير» عن الحكيم الترمذي، وابن عساكر؛ عن الفضل بن عباس بلفظ:«الحق بعدي مع عمر بن الخطاب حيث كان» . انتهى كلام العجلوني رحمه الله تعالى.
48-
( «إنّ الله) عز وجل (لا ينظر إلى أجسامكم) المجرّدة عن السّير المرضية، وفي «صحيح مسلم» :«أجسادكم» بدل «أجسامكم» ؛ أي:
لا يجازيكم على ظاهرها (ولا إلى صوركم) الظاهرة.
ولكن ينظر إلى قلوبكم» .
(ولكن ينظر إلى قلوبكم» ) التي هي محلّ التقوى، وأوعية الجواهر، وكنوز المعرفة؛ أي: إنّما تكون المجازاة على ما في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته؛ دون الصّور الظّاهرة، فمعنى النظر هنا: الإحسان والرحمة والعطف.
ومعنى نفيه: نفي ذلك، فعبّر عن الكائن عند النظر بالنظر مجازا، وذلك لأن النظر في الشاهد دليل المحبّة، وترك النظر دليل البغض والكراهة، وميل الناس إلى الصّور المعجبة، والله منزّه عن ذلك، فجعل نظره إلى ما هو السرّ واللّبّ؛ وهو القلب.
والجمال قسمان: ظاهري، وباطني؛ كجمال علم وعقل وكرم، وهذا هو محلّ نظر الله من غيره، وموضع محبته؛ فيرى صاحب الجمال الباطني، فيكسوه من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات؛ فإن المؤمن يعطى حلاوة ومهابة بحسب إيمانه؛ فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبّه؛ وإن كان أسود مشوها، وهذا أمر مشهود بالعيان.
قال الغزالي: قد أبان هذا الحديث أن محلّ القلب موضع نظر الرّبّ، فيا عجبا ممن يهتمّ بوجهه الّذي هو محل نظر الخلق؛ فيغسله وينظفه من القذر والدّنس، ويزيّنه بما أمكن لئلا يطّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتمّ بقلبه الذي هو محلّ نظر الخالق فيطهّره ويزيّنه لئلا يطّلع ربّه على دنس أو غيره فيه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
وهذا الحديث رواه مسلم في «صحيحه» في «كتاب الأدب» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ورواه مسلم أيضا في «الأدب» عنه بلفظ:«إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» .
ورواه ابن ماجه بمثله عن أبي هريرة في «باب الزهد» بلفظ: «إنما ينظر
…
الخ» .
49-
«إنّ الله يحبّ معالي الأمور، ويكره سفسافها» .
49-
( «إنّ الله) تعالى (يحبّ معالي الأمور) قال المناوي على «الجامع» :
هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينيّة. انتهى.
قال الحفني: كالصلاة والصوم وتعليم العلم ونحو ذلك. انتهى.
أي: لا الأمور الدنيويّة، فإن العلوّ فيها نزول؛ كما في المناوي.
(ويكره سفسافها» ) - بفتح أوله-؛ أي: حقيرها ورديئها كالعجب والكبر.
فمن اتصف بالأخلاق الزكية أحبّه، ومن تحلّى بالأوصاف الرديّة كرهه.
والإنسان يضارع الملك بقوة الفكر والتمييز، ويضارع البهيمة بالشهوة والدناءة. فمن صرف همّته إلى اكتساب معالي الأخلاق أحبّه الله، فحقيق أن يلتحق بالملائكة لطهارة أخلاقه. ومن صرفها إلى السفاسف ورذائل الأخلاق التحق بالبهائم، فيصير إمّا ضاريا ككلب، أو شرها كخنزير، أو حقودا كجمل، أو متكبرا كنمر، أو رواغا كثعلب، أو جامعا لذلك كشيطان.
وشرف النفس صونها عن الرذائل والدّنايا، والمطامع القاطعة لأعناق الرجال؛ فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك.
من نفسه شريفة أبيّه
…
يربأ عن أموره الدّنيّه
ولم يزل يجنح للمعالي
…
يسهر في طلابها اللّيالي
والحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفا» بلفظ: «إنّ الله يحبّ معالي الأمور ويبغض سفسافها» ، وقال: رواه الحاكم عن سهل بن سعد.
ورواه أبو نعيم والطبراني وابن ماجه؛ عن سهل أيضا بلفظ: «إنّ الله كريم يحبّ الكرم، ويحبّ معالي الأخلاق؛ ويكره سفسافها» .
ورواه ابن ماجه عن طلحة، وأبو نعيم عن ابن عباس بلفظ:«إنّ الله جواد يحبّ الجود، ويحبّ معالي الأخلاق ويكره سفسافها» .
50-
«إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» .
ورواه الطبراني عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب بلفظ: «إنّ الله يحبّ معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها» . انتهى.
50-
( «إنّ الله) تعالى (يحبّ الرّفق) - بكسر فسكون-: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والدفع بالأخفّ (في الأمر كلّه» ) ؛ أي: في أمر الدّين وأمر الدنيا في جميع الأحوال والأفعال حتى في معاملة المرء نفسه، ويتأكّد ذلك في معاشرة من لا بدّ من معاشرته؛ كزوجته وخادمه وولده.
فالرّفق محبوب مطلوب مرغوب، وكلّ ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشرّ.
قال الغزالي: فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به؛ رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به؛ حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به؛ فقيه فيما ينهى عنه.
وعظ المأمون واعظ بعنف؛ فقال له: يا هذا ارفق، فقد بعث من هو خير منك إلى من هو شرّ منّي.
قال تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [44/ طه] . أخذ منه أنه يتعيّن على العالم الرفق بالطالب، وألايوبّخه ولا يعنّفه. انتهى.
قال العلقمي: وسببه كما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
دخل رهط من اليهود على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم؛ قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السّام واللّعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة؛ إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» ، فقلت: يا رسول الله؛ أو لم تسمع ما قالوا!؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلت: وعليكم» . انتهى من المناوي على «الجامع» ، ومن العزيزي على «الجامع» .
والحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم في «الاستئذان» ؛ كلاهما عن
.........
عائشة رضي الله تعالى عنها، وروى مسلم رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا:«إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا نزع من شيء إلّا شانه» .
وفي رواية له؛ من حديث شعبة عنها: ركبت بعيرا فكانت فيه صعوبة فجعلت تردّده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالرّفق إنّ الرّفق
…
» الحديث.
وعزاه في «اللآلي» ل «مسند الإمام أحمد» عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وأحمد وآخرون بلفظ: كنت على بعير فيه صعوبة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«عليك بالرّفق فإنّه لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» .
ورواه العسكري عن عائشة بلفظ: «ما كان الرّفق في قوم إلّا نفعهم، ولا كان الخرق في قوم إلّا ضرّهم» .
وله من حديث حجاج بن سليمان الرعيني قال: قلت لابن لهيعة: كنت أسمع عجائز المدينة يقلن «إنّ الرّفق في المعيشة خير من بعض التّجارة» ، فقال: حدّثنيه محمد بن المنكدر، عن جابر، رفعه.
وله أيضا عن عروة بن الزبير قال: مكتوب في التوراة: الرّفق رأس الحكمة.
وأثر عروة عند أبي الشيخ بلفظ: بلغني أنه مكتوب في التوراة: ألا إنّ الرّفق.. الخ.
وأخرج الطبراني عن جرير مرفوعا: «الرفق زيادة تبركة» .
وروى العسكري والقضاعي عن عائشة مرفوعا: «من أعطي حظّه من الرّفق فقد أعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظّه من الرّفق فقد حرم حظّه من خير الدنيا والآخرة» .
51-
«إنّ الله ينزل الرّزق على قدر المؤونة» .
وفي رواية للعسكري عنها بلفظ: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق» . ومثله للقضاعي عن أبي الدرداء مرفوعا.
وروى العسكري عن أنس مرفوعا: «ما كان الرّفق في شيء قطّ إلّا زانه، ولا كان الخرق في شيء قطّ إلّا شانه» .
ورواه عن جرير رفعه: «من يحرم الرّفق يحرم الخير كلّه» .
وروى البيهقي في «مناقب الشافعي» عن ابنه محمد أنّه قال: رآني أبي وأنا أعجل في بعض الأمور، فقال: يا بنيّ؛ رفقا، فإنّ العجلة تنقض الأعمال، وبالرفق تدرك الآمال.
ثمّ ساق الشافعي سنده إلى أبي هريرة رفعه: «إنّ الله رفيق يحبّ الرّفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» .
وقال النجم: وعند الطبراني عن ابن مسعود: «الرفق يمن، والخرق شؤم وهو عند البيهقي- وإذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرّفق؛ فإنّ الرفق لم يكن في شيء قطّ إلّا زانه، وإنّ الخرق لم يكن في شيء قطّ إلّا شانه» .
وعند الدارقطني في «الأفراد» عن أنس: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرا نفعهم في الدّين، ووقّر صغيرهم كبيرهم، ورزقهم الرّفق في معيشتهم، والقصد في نفقاتهم، وبصّرهم عيوبهم فيتوبوا منها، وإذا أراد بهم غير ذلك تركهم هملا» .
انتهى من «كشف الخفا» .
51-
( «إنّ الله) تعالى (ينزل الرّزق) - كذا في «كنوز الحقائق» ! قال العجلوني: والمشهور على الألسنة: «المعونة- (على قدر المؤونة» ) .
وهو في «الجامع الصغير» كما قال العجلوني: إنه مشهور على الألسنة.
قال العزيزي في «شرح الجامع» : ومعناه: أنّ الله يعين الإنسان على قدر ما يحتاج إليه من المؤونة؛ بحسب حاله، وما يناسبه.
.........
وقال المناوي؛ يريد أن العبد إذا لزمه القيام بمؤونة من تلزمه مؤونته شرعا، فإن كانت تلك المؤن قليلة قلّل له، وإن كانت كثيرة وتحمّلها على قدر طاقته وقام بحقّها وعانى من فنون الدنيا ما أمر به لأجلها؛ أمدّه الله بمعونته، ورزقه من حيث لا يحتسب بقدرها. وعماد ذلك طلب المعونة من الله تعالى بصدق وإخلاص، فهو حينئذ مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شيء فاستعان الله عليها جاءته المعونة على قدر المؤونة، فلا يقع لمن اعتمد ذلك عجز عن مرام أبدا.
وفي ذلك ندب إلى الاعتصام بحول الله وقوّته وتوجيه الرّغبات إليه بالسؤال والإبتهال، ونهي عن الإمساك والتقتير على العيال؛ فلا يخشى الإنسان الفقر من كثرة العيال، فإنّ الله يعينه على مؤونتهم، بل يندب له أن يعمل على ما فيه تكثيرهم؛ اعتمادا على الله. ولذا لما شكا بعض التلامذة لشيخه ضيق العيش أمره بالزّواج؛ فتعجب لكونه على مؤونة نفسه، لكنه امتثل ثمّ شكا له بعد ذلك؛ فأمره بالسكنى في بيت، ثمّ باتخاذ دابة، ثمّ باتّخاذ خادم، فوسّع الله عليه بعد ذلك، فالشيخ أخذ ذلك من هذا الحديث. انتهى كلام المناوي على «الجامع» ، مع زيادة من غيره.
وتمام الحديث- كما في «الجامع الصغير» -: «وينزل الصّبر على قدر البلاء» ، ورمز له بأنّه أخرجه ابن لال في «مكارم الأخلاق» وابن عدي.
قال المناوي: وكذا البيهقي في «الشعب» : كلّهم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وفيه عبد الرحيم بن رافد! أورده الذهبي في «الضعفاء» ، وقال:
ضعفه الخطيب، عن وهب بن وهب. قال أحمد وغيره: كذّاب، لكن يأتي ما يقوّيه بعض قوة. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
وكأنه يعني بما يقوّيه حديث: «إنّ المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المؤونة، وإنّ الصّبر يأتي من الله للعبد على قدر المصيبة» .
أخرجه الحكيم الترمذي في «النوادر» ، والبزار في «المسند» ، والحاكم في
52-
«إنّ أخسر النّاس صفقة
…
كتاب «الكنى والألقاب» ، والطبراني في «الكبير» : كلهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قال الهيثمي: وفيه طارق بن عمّار! قال البخاري: لا يتابع على حديثه.
وبقية رجاله ثقات. وقال المنذري: رواته محتجّ بهم في «الصحيح» إلا طارق بن عمّار ففيه كلام قريب؛ ولم يترك. قال: والحديث غريب. انتهى؛ نقله المناوي على «الجامع» .
وهذا الحديث وهو حديث: «إنّ المعونة تأتي من الله للعبد»
…
الخ
ذكره العجلوني في «الكشف» ؛ وقال: رواه البيهقي في «الشعب» ، والعسكري في «الأمثال» ، والبزار وابن شاهين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
ورواه البيهقي أيضا بلفظ: «أنزل الله عز وجل المعونة على قدر المؤونة، وأنزل الصّبر عند البلاء» . ورواه ابن الشخير بلفظ: «أنزل المعونة مع شدة المؤونة، وأنزل الصّبر عند البلاء» .
ورواه عمر بن طلحة من حديث أبي الحواري؛ حدثنا: عبد العزيز بن عمر أنه قال: أوحى الله عز وجل إلى داود عليه الصلاة والسلام: يا داود اصبر على المؤونة تأتك المعونة، وإذا رأيت لي طالبا؛ فكن له خادما.
انتهى كلام العجلوني في «الكشف» رحمه الله تعالى.
52-
( «إنّ أخسر النّاس صفقة) هي في الأصل: ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، والخسر في الأصل: نقص رأس المال، ثمّ استعمل في المقتنيات الخارجة؛ كالمال والجاه، وأكثر استعماله في النفيس منها؛ كصحة وسلامة وعقل وإيمان وثواب، وهو المراد هنا؛ ذكره الراغب.
أي: من أشد الناس خسرانا لعظيم الثواب، وأعظمهم حسرة يوم الماب.
من أذهب آخرته بدنيا غيره» .
53-
«إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين
…
(من أذهب آخرته) بترك الواجب أو المندوب (بدنيا غيره» ) ؛
أي: بسبب اشتغاله بجلب دنيا غيره؛ كخدام العظماء يشتغلون بنفع مخاديمهم، والقيام بمصالحهم، ويتركون الصّلوات، ويحلفون الأيمان الفاجرة، ويأخذون أموال الناس لاسترضاء مخاديمهم؛ كذا قاله الزرقاني على «المواهب» .
وفي القليوبي على «المنهاج» الفقهي: وأخسّ الأخسّاء: من باع دينه بدنيا غيره كالمكّاس. انتهى. أي: وكالقاضي الذي يحكم لغيره بملك غيره ظلما؛ كما قاله شيخنا.
وفي «المواهب مع الشرح» : أن ابن النّجار في «تاريخ بغداد» روى من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة العتري «حليف بني عديّ» أبي محمد المدني ولد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثّقه العجلي.
روى عن أبيه عامر صحابيّ مشهور حديثا لفظه: «أخسّ الناس صفقة: رجل أخلق يديه في آماله، ولم تساعده الأيام على أمنيّته؛ فخرج من الدّنيا بغير زاد، وقدم على الله بغير حجة» . وهو مما بيّض له الديلمي لعدم وقوفه له على سند.
انتهى ملخصا، ومثله في «الجامع الصغير وشرحه» .
53-
( «إنّ الدّين) - بكسر الدال- أي: دين الإسلام (يسر) أي: ذو يسر؛ نقيض العسر، أو هو يسر، مبالغة لكثرة اليسر- بالنسبة للأديان قبله- كأنّه نفسه، لأنّ الله رفع عن هذه الأمة الإصر الّذي كان على من قبلهم.
ومن أوضح الأمثلة له أنّ توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمّة بالإقلاع والعزم على عدم العود والنّدم.
(ولن يشادّ) : أي: يقاوم (الدّين) بأن يتعمّق بكثرة العبادة كأن يصوم كلّ
أحد إلّا غلبه» .
يوم، ويقوم جميع اللّيل، فإنه يعجز، فيترك جميع ذلك، فيصير معرضا عن الله بعد الإقبال، أو بالمبالغة في الطهارة والصّلاة وإخراج الحروف من مخارجها.
و «الدّين» منصوب على المفعولية، وفاعله قوله:(أحد) الثابت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عند الأصيلي، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم، وأكثر رواة البخاري بإسقاط لفظ «أحد» على إضمار الفاعل للعلم به، و «الدين» نصب على المفعولية أيضا.
وحكى صاحب «المطالع» أن أكثر الروايات برفع «الدّين» على أنّ «يشادّ» مبنيّ لما لم يسمّ فاعله، وعارضه النووي بأنّ أكثر الروايات: بالنصب.
قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بينهما بأنّه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيّد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد:«إنه من يشادّ هذا الدين يغلبه» . ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب. انتهى زرقاني
(إلّا غلبه» ) قال العلقمي: المعنى لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينيّة ويترك الرّفق إلّا عجز وانقطع، فيغلب. قال في «الفتح» : وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، والمبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلّي اللّيل ويغالب النّوم إلى أن غلبته عيناه في آخر اللّيل؛ فنام عن صلاة الصّبح؛ أي: عن وقت الفضيلة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس؛ فخرج وقت الفريضة.
وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: «إنّكم لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره» .
وقد يستفاد من هذا، الإشارة إلى الأخذ بالرّخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرّخصة تنطّع، كمن يترك التيمّم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعمال الماء إلى حصول الضّرر.
54-
«إنّ الصّبر عند الصّدمة الأولى» .
قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوّة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدّين ينقطع. انتهى عزيزي.
وقال الطيبيّ: بناء المفاعلة في «يشادّ» ليس للمغالبة، بل للمبالغة نحو طارقت النّعل، وهو من جانب المكلّف، ويحتمل أن يكون للمبالغة على سبيل الاستعارة، والمستثنى منه عامّ الأوصاف؛ أي: لم يحصل ويستقرّ ذلك المشادّ على وصف من الأوصاف إلّا على وصف المغلوبيّة. انتهى زرقاني.
وتمام هذا الحديث: «فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» . انتهى من «الجامع الصغير» . ورمز له برمز البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وفي الزرقاني: قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث من أفراد البخاري؛ عن مسلم. انتهى.
54-
( «إنّ الصّبر) ؛ الكامل المحبوب ما كان (عند الصّدمة الأولى» ) ؛ أي: عند زمن ابتداء المصيبة وشدّتها بخلاف زمن آخرها؛ فإنّه وإن كان فيه ثواب إلّا أنه دون الأوّل؛ لأنّ آخر المصيبة يهوّن الأمر شيئا فشيئا؛ فيحصل له التّسلّي.
والصّبر: حبس النفس على كريه تتحمّله أو لذيذ تفارقه، وهو لفظ عامّ ربّما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف موقعه. فحبس النفس لمصيبة يسمّى «صبرا» ؛ لا غير، ويقابله: الجزع، وحبسها في محاربة يسمى «شجاعة» ويقابله:
الجبن، وفي إمساك عن الكلام يسمّى «صمتا وكتمانا» ويقابله: القلق.
وأصل الصّدم: ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» باللّفظ الّذي أورده المصنف مرموزا له برمز الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه.
55-
«إنّك لن تدع لله شيئا.. إلّا عوّضك الله خيرا منه» .
وسببه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة تبكي على صبيّ لها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها:
«اتقي الله واصبري» فقالت: إليك عنّي، فإنّك لم تصب بمصيبتي!، ولم تعرفه.
فقيل لها: إنّه النبيّ صلى الله عليه وسلم! فأتت بابه فلم تجد عنده بوّابين فقالت: لم أعرفك
…
فذكره.
وفي رواية: «إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى» وفي رواية: «إنّما الصّبر عند أوّل صدمة» ، وفي رواية:«الصّبر عند الصّدمة الأولى» .
( «إنّك لن تدع لله) ؛ أي: لمحض الامتثال من غير مشاركة غرض من الأغراض (شيئا) ؛ بأن لا تشدّد في طلبه لكون تركه فيه رفق بالمسلمين (إلّا عوّضك الله خيرا منه» ) في الدين والدنيا، لأنّك لما قهرت نفسك وهواك لأجل الله جوزيت بما هو أفضل وأنفع.
والحديث ذكره المناوي في «الطبقات» باللفظ الذي أورده المصنف.
وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلّا له؛ إلّا عوّضه الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه» وقال: رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعا، وقال: غريب.
لكن له شواهد منها ما رواه التيمي في «ترغيبه» عن أبي بن كعب مرفوعا بلفظ: «لا يترك عبد شيئا لا يدعه إلّا لله، إلّا آتاه الله ما هو خير له منه» .
ولأحمد عن قتادة وأبي الدهماء: أنّهما نزلا على رجل من البادية، فقالا له:
هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ قال: نعم سمعته يقول: «إنّك لن تدع شيئا لله إلّا أبدلك الله به ما هو خير لك منه» . وفي لفظ له أيضا: «إنّك لن تدع شيئا اتّقاء الله إلّا أعطاك الله خيرا منه» . ورجاله رجال الصحيح.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا: «ما ترك عبد لله أمرا لا يتركه إلّا لله؛ إلّا عوّضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه» .
56-
«إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم.. فسعوهم بأخلاقكم» .
وللطبراني وأبي الشيخ عن أبي أمامة مرفوعا: «من قدر على طمع من طمع الدّنيا فأدّاه ولو شاء لم يؤدّه؛ زوّجه الله من الحور العين حيث شاء» . انتهى.
56-
( «إنّكم لن تسعوا) - بفتح السين المهملة- وفي رواية: «لا تسعون» بالفتح أيضا- أي: لا تطيقون أن تعمّوا (النّاس بأموالكم) لعزّة المال وكثرة الناس فلا يمكنكم ذلك (فسعوهم بأخلاقكم» ) بحيث تقبلون على كلّ منهم بالبشاشة وإظهار المودّة، وكأنّه جعل المال محلّا لطالبيه لاستراحة من حصل له منك مال، فاطمأنّ به كما يطمئنّ من هيّء له منزل يدفع عنه الضّرر.
وهذا الحديث ذكره في «المواهب» ، وقال: رواه أبو يعلى والبزار من طرق؛ أحدها حسن عن أبي هريرة رفعه بلفظ: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق» .
قال الزرقاني: أي: لا تتسع أموالكم لعطائهم، فوسّعوا أخلاقكم لصحبتهم.
والوسع والسّعة: الجدة والطّاقة، وذلك لأن استيعاب عامّتهم بالإحسان بالفعل لا يمكن، فأمر بجعل ذلك بالقول. كما قال تعالى وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [83/ البقرة] .
وروى العسكري عن الصّولي: لو وزنت كلمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأحسن كلام الناس كلّهم لرجحت على ذلك، وهي قوله:«إنكم..» الخ. قال: وقد كان ابن عبّاد كريم الوعد، كثير البذل، سريعا إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه.
وقال إبراهيم بن أدهم: إنّ الرجل ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه بماله؛ لأنّ المال عليه فيه زكاة وصلة أرحام وأشياء أخر، وخلقه ليس عليه فيه شيء.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم باللّيل الظامىء بالهواجر» رواه الطبراني. انتهى. وذكر حديث المتن في «الجامع الصغير» بلفظ «المواهب» مرموزا له برمز البزار، وأبي نعيم في «الحلية» ، والحاكم، والبيهقي
57-
58-
في «شعب الإيمان» . زاد المناوي: رواه الطبراني؛ كلّهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
57-
( «إنّ لصاحب الحقّ) ؛ أي: الدّين (مقالا» ) صولة الطلب، وقوّة الحجة.
وأخذ منه الغزالي أنّ المظلوم من جهة القاضي له أن يتظلّم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم، وكذا يقول المستفتي للمفتي: قد ظلمني أبي.. أو أخي.. أو زوجي. فكيف طريقي في الخلاص!؟. والأولى التعريض بأن يقول: ما قولكم في رجل ظلمه أبوه أو أخوه، لكن التعيين مباح؛ لما ذكر.
والحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: إن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال:
«دعوه، فإنّ لصاحب الحقّ مقالا» وهو من غرائب الصحيح، فإنه لا يروى عن أبي هريرة إلا بإسناد مداره على سلمة بن كهيل، وقد صرّح بأنّه سمعه من أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى حين حجّ.
وذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبرمز أبي نعيم في «الحلية» عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه.
58-
( «إنّما الأعمال) : جمع عمل، وهو حركة البدن؛ فيشمل القول ويتجوّز به عن حركة النفس، والمراد هنا عمل الجوارح الصّادرة من المؤمنين، أي: إنما صحتها (بالنّيّات) من مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: كل عمل بنيّته.
وقال الحربي: كأنه إشارة إلى تنويع النيّة كالأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل وعده، أو اتقاء وعيده.
.........
وفي معظم الرّوايات: «بالنّيّة» بالإفراد لأن محلّها القلب؛ وهو متّحد، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر؛ وهي متعدّدة فناسب جمعها، أو لأنّ النّيّة ترجع إلى الإخلاص؛ وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.
وفي «صحيح ابن حبان» : «الأعمال بالنّيّات» بحذف «إنّما» وجمعهما، وللبخاري في «الإيمان والعتق والهجرة» :«الأعمال بالنّيّة» بجمع «الأعمال» وإفراد «النّيّة» . وله في «النكاح» : «العمل بالنّيّة» بإفرادهما.
وهذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين؛ لأنّ «أل» في الأعمال للاستغراق، وهو مستلزم للحصر؛ لأنّ معناه: كلّ عمل بنيّة، فلا عمل إلّا بنية.
أو لأنّ «إنّما» للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق؛ أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع؛ أو بالعرف، أو تفيده بالحقيقة، أو بالمجاز؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخ الإسلام البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلّا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية.
وعبّر بالأعمال دون الأفعال!! لأن الفعل قد يكون زمانه يسيرا ولا يتكرر، قال تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)[الفيل] ، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [45/ إبراهيم] حيث كان إهلاكهم في زمن يسير ولم يتكرر، بخلاف العمل فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد بالاستمرار والتكرار الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [25/ البقرة] طلب منهم العمل الدائم المتجدد لا نفس العمل، قال تعالى فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)[الصافات] ولم يقل الفاعلون.
و «النيات» جمع نية؛- بكسر النون وشدّ المثناة التحتية في المشهور، وفي لغة: تخفيفها.
قال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض؛ من جلب نفع أو دفع ضرّ حالا أو مالا. والشرع خصّه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل؛ لابتغاء رضاء
59-
60-
«إنّما العلم بالتّعلّم،
…
الله تعالى وامتثال حكمه. وهي محمولة في الحديث على المعنى اللّغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده من بقية الحديث وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل.
والحديث أخرجه الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة: البخاري؛ في سبعة مواضع من «صحيحه» ، ومسلم، والترمذي في «الجهاد» ، وأبو داود في «الطلاق» ، والنسائي في «الأيمان» ، وابن ماجه في «الزهد» ؛ كلهم من حديث عمر بن الخطاب. ولم يخرجه في «الموطأ» رواية الأكثرين، وخرّجه في رواية محمد بن الحسن عنه، ذكره في آخر «باب النوادر» قبيل آخر الكتاب بورقات.
59-
( «إنّما البيع) ؛ أي: الجائز الصحيح شرعا الذي يترتب عليه أثره؛ الذي هو انتقال الملك وحلّ الانتفاع: هو ما وقع (عن تراض» ) من المتعاقدين مع باقي أركانه وشروطه، بخلاف ما لو صدر بنحو إكراه بغير حقّ، فلا أثر له، بل المبيع باق على ملك البائع؛ وإن صدرت صورة البيع.
وأفاد الحديث بإناطة الانعقاد بالرضى؛ اشتراط الصيغة لوجود صورته الشرعية في الوجود، لأنّ الرضى أمر خفيّ لا يطّلع عليه، فاعتبر ما يدلّ عليه وهو الصّيغة.
والحديث أخرجه ابن ماجه والضّياء؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قدم يهودي بتمر وشعير وقد أصاب الناس جوع، فسألوه أن يسعّر لهم فأبى
…
وذكر الحديث.
60-
( «إنّما العلم) ؛ أي: اكتسابه في الابتداء، وإدراك الأحكام ووصولها إلى الذّهن (بالتّعلّم) من العلماء؛ أي: بالأخذ في أسبابه من سؤال العلماء العارفين، والاعتناء بالتّلقّي عنهم، وإنّما بقاؤه وعدم ضياعه بمذاكرته وعدم الغافلة عنه، ولا يستحي من السؤال عمّا أشكل.
وإنّما الحلم بالتّحلّم» .
قال مجاهد: لا يتعلّم العلم مستحي ولا مستكبر.
وقيل لابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول.
والحصر في الحديث بالنّظر للغالب، وإلّا! فقد يحصل العلم بسبب الرياضة المقتضية لإفاضة العلوم على القلب من غير تعلم.
(وإنّما الحلم) ؛ أي: المكتسب (بالتّحلّم» ) ؛ أي: بحمل النفس عليه.
قال الراغب: الحلم: إمساك النفس عن هيجان الغضب. والتّحلّم: إمساكها عن قضاء الوطر إذا هاج الغضب. انتهى.
وفيه إشارة إلى أنّ الملكة قد تحصل بالاكتساب، فإذا كان عادته الغضب والانتقام؛ وعالج نفسه ومنعها من الانتقام المرّة بعد الآخرى، تعوّدت على الحلم حتى صار ملكة له، وكذا معالجة نحو الكبر والبخل والعجب والحسد تقتضي تبدّل الوصف الذميم بالوصف الجميل.
والحديث قال العجلوني في «الكشف» : رواه الطبراني في «الكبير» ، وأبو نعيم والعسكري عن أبي الدرداء رفعه بلفظ:«إنّما العلم بالتعلم والحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه. لم يسكن الدرجات العلى؛ ولا أقول لكم من الجنة: من استقسم، أو تطيّر طيرا يردّه من سفره» .
وفي سنده محمد بن الحسن الهمذاني: كذاب. ولكن رواه البيهقي في «المدخل» عن أبي الدرداء موقوفا.
وفي رواية للطبراني؛ وكذا البيهقي عن أبي الدرداء بزيادة بعد قوله «يوقه» :
وأخرجه العسكري عن أنس مرفوعا، وعن معاوية مرفوعا بلفظ: «يا أيها الناس؛ إنّما العلم بالتّعلّم والفقه بالتّفقّه، ومن يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين،
61-
«إنّما المرء بخليله،
…
وإنّما يخشى الله من عباده العلماء» .
وأخرجه الطبراني في «الكبير» وابن أبي عاصم في «العلم» عن معاوية أيضا.
وجزم البخاري بتعليقه؛ فقال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين» ، وقال:«إنّما العلم بالتّعلم» .
وأخرجه الدارقطني في «الأفراد» والخطيب؛ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والخطيب عن أبي الدرداء بلفظ:«إنّما العلم بالتّعلم، وإنّما الحلم بالتّحلّم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه»
وأخرجه أبو نعيم عن شداد بن أوس بلفظ: إنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ ماذا يزيد في العلم؟ قال: «التّعلم» . وفي سنده كذّاب، وهو عمر بن صبيح.
وأخرجه البزار بسند في حديث طويل رجاله ثقات عن ابن مسعود مرفوعا أنّه كان يقول: «فعليكم بهذا القرآن فإنه مأدبة الله، فمن استطاع منكم أن يأخذ من مأدبة الله فليفعل، فإنّما العلم بالتّعلم» .
وروى البيهقي في «المدخل» ، والعسكري في «الأمثال» : كلاهما عن أبي الأحوص أنه قال: «إنّ الرجل لا يولد عالما، وإنّما العلم بالتّعلم» .
وروى العسكري أيضا عن حميد الطويل أنّه قال: كان الحسن يقول: إذا لم تكن حليما فتحلّم، وإذا لم تكن عليما فتعلّم، فقلما تشبّه رجل بقوم إلّا كان منهم.
وروى العسكري أيضا من وجه آخر عن عمرو البجلي أنه قال: الحسن هو الله، والله أحسن منك رداء، وإن كان رداؤك حبرة رداؤه الحلم، فإن لم يكن حلم لا أبالك- فتحلّم، فإنّ من تشبّه بقوم لحق بهم. انتهى.
61-
( «إنّما المرء) : يعني الإنسان (بخليله) ؛ أي: صاحبه، يعني: هو على عادته وطريقته وسيرته، لأن الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يشعر،
فلينظر المرء من يخالل» .
(فلينظر) ؛ أي: فليتأمّل ويتدبّر (المرء) بعين بصيرته إلى أمور (من يخالل» ) ؛ أي: الذي يريد صداقته، فمن رآه ورضي دينه وخلقه صادقه، ومن سخط دينه فليجتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له؛ صحبه، فأقلّ درجات الأخوّة والصّداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ، وفي معنى الحديث قول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
فإن كان ذا شرّ فجنّبه سرعة
…
وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
…
ولا تصحب الأردا فتردى مع الرّدي
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» باللفظ الذي أورده المصنف.
وذكره النووي في «رياض الصالحين» بلفظ: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ؛ وقال: رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وقال الترمذي: حديث حسن. ومثله في «الجامع الصغير» .
وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» . وقال: رواه أبو داود والترمذي وحسّنه، والبيهقي، والقضاعي عن أبي هريرة رفعه، وتساهل ابن الجوزي فأورده في «الموضوعات» ومن ثمّ خطّأه الزركشي، وتبعه في «الدرر» .
وقال الحافظ في «اللآلئ» : والقول ما قال الترمذي. يعني: أن الحديث حسن.
ورواه العسكري عن أنس رفعه بلفظ: «المرء على دين خليله، ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الخير؛ أو من الحقّ مثل الذي ترى له» ورواه ابن عدي في «كامله» بسند ضعيف. وأورده جماعة؛ منهم البيهقي في «شعبه» بلفظ: من يخالّ- بلام مشددة-. انتهى كلام «الكشف» .
62-
وفي «دليل الفالحين» : قال السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.
قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن؛ كما قال الترمذي، ولا ينتهي إلى الضعف فضلا عن الوضع.
قال الحافظ العسقلاني في ردّه عليه: قد حسّنه الترمذي، وصححه الحاكم.
انتهى كلام «دليل الفالحين» . ملخصا.
ثم قال ابن علان: وبه يعلم ما في قول المصنف- يعني النووي- بإسناد صحيح، إلا أن يريد به المقبول مجازا، فيشمل الحسن، والله أعلم.
62-
( «إنّ من البيان) هو: المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير. وقال القاضي: البيان: جمع الفصاحة في اللفظ والبلاغة باعتبار المعنى. (لسحرا» ) بفتح لام التوكيد-؛ أي: إنّ من البيان لنوعا يحلّ من العقول والقلوب في التمويه محلّ السّحر، والسّحر- في الأصل-: الصّرف، قال تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)[المؤمنون] وسمّي السحر سحرا!! لأنه مصروف عن جهته. والساحر بسحره يزيّن الباطل في عين المسحور حتى يراه حقّا، فكذا المتكلم بمهارته في البيان وتفنّنه في البلاغة وترصيف النظم؛ يسلب عقل السامع، ويشغله عن التفكر فيه والتدبّر له؛ حتى يخيّل إليه الباطل حقّا والحقّ باطلا، وهذا معنى قول ابن قتيبة «إن منه ما يقرب البعيد، ويبعد القريب، ويزين الباطل القبيح، ويعظم الصغير؛ فكأنه سحر» .
والقصد النهي عن ذلك كالنهي عن السحر؛ إن كان ذلك البيان لأجل ستر حقّ ونصرة باطل. ويحتمل أنه مدح إن كان زخرفة العبارة لأجل قبول حقّ ونصره؛ فيكون تشبيهه بالسحر من حيث استمالة القلوب فقط، لا في النهي.
وهذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم وفد تميم وفيهم الزّبرقان وعمرو بن الأهيم فخطبا
.........
ببلاغة وفصاحة، ثمّ فخر الزبرقان فقال: يا رسول الله؛ أنا سيّد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك. فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدنيه؛ فقال الزّبرقان: والله لقد علم مني أكثر ممّا قال؛ ما منعه أن يتكلم إلّا الحسد!!
فقال عمرو: أنا أحسدك! والله إنّك للئيم الخال، حديث المال، ضيّق العطن، أحمق الولد، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أوّلا، وما كذبت فيما قلت ثانيا؛ لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والآخرى جميعا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» . قال الميداني: هذا المثال في استحسان النطق وإيراد الحجة البالغة.
قال التوربشتي: وحقّه أن يقال إن بعض البيان كالسّحر، لكنّه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا. انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث أخرجه الإمام مالك، والإمام أحمد، والبخاري في «النكاح والطّبّ» ، وأبو داود في «الأدب» ، والترمذي في «البرّ» : كلهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما.
وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إنّ من البيان سحرا، وإن من الشّعر حكما» . ورمز له برمز الإمام أحمد وأبي داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والجملة الثانية في البخاري بلفظ: «إنّ من الشّعر لحكمة» من حديث أبيّ رضي الله عنه.
وذكره في «الجامع الصغير» أيضا بلفظ: «إنّ من البيان سحرا، وإنّ من العلم جهلا، وإنّ من الشّعر حكما، وإن من القول عيالا» ورمز له برمز أبي داود في «الأدب» ؛ من حديث صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جدّه: بريدة بن الحصيب رضي الله عنهم آمين.
63-
«أنا مدينة العلم، وعليّ بابها» .
63-
( «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» ) الذي يدخل منه إلى المدينة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها، ولا بدّ للمدينة من باب، فأخبر أن بابها هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى، وقد شهد له بالأعلميّة الموافق والمخالف، والمعادي والمحالف؛
أخرج الكلاباذي: أن رجلا سأل معاوية رضي الله تعالى عنه عن مسألة، فقال: سل عليا؛ هو أعلم مني. فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزّه بالعلم عزّا!!.
وقد كان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر بن الخطاب يسأله عمّا أشكل عليه؛ جاءه رجل فسأله، فقال: ههنا عليّ فاسأله؛ فقال: أريد أسمع منك؛ يا أمير المؤمنين!! قال: قم؛ لا أقام الله رجليك. ومحا اسمه من الدّيوان.
وصحّ عنه من طرق أنه كان يتعوّذ من قوم ليس فيهم عليّ بن أبي طالب حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئا من البعوث لمشاورته في المشكل.
وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء: أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟! قال: لا والله.
قال الحرالي: قد علم الأولون والآخرون أنّ فهم كتاب الله تعالى منحصر إلى علم عليّ، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه؛ ذكره المناوي.
وفيه أيضا: وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم أن المراد «وعلي بابها» أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تنحّل لغرضه
.........
الفاسد بما لا يجديه، ولا يسمنه ولا يغنيه.
أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعا: ما أنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّا وعليّ رأسها وأميرها.
وأخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن عليّ كرم الله وجهه! فقال: «قسمت الحكمة عشرة أجزاء؛ فأعطي عليّ تسعة أجزاء، والناس جزآ واحدا» .
وعنه أيضا: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله بطن وظهر، وأما عليّ؛ فعنده منه علم الظاهر والباطن» .
وأخرج أيضا عن سيّد المرسلين وإمام المتقين: «أنا سيّد ولد آدم؛ وعليّ سيّد العرب» . وأخرج أيضا: «عليّ راية الهدى» .
وأخرج أيضا: «يا عليّ؛ إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتسعى» ، وأنزلت عليه هذه الآية وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)
[الحاقة] .
وأخرج عن ابن عباس: كنا نتحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى عليّ كرم الله وجهه سبعين عهدا لم يعهده إلى غيره. والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى.
انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» ، مرموزا له برمز العقيلي، وابن عدي، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» وصحّحه، زاد المناوي:
وكذا أبو الشيخ في «السنة» : كلّهم عن ابن عباس «ترجمان القرآن» مرفوعا مع زيادة: «فمن أراد العلم فليأت الباب» . ورمز له أيضا برمز ابن عدي والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.
قال المناوي: ورواه الإمام أحمد بدون الزيادة يعني قوله: «فمن أراد العلم فليأت الباب» . قال الذهبي- كابن الجوزي-: موضوع، وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا به. وقال ابن معين: لا أصل له. وقال الدارقطني: غير ثابت،
.........
وقال الترمذي؛ عن البخاري: منكر، وتعقّبه جمع من الأئمة منهم الحافظ العلائي فقال: من حكم بوضعه فقد أخطأ، والصواب أنه حسن باعتبار طرقه؛ لا صحيح ولا ضعيف. وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو كخبر:
«أرأف أمّتي بأمتي أبو بكر» . قال الزركشي: الحديث ينتهي إلى درجة الحسن المحتجّ به، ولا يكون ضعيفا، فضلا عن كونه موضوعا!!
وفي «لسان الميزان» : هذا الحديث له طرق كثيرة في «المستدرك» أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل، فلا ينبغي إطلاق القول عليه بالوضع. انتهى.
ورواه الخطيب في «التاريخ» باللفظ المذكور من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس ثم قال: قال القاسم: سألت ابن معين عنه؛ فقال: هو صحيح. قال الخطيب: قلت: أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية؛ وليس بباطل، إذ رواه غير واحد عنه، وأفتى بحسنه ابن حجر، وتبعه السخاوي؛ فقال: هو حديث حسن. انتهى؛ كلام المناوي على «الجامع» .
وذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «أنا دار الحكمة، وعليّ بابها» . ورمز له برمز الترمذي عن علي بن أبي طالب، أي: من رواية إسماعيل بن موسى الفزاري؛ عن محمد بن عمر الرومي، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن أبي عبد الضياء، عن عليّ وقال: غريب. انتهى مناوي على «الجامع» .
وقال في «المقاصد» : إنه رواه الترمذي في «المناقب» من «جامعه» ، وأبو نعيم في «الحلية» وغيرهما من حديث عليّ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنا دار الحكمة وعليّ بابها» قال الدارقطني في «العلل» : إنّه حديث مضطرب غير ثابت.
وقال الترمذي: إنه منكر، وكذا قال شيخه البخاري، وقال: إنه ليس له وجه صحيح. وقال ابن معين- فيما حكاه الخطيب في «تاريخ بغداد» -: إنه كذب لا أصل له، وأورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في «الموضوعات» ووافقه
.........
الذهبي وغيره على ذلك. انتهى كلام «المقاصد» .
وقال المناوي في «شرح الجامع» بعد ذكر حديث عليّ من رواية شريك المذكور: وزعم القزويني كابن الجوزي وضعه، وأطال العلائي في ردّه. وقال:
لم يأت أبو الفرج ولا غيره بعلّة قادحة في هذا الخبر؛ سوى دعوى الوضع دفعا بالصّدر.
وسئل عنه الحافظ ابن حجر في «فتاويه» فقال: هذا حديث صحّحه الحاكم، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ؛ وقال: إنه كذب.
والصواب خلاف قولهما معا، وأنه من قسم الحسن: لا يرتقي إلى الصحة؛ ولا ينحطّ إلى الكذب. قال: وبيانه يستدعي طولا لكن هذا هو المعتمد. انتهى كلام المناوي.
وقال الحافظ السيوطي في «الدرر» : وقد بسطت كلام العلائي وابن حجر في «التعقبات على الموضوعات» ، وقال في «اللآلئ» بعد كلام طويل:
والحاصل أن الحديث ينتهي بمجموع طريقي أبي معاوية وشريك إلى درجة الحسن المحتجّ به. انتهى.
وقال في «شرح الهمزية» لابن حجر المكي عند قولها «كم أبانت عن علوم» :
إنّه حسن خلافا لمن زعم وضعه. انتهى.
وقال في «الفتاوى الحديثية» : رواه جماعة وصححه الحاكم، وحسّنه الحافظان العلائي وابن حجر. انتهى.
وقد ألّف العلامة حافظ العصر أبو الفيض أحمد بن الصّدّيق الغماري المتوفى سنة 1382 رحمه الله تعالى مؤلفا خاصّا في هذا الحديث؛ سمّاه «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ» وقد طبع بمصر فليطلبه من أراده.
وما ذكرناه هو خلاصة ما قيل في هذا الحديث، ومن أراد المزيد فليراجع
64-
«المقاصد» و «الكشف» و «اللآلئ المصنوعة» مع مؤلّف السيد أحمد الغماري رحمه الله تعالى. آمين.
64-
( «أنت) أيّها الرجل القائل «إنّ أبي يريد أن يجتاح مالي» ؛ أي:
يستأصله (ومالك لأبيك» ) يعني: إنّ أباك كان سببا في وجودك، ووجودك سبب وجود مالك، فإذا احتاج فله الأخذ منه بقدر الحاجة؛ كما يأخذ من مال نفسه إذا كان المأخوذ فاضلا عن حاجة الابن، ومثل الأب سائر الأصول؛ ولو من جهة الأم، ومثل الابن سائر الفروع؛ ولو من جهة البنت.
وسببه- كما في ابن ماجه عن جابر بن عبد الله- أنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ إنّ لي مالا وولدا، وإن أبي يجتاح مالي، فذكره حملا له على برّ أبيه، وعدم عقوقه، فليس المراد إباحة ماله له حتى يستأصله بلا حاجة.
وهذا الحديث ذكره في «الجامع الصغير» مرموزا له برمز ابن ماجه في «التجارة» ؛ عن جابر بن عبد الله. قال ابن حجر الحافظ في «تخريج أحاديث الهداية» : رجاله ثقات لكن قال البزار: إنما يعرف عن هشام، عن ابن المنكدر مرسلا، وقال البيهقي: أخطأ من وصله عن جابر.
انتهى مناوي على «الجامع» .
ورمز له في «الجامع» أيضا برمز الطبراني في «الكبير» .
قال المناوي: وكذا البزار، كلاهما عن سمرة بن جندب وابن مسعود. قال الحافظ الهيثمي: ومن طريق سمرة فيه عبد الله بن إسماعيل الحوداني، قال أبو حاتم: ليّن، وبقية رجال البزار ثقات. انتهى. ومفهومه: أنّ رجال الطبراني ليسوا كذلك، ومن طريق ابن مسعود فيه إبراهيم بن عبد الحميد؛ ولم أجد من ترجمه!! وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: فيه من طريق ابن مسعود هذا: معاوية بن يحيى وهو
.........
ضعيف. وأما حديث سمرة، فإن العقيلي بعد تخريجه عنه قال: وفي الباب أحاديث فيها لين، وبعضها أحسن من بعض.
وقال البيهقي: روي من وجوه موصولا لا يثبت مثلها، وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: قد أشار البخاري في «الصحيح» إلى تضعيف هذا الحديث.
انتهى؛ نقله المناوي على «الجامع الصغير» .
وقال في «كشف الخفا» : وله طرق أخرى عند البيهقي في «الدلائل» ، والطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بسند فيه المنكدر- ضعّفوه- عن جابر؛
قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إنّ أبي أخذ مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اذهب فأتني بأبيك» ، فنزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ الله عز وجل يقرئك السلام؛ ويقول لك: إذا جاء الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه؛ ما سمعته أذناه. فلما جاء الشيخ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما بال ابنك يشكوك؛ تريد أن تأخذ ماله» ؟ قال: سله يا رسول الله؛ هل أنفقته إلّا على إحدى عمّاته أو خالاته؛ أو على نفسي!! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إيه دعنا من هذا؛ أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك» . فقال الشيخ: والله يا رسول الله؛ ما يزال الله يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي. فقال: «قل وأنا أسمع، فقال: قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا
…
تعلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسّقم لم أبت
…
لسقمك إلّا ساهرا أتململ
كأنّي أنا المطروق دونك بالّذي
…
طرقت به دوني فعينيّ تهمل
تخاف الرّدى نفسي عليك؛ وإنّها
…
لتعلم أنّ الموت وقت مؤجّل
فلمّا بلغت السّنّ والغاية الّتي
…
إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
…
كأنّك أنت المنعم المتفضّل
فليتك إذ لم ترع حقّ أبوّتي
…
فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدّا للخلاف كأنّه
…
بردّ على أهل الصّواب موكّل
.........
ويروى بدل البيت الأخير قوله:
فأوليتني حقّ الجوار فلم تكن
…
عليّ بمال دون مالك تبخل
قال: فحينئذ أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه؛ وقال: «أنت ومالك لأبيك» .
وذكره في «الكشاف» في تفسير سورة الإسراء بلفظ:
شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنّه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكّأ على عصا، فسأله فقال: إنّه كان ضعيفا وأنا قويّ، وفقيرا وأنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ؛ وهو يبخل عليّ بماله.
فبكى عليه الصلاة والسلام وقال: «ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلّا بكى» ، ثمّ قال للولد:«أنت ومالك لأبيك» وقال مخرّجه: لم أجده.
وقال في «المقاصد» قال شيخنا: أخرجه في «معجم الصحابة» من طريق وبيّض له. قال: قلت: وكأنه رام ذكر الذي قبله.
والحديث عند البزار في «مسنده» ؛ عن عمر أنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبي يريد أن يأخذ مالي
…
فذكره، وهو منقطع.
وأخرجه الطبراني في «معاجيمه» الثلاثة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستعدي على والده، قال: إنه أخذ منّي مالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما علمت أنّك ومالك من كسب أبيك» .
وأخرج ابن ماجه؛ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:
جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبي اجتاح مالي؛ قال: «أنت ومالك لأبيك، إنّ أولادكم من طيب كسبكم فكلوا من أموالكم» . وأخرجه أحمد عنه، وكذا ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قال في «المقاصد» : والحديث قويّ.
65-
66-
65-
( «أن تفعل الخير خير لك» )«أن» حرف مصدري فهو بفتح الهمزة، أي: فعلك الخير واشتغالك به خير لك من خلافه الّذي هو الترك؛ أو الاشتغال بالشرّ، فإنّ النّفس إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشرّ؛ فينبغي للإنسان أن يوجّه اهتمامه إلى وجوه الخير وأعمال البرّ؛ ليكون ذلك شغلا شاغلا له عن التوجّه إلى الشّر والتفكير فيه. والحديث المذكور لم أقف على من ذكره؛ ولا من خرّجه.
66-
( «أنزلوا) الخطاب للأئمة أو عامّ (النّاس) ؛ من مسلم وكافر، وولي وصالح وعالم، وغني وفقير، وكبير وصغير وأشيب وغيره (منازلهم» ) ؛ أي:
احافظوا حرمة كلّ أحد على قدره، وعاملوه بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف؛ فلا تسوّوا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس، فإنه يورث عداوة وحقدا في النفوس؛ لأن الإكرام غذاء الآدمي، والتارك لتدبير الله في خلقه لا يستقيم حاله، وقد دبّر الله تعالى الأحوال لعباده غنى وفقرا، وعزّا وذلّا، ورفعة وضعة؛ ليبلوكم أيّكم أشكر، فالعامل عن الله يعاشر أهل دنياه على ما دبّر الله لهم، فإذا لم ينزله المنزلة الّتي أنزله الله، ولم يخالقه بخلق حسن؛ فقد استهان به وجفاه، وترك موافقة الله في تدبيره.
فالمراد بالحديث الحضّ على مراعاة مقادير النّاس ومراتبهم ومناصبهم، وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس وفي القيام
…
وغير ذلك من الحقوق.
فمنزلة العالم فوق منزلة الجاهل، ومنزلة الغني فوق منزلة غيره الّتي اعتادها بحيث لو ترك ذلك لأورث حقدا.
ومن ذلك قبول هديته، فينبغي عدم الردّ، إلّا إذا بلغ رتبة الزهد والورع. وإلّا إذا كانت في المعنى جعالة على قضاء حاجة، فالأولى الردّ صونا للمروءة، وبعضهم حرّمها إذا كانت بهذه الصّفة.
.........
فإذا سوّيت بين شريف ووضيع وغنيّ وفقير في مجلس أو عطية؛ كان ما أفسدت أكثر ممّا أصلحت.
فالغنيّ إذا أقصيت مجلسه، أو حقرت هديته يحقد عليك، لما أنّ الله تعالى لم يعوّده ذلك، وإذا عاملت الولاة بما عاملت به الرّعية؛ فقد عرّضت نفسك للبلاء.
وقد عدّ العسكري هذا الحديث من الأمثال والحكم، وقال: هذا ممّا أدّب به المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته من إيفاء الناس حقوقهم؛ من تعظيم العلماء والأولياء، وإكرام ذي الشيبة المسلم، وإجلال الكبير وما أشبهه.
انتهى من «شروح الجامع الصغير» .
والحديث رواه مسلم تعليقا في مقدمة «صحيحه» فقال: ويذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. ووصله أبو نعيم في «المستخرج» وأبو داود، وابن خزيمة، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي في «الأدب» ، والعسكري في «الأمثال» وغيرهم من حديث ميمون بن أبي شبيب أنه قال:
جاء سائل إلى عائشة رضي الله تعالى عنها فأمرت له بكسرة، وجاء رجل ذو هيئة فأقعدته معها، فقيل لها: لم فعلت ذلك؟ قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم.
قال في «اللآلئ» : وأعلّه أبو داود بأن ميمونا لم يدرك عائشة، وردّ عليه بأن ميمونا هذا كوفي قديم أدرك المغيرة، والمغيرة مات قبل عائشة، ومجرّد المعاصرة كاف عند مسلم، وقد حكم الحاكم بصحّته، وتبعه ابن الصلاح في «علومه» .
انتهى ما في «اللآلئ» .
ورواه أبو نعيم في «الحلية» بلفظ: إن عائشة كانت في سفر فأمرت لناس من قريش بغداء؛ فمرّ رجل غنيّ ذو هيئة؛ فقالت: ادعوه فنزل، فأكل ومضى، وجاء
67-
«انظري أين أنت منه، فإنّما هو جنّتك ونارك» ؛ يعني:
الزّوج.
سائل فأمرت له بكسرة. فقالت: إن هذا الغنيّ لم يجمل بنا إلّا ما صنعنا به، وإن هذا السائل سأل فأمرت له بما يترضاه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
ولفظ أبي داود: أنزلوا الناس منازلهم. وقد صحّحه الحاكم وغيره.
قال في «المقاصد» : تعقّب بالانقطاع، وبالاختلاف في رفعه ووقفه كما بسطت ذلك في أول ترجمة شيخنا مع الإلمام بمعناه.
وورد عن غير عائشة أيضا:
1-
كمعاذ، فروى حديثه مرفوعا الخرائطي في «مكارم الأخلاق» بلفظ:
«أنزل الناس منازلهم من الخير والشرّ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصّالحة» .
و2- كجابر، فروى حديثه مرفوعا في «جزء» الغسولي بلفظ:«جالسوا الناس على قدر أحسابهم، وخالطوا الناس على قدر أديانهم، وأنزلوا الناس على قدر منازلهم، وداروا الناس بعقولكم» .
و3- كعليّ، فروى حديثه موقوفا في «تذكرة الغافل» بلفظ:«من أنزل الناس منازلهم رفع المؤونة عن نفسه، ومن رفع أخاه فوق قدره فقد اجترّ عداوته» .
وبالجملة فحديث عائشة حسن، وقال في «التمييز» : وذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه «معرفة علوم الحديث» وقال: حديث صحيح.
انتهى من «كشف الخفا» للعجلوني رحمه الله تعالى.
67-
( «انظري) ؛ أي: تأملي أيتها المرأة الّتي هي ذات بعل (أين أنت منه) ؛ أي: في أي منزلة أنت من زوجك!! أقريبة من مودته؛ مسعفة له عند شدّته، ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه؛ كافرة لعشرته وإنعامه؟!
(فإنّما هو) ؛ أي الزوج (جنّتك ونارك» . يعني: الزّوج) أي: هو سبب
68-
«أنهاكم عن قيل، وقال،
…
لدخولك الجنّة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فاعرفي حقّه وأحسني عشرته، ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة الّتي جاءت تسأله عن شيء؛ فقال:«أذات زوج أنت» ؟ قالت: نعم، قال:
«كيف أنت منه؟!» قالت: لا آلوه إلّا ما عجزت عنه. فذكر الحديث.
وأخذ الذهبي من هذا الحديث ونحوه أنّ النشوز كبيرة.
والحديث رواه النسائي من طريقين، وعزاه له جمع جمّ؛ منهم الذهبي في «الكبائر» ، ولفظه: قالت عمة حصين
…
وذكرت زوجها للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:
«أين أنت منه! فإنّه جنّتك ونارك» أخرجه الذهبي من وجهين؛ نقله المناوي.
وذكره في «الجامع الصغير» ورمز له برمز الطبراني في «الكبير» وابن سعد في «الطبقات» كلاهما عن عمة حصين- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين مصغرا-:
ابن محصن- بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الصاد-. وفي العزيزي قال الشيخ:
حديث صحيح.
68-
( «أنهاكم عن قيل وقال) قال في «شرح مسلم» : هو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم.
وقال في «رياض الصالحين» : معناه: الحديث بكلّ ما يسمعه فيقول «قيل كذا» ، و «قال فلان كذا» ممّا لا يعلم صحته ولا يظنّها، و «كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكلّ ما سمع» . انتهى.
وقال في «شرح مسلم» : واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين:
أحدهما: أنهما فعلان، ف «قيل» : مبنيّ لما لم يسمّ فاعله، و «قال» : فعل ماض.
والثاني: أنهما [ «قيل وقال» ] اسمان مجروران منوّنان؛ لأن القيل والقال والقول والقالة؛ كلّه بمعنى، ومنه قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)[النساء] ومنه
وكثرة السّؤال» .
قولهم: كثرة القيل والقال. انتهى.
(وكثرة السّؤال» ) قال في «شرح مسلم» : قيل المراد به القطع في المسائل والإكثار من السؤال عمّا لم يقع ولا تدعو إليه حاجة.
وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنّهي عن ذلك، وكان السّلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلّف المنهيّ عنه.
وفي «الصحيح» : كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها.
وقيل: المراد به سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك.
وقيل: يحتمل أن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وما لا يعني الإنسان، وهذا ضعيف، لأنّه قد عرف هذا من النهي عن قيل وقال.
وقيل: يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره فيدخل في ذلك سؤاله عما لا يعنيه ويتضمّن ذلك حصول الحرج في حقّ المسؤول، فإنّه قد لا يؤثر إخباره بأحواله، فإن أخبره شقّ عليه، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقّة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب. انتهى.
قال في «دليل الفالحين» : والأولى حمل السؤال في الخبر على ما يعمّ الجميع، وذلك لأنّه اسم جنس محلّى ب «أل» فيعمّ، أمّا سؤال المال للغير!! فالظاهر اختلافه باختلاف الأحوال، ولنفسه لحاجة فلا كراهة؛ بشرط عدم الإلحاح، وذلّ نفسه زيادة على ذلّ السؤال والمسؤول؛ فإن فقد شرط حرم. انتهى ملخصا.
والحديث ذكره بهذا اللفظ في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز أبي يعلى الموصلي، وأخرجه الشيخان: البخاري في ثلاثة مواضع: «الزكاة والاستقراض والأدب» ، ومسلم في «الأحكام» ؛
69-
«ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى حرّم عليكم عقوق الأمهات، ومنعا، وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل، وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» وهذا لفظ البخاري في «الأدب» .
69-
( «ألا لا طاعة) خبر بمعنى النهي (لمخلوق) من المخلوقين كائنا من كان ولو أبا أو أما أو زوجا (في معصية الخالق» ) بل كلّ حقّ؛ وإن عظم، ساقط إذا جاء حقّ الله، إنّما الطّاعة فيما رضيه الشارع واستحسنه، فإذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
قال مسلمة بن عبد الملك لأبي حازم: ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [59/ النساء] قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [59/ النساء] . قال ابن الأثير: يريد طاعة ولاة الأمور إذا أمروا بما فيه إثم كقتل ونحوه. انتهى مناوي على «الجامع الصغير» .
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» باللفظ الذي أورده المصنف.
ورواه الإمام أحمد، والحاكم عن عمران بن الحصين، وعن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله تعالى عنهم بلفظ:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» قال الحافظ الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال في العزيزي: إسناده حسن.
ورواه البغوي عن النوّاس، وابن حبان عن عليّ بلفظ:«لا طاعة لبشر في معصية الله» ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله تعالى عنه بلفظ «لا طاعة لأحد في معصية الله
…
» ، إنما الطّاعة في المعروف» .
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه في رواية: «لا طاعة لمن لم يطع الله» . وفي رواية لأحمد أيضا: «لا طاعة لمن عصى الله» . قال الحافظ
70-
الهيثمي: فيه عمرو بن زبيب لم أعرفه! وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، وقال ابن حجر: سنده قوي. انتهى كلام المناوي على «الجامع» .
70-
( «الإسلام) الكامل (حسن الخلق) ؛ الذي يرجع حسنه إلى اعتدال قوّة العقل بكمال الحكمة، وإلى اعتدال القوّة الغضبيّة والشهويّة، وإطاعة كلّ منهما للعقل مع الشرع.
ثمّ هذا الاعتدال إمّا أن يكون بجود إلهي وكمال فطري، وإمّا أن يكون باكتساب أسبابه من المجاهدة والرياضة؛ بأن يحمل نفسه على كلّ عمل يوجب حسن خلقها ويضادّ سوء طويّتها، إذ هي لا تألف ربّها ولا تأنس بذكره؛ إلّا إذا فطمت عن عاداتها وحفظت عن شهواتها بالخلوة والعزلة أوّلا، ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثمّ بإدمان الذكر والدعاء في تلك الخلوة إلى أن يغلب عليه الأنس بالله وبذكره؛ فحينئذ يتنعّم به في نهايته؛ وإن شق عليه في بدايته. وربمّا ظنّ من جاهد نفسه أدنى مجاهدة بترك فواحش المعاصي أنه قد هذّبها وحسّن خلقها؛ وأنى له بذلك؛ ولم توجد فيه صفات الكاملين ولا أخلاق المؤمنين!!
قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً إلى أن قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [2- 4/ الأنفال] .
وقال تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) إلى أن قال:
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)[المؤمنون] .
وقال تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)[التوبة] .
وقال عز وجل وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [62/ الفرقان] إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حال نفسه فليعرضها على هذه الآيات ونظائرها، فوجود جميع
.........
هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق الذي هو أصل لكثير من المعاصي والذنوب، ووجود البعض يدلّ على البعض.
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى مجامع محاسن الأخلاق؛ بقوله:
«المؤمن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» ، وبأمره بإكرام الضيف والجار.
وبأن المؤمن إمّا أن يقول خيرا أو يصمت.
وبما جاء: «إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة» .
«لا يحلّ لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظر يؤذيه» .
«لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما» .
«إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره» .
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الفضول، قليل الزلل، وهو برّ، وصول، وقور، صبور، رضيّ، شكور، حليم، رفيق، عفيف، شفيق، لا لمّاز، ولا سبّاب، ولا نمّام، ولا مغتاب، ولا عجول، ولا حقود، ولا بخيل، ولا حسود، هشاش بشاش، يحب في الله؛ ويبغض في الله، ويرضى في الله؛ ويغضب في الله.
فهذا هو حسن الخلق وفقنا الله تعالى للتحلّي بمعاليه، وأدام علينا سوابغ أفضاله، وموانح قربه، والاندراج في سلك أوليائه وأحبابه ومواليه. آمين. قاله ابن حجر في «الزواجر» رحمه الله تعالى.
وهذا الحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الديلمي في «مسند الفردوس» .
71-
«الإسلام يجبّ ما قبله، والهجرة تجبّ ما قبلها» .
71-
( «الإسلام يجبّ) - بفتح المثناة التحتية وضم الجيم- (ما قبله) من الكفر والمعاصي وما يترتب عليهما من حقوق الله تعالى؛ أي: يقطع ذلك ويمحو أثره، أما حقّ الآدمي فلا يسقط، وظاهر الخبر أن مجرّد الإسلام مكفّر للسوابق، سواء أساء أو أحسن بعد.
وأمّا خبر: «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» !! فوارد على منهج التحذير. انتهى مناوي 3/ 77؛ على «الجامع» .
(والهجرة) ؛ أي: الانتقال من أرض الكفر إلى بلاد الإسلام (تجبّ) بالمثناة الفوقية والجيم- أي: تمحو (ما قبلها» ) من الخطايا المتعلقة بحقّ الله تعالى من العقوبات، أمّا الحقّ الماليّ؛ كزكاة، وكفارة يمين! ففي سقوطها خلاف بين العلماء.
والمراد بالهجرة: ما كان قبل الفتح. وفيه: عظم موقع كلّ واحد من الخصلتين. وفي تكرير «يجبّ» في كلّ منهما دلالة على أن كلّ واحد منهما يكفّر بمفرده؛ قاله المناوي.
والحديث ذكره في «كنوز الحقائق» بهذا اللفظ مرموزا له برمز الطبراني.
وذكره العجلوني في «كشف الخفا» بلفظ: «الإسلام يجبّ ما قبله» ، وقال: رواه ابن سعد في «طبقاته» عن الزبير، وجبير بن مطعم.
ورواه الإمام أحمد والطبراني عن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنه.
انتهى.
ونحو ذلك في «الجامع الصغير» والمناوي.
وأخرجه مسلم في «صحيحه» في كتاب «الإيمان» من حديث ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاصي وهو في سياقة الموت؛ فبكى طويلا
72-
وحول وجهه إلى الجدار فجعل ولده يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا! أما بشرك بكذا! فأقبل بوجهه؛ فقال: إنّ أفضل ما نعدّ شهادة (ألاإله إلّا الله وأن محمدا رسول الله) إني كنت على أطباق ثلاث؛ لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضا للمصطفى صلى الله عليه وسلم منّي، ولا أحبّ إليّ أن أكون استمكنت منه فقتلته؛ فلو متّ على ذلك كنت من أهل النار؛ فلما جعل الله في قلبي الإسلام أتيته؛ فقلت: ابسط يمينك أبايعك؛ فبسطها، فقبضت يدي، قال:«ما لك» ؟
قلت: أشترط. قال: «تشترط ماذا؟» قلت: أن يغفر لي، فقال:«أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله» ، فما كان أحد أحبّ إليّ ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه؛ إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، ولو متّ على تلك الحالة رجوت أن أكون من أهل الجنة. ثمّ ولّينا أشياء ما أدري حالي فيها!!. انتهى.
72-
( «الإسلام يعلو ولا يعلى) عليه. قال البيهقي: قال قتادة: يعني: إذا أسلم أحد أبوين فالولد مع المسلم، فلا يتبع الفرع أحد أبويه الكافر؛ بل المسلم، فالعلوّ في نفس الإسلام.
وقال ابن حزم: معناه إذا أسلمت يهودية أو نصرانية تحت كافر يفرّق بينهما، ويحتمل العلو بحسب الحجّة، أو بحسب النصرة في العاقبة، فإنها للمسلمين.
انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» وفي «كشف الخفاء» وقالا: رواه الدارقطني والضياء في «المختارة» ، والخليلي في «فوائده» ، والروياني كلّهم عن عائذ بن عمرو المزني رفعه. ورواه الطبراني في «الصغير» ، والبيهقي في «الدلائل» عن معاذ رفعه. وعلّقه البخاري في «صحيحه» .
73-
والمشهور على الألسنة زيادة: «عليه» آخرا، بل هي رواية الإمام أحمد، والمشهور أيضا على الألسنة:«الحقّ يعلو ولا يعلى عليه» . قال ابن حجر:
وسنده ضعيف. انتهى.
73-
( «إيّاك) - منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره- من قبيل قولهم: إياك والأسد، وتقديره هنا: باعد نفسك (ودعوة) - بفتح الدال-: المرّة من الدعاء؛ أي: احذر الظلم لئلا يدعو عليك.
(المظلوم» ) ؛ أي: من ظلمته بأيّ وجه كان من نحو استيلاء على ما يستحقه، أو إيذاء له. فأقام المسبب الذي هو الدعاء مقام السبب الذي هو الظلم.
وخلاصك من الظلم بأن تردّ إليه حقّه، أو تمكّنه من استيفائه، فإنك إن ظلمته ودعا عليك استجيب له؛ وإن كان عاصيا مجاهرا، لأنّه إنما يسأل الله حقّه الواجب على خصمه. وربّ العالمين لا يمنع صاحب حقّ من حقّه لأنّه الحاكم العادل.
نعم ورد أنّ الله سبحانه وتعالى: يرضي خصوم بعض عباده بما شاء.
وفي خبر رواه ابن لال والديلمي وغيرهما: أنّ في صحف إبراهيم: أيها الملك المسلّط المبتلى المغرور؛ إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها لبعض، لكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم؛ فإني لا أردّها؛ ولو كانت من كافر.
وقال عمر بن عبد العزيز: إنّ الله يأخذ للمظلوم حقّه من الظّالم، فإيّاك أن تظلم من لا ينتصر عليك إلّا بالله تعالى، فإنه تعالى إذا علم التجاء عبده بصدق واضطرار انتصر له ولا بدّ! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [62/ النمل] انتهى مناوي على «الجامع» .
والحديث ذكره في «الجامع الصغير» بلفظ: «إياكم ودعوة المظلوم؛ وإن كانت من كافر، فإنها ليس لها حجاب دون الله عز وجل» أخرجه سمويه عن أنس
.........
رضي الله تعالى عنه.
قال المناوي: وله شواهد كثيرة سبقت؛ ويجيء كثير منها.
وذكره في «الجامع» بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم؛ فإنّما يسأل الله تعالى حقّه، وإنّ الله تعالى لن يمنع ذا حقّ حقّه» . ورمز له برمز الخطيب عن عليّ أمير المؤمنين، وهو حديث ضعيف.
وذكره العجلوني في «الكشف» بلفظ: «اتّقوا دعوة المظلوم» وقال: رواه أحمد وأبو يعلى عن أنس مرفوعا؛ بزيادة: «وإن كانت من كافر، فإنّه ليس بينها وبين الله تعالى حجاب» .
ورواه الطبراني عن خزيمة رفعه بزيادة: فإنها تحمل على الغمام، ويقول الله جل جلاله:«وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين» .
ورواه الحاكم وقال: إنّه على شرط مسلم، والضياء في «المختارة» عن ابن عمر مرفوعا بزيادة:«فإنها تصعد إلى السماء كأنّها الشّرار» .
ورواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ: «اتّقوا دعوة المظلوم فإنّها تصعد إلى السماء كأنّها شرارة» .
ورواه أبو يعلى عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله تعالى حجاب» . واتفق عليه الشيخان بهذا اللفظ عن ابن عباس مرفوعا.
ورواه الخطيب عن عليّ بلفظ: «اتّق دعوة المظلوم فإنّما يسأل الله حقّه، وإنّ الله لم يمنع ذا حقّ حقّه» انتهى كلام العجلوني.
وذكره أيضا في موضع آخر بلفظ: «اتّقوا الظّلم فإنّه ظلمات يوم القيامة» ، وقال: رواه الإمام أحمد، والطبراني، وابن ماجه عن ابن عمر.
وأخرجه أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، ومسلم عن جابر بزيادة:
74-
«إيّاك وقرين السّوء، فإنّك به تعرف» .
75-
«إيّاك والخيانة،
…
«واتّقوا الشّحّ، فإنّ الشّحّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» . انتهى.
وقد ألّف العلامة القاضي محمد بن أحمد مشحم اليمانيّ الصّعديّ كتاب:
«تحذير الظّلوم من سهام دعوات المظلوم» . رسالة مطوّلة جمع فيها كثيرا من الأحاديث المتعلقة بالتحذير من الظّلم مع ذكر حكايات وأشعار تتعلق بذلك، وهي مخطوطة لم تطبع.
74-
( «إيّاك وقرين السّوء) - بالفتح-: مصدر (فإنّك به تعرف» ) أي:
تشتهر بما اشتهر من السوء. قال تعالى وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)[النساء] .
ومن ثمّ قالوا: الإنسان موسوم بسيما من يقارن، ومنسوب إليه أفاعيل من صاحب؛ أي: فإن صاحب الفاجر كان دليلا على فجوره، وعكسه بعكسه.
وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: الصاحب مناسب. ما شيء أدلّ على شيء؛ ولا الدخان على النار من الصاحب على الصاحب.
وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك، وقال آخر: يظنّ بالمرء ما يظنّ بقرينه.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
ومقصود الحديث: التحرّز من أخلاق السوء، وتجنّب صحبة أهل الرّيب؛ ليكون موفر العرض سليما من العيب؛ فلا يلام بلائمة غيره.
والحديث أخرجه ابن عساكر في «التاريخ» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه؛ قاله في «الجامع» مع المناوي. وفي العزيزي: إنه حديث ضعيف. والله أعلم.
75-
( «إيّاك والخيانة) ؛ أي: خيانة الغير؛ كالخيانة في الوديعة، وخيانة
فإنّها بئست البطانة» .
76-
النفس كأن لا تمتثل المأمورات، وكأن لا تجتنب المنهيات؛ قاله الحفني.
والخيانة: تكون في المال والنفس والعدد والكيل والوزن والزرع
…
وغير ذلك. وفي العزيزي: قال بعضهم: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدّي الأمانة فيه.
قال أبو عبيد: لا نراه خصّ به الأمانة في أمانات الناس؛ دون ما افترض الله على عباده وائتمنهم، فإنه قد سمّى ذلك أمانة؛ فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [27/ الأنفال] فمن ضيّع شيئا ممّا أمر الله به، أو ارتكب شيئا ممّا نهى الله عنه؛ فقد خان نفسه، إذ جلب إليها الذمّ في الدّنيا والعقاب في الآخرة. انتهى.
(فإنّها بئست البطانة» ) - بالكسر-؛ أي: بئس الشيء الذي يستبطنه من أمره ويجعله بطانة.
قال في «المغرب» : بطانة الرجل أهله وخاصّته؛ مستعار من بطانة الثوب.
وقال الراغب: تستعار البطانة لمن تخصّه بالاطلاع على باطن أمرك.
وقال القاضي: البطانة أصلها في الثوب؛ فاستعيرت لما يستبطن الرجل من أمره ويجعله بطانة حاله؛ قاله المناوي.
وقال الحفني: البطانة في الأصل: الثوب الملاصق للجسد، والجهة التي لا تلاصقه تسمّى ظهارة، فاستعيرت لكلّ شيء ملازم، يقال: بطانة الرجل أهله وعياله، والمراد هنا الصّفة الملازمة للشخص. انتهى.
والحديث ذكره المناوي في «كنوز الحقائق» مرموزا له برمز الطبراني.
76-
( «إيّاك) - بكسر الكاف-: خطاب لامرأة (وما يسوء الأذن» ) قال ذلك
.........
ثلاثا، وهو نهي عن الغيبة؛ أي: احذري النطق بكلام يسوء غيرك؛ إذا سمعه عنك، فإنّه موجب للتنافر والعداوة.
والحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي الغادية- بغين معجمة-؛ قال: خرجت أنا وحبيب بن الحارث وأم العلاء؛ مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، فقالت المرأة: أوصني
…
فذكره.
وأخرجه أبو نعيم في «المعرفة» ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي؛ عن العاصي بن عمرو الطفاوي، عن حبيب بن الحارث، قلت: يا رسول الله أوصني
…
فذكره.
قال في «الإصابة» : والعاصي مجهول.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» عن عمّه العاصي بن عمرو الطفاوي، قال:
حدثتني عمّتي؛ قالت: دخلت مع ناس على النبيّ صلى الله عليه وسلم قلت: حدّثني حديثا ينفعني الله به
…
فذكره. قال الهيثمي: فيه العاصي بن عمرو الطفاوي؛ وهو مستور، روى عنه محمد بن عبد الرحمن الطّفاوي وتمّام بن السريع، وبقية رجال المسند رجال الصحيح. انتهى.
وقال السخاوي: هذا مرسل، فالعاصي لا صحبة له، وقال شيخي «يعني ابن حجر» : مجهول، لكن ذكره ابن حبان في «الثقات» . انتهى.
ولذلك لم يذكره الذهبي في «الصّحابة» !! انتهى مناوي.
وفي «الكشف» : إنّه رواه عبد الله بن أحمد في «زوائده» ؛ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي قال: سمعت العاصي قال: خرج أبو الغادية وحبيب بن الحارث وأم الغادية مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقالت المرأة: أوصني يا رسول الله؛ قال: «إيّاك وما يسوء الأذن» وهو مرسل، إذ العاصي لا صحبة له.
77-
«إيّاكم وخضراء الدّمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السّوء» .
وأخرجه ابن منده في «المعرفة» ، والخطيب في «المؤتلف» عن العاصي، عن عمّته «أم غادية» قالت: خرجت مع رهط من قومي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أردت الانصراف؛ قلت: يا رسول الله أوصني. قال: «إياك وما يسوء الأذن» . انتهى ملخصا.
77-
( «إيّاكم وخضراء الدّمن) - بكسر الدال المهملة، وفتح الميم- جمع:
دمنة، مثل سدر وسدرة، وهي البعر؛ أي: احذروا المرأة الحسناء ومنبتها سوء؛ كالشجرة الخضراء النابتة في الزبل.
ومعناه: أنه كره نكاح ذات الفساد في أصلها، فإن أعراق السّوء تنزع أولادها؛ أي: لشبههم بها. وتفسير حقيقته: أنّ الريح يجمع الدّمن؛ وهي البعر في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي فإذا أصابه المطر أنبت نباتا غضّا ناعما يهتزّ، وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنا؛ وباطنه قبيحا فاسدا. قال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى
…
وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
ومعنى البيت: أن الرجلين قد يظهران الصلح أو المودة وينطويان على البغضاء والعداوة؛ كما ينبت المرعى على الدّمن. وهذا أكثريّ، أو كلّيّ- في زماننا-، والله المستعان.
والحديث رواه الدارقطني في «الأفراد» ، والرامهرمزي والعسكري كلاهما في «الأمثال» ، وابن عدي في «الكامل» ، والقضاعي في «مسند الشهاب» وأبو بكر بن دريد في «المجتنى» ، والخطيب في «إيضاح الملتبس» ، والديلمي في «الفردوس» : كلّهم من حديث الواقدي؛ قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا باللفظ المزبور مع زيادة: قيل: يا رسول الله؛ وماذا؟ قال:
( «المرأة الحسناء) الجميلة (في المنبت) - بالميم- (السّوء» ) قال ابن عدي:
78-
«الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر، ونصف في الصّبر» .
تفرّد به الواقدي وهو متروك، وذكره أبو عبيد في «الغريب» ، وقال الدارقطني:
لا يصح من وجه.
78-
( «الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر) أي: العمل بالطاعة (ونصف في الصّبر» ) عن المحارم. والحديث ذكره في «الجامع» مرموزا له برمز البيهقي في «شعب الإيمان» ؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال المناوي: وفيه يزيد الرّقاشي، قال الذهبي وغيره: متروك، ورواه القضاعي بهذا اللفظ، وذكر بعض شرّاحه أنه حسن. انتهى كلام المناوي.