الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الثّاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم]
الفصل الثّاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: كان يصوم حتّى نقول
…
(الفصل الثّاني) من الباب السادس (في) بيان ما ورد في (صفة صومه صلى الله عليه وسلم والصوم والصيام كلاهما مصدر ك «صام» ، فهما بمعنى واحد.
وهو- لغة-: الإمساك؛ ولو عن الكلام ومنه إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [26/ مريم] أي: إمساكا عن الكلام.
وشرعا-: الإمساك عن المفطّرات جميع النّهار بنيّة. والمراد به هنا ما يشمل الفرض والنفل.
روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظه-: كلّهم يروونه
(عن عبد الله بن شقيق) العقيلي- مصغرا- تقدّمت ترجمته قريبا! (قال:
سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم!) ؛ أي: هل كان يديم الصيام أم لا؟! وهل كان يقلّ منه؛ أو يكثر؟ وهل كان يخصّ شهرا كاملا بالصوم؛ أم لا!؟ إلى غير ذلك مما يعرف ممّا يأتي.
(قالت: كان يصوم) - أي: يتابع صوم النفل- (حتّى نقول) - بالنون؛ أي: نحن في أنفسنا، أو: يقول بعضنا لبعض، وهذا هو الرواية؛ كما قاله
قد صام- أي: داوم الصّوم- فلا يفطر، ويفطر حتّى نقول قد أفطر- أي: داوم الإفطار- فلا يصوم.
قالت: وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا منذ قدم المدينة.. إلّا رمضان.
وسئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: كان يصوم من الشّهر حتّى نرى
…
القسطلّاني- (قد صام) قال الباجوري: (أي: داوم الصّوم فلا يفطر) . انتهى.
(و) كان (يفطر) ؛ أي: يداوم الفطر (حتّى نقول) - بالنون؛ أي: نحن في أنفسنا، أو: يقول بعضنا لبعض- (قد أفطر) قال الباجوري: (أي: داوم الإفطار فلا يصوم) . انتهى.
(قالت) - أي عائشة- (: وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا) مقتضاه أنّه لم يصم شعبان كلّه، لكن في الرواية الآتية عن أمّ سلمة أنّه صامه كلّه!! ويجمع بينهما بحمل الكلّ على المعظم، حتى جاء في كلام العرب: إذا صام أكثر الشهر يقال صام الشهر كلّه، أو أنّه صامه كلّه في سنة وصام بعضه في سنة أخرى.
(منذ قدم المدينة) ، قد يفهم منه أنّه كان يصوم شهرا كاملا قبل قدومه المدينة، ويمكن أنّها قيّدته بذلك!! لأن الأحكام إنّما تتابعت وكثرت حينئذ، مع أنّ رمضان لم يفرض إلّا في المدينة في السنة الثانية من الهجرة.
(إلّا رمضان) سمّي بذلك!! لأنه حال وضع اسمه على مسمّاه وافق الرّمض؛ وهو شدّة الحرّ فسمّي ب «رمضان» ، أو لأنه يرمض الذنوب؛ أي يذهبها.
(و) أخرج البخاريّ، والترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» - واللفظ له-:
أنّه (سئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
كان يصوم من الشّهر) أي: كان يكثر الصوم في الشهر (حتّى نرى) - بالنون
ألايريد أن يفطر منه، ويفطر حتّى نرى ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته مصلّيا، ولا نائما إلّا رأيته نائما.
التي للجمع، أو [ترى] بالتاء التي للمخاطب؛ مبنيا للفاعل، أو [يرى] بالياء التي للغائب؛ مبنيا للفاعل، أو [يرى] للمفعول، فالروايات أربع- أي: نظنّ (ألايريد) - بنصب الفعل على كون «أن» مصدرية، وبالرفع على كونها مخفّفة من الثقيلة- (أن يفطر منه) ؛ أي: من الشهر.
(ويفطر) أي: يكثر الفطر (حتّى نرى) برواياته السابقة (ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت) - بفتح التاء على الخطاب- (لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا؛ إلّا رأيته مصلّيا؛ ولا نائما؛ إلّا رأيته نائما) ؛ أي: أنّ صلاته ونومه كان يختلف بالليل، لأنه ما كان يعيّن بعض الليل للصلاة وبعضه للنوم، بل وقت صلاته في بعض الليالي وقت نومه في بعض آخر، وعكسه، فكان لا يرتّب لتهجّده وقتا معينا، بل بحسب ما تيسّر له من القيام.
ولا يشكل عليه قول عائشة «كان إذا صلّى صلاة داوم عليها» ، وقولها «كان عمله ديمة» !! لأن اختلاف وقت التهجّد تارة في أوّل الليل؛ وأخرى في آخره! لا ينافي مداومة العمل، كما أنّ صلاة الفرض تارة تكون في أوّل الوقت، وتارة في آخره، مع صدق المداومة عليه؛ كما قاله ملّا علي قاري.
وإنّما ذكر الصلاة في الجواب؛ مع أنّ المسؤول عنه ليس إلّا الصوم!! إشارة إلى أنّه ينبغي للسائل أن يعتني بالصلاة أيضا.
والحاصل: أنّ صومه وصلاته صلى الله عليه وسلم كانا على غاية الاعتدال، فلا إفراط فيهما؛ ولا تفريط. انتهى «باجوري» .
(و) أخرج النسائي، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» - وقال:
إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ كما قال ابن حجر- كلّهم؛
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان ورمضان.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه.
(عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان) ، سمّي بذلك!! لتشعّبهم في المفازات بعد أن يخرج رجب، وقيل: لتشعّبهم في طلب الماء. وقيل غير ذلك.
(ورمضان) مقتضى هذا الحديث أنّه صام شعبان كلّه، وهو معارض لما سبق من أنّه ما صام شهرا كاملا غير رمضان، وتقدّم الجواب عن ذلك بأن المراد بالكلّ الأكثر، فإنّه وقع في رواية مسلم «كان يصوم شعبان كلّه، كان يصومه إلّا قليلا» .
قال النووي: الثاني مفسّر للأول، وبيان أن قولها «كلّه» أي: غالبه. فلعلّ أم سلمة لم تعتبر الإفطار القليل؛ وحكمت عليه بالتتابع لقلّته جدا.
(و) أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» - وهذا لفظها-:
(عن) أمّ المؤمنين (عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر) من الأشهر (أكثر) ؛ مفعول مطلق، وهو صفة لمحذوف: أي:
صياما أكثر (من صيامه في شعبان) .
والمعنى أنّه كان يصوم في شعبان وغيره، وكان صيامه في شعبان تطوّعا أكثر من صيامه في ما سواه.
(كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه) الإضراب بظاهره ينافي حديثها السابق أوّل الباب، فاحتيج للتوفيق بأنها أرادت صومه كلّه في سنين، فسنة يصوم من أوّله، وسنة من آخره، وسنة من وسطه، فصوم كلّه مبالغة في قلّة ما كان
.........
يفطره، وليس على حقيقته، فكلمة «بل» للإضراب ظاهرا، وللمبالغة في كثرة الصوم باطنا، لئلا يتوهّم أن ما كان يفطره؛ وإن كان قليلا لكن له وقع كثلثه، فنبّهت عائشة رضي الله عنها بهذا الإضراب على أنه لم يفطر منه إلّا ما لا وقع له؛ كيوم أو يومين أو ثلاثة، بحيث يظنّ أنّه صامه كلّه، وفي الواقع لم يصمه كلّه؛ خوف وجوبه.
واعترض بأن «كلّ» المضافة إلى الضمير تتعيّن للتأكيد، والتأكيد ب «كلّ» لدفع توهّم عدم الشمول تجوّزا؛ فكيف يحمل المؤكّد بها على الشمول مجازا!!
واعتذر بأنّ التأكيد بها قد يقع لغير دفع المجاز، وهو؛ وإن كان فيه ما فيه؛ لكن ضرورة التوفيق بين أطراف الأخبار تحوج إلى إخراج بعض الألفاظ عن ظاهرها.
وأوضح من ذلك في التوفيق: ما ذكره ابن عبد البرّ أنّ أول أمره كان يصوم أكثره، وآخره كان يصوم كلّه. وإنما آثر المصطفى صلى الله عليه وسلم شعبان على المحرّم؛ مع أنّه أفضل للصوم بعد رمضان- كما في مسلم؛ عن أبي هريرة مرفوعا:«أفضل الصّيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرّم» -!! لأن شعبان لما اكتنفه شهران عظيمان اشتغل الناس بهما؛ فصار مغفولا عنه، مع ما انضم لذلك من رفع الأعمال فيه، أي: رفع جملة أعمال السّنة. أو أنّه لم يعلم فضل صوم المحرم إلّا في آخر حياته قبل التمكّن من صومه! أو أنّه كان يعرض له عذر يمنعه من إكثار الصوم في المحرم كمرض أو سفر! أو أنّه كان يشتغل عن صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؛ فتجتمع، فيقضيها في شعبان، كما في خبر الطبراني؛ عن عائشة رضي الله عنها «كان يصوم ثلاثة أيّام من كل شهر» ، فربما أخّر تلك حتّى يجتمع عليه صوم السنة؛ فيصوم شعبان!! أو أنّه كان يخصّ شعبان بالصيام تعظيما لرمضان، فيكون بمنزلة تقديم السنن الرواتب في الصلوات قبل المكتوبات.
ويؤيده حديث غريب عند الترمذي؛ أنّه سئل صلى الله عليه وسلم: أيّ الصوم أفضل بعد
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيّام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة.
رمضان؟! قال: «شعبان لتعظيم رمضان» . انتهى شروح «الشمائل» .
(و) أخرج أبو داود؛ بدون قوله «وقلما
…
إلى آخره» ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في «الجامع» و «الشمائل» ؛ وقال: حسن غريب- قال الحافظ العراقيّ: وقد صحّحه أبو حاتم، وابن حبان، وابن خزيمة، وابن عبد البرّ، وكان الترمذي اقتصر على تحسينه للخلاف في رفعه-!! كلّهم؛
(عن عبد الله بن مسعود) الهذلي (رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرّة) - بضم الغين المعجمة وتشديد الراء؛ أي: أوّل- (كلّ شهر) والمراد هنا أوائله، لأن الغرّة أوّل يوم من الشهر. (ثلاثة أيّام) ؛ افتتاحا للشهر بما يحصل صوم كلّه، إذ الحسنة بعشر أمثالها، فقد ورد في الخبر:«صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر صوم الدّهر» أي: كصومه.
قال العراقي: ولا منافاة بين هذا الخبر وخبر عائشة الآتي «أنّه لم يكن يبالي من أيّ أيّام الشهر يصوم» ، لأن هذا الراوي حدّث بغالب ما اطّلع عليه من أحواله فحدّث بما عرف، وعائشة اطلعت على ما لم يطلع عليه.
(وقلّما كان يفطر) ؛ أي: قلّ إفطاره (يوم الجمعة) ، بل كان كثيرا ما يصومه، لكنه يضمّه إلى الخميس؛ أو السبت، فلا يخالف حديث النهي عن إفراده بالصوم، لأن النهي محمول على ما إذا لم يصم يوما قبله؛ أو بعده، فإفراد الجمعة مكروه، لأنه يوم عيد تتعلّق به وظائف كثيرة دينية، والصوم يضعف عنها، بخلاف ما لو ضمّ لغيره، ففضيلة المضموم له جابرة لما فات بسبب الضعف. هذا قصارى ما قاله علماء الشافعية؛ جمعا بين الأدلة.
والتأويل بأن صوم الجمعة من خصائصه!! يحتاج لدليل.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتحرّى صوم الإثنين والخميس.
وقال في «جمع الوسائل» : وفيه دليل لأبي حنيفة ومالك حيث ذهبا إلى أن صوم يوم الجمعة وحده حسن، فقد قال مالك في «الموطأ» : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ممّن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن!! وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه؛ وأراه كان يتحرّاه!. انتهى كلامه.
وعند جمهور الشافعية يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلّا أن يوافق عادة له؛ متمسّكين بظاهر ما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو بعده» فتأويل الحديث عندهم: أنّه كان يصومه منضمّا إلى ما قبله [أو] إلى ما بعده. أو أنّه مختصّ برسول الله صلى الله عليه وسلم كالوصال- على ما قاله المظهري-.
ويؤيده قوله «لا يصوم أحدكم
…
» المشعر بتخصيص الأمّة رحمة عليهم.
لكنه- كما قال الحافظ ابن حجر- ليس بجيّد، لأن الاختصاص لا يثبت بالاحتمال، ولم يبلغ مالكا النهي عن صوم يوم الجمعة فاستحسنه، وأطال في «موطّئه» وهو؛ وإن كان معذورا لكن السنّة مقدّمة على ما رآه هو وغيره. انتهى.
(و) أخرج الترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، والنسائيّ، وابن ماجه وإسناده حسن؛ كما في «العزيزي» -: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:
كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتحرّى صوم الاثنين) - بهمزة وصل؛ أي: صوم يوم الاثنين- (والخميس) ؛ تحرّاه: تعمّده، أو: طلب ما هو الأحرى بالاستعمال، فالمعنى على الأول: يتعمّد صومهما؛ فيصبر عن الصوم منتظرا لهما، وعلى الثاني! معناه: يجتهد في إيقاع الصوم فيهما، لأن الأعمال تعرض فيهما؛ كما في الخبر الآتي، ولأنّه سبحانه وتعالى يغفر فيهما لكلّ مسلم إلّا المتهاجرين أي: المتقاطعين
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم» .
حيث يحرم التقاطع. رواه الإمام أحمد، وسيأتي.
قال المناوي: واستشكل استعمال «الاثنين» بالياء مع تصريحهم بأن المثنى والملحق به يلزم الألف؛ إذا جعل علما وأعرب بالحركة!!
وأجيب بأنّ عائشة رضي الله تعالى عنها من أهل اللسان؛ فيستدلّ بنطقها على أنه لغة. وفيه ندب صوم الاثنين والخميس، وتحرّي صومهما، وهو حجّة على مالك في كراهته لتحرّي شيء من أيّام الأسبوع للصيام. انتهى.
(و) أخرج الترمذيّ في «الجامع» و «الشمائل» ؛ (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال) ؛ أي: أعمال الناس.
وهذا عرض إجمالي، فلا ينافي أنّها تعرض كلّ يوم وليلة؛ كما في حديث مسلم:«رفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النّهار، وعمل النّهار قبل عمل اللّيل» .
ولا ينافي أنّها تعرض ليلة النصف من شعبان، وليلة القدر!! لأنّه عرض لأعمال السنة؛ وذاك عرض لأعمال الأسبوع.
فالعرض ثلاثة أقسام: 1- عرض لعمل اليوم والليلة؛ وهو تفصيلي، و 2- عرض لعمل الأسبوع، و 3- عرض لعمل السّنة. وهما إجماليان.
وحكمة تكرير العرض: إظهار شرف العاملين بين الملأ الأعلى، وإلّا! فهو تعالى غنيّ عن العرض، لأنه أعلم بعباده من الملائكة.
(يوم الاثنين والخميس) على الله تعالى؛ كما في «جامع الترمذي» ، وعند النسائي «على ربّ العالمين» (فأحبّ أن يعرض عملي) فيهما؛ (وأنا صائم) جملة حالية من فاعل «فأحب» ، والفاء لسببية السابق للاحق.
وعن أبي هريرة أيضا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له.. فقال:«الأعمال تعرض كلّ إثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم.. إلّا المتهاجرين، فيقول: أخّروهما [حتّى يصطلحا] » .
تنبيه: ثبت في «صحيح مسلم» سبب آخر لصوم الاثنين؛ وهو أنّه سئل عن صومه، فقال:«فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ» . ولا تعارض؛ فقد يكون للحكم سببان. انتهى (مناوي) .
(و) أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما في «العزيزي» -
(عن أبي هريرة أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم الاثنين والخميس) فصومهما سنّة مؤكّدة. (فقيل له) : لم تخصّهما بأكثريّة الصوم؟!.
(فقال) ؛ أي: المصطفى صلى الله عليه وسلم (: «الأعمال تعرض) على الله تعالى (كلّ اثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم) ذنوبه المعروضة عليه بغير وسيلة طاعة، لكن الصغائر، فإن لم يوجد صغائر؛ أو كفّرت بخصال أخرى؟! فنرجو من فضل الله تعالى أن يكفّر من الكبائر بهذا.
وفي «فتح الباري» : أن كلّ نوع من الطاعات مكفّر لنوع مخصوص من المعاصي؛ كالأدوية بالنسبة للداءآت. انتهى.
(إلّا المتهاجرين)، أي: المسلمين المتقاطعين؛ (فيقول) الله لملائكته (: أخّروهما [حتّى يصطلحا] ) » . أي: ولو بالمراسلة عند البعد.
قال المنذري: قال أبو داود: إذا كان الهجر لله تعالى؛ فليس من هذا. فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه أربعين يوما «1» !! وابن عمر هجر ابنا له حتّى مات.
(1) المشهور أنه شهر. وكان تسعة وعشرين يوما!! فليحرر. (عبد الجليل) .
.........
قال ابن رسلان: ويظهر أنّه لو صالح أحدهما الآخر؛ فلم يقبل؟ غفر للمصالح. انتهى.
وفي معناه خبر آخر رواه مسلم، والبخاري في «الأدب» ، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:
وفي خبر آخر «اتركوا هذين حتّى يفيئا» .
وأخرج الحكيم الترمذيّ؛ عن والد عبد العزيز- كما في «الجامع الصغير» -:
قال المناوي: وفائدة العرض عليهم: إظهار الله للأموات عذره فيما يعامل به أحياؤهم من عاجل العقوبات وأنواع البليّات في الدنيا، فلو بلغهم ذلك من غير عرض أعمالهم عليهم لكان وجدهم أشدّ.
قال القرطبي: يجوز أن يكون الميت يبلّغ من أفعال الأحياء وأقوالهم بما يؤذيه؛ أو يسرّه بلطيفة يحدثها الله لهم في ملك يبلّغ، أو علامة، أو دليل، أو ما شاء الله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [61/ الأنعام] وعلى ما يشاء، وفيه زجر عن سوء القول في الأموات؛ وفعل ما كان يسرّهم في حياتهم، وزجر عن حقوق الأصول والفروع وبعد مماتهم بما يسؤهم من فعل؛ أو قول.
قال: وإذا كان الفعل صلة وبرّا؛ كان ضدّه قطيعة وعقوقا. انتهى كلام المناوي.
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صومه السّبت والأحد، ويقول:«هما يوما عيد المشركين فأحبّ أن أخالفهم» .
(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «باب الصوم» ، والبيهقيّ في «سننه» : كلّهم؛
(عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها)، وسببه أنّ كريبا أخبر أنّ ابن عبّاس وناسا من الصحابة بعثوه إلى أمّ سلمة يسألها؛ عن أيّ الأيام كان أكثر لها صياما؟! فقالت: يوم السبت والأحد، فأخبرهم؛ فقاموا إليها بأجمعهم؟! فقالت:
صدق، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صومه) من الشهر (السّبت والأحد) ؛ أي: معا، لأن إفرادهما كيوم الجمعة مكروه.
وسمّي «السبت» بذلك!! لانقطاع خلق العالم فيه، لأن السبت هو القطع.
وسمّي «الأحد» بذلك!! لأنه أوّل أيّام الأسبوع عند جمع؛ ابتدأ فيه خلق العالم.
(ويقول: «هما يوما عيد المشركين) ؛ أي: اليهود والنصارى، لأن أصل كفر اليهود والنصارى بالشرك وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [30/ التوبة] .
(فأحبّ) - بصيغة المضارع- (أن أخالفهم» ) لأنهم يجعلونهما يومي لهو ولعب، فأنا أجعلهما يومي عبادة، وفيه أنّه لا يكره إفراد السبت مع الأحد بالصوم، والمكروه إنما هو إفراد السبت؛ لأن اليهود تعظّمه، والأحد؛ لأنّ النصارى تعظّمه، ففيه تشبّه بهم.
بخلاف ما لو جمعهما، إذ لم يقل أحد منهم بتعظيم المجموع. قال بعضهم:
ولا نظير لهذا في أنّه إذا ضمّ مكروه لمكروه آخر تزول الكراهة. انتهى «مناوي» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم من الشّهر السّبت والأحد والإثنين، ومن الشّهر الآخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس.
(و) أخرج الترمذي في «جامعه» ؛ من حديث خيثمة؛ وقال حسن- قال عبد الحق: والعلّة المانعة له من تصحيحه أنّه روي مرفوعا وموقوفا؛ وذا عند الترمذي علّة!! - قال ابن القطّان: وينبغي البحث (عن) سماع خيثمة من (عائشة رضي الله تعالى عنها) فإني لا أعرفه. انتهى.
(قالت) ؛ أي: عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم من الشّهر السّبت) ، سمّي بذلك!! لأن السبت القطع، وذلك اليوم انقطع فيه الخلق، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستّة أيام؛ ابتدأ الخلق يوم الأحد وختمه يوم الجمعة بخلق آدم عليه السلام. وأمّا قول اليهود لعنهم الله «إنّ الله تعالى استراح فيه» !! فتولّى الله تعالى ردّه عليهم بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)[ق] . ومن ثمّ أجمعوا على أنه لا أبلد من اليهود، وكذا من تبعهم من المجسّمة!! كذا قال ملّا علي قاري.
(والأحد) سمّي بذلك!! لأنه أوّل ما بدأ الله الخلق فيه، وأول الأسبوع- على خلاف فيه-.
(والاثنين) ، سمّي بذلك!! لأنّه ثاني أيام الأسبوع- على الخلاف في ذلك-.
(ومن الشّهر الآخر الثّلاثاء) - بفتح المثلاثة مع المد-، (والأربعاء) - بتثليث الباء- (والخميس) بالنصب فيه وفيما قبله؛ على أنّه مفعول فيه ل «يصوم» .
قال المظهري: أراد صلى الله عليه وسلم أن يبيّن سنّيّة صوم جميع أيام الأسبوع، فصام من شهر السبت والأحد والاثنين، ومن شهر الثلاثاء والأربعاء والخميس.
وإنّما لم يضمّ جميع هذه الستة متوالية!! لئلا يشقّ على الأمة الاقتداء به.
وعن معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟ قالت: نعم، قلت: من أيّها كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟ قالت: كان لا يبالي من أيّها صام؛ أي:
من أوّله، ومن وسطه، ومن آخره.
ولم يذكر في هذا الحديث يوم الجمعة!! وقد ذكر في حديث آخر قبل هذا؛ وهو حديث ابن مسعود أنّه كان قلّما يفطر يوم الجمعة منفردا؛ أو منضمّا إلى ما قبله؛ أو ما بعده- على ما سبق تقريره هناك-.
وسمّيت «الجمعة» بذلك!! لأنّه تمّ فيه خلق العالم؛ فاجتمعت أجزاؤه في الوجود. انتهى «مناوي وجمع الوسائل» .
(و) أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي؛ في «الجامع» و «الشمائل» ، وابن ماجه: كلّهم؛ (عن معاذة) العدوية (قالت:
قلت لعائشة) أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها (: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟! قالت) - أي- عائشة الصديقة (: نعم. قلت: من أيّها) ؛ أي: من أي الشهر (كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟!) .
لأنّ «أي» إذا أضيفت إلى جمع معرّف يكون السؤال لتعيين بعض أفراده، ك «أيّ الرجال جاء؟» أي: أزيد أم خالد؟.
(قالت) - أي- عائشة (: كان لا يبالي من أيّها صام. أي) كان يستوي عنده الصوم (من أوّله، ومن وسطه، ومن آخره) .
قال ملّا علي قاري في «جمع الوسائل» : قال العلماء: ولعلّه صلى الله عليه وسلم لم يواظب على ثلاثة معيّنة؛ لئلا يظنّ تعيينها وجوبا، فإنّ أصل السنّة يحصل بصوم أيّ ثلاثة من الشهر، والأفضل صوم أيّام البيض الثالث عشر وتالييه.
ويستحبّ صوم ثلاثة أيام من أوّل الشهر، لما سبق: من أنّه كان يصوم ثلاثة من
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع صوم أيّام البيض في سفر ولا حضر.
و (أيّام البيض) : اليوم الثّالث عشر من الشّهر،
…
غرّة كلّ شهر، وكذا ثلاثة من آخره: السابع والعشرين؛ وتالييه، وممّن اختار صوم أيّام البيض كثير من الصحابة والتابعين.
قال القاضي: اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة المستحبّة في كلّ شهر!!! ففسّره جماعة من الصحابة والتابعين بأيّام البيض؛ وهي: الثالث عشر وتالياه؛ منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وأبو ذر رضي الله عنهم.
واختار إبراهيم النّخعي وآخرون ثلاثة في أوّله؛ منهم الحسن البصري.
واختارت عائشة رضي الله عنها وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر، ثمّ الثلاثاء والأربعاء والخميس من آخر.
وفي حديث رفعه ابن عمر: أوّل اثنين في الشهر وخميسان بعده. وأم سلمة أوّل خميس والاثنين بعده، ثم الاثنين.
وقيل: أوّل يوم من الشهر والعاشر والعشرون، وقيل: إنّه صام به مالك بن أنس.
وروي عنه كراهة صوم أيام البيض، ولعله مخافة الوجوب على مقتضى أصله!!
وقال ابن شعبان المالكي: أوّل يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون.
وعندي أنّه يعمل في كلّ شهر بقول، والباقي بقول الأكثر الأشهر، وهو أيام البيض، وإن قدر على الجمع بين الكلّ في كلّ شهر؛ فهو أكمل وأفضل. انتهى.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بسند حسن؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع صوم أيّام) الليالي (البيض في سفر ولا حضر) ؛ أي: كان يلازم صومها فيهما (وأيّام البيض) هي: (اليوم الثّالث عشر من الشّهر،
والرّابع عشر، والخامس عشر. وسمّيت بيضا؛ لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة،
…
و) اليوم (الرّابع عشر) منه، (و) اليوم (الخامس عشر) منه.
(وسمّيت بيضا!! لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها) ؛ قاله العزيزي وغيره.
(و) أخرج البخاري، ومسلم، و «الموطأ» ، وأبو داود، والترمذيّ في «الجامع» ؛ و «الشمائل» ، وابن ماجه- وهذا لفظ الترمذي-:
(عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء) - بالمدّ؛ وقد يقصر، وهو اليوم العاشر من المحرم- (يوما تصومه قريش) ؛ هم أولاد النضر بن كنانة، وقيل: أولاد فهر بن مالك (في الجاهليّة) ؛ أي: من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم المشرّفة بنعت الإسلام. والجاهلية: هي الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وبشرائع الإسلام، ولعل قريشا تلقّوا صيامه من أهل الكتاب!
وقال القرطبي: ولعلّهم استندوا في صومه إلى شرع إبراهيم؛ أو نوح! فقد ورد في أخبار أنّه اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا، ولهذا كانوا يعظّمونه بكسوة الكعبة فيه.
وفي «المطامح» ؛ عن جمع من أهل الآثار: أنّه اليوم الذي نجّى الله فيه موسى، وفيه استوت السفينة على الجودي، وفيه تيب على آدم، وفيه ولد عيسى، وفيه نجّي يونس من بطن الحوت، وفيه تيب على قومه، وفيه أخرج يوسف من بطن الجبّ.
وبالجملة: هو يوم عظيم شريف حتّى إنّ الوحوش كانت تصومه؛ أي:
تمسك عن الأكل فيه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة..
صامه وأمر بصيامه،
…
وفي «صحيح مسلم» أنّ صوم عاشوراء يكفّر سنة، وصوم عرفة يكفّر سنتين.
وحكمته: أنّ عاشوراء موسويّ ويوم عرفة محمّديّ. وورد: «من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه السّنة كلّها» . وطرقه؛ وإن كانت ضعيفة؛ لكن قوّى بعضها بعضا.
وأمّا ما شاع فيه من الخضاب؛ والادّهان، والاكتحال، وطبخ الحبوب وغير ذلك!! فموضوع مفترى، حتى قال بعضهم: الاكتحال فيه بدعة ابتدعها قتلة الحسين.
لكن ذكر السيوطي في «الجامع الصغير» : «من اكتحل بالإثمد يوم عاشورا لم يرمد أبدا» . رواه البيهقي بسند ضعيف. انتهى «باجوري» .
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه) بمكّة كما تصومه قريش، ولا يأمر به.
(فلمّا قدم المدينة صامه وأمر) النّاس (بصيامه) . وفي الحديث اختصار يوضّحه ما رواه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشورا، فسألهم عن ذلك!؟ فقالوا هذا يوم أنجى الله فيه موسى، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا؛ فنحن نصومه. فقال:«نحن أحقّ بموسى منكم» ! فصامه وأمر بصيامه.
واستشكل رجوعه إليهم في ذلك!! وأجيب باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، أو أخبره به من أسلم منهم؛ كابن سلام، على أنّه ليس في الخبر أنّه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة تصريح بأنّه كان يصومه قبل. فغاية ما في القصّة أنّه صفة حال وجواب سؤال؛ فلا تعارض بينه وبين خبر عائشة «إنّ أهل الجاهلية كانوا يصومونه» ، إذ لا مانع من توارد الفريقين مع اختلاف السبب في ذلك!!.
فلمّا افترض رمضان.. كان رمضان هو الفريضة، وترك عاشوراء، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون صيامه صلى الله عليه وسلم استئلافا لليهود؛ كما استألفهم باستقبال قبلتهم، وبالسدل، وغير ذلك!! وعلى كلّ حال؛ فلم يصحّ اقتداؤه بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك في الوقت الذي كان فيه يحبّ موافقة أهل الكتاب؛ فيما لم ينه عنه، فلما فتحت مكّة واشتهر أمر الإسلام أحبّ مخالفة أهل الكتاب؛ كما ثبت في «الصحيح» ، فهذا من ذلك. فوافقهم أوّلا؛ وقال:
«نحن أحقّ منكم بموسى» عليه الصلاة والسلام، فلما أحبّ مخالفتهم؛ قال في آخر حياته:«لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التّاسع» .
قال بعض العلماء: وهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أنّه أراد نقل العاشر إلى التاسع. والثاني: أن يضيفه إليه في الصوم؛ مخالفة لليهود في إفرادهم اليوم العاشر. وهذا هو الراجح. ويشعر به بعض روايات مسلم.
ولأحمد؛ من حديث ابن عبّاس مرفوعا: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا يوما بعده» . ولذا قال بعض المحققين: صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: 1- أدناها: أن يصام وحده، 2- وفوقه: أن يصام التاسع معه، 3- وفوقه: أن يصام التاسع والحادي عشر معه. انتهى. من «جمع الوسائل» .
(فلمّا افترض) - بالبناء للمجهول- (رمضان) ؛ أي: افترض الله صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة (كان رمضان هو الفريضة) ؛ لا غيره، أي: انحصرت الفريضة فيه، فتعريف المسند مع ضمير الفصل يفيد قصر المسند على المسند إليه.
(وترك) - بالبناء للمفعول- (عاشوراء) ؛ أي: نسخ وجوب صومه، أو تأكّده الشديد؛ على الخلاف: في أنّه كان قبل فرض رمضان صوم واجب؛ أولا!! والمشهور عند الشافعية هو الثاني، والحنفية على الأوّل، فعندهم: أنّ صوم عاشوراء كان فرضا، فلما فرض رمضان نسخ وجوب عاشوراء، وهو ظاهر سياق الحديث، وعند الشافعية: أنّ صوم عاشوراء كان سنّة مؤكّدة ملتزمة تقرب من
فمن شاء.. صامه، ومن شاء.. تركه.
وعن عليّ رضي الله [تعالى] عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم
…
الفرض، فلما وجدت الفريضة الراجحة الأحقّ بالالتزام ترك عاشوراء؛ فلم يبق مؤكّدا، بل ترك إلى مطلق الندب.
(فمن شاء صامه، ومن شاء تركه) ، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة أنّه كان واجبا ثم نسخ الأمر به، ثم تأكّد بالنداء العامّ من حضرته عليه الصلاة والسلام يوم عاشوراء:«من كان لم يصم؛ فليصم، ومن كان أكل؛ فليتمّ صيامه إلى اللّيل» . ثم زيادته بأمر الأمّهات ألايرضعن فيه الأطفال، وردّ بما فيه من ركاكة وتعسّف بيّن.
قال الحافظ ابن حجر: وقول بعضهم «المتروك تأكّد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه» !! لا يخفى ضعفه، بل تأكّد ندبه باق، لا سيما مع الاهتمام به، حتّى في عام وفاته، فقد عزم في آخر عمره صلى الله عليه وسلم أن يضمّ إليه التاسع. انتهى «مناوي» .
قال النووي في «شرح مسلم» : ويتمسّك أبو حنيفة بقوله «أمر بصيامه» والأمر للوجوب، وبقوله: فلمّا فرض رمضان؛ قال: «من شاء صامه، ومن شاء تركه» ، ويحتجّ الشافعية بقوله «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه» . وقوله «من شاء صامه، ومن شاء تركه» معناه: أنّه ليس متحتّما، فأبو حنيفة يقدّره: ليس بواجب، والشافعية يقدّرونه: ليس متأكّدا أكمل التأكيد.
وعلى المذهبين؛ فهو سنّة مستحبّة الآن؛ من حين قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام.
وقال في «جمع الوسائل» : قال العلماء: لا شكّ أنّ قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة كان في ربيع الأول، وفرض رمضان في شعبان من السنة الثانية، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلّا في سنة واحدة، ثم فوّض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع. انتهى.
(و) أخرج الإمام أحمد في «مسنده» - بإسناد حسن؛ كما في «العزيزي» -
(عن) أمير المؤمنين (عليّ رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم
يوم عاشوراء، ويأمر به.
وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر:
أوّل إثنين من الشّهر، والخميس، والإثنين من الجمعة الآخرى.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه:
…
يوم عاشوراء) بمكّة كما تصومه قريش؛ ولا يأمر به، فلما قدم المدينة صار يصومه (ويأمر به) ؛ أي: بصومه أمر ندب، لأنّه يوم شريف أظهر الله فيه كليمه موسى على فرعون وجنوده، وفيه استوت السفينة على الجودي، وفيه تاب الله على قوم يونس، وفيه أخرج يوسف من السجن «1» ، وفيه أخرج يونس من بطن الحوت، وفيه صامت الوحوش. ولا بعد أن يكون لها صوم خاصّ!! كذا في «المطامح» .
انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي- ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، لكن قال الزيلعي: هو حديث ضعيف. وقال المنذري:
اختلف فيه على هنيدة راويه فمرّة قال-
(عن حفصة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها)، وأخرى عن أمّه؛ عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها!! وتارة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر: أوّل اثنين من الشّهر، والخميس، والاثنين من الجمعة الآخرى) . فينبغي لنا المحافظة على التأسّي به في ذلك.
(و) أخرج ابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو بكر في «الغيلانيات» ؛ (عن جابر) أي: ابن عبد الله- لأنه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنه) وعن
(1) الذي مرّ خروجه من الجب!!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يفطر على الرّطب ما دام الرّطب، وعلى التّمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهنّ، ويجعلهنّ وترا؛ ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النّار.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أيضا:
…
والده قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يفطر على الرّطب؛ مادام الرّطب) موجودا، (وعلى التّمر؛ إذا لم يكن رطب) ؛ أي: إذا لم يتيسر ذلك الوقت.
(ويختم بهنّ) ؛ أي: يأكلهنّ عقب الطعام، لأنّه يصلحه، لا سيما الصّيحاني؛ فإنّه أجود تمر المدينة. كذا قاله الحفني على «الجامع الصغير» .
(ويجعلهنّ وترا ثلاثا؛ أو خمسا؛ أو سبعا) . أخذ منه أنّه يسنّ الفطر من الصوم على الرطب، فإن لم يتيسر! فالتمر. والرّطب مع تيسّره أفضل
…
وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يعجبه الرّطب جدّا. انتهى «مناوي» .
(و) أخرج أبو يعلى في «مسنده» ؛ (عن) إبراهيم بن حجّاج؛ عن عبد الواحد بن زياد؛ عن ثابت؛ عن (أنس)، أي: ابن مالك- لأنه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنه) ، ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، وليس كما قال، فقد قال ابن حجر: إن عبد الواحد؛ قال فيه البخاري: إنّه منكر الحديث. وقال الحافظ الهيثمي: فيه عبد الواحد وهو ضعيف. ذكره المناوي.
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات) ؛ إن لم يجد رطبا، لأن التمر يردّ قوة البصر التي أضعفها الصوم، (أو) على (شيء) حلو (لم تصبه النّار) ؛ أي: ليس مصنوعا بنار؛ كالدبس وعسل النحل، فيندب لنا التأسّي به في ذلك.
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بإسناد صحيح- كما في العزيزي- (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم يكن رطبات.. فتمرات، فإن لم يكن تمرات.. حسا حسوات من ماء.
وعن أنس أيضا قال:
…
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر) من صومه (على رطبات قبل أن يصلّي) المغرب، (فإن لم يكن رطبات) ؛ أي: لم يتيسّر!! (فتمرات) ؛ أي: فيفطر على تمرات، والأفضل أن يكون وترا في الكلّ، (فإن لم يكن تمرات) ؛ ولا نحوها من كلّ حلو؛ أي: لم يتيسّر ذلك!! (حسا حسوات من ماء) . قال العلقمي:
الحسوات- بحاء وسين مهملتين- جمع حسوة- بالفتح-؛ وهي: المرّة من الشرب، والحسوة- بالضم-: الجرعة من الشّراب بقدر ما يحسى مرّة واحدة. انتهى.
قال ابن القيّم: في فطره عليها تدبير لطيف، فإن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا يجد الكبد منها ما يجذبه ويرسله إلى القوى والأعضاء؛ فيضعف، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد وأحبّه إليه، لا سيما الرطب، فيشتدّ قبولها؛ فتنتفع به هي والقوى. فإن لم يكن!! فالتمر لحلاوته وتغذيته، فإن لم يكن فحسوات تطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم؛ فتنتبه بعده للطعام وتتلقاه بشهوة. انتهى.
وقال غيره في كلامه على هذا الحديث: هذا من كمال شفقته على أمّته وتعليمهم ما ينفعهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلوّ المعدة أدعى لقبوله وانتفاع القوى؛ لا سيما القوّة الباصرة، فإنها تقوى به. وحلاوة المدينة المنوّرة التمر، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوت وأدم وفاكهة. وأما الماء! فإنّ الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء انتفعت بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظامئ الجائع البداءة بشرب ماء قليل؛ ثم يأكل. وفيه ندب الفطر على التمر ونحوه، فلو أفطر على خمر؛ أو لحم خنزير؟ صحّ صومه. انتهى مناوي على «الجامع» .
(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والبيهقي في «سننه» بإسناد صحيح؛ (عن أنس أيضا) رضي الله تعالى عنه (قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزّلت عليكم الملائكة» .
وعن ابن الزّبير رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم) ؛ أي: نزل ضيفا عند قوم وهو صائم فأفطر، (قال) في دعائه لهم (:«أفطر عندكم الصّائمون) - خبر بمعنى الدعاء بالخير والبركة، لأن إفطار الصائمين يدلّ على اتساع الحال وكثرة الخير، إذ من عجز عن نفسه؛ فهو عن غيره أعجز. انتهى «مناوي» . - (وأكل طعامكم الأبرار) - قال المظهري: دعاء أو إخبار، وهذا الوصف موجود في حقّ المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه أبرّ الأبرار- (وتنزّلت) - وفي رواية الطبراني: وصلّت- (عليكم الملائكة» بالرحمة والبركة.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد حسن- كما في «العزيزي» -
(عن ابن الزّبير) - هكذا هو في «الجامع الصغير» بدون تسمية لابن الزبير، وسكت عليه شارحه، والمعروف أنّ المراد عند الإطلاق ب «ابن الزبير» هو عبد الله ابن الزبير (رضي الله تعالى عنه) ؛ وعن والده، وقد صرّح بتسميته في «شرح الأذكار» في «باب ما يقول إذا أفطر عند قوم» ؛ فقال: أخرجه الحافظ ابن حجر من طريق الطبراني؛ عن مصعب بن ثابت؛ عن عبد الله بن الزبير أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل عند قوم؛ قال: «أكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» مختصرا. انتهى.
(قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم؛ قال «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» ) ؛ أي: استغفرت لكم ودعت لكم بالرحمة والبركة.
وأخرج ابن ماجه؛ من طريق مصعب بن ثابت؛ عن عبد الله بن الزبير؛ قال:
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر.. قال: «ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» .
وعن معاذ بن زهرة:
…
أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ؛ فقال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . انتهى.
(و) أخرج أبو داود، والحاكم بإسناد حسن- كما في «العزيزي» -
(عن ابن عمر) أي: عبد الله- لأنّه المراد عند الإطلاق- (رضي الله تعالى عنهما) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر) من صومه؛ (قال: «ذهب الظّمأ) مهموز الآخر؛ بلا مدّ، أي: العطش- قال تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ [120/ التوبة] . ذكره في «الأذكار» قال: وإنما ذكرته؛ وإن كان ظاهرا!! لأني رأيت من اشتبه عليه فتوهّمه ممدودا.
(وابتلّت العروق) ، لم يقل ذهب الجوع أيضا، لأن أرض الحجاز حارّة، فكانوا يصبرون على قلّة الطعام؛ لا العطش، وكانوا يتمدّحون بقلّة الأكل؛ لا بقلّة الشرب.
(وثبت الأجر)، يعني: زال التعب وبقي الأجر (إن شاء الله تعالى» ) ثبوته؛ بأن يقبل الصوم ويتولّى جزاءه بنفسه، كما وعد إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)[الرعد] .
(و) أخرج أبو داود في «سننه» و «مراسيله» ؛ (عن معاذ بن زهرة) ويقال:
أبو زهرة الضبي التابعي؛ قال في «التقريب» كأصله: مقبول أرسل حديثا فوهم من ذكره في الصحابة مرسلا، قال: بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
…
الخ؛ قال ابن حجر: أخرجه في «السنن» و «المراسيل» بلفظ واحد، ومعاذ هذا ذكره البخاري في التابعين، ولكنه قال: معاذ أبو زهرة. وتبعه ابن أبي حاتم، وابن حبّان في «الثقات» ، وعدّه الشيرازي في الصحابة، وغلّطه المستغفريّ، ويمكن كون
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» .
وعن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر.. قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر.. قال:
…
الحديث موصولا؛ ولو كان معاذ تابعيّا!! لاحتمال كون الذي بلّغه له صحابيا، وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في «السنن» ، وبالاعتبار الآخر أورده في «المراسيل» . انتهى ذكره المناوي على «الجامع» .
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر) من صومه (قال) عند فطره: «اللهمّ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» وفي رواية زيادة: «وبك آمنت، وعليك توكّلت» ، وفي رواية «فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» كما سيأتي. قال الطّيبي: قدّم الجارّ والمجرور في القرينتين على العامل!! دلالة على الاختصاص وإظهارا للاختصاص في الافتتاح، وإبداء لشكر صنيع المختصّ به في الاختتام.
انتهى «مناوي» .
(و) أخرج ابن السّنّي، والبيهقيّ في «شعب الإيمان» ؛ (عن معاذ) - أي:
ابن زهرة الضبيّ التابعي (رضي الله تعالى عنه) مرسلا؛ وهو حديث ضعيف- كما في «العزيزي» (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر؛ قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» ) أي: يسّر لي ما أفطر عليه، فيندب قول ذلك عند الفطر من الصوم؛ فرضا أو نفلا.
(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، وابن السنّي؛ (عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) وهو حديث حسن لغيره- كما في العزيزي-؛ (قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر) - أي: من صومه؛ ولو نفلا (قال) في دعائه:
«اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» .
وعن علقمة قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصّ من الأيّام
…
( «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) - قدّم المعمول على العامل!! دلالة على الاختصاص- (فتقبّل منّي) - وفي رواية للدار قطني: «أفطرنا وتقبّل منّا» - (إنّك أنت السّميع) لدعائي (العليم» ) بحالي وإخلاصي، ولعلّه كان يأتي بالإفراد إذا أفطر وحده، وبالجمع إذا أفطر مع غيره!!.
(و) أخرج البخاريّ، ومسلم في «صحيحيهما» ، وأبو داود، والترمذي في «الشمائل» ؛ (عن) أبي شبل (علقمة) بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النّخع النّخعي؛ الكوفي التابعي الكبير، الجليل الفقيه البارع، أحد الأعلام.
مخضرم؛ سمع عمر بن الخطاب، وعثمان، وعليا، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وحذيفة، وخبّابا، وأبا موسى الأشعري، وعائشة وغيرهم من الصحابة.
روى عنه أبو وائل، وإبراهيم النّخعي، والشعبي، وابن سيرين، وعبد الرحمن بن يزيد، وأبو الضحى، وسلمة بن كهيل، وخلق من التابعين. وأجمعوا على جلالته وعظم محلّه، ووفور علمه، وجميل طريقته.
قال إبراهيم النّخعي: كان علقمة يشبّه بابن مسعود. وقال أبو سعد ابن السمعاني: كان علقمة أكبر أصحاب ابن مسعود وأشبههم هديا ودلّا.
توفي سنة: اثنتين وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين. والله أعلم. رحمه الله تعالى.
(قال: سألت عائشة) أمّ المؤمنين (رضي الله تعالى عنها: أكان) - وفي رواية: هل كان- (رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصّ) - وفي رواية: يختصّ- (من الأيّام
شيئا؟ قالت: كان عمله ديمة، وأيّكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق؟
وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة،
…
شيئا) ؛ أي: يتطوّع في يوم معيّن بعمل مخصوص؛ فلا يفعل في غيره مثله، كصلاة وصوم؟!.
(قالت: كان) وفي رواية البخاري: قالت: لا، كان (عمله ديمة) - بكسر الدال؛ مصدر- أي: دائما. وأصل «ديمة» : دومة، لأنّه من الدوام، فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، والمراد بالدوام: الغالب، أو الدوام الحقيقي، لكن ما لم يمنع مانع كخشية المشقّة على الأمّة؛ أو نحو ذلك.
فلا ينافي ذلك قول عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى نقول: قد صام. ويفطر حتى نقول: قد أفطر» . ولا ينافي أيضا عدم مواظبته على صلاة الضحى؛ كما في بعض الروايات عند الترمذي- وقد تقدّم- ومنها حديث مسلم وغيره؛ عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي الضحى؟
قالت: لا، إلّا أن يجيء من مغيبه.
وبالجملة فكانت المواظبة غالب أحواله، وقد يتركها لحكمة. والله أعلم.
(وأيّكم يطيق ما) ؛ أي: وأيّ واحد منكم يطيق العمل الذي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق) الدوام عليه من غير ضرر؛ صلاة كان، أو صوما، أو نحوهما؛ خصوصا مع كمال عمله خشوعا وخضوعا وإخلاصا. ومناسبة هذا الحديث للباب!! شمولاه للصوم، وكذا يقال في الأحاديث بعده.
(و) أخرج الشيخان وغيرهما؛ كالترمذي في «الشمائل» - وهذا لفظها-
(عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها؛ قالت: دخل عليّ) - بتشديد الياء- (رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة) زاد في رواية عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن هشام:
فقال: «من هذه؟» ، قلت: فلانة؛ لا تنام اللّيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم
…
حسنة الهيئة. ووقع في رواية مالك؛ عن هشام أنّها من بني أسد. أخرجه البخاري، ولمسلم من رواية الزّهري؛ عن عروة في هذا الحديث: أنّها الحولاء بالمهملة والمد- وهو اسمها بنت تويت- بمثنّاتين؛ مصغر- ابن حبيب- بفتح المهملة- ابن أسد بن عبد العزى؛ من رهط خديجة أم المؤمنين (فقال) ؛ أي:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «من هذه؟» قلت: فلانة) كناية عن كلّ علم مؤنّث، فهي غير منصرفة للعلمية والتأنيث، فقد صرّح النحاة بأنّه يكنّى ب «فلان» و «فلانة» عن أعلام الأناسي خاصّة، فيجريان مجرى المكنّى عنه؛ أي: يكونان كالعلم فلا تدخلها اللام، ويمتنع صرف «فلانة» ، ولا يجوز تنكير «فلان» ، فلا يقال جاءني فلان وفلان آخر. ذكره الرّضيّ وغيره.
(لا تنام اللّيل!) ؛ أي: تحييه بصلاة، وذكر، وتلاوة قرآن، ونحوها.
وظاهر هذه الرواية: أنّ المرأة عند عائشة حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووقع في رواية الزهري عند مسلم «أنّ الحولاء مرّت به» . فيجمع بينهما بأنّها كانت أوّلا عند عائشة، فلما دخل صلى الله عليه وسلم عليها قامت؛ كما في رواية أحمد بن سلمة؛ عن هشام ولفظه: كانت عندي امرأة، فلما قامت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هذه يا عائشة؟» . فقلت: هذه فلانة؛ وهي أعبد أهل المدينة.
والحديث أخرجه الحسن بن سفيان في «مسنده» ؛ من طريق، فيحتمل أنّها لما قامت لتخرج فمرّت به في حال ذهابها؛ فسأل عنها. وبهذا يجمع بين الروايات.
ثم ظاهر السياق أنّها مدحتها في وجهها. وفي «مسند الحسن» ما يدلّ على أنّها قالت ذلك بعد ما خرجت المرأة، فتحمل رواية الكتاب عليه. انتهى «جمع الوسائل» .
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم) - عبّر بقوله «عليكم» مع أن المخاطب
من الأعمال ما تطيقون؛ فوالله لا يملّ [الله] حتّى تملّوا» ، وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
النساء!! إيماء لتعميم الحكم بتغليب الذكور على الإناث، أي: خذوا والزموا- (من الأعمال ما) - أي: العمل الذي- (تطيقون) الدوام عليه بلا ضرر، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد والاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكليف ما لا يطاق.
قال الحافظ ابن حجر: سبب وروده خاصّ بالصلاة؛ لكن اللفظ عامّ، وهو المعتبر. ويؤخذ منه- كما قال القسطلاني-: وجه مناسبة هذا الحديث بما قبله وبما بعده بعنوان الباب.
(فو الله) فيه دلالة على جواز الحلف من غير استحلاف، إذا أريد به مجرّد التأكيد، وفي رواية:«فإنّ الله (لا يملّ) - وفي أخرى: «لا يملّ الله- (حتّى تملّوا» ) - بفتح أوّلهما وثانيهما؛ مع تشديد اللام فيهما- وفي رواية: «لا يسأم حتّى تسأموا» وهي مفسّرة للأولى، وإسناد الملل والسامة إلى الله تعالى من قبيل المشاكلة والازدواج؛ نحو نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [67/ التوبة] أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)[الواقعة] لأن الملل مستحيل في حقّه تعالى، فإنّه فتور يعرض للنفس من كثرة مزاولة شيء، فيوجب الكلال في الفعل والإعراض عنه.
وهذا إنّما يتصوّر في حقّ من يتغيّر، والمراد لا يعرض الله عليكم، ولا يقطع ثوابه ورحمته عنكم حتّى تسأموا العبادة وتتركوها.
فهذا الحديث يقتضي أمرهم بالاقتصاد في العمل؛ دون الزيادة، لئلا يملّوا فيعرضوا فيعرض الله عنهم. وفيه الحثّ على الاقتصاد في العمل وكمال شفقة المصطفى صلى الله عليه وسلم ورأفته؛ حيث أرشدهم لما يصلحهم مما يمكنهم المداومة عليه مع انبساط النفس وانشراح الصدر، لئلا يطيعوا باعث الشغف فيحمّلوا أنفسهم فوق ما يطيقون؛ فيؤدّي ذلك إلى عجزهم عن الطاعة. انتهى «مناوي» .
(وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ- بالرفع؛ أو النصب- فالأوّل
الّذي يدوم عليه صاحبه.
وعن أبي صالح قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله [تعالى] عنهما:
…
على أنّه اسم «كان» وخبرها قوله (الّذي)
…
الخ، فهو في محلّ نصب على هذا، والثاني على أنّه خبرها مقدّم، واسمها «الّذي» ، فهو في محلّ رفع على هذا.
وقوله (يدوم عليه صاحبه) ؛ أي: مداومة عرفية؛ لا حقيقية، لأن شمول جميع الأزمنة غير ممكن لأحد من الخلق، فإنّ الشخص ينام وقتا، ويأكل وقتا، ويشرب وقتا
…
وهكذا.
(و) أخرج الترمذيّ في «الشمائل» ؛ (عن أبي صالح) السّمان الزيّات التابعي؛ واسمه: ذكوان، وقيل له «السمان» و «الزيّات» !! لأنّه كان يجلب السمن والزيت إلى الكوفة.
وهو مدني غطفاني «مولى جويرية بنت الأحمس» ؛ سمع سعد بن أبي وقّاص وابن عمر، وابن عبّاس، وجابرا، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وأبا الدرداء، وأبا عياش الزّرقيّ، وعائشة. وسمع جماعة من التابعين.
روى عنه بنوه: سهيل؛ وعبد الله؛ وصالح، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن دينار، ومحمد بن سيرين، والزّهري، وحبيب بن أبي ثابت، ورجاء بن حيوة، ويحيى الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي، وخلائق من التابعين وغيرهم، وسمع منه الأعمش ألف حديث.
واتفقوا على توثيقه وجلالته. قال الإمام أحمد ابن حنبل: هو ثقة ثقة؛ من أجلّ الناس وأوثقهم، وشهد الدار زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، وتوفي بالمدينة المنورة سنة: إحدى ومائة رحمه الله تعالى.
(قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما - بصيغة المتكلّم وحده؛ مبنيّا
أيّ العمل كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالتا: ما ديم عليه، وإن قلّ.
وروى البخاريّ: عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان أحبّ الدّين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه.
للمعلوم- ونصب الاسمين على المفعولية، وفي رواية: سئلت- بصيغة الغائبة؛ مبنيا للمجهول، ورفع ما بعده على النيابة-:
(أيّ العمل) أي: أيّ أنواعه (كان أحبّ) - يجوز رفعه ونصبه- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالتا: ما ديم) - بكسر الدال؛ وفتح الميم ك «قيل» - أي: ما ووظب (عليه؛ وإن قلّ) العمل المداوم عليه، فإنّه خير من كثير منقطع، إذ بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والإخلاص، وهذه ثمرات تزيد على الكثير المنقطع أضعافا مضاعفة.
وبهذا الحديث ينكر أهل التصوّف ترك الأوراد والنوافل؛ كما ينكرون ترك الفرائض
…
وأخّر المصنف هذه الأحاديث إلى الصوم!! لأن كثيرا يداومون عليه أكثر من غيره؛ فذكر فيه ذلك زجرا لهم عن موجب الملال فيه وفي غيره، وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص عن تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخفيف العبادة ومجانبة التّشديد. والله أعلم.
(وروى) الإمام الحافظ الحجّة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (البخاريّ) في «صحيحه» ؛ في باب
…
، وكذا رواه مسلم في «صحيحه» ؛ في «كتاب الصلاة؛ باب فضيلة العمل الدائم» أثناء حديث المرأة التي تذكر من صلاتها (عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّه) - أي: الشّأن- (كان أحبّ الدّين) - بكسر الدال: يعني التعبّد- (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه) ؛ وإن قل ذلك العمل المداوم عليه، يعني: ما واظب عليه مواظبة عرفية.
.........
وإنّما كان أحبّ إليه!! لأن المداوم يدوم له الإمداد والإسعاد من حضرة الوهّاب الجواد، وتارك العمل بعد الشروع؛ كالمعرض بعد الوصل، وكالهاجر بعدما منحه من الفضل، وبدوام العمل القليل تستمرّ الطاعة والإقبال على الله؛ بخلاف الكثير الشاقّ. انتهى «مناوي» .