المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول في أخبار شتى من أحواله صلى الله عليه وسلم] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٣

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌[الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، وصومه، وقراءته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أذكار وأدعية]

- ‌[الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة]

- ‌[الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم]

- ‌(حرف الهمزة) ]

- ‌(حرف الباء) ]

- ‌(حرف التّاء) ]

- ‌(حرف الثّاء) ]

- ‌(حرف الجيم) ]

- ‌(حرف الحاء) ]

- ‌(حرف الخاء) ]

- ‌(حرف الدّال) ]

- ‌(حرف الذّال) ]

- ‌(حرف الرّاء) ]

- ‌(حرف الزّاي) ]

- ‌(حرف السّين) ]

- ‌(حرف الشّين) ]

- ‌(حرف الصّاد) ]

- ‌(حرف الضّاد) ]

- ‌(حرف الطّاء) ]

- ‌(حرف الظّاء) ]

- ‌(حرف العين) ]

- ‌(حرف الغين) ]

- ‌(حرف الفاء) ]

- ‌(حرف القاف) ]

- ‌(حرف الكاف) ]

- ‌(حرف اللّام) ]

- ‌فهرسة الجزء الثالث من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌[الفصل الأول في أخبار شتى من أحواله صلى الله عليه وسلم]

[الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلى الله عليه وسلم]

الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلى الله عليه وسلم في «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: (ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا، مقطوع السّرّة.

(الفصل الأوّل) من الباب السابع (في) ذكر (أخبار) - بالتنوين- (شتّى) - بتشديد المثناة الفوقية؛ أي: متفرقة- (من أحواله صلى الله عليه وسلم : القولية والفعلية والخلقية.

(في) كتاب ( «الشّفا) بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم» (للقاضي عياض) بن موسى اليحصبي السّبتي أبي الفضل (رحمه الله تعالى) :

(ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا) - أي لا قلفة له، (مقطوع السّرّة) - بضم السين- رواه أبو نعيم، والطبراني في «الأوسط» ، وفي «دلائل البيهقي» بسند ضعيف؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه ولد معذورا مسرورا؛ أي: مقطوع السرة مختونا، يقال: عذره، وأعذره: ختنه.

وروى الخطيب؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا؛ وصحّحه أيضا في «المختارة» : «من كرامتي على ربّي أنّي ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» ؛ قاله ملّا علي قاري في «شرح الشفاء» .

وقال الشهاب الخفاجي: والّذي صحّحه المحدّثون- كما في «التمهيد» لابن عبد البر- أنّ جدّه عبد المطّلب ختنه يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه «محمدا» ، وكانت العرب تختن؛ لأنّه سنة توارثوها من إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وليس ذلك لمجاورة اليهود، وقد ورد هذا في قصة هرقل التي قيل له فيها: إن ملك الختان قد ظهر.

ص: 128

وقد روي عن أمّه آمنة أنّها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر.

وروي أنّه صلى الله عليه وسلم ختن يوم شقّ قلبه الشريف؛ وهو عند مرضعته حليمة، وقد ذكره ابن القيّم في كتاب «الهدي» «1» ، وهو أرجح الأقوال، وطعن في القول الأول من الأقوال الثلاثة- يعني القول بأنه ولد مختونا-؛ وقال: إنّه روي في حديث لم يصحّ، وذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات» .

ومن الغريب قول الحاكم في «المستدرك» . إن الأخبار تواترت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا!! وتعقّبه الذهبيّ؛ وقال: لا نعلم صحّة ما ذكره؛ فكيف يكون متواترا!! والقول «بأنه أراد ب «تواتره» : شهرته بين الناس لا ما اصطلح عليه المحدّثون» بعيد.

وقد وقع في هذه المسألة نزاع بين ابن طلحة والكمال ابن العديم؛ فألّف ابن العديم في تأييد أنّه صلى الله عليه وسلم ختن بعد ولادته تأليفا أوضح فيه الدلائل والنقول، إلا أنّهم لم يرضوا قول ابن الجوزي «إنّه موضوع» وردّوه. انتهى كلام الخفاجي في «شرح الشفا» .

(وقد روي) في بعض الروايات (عن أمّه آمنة) - بالمدّ على وزن: فاعلة- وهي بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب، ولم تلد غيره صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوّج غيرها عبد الله على الأصحّ فيها. وفي اسم آمنة أمان أمّته.

وفي حليمة حلم. وفي بركة بركة، فتلك أمنة من سائر النقم.

(أنّها) أي: أمّه آمنة؛ (قالت: ولدته) صلى الله عليه وسلم (نظيفا) أي: نقيّا (ما به قذر) بفتحتين- أي: شيء مما يكون على المولود من الوسخ والدّرن؛ كذا رواه ابن سعد في «طبقاته» .

وروي أنّه ولدته أمّه بغير دم؛ ولا وجع.

ص: 129

وفي حديث عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلى الله عليه وسلم نام حتّى سمع له غطيط، فقام فصلّى، ولم يتوضّأ.

وولد عليه الصلاة والسلام بمكّة على الصحيح الذي عليه الجمهور في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، وهذه الدار بنتها بعد ذلك الخيزران جارية المهدي «أمّ الهادي والرشيد» مسجدا يصلّى فيه، والمشهور أنّه ولد في ربيع الأول، وهو قول الجمهور من العلماء، يوم الاثنين: ثاني عشر ربيع الأول. والله أعلم.

(وفي) البخاريّ ومسلم وغيرهما؛ من (حديث) أبي عبد الله (عكرمة) مولى ابن عبّاس الهاشمي المدني.

أحد فقهاء المدينة المنورة وتابعيها من الأئمة المقتدى بهم في التفسير والحديث.

أصله بربري من أهل المغرب، سمع الحسن بن عليّ، وأبا قتادة، وابن عبّاس، وابن عمر، وابن عمرو، وأبا هريرة، وأبا سعيد، ومعاوية وغيرهم.

روى عنه جماعات من التابعين؛ منهم أبو الشعثاء، والشعبي، والنّخعي، والسبيعي، وابن سيرين، وعمرو بن دينار، وخلائق غيرهم من التابعين وخلائق من غيرهم.

قال ابن معين: عكرمة ثقة. قال: وإذا رأيت من يتكلّم في عكرمة؛ فاتّهمه على الإسلام، وقال أبو أحمد بن عدي: لم يمتنع الأئمة من الرواية عن عكرمة، وأدخله أصحاب الصحّاح صحاحهم.

وتوفي سنة: أربع ومائة. وقيل: سنة سبع ومائة. وقيل غير ذلك.

(عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلى الله عليه وسلم نام حتّى سمع له غطيط) ؛ أي: صوت يخرج مع نفس النائم، (فقام فصلّى؛ ولم يتوضّأ) ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا، بخلاف غيره، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

ص: 130

قال عكرمة: لأنّه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتغوّط.. انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيّبة.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّك تأتي الخلاء

(قال عكرمة) في بيان وجه ما ذكر (: لأنّه صلى الله عليه وسلم كان محفوظا) من أن يخامر قلبه نوم؛ وإن خامر عينيه، لحديث:«إنّا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا» أو كما قال الحديث.

قال في «نظم البهجة الوردية» :

وبعض ما أكرمه الله به

منامه بالعين؛ دون قلبه

(وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتغوّط انشقّت الأرض فابتلعت غائطه) ؛ وهو الخارج من المحلّ المعتاد، وأصل الغائط: المكان المنخفض من الأرض تقضى فيه الحاجة؛ لأنه أستر، سمّي به الخارج من الإنسان مجازا مرسلا؛ علاقته المجاورة.

(و) ابتلعت (بوله وفاحت) - بالفاء- أي: ظهرت (لذلك) المذكور من البول والغائط (رائحة طيّبة) . وهذا الحديث رواه البيهقي؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ وقال: إنه موضوع، كما في «شروح الشفاء» .

(و) أسند محمد بن سعد «كاتب الواقدي» في هذا خبرا.

(عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّك تأتي الخلاء) بالمدّ؛ أي: المكان الخالي البعيد عن البيوت، لأنهم كانوا قبل وضع المراحيض فيها يأتونه لقضاء الحاجة، ثم عبّر به بعد ذلك عن محلّ التغوّط مطلقا، ثم صار عرفا: اسما للبناء المعدّ لذلك.

ص: 131

فلا نرى منك شيئا من الأذى؟! فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما علمت أنّ الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يرى منه شيء» .

وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين منه صلى الله عليه وسلم،

(فلا نرى منك شيئا من الأذى؟!) بالذال المعجمة والقصر، المراد به هنا:

الغائط! (فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما) ؛- أي: أجهلت وما (علمت أنّ الأرض تبتلع) - أصل البلع: إدخال الطعام والشراب في الحنجرة والمري، فاستعير لمطلق الإخفاء، كما في قوله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [44/ هود] أي: تخفي- (ما يخرج من الأنبياء) - بحيث يغيب فيها- (فلا يرى منه شيء؟!» ) !؟: تفسير للمراد من البلع وتأكيد، وإخفاؤه مع طيبه وعدم استقذاره!! لأنه ينبغي ستره لكون ذلك من المروءة، أو لأنه يخشى من أخذ الناس له.

وروى الدارقطني في «أفراده» عنها قالت: قلت: يا رسول الله؛ أراك تدخل الخلاء، ثم يجيء الرجل يدخل بعدك؛ فما يرى لما خرج منك أثرا؟! فقال:«أما علمت أنّ الله أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء» !! انتهى «شرح الشفاء» .

وقد سئل الحافظ عبد الغني المقدسي: هل روي أنّه صلى الله عليه وسلم كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟! فقال: قد روي ذلك من وجه غريب. والظاهر المنقول يؤيّده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنّه رآه؛ ولا ذكره، فلو لم تبتلعه الأرض لرئي في بعض الأوقات.

(وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين) ؛ أي: البول والغائط (منه صلى الله عليه وسلم . وعبّر عن الخارج ب «الحدثين» !! استهجانا للتصريح باسمهما، بل اختار جمع متقدّمون ومتأخّرون من الشافعية طهارة جميع فضلاته صلى الله عليه وسلم؛ منهم القاضي حسين، والبغوي، والسبكي، والبارزي، والزركشي، وابن الرّفعة، والبلقيني، والقاياتي

وأطالوا فيه.

وقال السبكي: إنه الذي أدين الله به. واعتمده الجمال الرملي في «النهاية» ، والخطيب الشربيني في «المغني» ؛ وفاقا للشهاب الرملي. بل قال الزركشي:

ص: 132

وشاهد هذا أنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيّب. ومن هذا حديث عليّ رضي الله [تعالى] عنه: غسّلت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميت،

وينبغي طرد الطهارة في فضلات سائر الأنبياء. انتهى لكن الشيخان: الرافعي والنووي على خلافه، وإنّ حكمها منه كغيره. أي: أنّ حكم فضلاته صلى الله عليه وسلم كفضلات غيره في النجاسة، وجرى عليه ابن حجر الهيتمي في «التحفة» .

ويؤيّد الأوّل أنّه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن الزّبير حين شرب دمه، ولا على أم أيمن حين شربت بوله، ولا على من فعل مثل فعلهما، ولا أمرهم بغسل الفم، ولا نهاهم عن العود إلى مثله، بل أخبرهم بما لعلّه يحملهم على الحرص على التبرك بفضلاته.

ومن حمل ذلك على التداوي قيل له: قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى لم يجعل شفاء الأمّة فيما حرم عليها. رواه ابن حبان في «صحيحه» ، فلا يصحّ حمل الأحاديث التي بعضها حسن على ذلك، بل هي ظاهرة في الطهارة.

قال الحافظ ابن حجر: قد تكاثرت الأدلّة على طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم، وعدّ الأئمة ذلك من خصوصيّاته «1» . انتهى.

(وشاهد هذا) ؛ أي: دليل القول بالطهارة (أنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه شيء يكره) عند ذوي الطباع السليمة، (ولا غير طيّب) وهذا دليل عقليّ مؤيّد لنظر الشرع.

(ومن هذا) ؛ أي: ومن الشاهد بأنه لم يكن منه شيء يكره؛ ولا غير طيّب (حديث عليّ) أمير المؤمنين رضي الله عنه الذي رواه ابن ماجه، وأبو داود في «مراسيله» أنّه قال:

(غسّلت النّبيّ صلى الله عليه وسلم - بتشديد السين المهملة- لأنه المستعمل في الميت، ويخفّف في غيره كالثياب، (فذهبت أنظر ما يكون من الميت) ؛ من تغيّر رائحة

(1) كما نص عليه الحافظ الكبير زين الدين العراقي- رحمه الله تعالى- في باب الخصائص من «ألفيته» فقال:

وبوله ودمه إذ أتي

من شارب تبرّكا مانهي

ص: 133

فلم أجد شيئا، فقلت: طبت حيّا وميتا. وسطعت منه ريح طيّبة لم نجد مثلها قطّ.

ومثله قال أبو بكر حين قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته.

ومنه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد، ومصّه إيّاه،

وخروج فضلات (فلم أجد شيئا!) ، وقد مكث صلى الله عليه وسلم بعد موته يومين؛ فلم يتغيّر منه شيء.

(فقلت: طبت) - بفتح تاء الخطاب- (حيّا وميتا) ونصبهما على الحال.

قال علي: (وسطعت) أي: ارتفعت وانتشرت وفاحت (منه ريح طيّبة لم نجد مثلها قطّ) ، لأن طيبه يدلّ على طيب ما يحصل منه، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

(ومثله) ؛ أي: ومثل قول علي «طبت حيا وميتا» .

(قال أبو بكر) الصدّيق رضي الله تعالى عنه (حين قبّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته) رواه البزار؛ عن ابن عمر بسند صحيح، وهو بعض خبر في البخاري.

(ومنه) ؛ أي: ومن الشواهد على ما ذكر (شرب مالك بن سنان) بن سنان بكسر السين المهملة- والد أبي سعيد الخدري، وهو من كبار الصحابة؛ قتل شهيدا يوم أحد رضي الله تعالى عنهما (دمه) أي: دم النبي صلى الله عليه وسلم (يوم أحد) بضمتين-: اسم جبل وقعت عنده الوقعة العظيمة المشهورة بغزوة أحد.

(ومصّه إيّاه) . رواه البيهقي، والطبراني في «معجمه الأوسط» ؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، والمصّ- بالميم والصاد المهملة-: أخذ المائع القليل بجذب النفس. وأشار بقوله «شربه ومصّه» إلى أنّه كان يفيض أوّلا، فلذا جعل أخذه بفيه وابتلاعه إيّاه شربا، ولما قلّ وجعل يجذبه منه بالمشقة جعله مصّا.

ص: 134

وتسويغه صلى الله عليه وسلم ذلك له، وقوله:«لن تصيبه النّار» .

ومثله شرب عبد الله بن الزّبير

وروي ذلك مرفوعا: «من مسّ دمه دمي لم تصبه النّار» .

(وتسويغه صلى الله عليه وسلم ؛ أي: تجويزه (ذلك) ؛ أي: شرب دمه ومصّه (له)، أي: لمالك بن سنان رضي الله تعالى عنه؛ من غير إنكار، فلو كان دمه الشريف غير طاهر لنهاه عن ازدراده.

(وقوله) أي: النبي صلى الله عليه وسلم لمالك ( «لن تصيبه النّار» ) كناية عن فوزه بنعيم الجنان.

وفي رواية سعيد بن منصور: «من سرّه أن ينظر إلى من خالط دمه دمي؛ فلينظر إلى مالك بن سنان» .

وفي رواية: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة؛ فلينظر إلى هذا» ، فاستشهد. رواها سعيد بن منصور؛ من طريق عمرو بن السائب بلاغا.

(ومثله) - وفي نسخة من «الشفاء» : و «منه» - أي: ومن الشاهد؛ كما رواه الحاكم، والبزّار، والبيهقي، والبغوي، والطبراني، والدارقطني، وغيرهم؛ من طرق يقوّي بعضها بعضا.

والعجب من قول ابن الصلاح «إنّ هذا الحديث لم أجد له أصلا!» وهو مذكور في هذه الأصول!!.

(شرب) - بضم الشين المعجمة- (عبد الله بن الزّبير) - بضمّ الزاي والتصغير- أحد العبادلة، الإمام الزاهد العابد، الشجاع بن الشجاع، أوّل مولود ولد للمهاجرين، وحنّكه النبيّ صلى الله عليه وسلم بتمرة لاكها بفمه؛ فخالط ريقه ريقه.

وله رضي الله عنه من شرف النسب ما لا يوصل إليه؛ لأن أمّه أسماء بنت أبي بكر «ذات النطاقين» ، وأبوه الزبير بن العوّام رضي الله تعالى عنهما «أحد العشرة؛ سيف الله» ، وجدّته صفيّة رضي الله تعالى عنها بنت عبد المطلب، وخالته عائشة رضي الله تعالى عنها، وجدّه لأمّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. وكان

ص: 135

دم حجامته، وقال له عليه الصلاة والسلام:«ويل لك من النّاس، وويل لهم منك» ،

صوّاما قوّاما لا ينام ليله، وكان أطلس: لا لحية له رضي الله تعالى عنه. (دم حجامته) صلى الله عليه وسلم.

ولفظ الحديث؛ عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ عن أبيه؛ قال:

احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة؛ وقال: «اذهب؛ يا عبد الله فغيّبه» .

وفي رواية: «اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد» . فذهبت فشربته، ثم أتيته صلى الله عليه وسلم؛ فقال «ما صنعت؟» قلت: غيّبته. قال: «لعلّك شربته!!» . قلت:

شربته.

وفي رواية: قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنّه خاف عن الناس.

قال: «لعلّك شربته!!» . قلت: شربته.

(وقال له عليه [الصّلاة] والسّلام: «ويل) - للتّحسّر والتألّم- (لك من النّاس) ؛ إشارة إلى محاصرته وتعذيبه، وقتله وصلبه على يد الحجاج، وقصّته مشهورة- (وويل لهم) - أي: للناس- (منك» ) لما أصابهم من حروبه؛ ومحاصرة مكّة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمّه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم وتخريب الكعبة، فهو بيان لما تسبّب عن شرب دمه، فإنّه بضعة من النبوة نورانية قوّت قلبه حتى زادت شجاعته، وعلت همّته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحقّ إمارة؛ فضلا عن الخلافة.

وزعم أنّه «إشارة إلى ما يلحقه من قدح الجهلة فيه بسبب شرب الدم» !! مما لا ينبغي ذكره، وسقوطه مغن عن ردّه.

وقد ورد عند الدارقطني في «سننه» ؛ من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما نحوه؛ ولفظه: قالت: احتجم صلى الله عليه وسلم فدفع دمه لابني فشربه، فأتاه

ص: 136

ولم ينكره.

جبريل فأخبره؛ فقال: «ما صنعت؟» . قال: كرهت أن أصبّ دمك. فقال صلى الله عليه وسلم «لا تمسّك النّار» ، ومسح على رأسه. وقال:«ويل للنّاس منك، وويل لك من النّاس» .

(ولم ينكره) عليه! وهذا هو محطّ الدليل. فإنّ عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم دليل على جوازه وطهارته.

وقد سئل الحافظ ابن حجر عن الحكمة في تنوّع القول لابن الزبير ومالك بن سنان؛ مع اتحاد السبب!؟.

فأجاب بأن ابن الزبير شرب دم الحجامة، وهو قدر كثير يحصل به الاغتذاء، وقوّة جذب المحجمة تجلبه من سائر العروق؛ أو كثير منها، فعلم صلى الله عليه وسلم أنّه يسري في جميع جسده؛ فتكتسب جميع أعضائه منه قوى من قوى النبي صلى الله عليه وسلم فتورثه غاية قوّة البدن والقلب، وتكسبه نهاية الشهامة والشجاعة؛ فلا ينقاد لمن هو دونه بعد ضعف العدل وقلّة ناصره، وتمكّن الظّلمة وكثرة أعوانهم، فحصل له ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم من تلك الحروب الهائلة التي تنتهك بها حرمته الناشئة من حرمته صلى الله عليه وسلم؛ وحرمة البيت العتيق، فقيل له «ويل له» لقتله وانتهاك حرمته، و «ويل لهم» لظلمهم وتعدّيهم عليه وتسفيههم.

وأما مالك بن سنان!! فازدرد ما مصّه من الجرح الذي في وجهه صلى الله عليه وسلم؛ وهو أقلّ من دم الحجامة، وكأنه علم أنه يستشهد في ذلك اليوم، فلم يبق له من أحوال الدنيا ما يخبره به، فأعلمه بالأهمّ له ممّا يتلقاه من أنواع مسرّات الجنان. انتهى.

ولا عطر بعد عروس!.

وحاصله: أنّه اقتصر لمالك على التبشير بالجنة، وأنه لا تصيبه النار؛ لعدم بقاء شيء له من الدنيا، بخلاف ابن الزبير فأخبره بما يقع له في الدنيا على سبيل الإشارة، كما أشار له أيضا بأنّه من أهل الجنة؛ بقوله «لا تمسّك النّار» .

فزعم «أن مقتضاه أنه لم يخاطب بهذا ابن الزبير؛ بل مالكا» ساقط، إذ محطّ

ص: 137

وقد روي نحو من هذا عنه صلى الله عليه وسلم في امرأة شربت بوله، فقال لها:«لن تشتكي وجع بطنك أبدا» .

ولم يأمر واحدا منهم بغسل فم، ولا نهاه عن عوده) انتهى ملخّصا.

الفرق إنما هو قوله «ويل لك» .. الخ. انتهى زرقاني على «المواهب» .

(وقد روي نحو من هذا) المذكور في شرب دمه صلى الله عليه وسلم (عنه صلى الله عليه وسلم في امرأة شربت بوله)، واسم هذه المرأة «بركة» فقيل: هي بنت يسار «مولاة أبي سفيان بن حرب بن أمية» ، كانت تخدم أمّ حبيبة؛ وتخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هي بركة المعروفة ب «أمّ أيمن» الحبشية مولاته وحاضنته ومرضعته، ورثها من أبيه؛ ثم أعتقها لمّا تزوّج خديجة؛ فتزوّجها عبيد بن زيد بن الحارث، فولدت له أيمن، وبه كنّيت، ثم تزوّجها بعد النبوة زيد بن حارثة؛ فولدت له أسامة حبّه صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البرّ وغيره؛ قاله في «شرح الشفاء» .

(فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» ) وفي رواية: «لن تلج النّار بطنك» والحديث صحيح رواه الحاكم؛ وأقرّه الذهبي، ورواه الدارقطني، وألزم البخاريّ ومسلما إخراجه في «الصحيح» ؛ قاله في «الشفاء» .

وفي رواية بعدها زيادة: (ولم يأمر واحدا منهم) أي: أحدا ممن شرب دمه وبوله (بغسل فم) !! ولو كان نجسا لأمر به، (ولا نهاه) ؛ أي: الأحد (عن عوده) ؛ أي: عن عود شرب بوله، ولو كان نجسا لنهاه عن عوده، ولحرم تناوله ووجب تطهير محلّه، ولم يقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على مثله، وكونه للتداوي والعلاج!! خلاف الظاهر. والضمير في «نهاه» وكذا الضمير في «عوده» كلاهما للواحد.

وفي نسخة صحيحة من «الشفاء» : «عودة» بالتاء المربوطة ك «دولة» ، فكأنه رواية. والله أعلم. (انتهى) كلام «الشفاء» للقاضي عياض (ملخّصا) بتشديد الخاء المعجمة المفتوحة؛ على صيغة اسم المفعول- أي: مؤتى من ألفاظه بما هو المقصود.

ص: 138

وأمّا ريقه الشّريف صلى الله عليه وسلم:

فقد بصق في بئر دار أنس،

قال ملا علي قاري في «شرح الشفاء» : وقد شرب أيضا دمه عليه الصلاة والسلام أبو طيبة، وعاش مائة وأربعين سنة. وسفينة «مولى النبي صلى الله عليه وسلم» . رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. ذكره الرافعي في «الشرح الكبير» ؛ قال ابن الملقّن: ولم أجده في كتب الحديث!! انتهى.

قال الخفاجي: وكون عليّ كرم الله وجهه شرب دمه لم يثبت؛ كما أشار إليه الدّميري في «منظومته في الفقه» ؛ يعني المسمّاة «رموز الكنوز» حيث قال:

غريبة فضلة سيّد البشر

طاهرة على خلاف انتشر

وابن الزّبير بدم الهادي البشير

نال الّذي رام كما له أشير

وهو الّذي خصّ بويل النّاس

وهو بويله من الإيلاس

في «مسند البزّار» ثمّ البيهقي

والطّبرانيّ رواه فثق

والدّارقطنيّ، وقول ابن الصّلاح

(ليس له أصل) يفي في الاصطلاح

وأمّ أيمن استزادت شرفا

إذ شربت بول النّبيّ المصطفى

وسقيت إذ هاجرت للسّنّة

ماء رويّا من شراب الجنّة

فبعده ما مسّ جوفها ظما

ولم تذق إلى الممات ألما

صحّحه الحاكم، والمرويّ في

شرب عليّ دمه لم يعرف

وابن الصّلاح قال في شرب أبي

طيبة: إنّه ضعيف السّبب

قال ابن سبع: ويقينا كانت

تبلعها الأرض ومنها ازدانت

ولم تبل من تحته بهيمه

ولم تر الدّهر به سقيمه

وهذه فائدة تفرّد بها؛ وهي: أنّ الدوابّ لم تبل وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليها، ولم تسقم دابّة ركبها في حياته.

(وأمّا ريقه) - أي: وصف ريقه- (الشّريف صلى الله عليه وسلم ، فكان يشفي الداء الحسّيّ والمعنويّ كإزالة ملوحة الماء؟! فالجواب محذوف اكتفاء بما دلّ عليه قوله (فقد بصق) بالصاد والزاي وفي لغة بالسين؛ خلافا لمن أنكرها (في بئر دار أنس) بن

ص: 139

فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها.

وأتي بدلو من ماء فشرب من الدّلو، ثمّ صبّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد وابن ماجه.

وكان صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتفل في أفواههم؛ ويقول للأمّهات: «لا ترضعنهنّ إلى اللّيل» ، فكان ريقه يجزيهم. رواه البيهقيّ.

مالك (فلم يكن في المدينة) المنورة (بئر أعذب) : أحلى (منها) ببركة بصاقه.

رواه أبو نعيم، وغيره؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(وأتي) - بصيغة المجهول- أي: جيء (بدلو من ماء فشرب من الدّلو) . لم يقل «منه» !! لئلا يوهم أنّه شرب من الماء في غير الدلو؛ بأن صبّه في إناء غيره من الدلو (ثمّ صبّ) باقي شربه (في البئر) ، قصدا لإظهار المعجزة المصدّقة له.

(ففاح منها [مثل] رائحة المسك. رواه) الإمام (أحمد) بن حنبل.

(و) رواه (ابن ماجه) ؛ من حديث وائل بن حجر الحضرمي رضي الله تعالى عنه.

(وكان صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء يدعو برضعائه) ؛ أي: صبيانه الذين ينسبون إليه، (ورضعاء ابنته فاطمة) ؛ أي: أولادها. ورضيع الشخص: أخوه رضاعة، وليس مرادا هنا؛ كما هو ظاهر.

(فيتفل) - بكسر الفاء وضمّها-: يبصق، (في أفواههم، ويقول للأمّهات:

«لا ترضعنهنّ إلى اللّيل) لعله أراد مشاركتهم للصائمين في عدم تناول شيء لتعود عليهم بركة تصوّرهم بهم، ولا مانع أنّه يكتب لهم ثواب من صامه إكراما له، (فكان ريقه يجزيهم) - بفتح الياء- أي: يكفيهم إلى الليل، ويجوز [يجزئهم] ضمّ الياء مع سكون الجيم؛ آخره همزة- أي: يغنيهم عن اللبان (رواه البيهقيّ) في «الدلائل» .

ص: 140

ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه- وهنّ خمس- فوجدنه يأكل قديدا، فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها، كلّ واحدة قطعة، فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف. رواه الطّبرانيّ. و (الخلوف) : تغيّر رائحة فم الصّائم.

ومسح صلى الله عليه وسلم بيده الشّريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة

(ودخلت عليه عميرة بنت مسعود) الأنصاريّة (هي وأخواتها يبايعنه؛ وهنّ خمس؛ فوجدنه يأكل قديدا) : لحما مقدّدا؛ أي: مجفّفا في الشمس (فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها؛ كلّ واحدة) ، بدل من الفاعل في «مضغنها» ، وذلك بعد أخذ عميرة لها من المصطفى، ففي رواية عنها: فمضغ لهنّ قديدة، ثم ناولني القديدة فقسمتها بينهنّ، فمضغت كلّ واحدة (قطعة فلقين الله) ؛ أي: متن (وما وجد لأفواههنّ خلوف) - بضم الخاء-: تغير ريح.

(رواه الطّبرانيّ) ، وأبو نعيم، وأبو موسى في «الصحابة» ، وفي روايتهما:

فلقين الله ما وجدن في أفواههن خلوفا ولا اشتكين من أفواههن شيئا. (والخلوف) بضم الخاء المعجمة (: تغيّر رائحة) الفم. وهذا هو المشهور الذي صرّح به أئمة اللغة، ومنه الحديث:«لخلوف (فم الصّائم) أطيب عند الله من ريح المسك» .

وحكى بعض الفقهاء والمحدّثين فتح الخاء، واقتصر عليه الدّميري في «شرح المنهاج» ، وأظنّه غلطا؛ كما صرّح به جماعة!!. وقال آخرون: الفتح لغة رديئة. والله أعلم. انتهى «شرح القاموس» .

(ومسح صلى الله عليه وسلم بيده الشّريفة بعد أن نفث) : تفل (فيها من ريقه على ظهر) وبطن (عتبة) بن فرقد بن يربوع السّلمي، صحابيّ نزل الكوفة ومات بها، وهو الذي فتح الموصل زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما. وتقدّمت ترجمته.

ص: 141

- وكان به شرى- فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ.

وأعطى الحسن لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي.

وروى القاضي عياض في «الشّفا» بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء:

(وكان به شرى) : بثور صغار حمر حكّاكة مكربة؛ تحدث دفعة غالبا وتشتدّ ليلا لبخار حارّ يثور في البدن دفعة؛ قاله في «القاموس» .

(فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ) في «الكبير» و «الصغير» ؛ من طريق أمّ عاصم زوجة عتبة بن فرقد عنه؛ قال: أخذني الشّرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني فتجرّدت فوضع يده على بطني وظهري، فعبق الطيب من يومئذ.

قالت أمّ عاصم: كنا عنده أربع نسوة فكنّا نجتهد في الطيب؛ وما كان هو يمسّ الطيب؛ وإنّه لأطيب ريحا منّا.

(وأعطى الحسن) بن عليّ سبطه صلى الله عليه وسلم (لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي) - بفتح الراء وكسر الواو-: زال ظمؤه. رواه ابن عساكر.

وروى الطبراني أنّ امرأة بذيئة اللسان جاءته صلى الله عليه وسلم؛ وهو يأكل قديدا، فقالت:

ألا تطعمني!! فناولها من بين يديه. فقالت: لا؛ إلّا الّذي في فيك!!. فأخرجه فأعطاه لها؛ فأكلته، فلم يعلم منها بعد ما كانت عليه من البذاءة.

ولله درّ إمام العارفين سيّدي محمد وفا الشاذلي المالكي رحمه الله تعالى حيث يقول:

جنى النّحل في فيه، وفيه حياتنا

ولكنّه من لي بلثم لثامه

رحيق الثّنايا والمثاني تنفّست

إذا قال في فيح بطيب ختامه

(وروى القاضي عياض في «الشّفاء» ) في «فصل خلقه في الوفاء وحسن العهد» (بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء) - بمهملتين بينهما ميم ساكنة فألف

ص: 142

قال: بايعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقيّة، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثمّ ذكرت بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه. فقال:«يا فتى؛ لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك» .

وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها،

ممدودة- العامريّ الصحابي، وقد روى حديثه هذا أبو داود، وهو من أفراده، وأخرجه أيضا ابن منده في «المعرفة» ، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» .

(قال) ؛ أي: عبد الله (: بايعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببيع) ؛ أي: بعقد بيع (قبل أن يبعث) بالرسالة، (وبقيت له بقيّة) ، إمّا من الثمن؛ أو المثمّن، فإن البيع من الأضداد، (فوعدته أن آتيه بها) ؛ أي: البقية (في مكانه) الذي وقع فيه البيع، (فنسيت) الوعد الذي جرى بيننا، (ثمّ ذكرت بعد ثلاث) ؛ أي: ثلاث ليال، أو ثلاثة أيام. ولم يلحق التاء به!! لحذف المعدود. وإنما تلزم قاعدة العدد إذا ذكر المعدود، (فجئت، فإذا هو في مكانه) - أي مستقرّ صلى الله عليه وسلم في مكانه لم يفارقه- (فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ!!) - بتشديد الياء- (أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك!!» ) وهذا دليل على وفائه صلى الله عليه وسلم بعهده ووعده، وهو من جملة أخلاق جدّه النبي إسماعيل حيث قال تعالى في حقّه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [54/ مريم] قال مجاهد: لم يعد شيئا إلّا وفّى به.

(و) أخرج البيهقيّ بإسناد حسن؛ كما في العزيزي، لكن قال المناوي:

قضية صنيع المصنف- يعني: السيوطي- أنّ البيهقي خرّجه وسكت عليه، وهو باطل! فإنه خرّجه من حديث إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق؛ عن معمر؛ عن أيوب؛ عن ابن أبي مليكة؛

(عن عائشة) ، وعن محمد بن أبي بكر؛ عن أيوب؛ عن إبراهيم بن ميسرة؛ عن عائشة (أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها) .

ص: 143

قالت: كان أبغض الأشياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا اطّلع على أحد من

ثم عقّبه بما نصّه: قال البخاري: هو مرسل- يعني بين إبراهيم بن ميسرة وعائشة- ولا يصحّ حديث ابن أبي مليكة؛ قال البخاري: ما أعجب حديث معمر عن غير الزهري، فإنّه لا يكاد يوجد فيه حديث صحيح. انتهى.

فأفاد بذلك أنّ فيه ضعفا؛ أو انقطاعا. فاقتطاع المصنف- يعني السيوطي- لذلك من كلامه وحذفه: من سوء التصرّف. وإسحاق الدبري يستبعد لقيّه لعبد الرزاق!! كما أشار إليه ابن عدي، وأورده الذهبي في «الضعفاء» . انتهى كلام المناوي.

(قالت) - أي: عائشة- (: كان أبغض الأشياء) كذا في «كنوز الحقائق» .

وفي «الجامع الصغير» : كان أبغض الخلق (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: أبغض أعمال الخلق إليه (: الكذب) لكثرة ضرره وجموم «1» ما يترتّب عليه من المفاسد والفتن، فهو إثم كلّه إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين، ومن ثمّ كان أشدّ الأشياء ضررا، ولهذا كان يزجر أصحابه وأهل بيته عنه، ويهجر على الكلمة من الكذب المدّة الطويلة. وذلك لأنّه قد يا بني عليه أمورا ربّما ضرّت ببعض الناس.

وفي كلام الحكماء: إذا كذب السفير بطل التدبير. ولهذا لما علم الكفّار أنّه أبغض الأشياء إليه نسبوه إليه؛ فكذّبوا بما جاءهم به من عند الله ليغيظوه بذلك، لأنه يوقف الناس عن قبول ما جاء به من الهدى، ويذهب فائدة الوحي.

وروي أنّ حذيفة قال: يا رسول الله؛ ما أشدّ ما لقيت من قومك؟ قال: «خرجت يوما لأدعوهم إلى الله، فما لقيني أحد منهم إلّا وكذّبني» . انتهى «مناوي» .

(و) أخرج الإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح- كما في العزيزي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلع على أحد من

(1) هي بمعنى (العموم) مع الوفرة والكثرة.

ص: 144

أهل بيته كذب كذبة.. لم يزل معرضا عنه حتّى يحدث توبة.

أهل بيته) ، أي: من عياله وخدمه (كذب كذبة) واحدة- بفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما- (لم يزل معرضا عنه) ؛ إظهارا لكراهته الكذب، وتأديبا له، وزجرا عن العود لمثلها (حتّى يحدث توبة) من تلك الكذبة الواحدة التي كذبها، وذلك لشدّة بغضه صلى الله عليه وسلم الكذب، لما يترتّب عليه من المفاسد، وإن كان نحو الزّنا أشدّ منه.

وفي رواية البزار: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب! ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما يزال في نفسه حتّى يعلم أنّه أحدث منها توبة.

وقبح الكذب مشهور معروف، إذ ترك الفواحش بتركه، وفعلها بفعله فموضعه من القبح كموضع الصدق من الحسن، ولهذا أجمع على حرمته إلّا لضرورة؛ أو مصلحة.

قال الغزالي: وهو من أمّهات الكبائر. قال: وإذا عرف الإنسان بالكذب؛ سقطت الثقة بقوله، وازدرته العيون، واحتقرته النفوس. وإذا أردت أن تعرف قبح الكذب؛ فانظر إلى قبح كذب غيرك، ونفور نفسك عنه، واستحقارك لصاحبه، واستقباحك ما جاء به. قال: ومن الكذب الذي لا إثم فيه ما اعتيد في المبالغة ك «جئت ألف مرّة» فلا يأثم؛ وإن لم يبلغ ألفا.

قال: ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل فيه أن يقال «كل الطعام» فيقول «لا أشتهيه» . وذلك منهيّ عنه. وهو حرام؛ إن لم يكن فيه غرض صحيح.

وقال الراغب: الكذب عار لازم، وذلّ دائم، وحقّ الإنسان أن يتعوّد الصدق، ولا يترخّص في أدنى الكذب، فمن استحلاه عسر عليه فطامه.

وقال بعض الحكماء: كلّ ذنب يرجى تركه بتوبة إلّا الكذب، فكم رأينا شارب خمر أقلع، ولصّا نزع؛ ولم نر كذّابا رجع.

وعوتب كذّاب في كذبه؛ فقال: لو تغرغرت به وتطعّمت حلاوته ما صبرت عنه طرفة عين. ذكره المناوي في شرح «الجامع الصغير» .

ص: 145

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم.. لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول:

«السّلام عليكم.. السّلام عليكم» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفيء.. قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظّين، وأعطى العزب حظّا.

(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود في «الأدب» بسند حسن- كما في العزيزي- عن عبد الله بن بسر- بضم الموحدة وسين مهملة ساكنة- رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم) لنحو عيادة؛ أو زيارة؛ أو غير ذلك من المصالح (لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه) كراهة أن يقع النظر على ما لا يراد كشفه مما هو داخل البيت، لأن الدّور يومئذ لم تكن عليها ستور كالآن، (ولكن) يستقبله (من ركنه الأيمن؛ أو الأيسر) ، فكان يجعل وجهه جهة يمين الباب؛ أو شماله، (ويقول:«السّلام عليكم.. السّلام عليكم» ) أي: يكرّر ذلك ثلاثا، أو مرّتين عن يمينه وشماله.

(و) أخرج أبو داود في «الخراج» وسكت عليه، والحاكم في «المستدرك» كلاهما؛ عن عوف بن مالك قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفيء) بالهمز؛ ولا يجوز الإبدال والإدغام- والمراد به هنا ما يشمل خراج الأرض، وما أخذ من الكفار بلا قتال. وتخصيصه بالثاني عرف الفقهاء.

(قسمه) بين مستحقّيه (في يومه)، أي: في اليوم الذي يصل إليه فيه، (فأعطى الآهل) - بالمد؛ أي- الذي له أهل زوجة، أو زوجات (حظّين) - بفتح الحاء؛ أي: نصيبين- نصيبا له، ونصيبا لزوجته أو زوجاته؛ لأنه أكثر حاجة، (وأعطى العزب) الذي لا زوجة له- وهو أفصح من لغة «الأعزب» الواقعة في بعض الأحاديث- (حظّا) واحدا.

ص: 146

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالسّبي.. أعطى أهل البيت جميعا؛ كراهية أن يفرّق بينهم.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل فرأى في وجهه بشرا..

أخذ بيده.

ويؤخذ من التعليل ما عليه الشافعية من أنّ كلّ واحد يعطى قدر كفايته وكفاية من يمون، من ولد وزوجة وعبد. وخصّوا ذلك بمن أرصد للقتال.

وفيه مبادرة الإمام إلى القسمة ليصل كلّ واحد إلى حقّه، ولا يجوز التأخير إلّا لعذر. قاله العزيزي على «الجامع» .

(و) أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي) - بالبناء للمفعول- (بالسّبي) :

النهب عبيد، وإماء (أعطى أهل البيت) المسبيّين الآباء والأمهات والأولاد، والمراد أعطى الأقارب الذين سبوا (جميعا) لمن شاء؛ (كراهية أن يفرّق بينهم) يعني: أنه إذا كان في السبي امرأة وابنها، أو رجل وابنه، أو أخت وأختها، أو أخ وأخوه؛ لا يعطي المرأة لشخص وابنها لآخر، ولا الأب لشخص وابنه لآخر، ولا الأخ لشخص وأخاه لآخر، بل يعطي الاثنين لشخص واحد؛ كراهة التفريق بينهما، لما جبل عليه من الرأفة والرحمة.

فاستفدنا من فعله أنّه يسنّ للإمام؛ ولكلّ من ولي أمر السبي أن يجمع عليهم ولا يفرقهم؛ لأنه أدعى إلى إسلامهم، وأقرب إلى الرحمة والإحسان بهم.

(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عكرمة مولى ابن عبّاس مرسلا قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل) أي: متى قدم عليه رجل من أيّ محلّ (فرأى في وجهه بشرا) - بكسر الباء وسكون الشين المعجمة- أي: طلاقة وجه وأمارة سرور (أخذ بيده) إيناسا له وتودّدا ليعرف ما عنده من الأخبار الحسنة؛ مما يسرّه من نصرة الدين، وقيام شعار الإسلام، وتأييد المؤمنين. قال ابن العربي: الأخذ باليد نوع من التودّد والمعروف؛ كالمصافحة. انتهى «مناوي» .

ص: 147

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بالاسم القبيح.. حوّله إلى ما هو أحسن منه.

وكان صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطيّر

(و) أخرج ابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عروة بن الزبير مرسلا- وفي العزيزي: إنه حديث صحيح- قال (كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سمع بالاسم القبيح حوّله إلى ما هو أحسن منه) ، فمن ذلك تبديله «عاصية» ب «جميلة» ، والعاصي بن الأسود ب «مطيع» ، لأن الطباع السليمة تنفر عن القبيح، وتميل إلى الحسن المليح، وكان المصطفى يتفاءل ولا يتطيّر.

قال القرطبي: وهذه سنّة ينبغي الاقتداء به فيها. وفي أبي داود: كان لا يتطيّر وإذا بعث غلاما سأله عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح؛ ورئي بشره في وجهه، فإن كره اسمه رئي كراهته في وجهه.

قال القرطبي: ومن الأسماء ما غيّره وصرفه عن مسمّاه، لكن منع منه؛ حماية واحتراما لأسماء الله وصفاته عن أن يسمّى بها، فقد غيّر اسم «حكم» و «عزيز» ؛ كما رواه أبو داود، لما فيها من التشبه بأسماء الله تعالى. ذكره المناوي.

قال: وقد روي هذا الحديث بنحوه بزيادة الطبراني في «الصغير» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها بسند؛ قال الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ولفظه:

كان إذا سمع اسما قبيحا غيّره، فمرّ على قرية يقال لها «عفرة» فسماها «خضرة» .

هذا لفظه. انتهى.

(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني- بسند قال الحافظ الهيثمي: فيه ليث بن أسلم، وهو ضعيف بغير كذب- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل) - بالهمز- أي: إذا سمع كلمة حسنة تأوّلها على معنى يوافقها (ولا يتطيّر) ؛ أي: لا يتشاءم بشيء كما كانت الجاهلية تفعله من تفريق الطير من أماكنها، فإن ذهبت إلى الشمال تشاءموا، وذلك لأن من تفاءل فقد فهم خيرا؛ وإن غلط في جهة الرجاء، ومن تطيّر؛ فقد أساء الظنّ بربّه، ولله درّ من قال:

ص: 148

وكان يحبّ الاسم الحسن.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا وجد الرّجل راقدا على وجهه ليس على عجزه شيء.. ركضه برجله، وقال:«هي أبغض الرّقدة إلى الله تعالى» .

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالباه،

وكان لا يعتاف إلّا أنّه

يعجبه الفأل إذا عنّ له

(وكان يحبّ الاسم الحسن) ، وليس هو من معاني التطير، بل هو كراهة الكلمة القبيحة نفسها؛ لا لخوف شيء وراءها، كرجل سمع لفظ «خنا» فكرهه، وإن لم يخف على نفسه منه شيئا؛ ذكره الحليمي.

(و) أخرج الإمام أحمد- بسند رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن الشّريد بن سويد رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد الرّجل) - الظاهر أن الرجل وصف طردي، وأن المراد الإنسان؛ ولو أنثى، إذ هي أحقّ بالستر؛ قاله المناوي- (راقدا على وجهه) ؛ أي: منبطحا (ليس على عجزه) - بفتح العين وضمّها، ومع كلّ فتح الجيم وسكونها، والأفصح كرجل؛ وهو من كلّ شيء: مؤخّره- (شيء) يستره من نحو ثوب.

وظاهره أن كراهة هذه الرّقدة من حيث كشف العورة؛ وإن كانت مكروهة من حيث الهيئة أيضا؛ كما ثبت في غير هذا الحديث، وأشار له في هذا الحديث بقوله «الرّقدة» أي: الهيئة.

(ركضه) - بالتحريك-؛ أي ضربه (برجله) ليقوم، (وقال: هي أبغض الرّقدة) - بكسر الراء- (إلى الله تعالى) . ومن ثمّ قيل: إنّها نوم الشياطين.

(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الأوسط» ، وابن حبّان: كلّهم؛ من حديث حفص بن عمر؛ عن أنس رضي الله تعالى عنه- وقد ذكره ابن أبي حاتم وروى عنه جمع، وبقية رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي-

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباه) - يعني: النكاح- وهل المراد هنا العقد

ص: 149

وينهى عن التّبتّل نهيا شديدا؛ أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه.

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر من أسلم أن يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة.

الشرعي؛ أو الوطء!! فيه احتمالان. قال المناوي: والصواب أن المراد الوطء لتصريح الأخبار بأن حثّه على التزوج لتكثير أمّته. وذا لا يحصل بمجرّد العقد.

(وينهى عن التّبتّل) ؛ أي: رفض الرجل للنساء؛ وترك التلذّذ بهنّ، وعكسه، فليس المراد هنا مطلق التبتل الذي هو ترك الشهوات، والانقطاع إلى العبادة، بل تبتّل خاصّ، وهو انقطاع الرجال عن النساء؛ وعكسه.

قال الحفني: فينبغي للشخص أن يجامع زوجاته مادام فيه قوّة لأجل التناسل.

وما ورد أنّ السيدة مريم تسمّى «البتول» ، وكذا السيدة فاطمة!!

فالمراد أنّ لهما نوع انقطاع للعبادة؛ لا الإعراض عن الشهوة بالكلية، فالسيدة فاطمة لم تترك الشهوة بالمرّة، وإلّا! لم يحصل لها نسل، بل المراد أنّها ليست ملتفتة لذلك كغيرها من النساء؛ لاشتغالها بمولاها. انتهى.

(نهيا شديدا) تمامه عند الإمام أحمد: ويقول: «تزوّجوا الودود الولود، فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . وكان التبتّل من شريعة النصارى فنهى عنه أمّته. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .

(أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه) . والمراد من التزوّج الوطء المؤدّي لتكثير النسل- كما تقدّم-.

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد حسن- كما في العزيزي- عن قتادة بن عياض الرّهاوي- بضم الراء وخفة الهاء- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر من أسلم) من الرجال (أن يختتن؛ وإن كان) قد كبر وطعن في السن، كما إذا كان (ابن ثمانين سنة) ، فقد اختتن إبراهيم الخليل بالقدوم؛ وهو ابن ثمانين سنة.

ص: 150

وكان صلى الله عليه وسلم يضمّر الخيل.

وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشّكال من الخيل.

قال العزيزيّ: فسّره في بعض طرق الحديث عند

(و) أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (كان صلى الله عليه وسلم يضمر) - قال الحفني: من «أضمر» ، ويصحّ أن يقرأ من «ضمر» من باب «دخل» انتهى- (الخيل) . قال المناوي على «الجامع» : أراد بالإضمار: التضمير؛ وهو: أن يعلف الفرس حتى يسمن ثم يردّه إلى القلّة ليشتدّ لحمه. كذا ذكره جمع، لكن في «شرح الترمذي» للزين العراقي: هو أن يقلّل علف الفرس مدّة ويدخل بيتا كنّا، ويجلّل ليعرق ويجفّ عرقه؛ فيخفّ لحمه؛ فيقوى على الجري، قال: وهو جائز اتفاقا، للأحاديث الواردة فيه.

(و) أخرج الإمام أحمد، ومسلم، وأصحاب السنن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشّكال) لأنه يدلّ على عدم جودة الفرس، إلّا إذا كان أغرّ، أي: له بياض في جبهته. فإنّه حينئذ لا يكون الشّكل فيه دليلا على عدم جودته.

وقال القرطبي: يحتمل أن يكون كره اسم الشّكال من جهة اللفظ، لأنّه يشعر بنقيض ما تراد له الخيل، أو لكونه يشبه الصليب، بدليل أنّه كان يكره الثوب الذي فيه تصليب، وليس هذا من الطّيرة- كما حققه الحليمي-.

(من) - وفي رواية: «في» - (الخيل.

قال) العلّامة الشيخ علي بن أحمد بن محمد (العزيزيّ) الشافعي المتوفى سنة:

سبعين وألف هجرية- وتقدّمت ترجمته في أوّل الكتاب- في كتابه «السراج المنير شرح الجامع الصغير» : (فسّره) - أي: الشكال- (في بعض طرق الحديث عند

ص: 151

مسلم: بأن يكون في رجله اليمنى وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى.

وكرّهه لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل: يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة.

وقال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغرّ.. زالت الكراهة.

مسلم؛ بأن يكون في رجله اليمنى) بياض، (وفي يده اليسرى بياض، أو) يكون البياض (في يده اليمنى ورجله اليسرى) .

وقال الزمخشري: هو أن يكون ثلاث قوائم محجّلة وواحدة مطلقة، أو عكسه. شبه ذلك بالعقال؛ فسمّي به. انتهى. ووراء ذلك أقوال عشرة مذكورة في المطوّلات.

(وكرّهه!! لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل:) كرّهه لأنه (يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس) الذي فيه الشكال؛ (فلم يكن فيه نجابة) .

والنجيب: الفاضل من كلّ حيوان.

(وقال بعض العلماء) - كما حكاه في «شرح مسلم» للنووي وأقرّه-: (إذا كان) الفرس (مع ذلك) الشّكال (أغرّ) - الغرّة في الجبهة: بياض فوق الدرهم، وفرس أغرّ، ومهرة غرّاء؛ مثل: أحمر، وحمراء- (زالت الكراهة) لزوال الإشكال لكن توقّف فيه الزين العراقي. انتهى مناوي على «الجامع» .

(و) أخرج ابن ماجه؛ عن جابر رضي الله تعالى عنه- قال المناوي: ورمز السيوطي في «الجامع» لحسنه، وليس كما قال! فقد قال الزيلعي: حديث واه.

وسأل عنه ابن أبي حاتم أباه؛ فقال: هذا موضوع. وقال الحافظ ابن حجر: سنده ضعيف جدّا. انتهى. وكيفما كان؛ فكان الأولى للمصنف حذفه من الكتاب؛ فضلا عن رمزه لحسنه. انتهى. كلام المناوي على «الجامع» -.

ص: 152

وكان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر.. سلّم.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب.. قال: «أمّا بعد» .

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر) للخطبة ( [سلّم] ) . قال العلقمي: يسنّ للإمام السلام على الناس عند دخوله المسجد؛ يسلّم على من هناك، وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه، وإذا وصل أعلى المنبر وأقبل على الناس بوجهه يسلّم عليهم، ولزم السامعين الردّ عليه، وهو فرض كفاية.

وسلامه بعد الصعود؛ هو مذهبنا ومذهب الأكثرين، وبه قال ابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والإمام أحمد.

وقال مالك وأبو حنيفة: يكره. انتهى. ذكره العزيزي.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز الطبراني:

(كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب؛ قال «أمّا بعد» ) وقد عقد البخاري في «صحيحه» لذلك بابا؛ فقال: باب من قال في الخطبة بعد الثناء «أما بعد» . رواه عكرمة؛ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلّون، قلت: ما شأن الناس؟

فأشارت برأسها إلى السماء. فقلت: آية!! وفيه، فخطب الناس؛ وحمد الله بما هو أهله ثم قال:«أمّا بعد»

الخ.

ثم ذكر البخاري بسنده إلى الحسن البصري، عن عمرو بن تغلب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه.. إلى أن قال: فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال «أمّا بعد؛ فو الله إنّي لأعطي الرّجل

الخ» .

ثم ذكر البخاريّ بسنده إلى عروة بن الزبير أنّ عائشة رضي الله عنها أخبرته أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل؛ فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته

إلى أن قال: فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهّد، ثم قال: «أمّا بعد؛ فإنّه لم يخف عليّ مكانكم

الخ» .

ص: 153

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب.. يعتمد على عنزة؛ أو عصا. و (العنزة) : العصا الصّغيرة.

ثم ذكر البخاريّ بسنده؛ عن عروة أيضا؛ عن أبي حميد الساعدي أنّه أخبره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشيّة بعد الصلاة؛ فتشهد، وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال:«أمّا بعد»

وفيه قصّة ابن اللّتبيّة لمّا استعمله على الصدقة.

ثم ذكر البخاريّ بسنده؛ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما

إلى أن قال «أمّا بعد؛ فإنّ هذا الحيّ من الأنصار يقلّون ويكثر النّاس

الخ» .

فائدة: أفاد قطب الدين الحلبي في «شرحه على البخاري» أنّ المواضع التي ثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمّا بعد» خمسة وثلاثون موضعا. انتهى.

(و) أخرج الإمام الشافعيّ في «مسنده» باب إيجاب الجمعة؛ عن عطاء بن أبي رباح مرسلا- قال في العزيزي: وهو حديث صحيح-:

(كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب يعتمد على عنزة) - بالتحريك: رمح صغير- (أو عصا، و) هو عطف عامّ على خاصّ؛ إذ (العنزة) - محركة؛ كقصبة-: (العصا الصّغيرة) ؛ في أسفلها زجّ- بالضم: أي: سنان-. وعبّر عنها بعكّازة في طرفها سنان، وبعضهم بحربة قصيرة.

وفي «طبقات ابن سعد» أنّ النجاشي كان أهداها له، وكان يصحبها ليصلّي إليها في الفضاء، أي: عند فقد السترة، ويتّقي بها كيد الأعداء، ولهذا اتّخذ الأمراء المشي أمامهم بها.

ومن فوائدها: اتقاء السباع، ونبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خوف الرشاش، وتعليق الأمتعة بها، والركزة عليها

وغير ذلك.

قال ابن القيّم: ولم يحفظ عنه أنّه توكّأ على سيف، وكثير من الجهلة يظنّ أنه كان يمسك السيف على المنبر؛ إشارة إلى قيام الدّين به، وهو جهل قبيح، لأن الوارد العصا والقوس، ولأن الدّين إنما قام بالوحي، وأمّا السيف!! فلمحق

ص: 154

وكان صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه.

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالهديّة؛ صلة بين النّاس.

المشركين المعارضين للدعوة. والمدينة التي كانت خطبته فيها إنّما افتتحت بالقرآن. انتهى مناوي على «الجامع» .

(و) أخرج ابن ماجه؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه- وهو حديث ضعيف- قال: (كان صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث) ؛ من الأيّام، تمضي من ابتداء مرضه. قال المناوي في «شرح الجامع» : قال في «الميزان» : قال أبو حاتم: هذا باطل موضوع. وقال الدميري: الأحاديث الصحيحة تدلّ بعمومها على خلاف حديث الباب، وقال الحفني: هذا حديث ضعيف؛ وقيل: منكر؛ فلا يعمل به، لأن الأحاديث الصحيحة مصرّحة بطلب العيادة قبل الثلاث وبعدها، ولو من رمد- على المعتمد-. انتهى.

وقال الزركشي: هذا يعارضه أنّه عاد زيد بن أرقم من رمد به قبلها؛ أي: قبل ثلاث. قال في «شرح الإلمام» : وقع لبعض العوامّ بأن الأرمد لا يعاد!! وقد أخرج أبو داود أنّه صلى الله عليه وسلم عاد زيد بن أرقم من وجع كان في عينيه. ورجاله ثقات.

قال العلقمي: وفي إطلاق الحديث- أي حديث البخاري: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني» - أنّ العيادة لا تتعيّن بوقت دون وقت، لكن جرت بها العادة طرفي النهار. انتهى. ذكر جميع ذلك شرّاح «الجامع الصغير» .

(و) في «كنوز الحقائق» : (كان صلى الله عليه وسلم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه) .

(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، والطبراني في «الكبير» ، وابن عساكر بسند حسن- كما في العزيزي-؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر) أصحابه (بالهديّة) - يعني بالتهادي- (صلة) أي:

محبّة (بين النّاس) ، لأنها تذهب وحر الصدر «تهادوا تحابّوا» فالهديّة من أعظم أسباب التّحابب بينهم.

ص: 155

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بقطع المراجيح.

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ هذه السّورة: (سبح اسم ربك الأعلى) .

وكان صلى الله عليه وسلم يحثّ على الصّدقة،

(و) في «كنوز الحقائق» - ورمز له برمز الحكيم الترمذي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يأمر بقطع المراجيح) .

قال الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» : مرجح ومرجاح لغتان، فمرجح جمعه: مراجح، ومرجاح جمعه: مراجيح؛ ك «مفتح ومفاتح، ومفتاح ومفاتيح» ؛ وهو لهو ولعب كان يفعله العجم في أيّام النيروز؛ تفرّجا وتلهّيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب، وكره لهم أن يتزيّوا بزيّ من اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فلا خلاق له هناك. انتهى كلام الحكيم الترمذي.

(و) أخرج الإمام أحمد، والبزار بسند ضعيف: كلاهما؛ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ هذه السّورة) سورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) أي: نزّه اسم ربّك عن أن يبتذل، أو يذكر إلّا على جهة التعظيم.

قال الفخر الرازي: وكما يجب تنزيه ذاته عن النقائص؛ يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. قاله المناوي؛ على «الجامع» .

(و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثّ على الصّدقة) ، كقوله:«تصدّقوا، فسيأتي على النّاس زمان يمشي بصدقته فلا يجد من يقبلها» . رواه البخاري، ومسلم؛ عن حارثة بن وهب رضي الله عنه.

وكقوله: «المرء في ظلّ صدقته» .

وكقوله: «اتّقوا النّار؛ ولو بشقّ تمرة» .

ص: 156

وينهى عن المسألة.

وكان صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر اللّيلة في الأمر من أمور المسلمين.

وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الرّؤيا الحسنة.

وكقوله: «يا معشر النّساء تصدّقن؛ فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار» .

(وينهى عن المسألة)، كقوله:«لا تسأل النّاس شيئا؛ ولا سوطك؛ وإن سقط منك حتّى تنزل إليه فتأخذه» . رواه الإمام أحمد؛ عن أبي ذر.

وكقوله: «لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا» . رواه النسائي، وأبو داود؛ عن عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه.

وذلك لأن السؤال للمخلوق ذلّ للسائل، وهو ظلم من العبد لنفسه، وفيه إيذاء المسؤول؛ وهو من جنس ظلم العباد، وفيه خضوع العبد لغير الله تعالى؛ وهو من جنس الشرك. ففيه أجناس الظلم الثلاثة: الظلم المتعلّق بحقّ الله، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه. ومن له أدنى بصيرة لا يقدم على مجامع الظلم وأصوله بغير الاضطرار. انتهى مناوي؛ على «الجامع» .

(و) في «كنوز الحقائق» ورمز له رمز الترمذي:

(كان صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر) الصدّيق (اللّيلة) الكاملة (في الأمر) الّذي يعرض (من أمور المسلمين) ؛ اهتماما به.

(و) أخرج الإمام أحمد، والنسائي- بسند صحيح؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الرّؤيا الحسنة) تمامه عند أحمد: وربّما قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟!» ، فإذا رأى الرجل الرؤيا سأل عنه، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه، فجاءت امرأة؛ فقالت:

رأيت كأنّي دخلت الجنة فسمعت بها وجبة ارتجّت لها الجنّة، فنظرت فإذا قد جيء بفلان وفلان

حتّى عدّت اثني عشر رجلا. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة قبل ذلك، فجيء بهم؛ وعليهم ثياب بيض تشخب أوداجهم. فقيل: اذهبوا بهم «إلى

ص: 157

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اشتدّي أزمة تنفرجي» .

وكان صلى الله عليه وسلم يبيع

أرض البيدخ» ، أو قال «نهر البيدخ» فغمسوا به فخرجوا وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم أتوا بكراسيّ من ذهب؛ فقعدوا عليها.

فأتت تلك السرية؛ وقالوا: أصيب فلان وفلان

حتّى عدّوا الاثني عشر الذين عدّتهم المرأة. ذكره المناوي؛ على «الجامع» .

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) مخاطبا لما لا يعقل بعد تنزيله منزلة من يعقل، كقوله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [44/ هود]

(: «اشتدّي) يا (أزمة) أي: شدة؛ وهي: ما يصيب الإنسان من الأمور المغلقة من الأمراض وغيرها. (تنفرجي» ) - بالجزم- جوابا للأمر، أي: تذهبي بمعنى يذهب همّك عنا، وليس المراد حقيقة أمر الشدّة بالاشتداد ولا ندائها، بل المراد طلب الفرج لتزول الشدّة، لكن لما ثبت بالأدلة أن اشتداد الشدّة سبب الفرج، كقوله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)[الشرح]، وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [28/ الشورى] . وقوله عليه الصلاة والسلام:«وإنّ الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسرا» . أمرها وناداها؛ إقامة للسبب مقام المسبّب، وفيه تسلية وتأنيس بأن الشدّة نوع من النعمة، لما يترتّب عليها. والله أعلم؛ ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.

(و) في «كشف الغمّة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع) .

أخرج الترمذي بسنده؛ قال: حدّثنا عبد المجيد بن وهب؛ قال: قال لي العدّاء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتابا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. قال: قلت: بلى.

فأخرج لي كتابا «هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اشترى منه عبدا؛ أو أمة؛ لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة؛ بيع المسلم للمسلم» .

ص: 158

ويشتري،

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وأخرج الترمذي أيضا بسنده؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسا وقدحا؛ وقال: «من يشتري هذا الحلس والقدح» !!. فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يزيد على درهم!! من يزيد على درهم!!» فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. والحلس: كساء يوضع على ظهر البعير تحت القتب لا يفارقه. انتهى.

وروى الطبراني؛ وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي وغيرهم؛ عن زيد بن سعنة «أجلّ أحبار اليهود الذين أسلموا» أنّه اشترى من النبي صلى الله عليه وسلم تمرا إلى أجل؛ وأعطاه الثمن، ثم جاءه قبل حلول الأجل بيومين أو ثلاثة، فأخذ بمجامع قميصه، ونظر إليه بوجه غليظ. ثم قال له: ألا تقضيني يا محمد حقي! فو الله إنّكم يا بني عبد المطلب مطل

الحديث المتقدّم في الفصل الأول؛ من الباب الخامس من هذا الكتاب.

(ويشتري) روى البخاريّ وغيره؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فلما أن أقبلنا قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«من أحبّ أن يتعجّل إلى أهله فليتعجّل» . قال جابر: فأقبلنا؛ وأنا على جمل لي أرمك «1» ليس فيه شية، والناس خلفي. فبينا أنا كذلك إذ قام علي؛ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«يا جابر استمسك» . فضربه بسوطه ضربة، فوثب البعير مكانه؛ فقال:«اتبيع الجمل!!» قلت: نعم. فلما قدمنا المدينة؛ ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في طوائف أصحابه؛ فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط. فقلت له: هذا جملك. فخرج فجعل يطيف بالجمل؛ ويقول: «الجمل جملنا» فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أواق من ذهب؛ فقال: «أعطوها جابرا» ، ثم قال: «استوفيت

(1) وهو الذي في لونه كدورة؛ أي: يخالط حمرته سواد. «النهاية» .

ص: 159

ولكن كان شراؤه أكثر.

الثّمن!!» . قلت: نعم. قال: «الثّمن والجمل لك» .

وروى أبو داود، وابن خزيمة؛ عن عمارة بن خزيمة بن ثابت الأوسي؛ عن عمّه- وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسا فاستتبعه «1» ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي ويساومونه بالفرس؛ ولا يشعرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه، فنادى الأعرابيّ؛ فقال:«إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه، وإلّا بعته» . فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي: «أو ليس قد ابتعته منك» !!. قال الأعرابي: لا؛ والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى، قد ابتعته» . قال: فطفق الأعرابي يقول: هلّم شهيدا؛ يشهد أنّي بعتك!! فمن جاء من المسلمين يقول: ويلك؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلّا الحقّ. حتى جاء خزيمة بن ثابت؛ فاستمع المراجعة؛ فقال: أنا أشهد أنّك قد بايعته

الحديث. وفيه: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين.

وعند الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» ؛ من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابيّ فرسا، فجحده الأعرابيّ، فجاء خزيمة؛ فقال: يا أعرابي؛ أتجحد!! أنا أشهد أنّك قد بعته. فقال: أن شهد عليّ خزيمة فأعطني الثمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خزيمة؛ إنّا لم نشهدك! كيف تشهد!!» . قال: أنا أصدّقك على خبر السماء، ألا أصدّقك على ذلك الأعرابي!! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين. انتهى؛ ذكره في «المواهب» .

(ولكن كان شراؤه) صلى الله عليه وسلم أي: مباشرته الشراء (أكثر) من مباشرة البيع.

روى البخاريّ؛ عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما؛ قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعانّ «2» طويل بغنم يسوقها، فقال

(1) أي: طلب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الأعرابي أن يتبعه ليقبضه الثمن.

(2)

ثائر الرأس أشعث.

ص: 160

وآجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم، ولخديجة في سفر التّجارة.

النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعا أم عطيّة!» . أو قال «هبة!» . قال: لا؛ بل بيع. فاشترى منه شاة.

(وآجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم) . روى البخاري في «صحيحه» ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيّا إلّا رعى الغنم» . فقال أصحابه: وأنت!! فقال: «نعم؛ كنت أرعاها على قراريط لأهل مكّة» .

قال في «فتح الباري» : قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرّن برعيها على ما يكلّفونه من القيام بأمر أمّتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنّهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرّقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوّها من سبع وغيره؛ كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها وشدّة تفرّقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة؛ ألفوا من ذلك الصبر على الأمّة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها؛ فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمّلهم لمشقّة ذلك أسهل ممّا لو كلّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.

وخصّت الغنم بذلك!! لكونها أضعف من غيرها، ولأنّ تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرّبط؛ دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. انتهى.

(و) آجر نفسه قبل النبوة وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة (لخديجة) بنت خويلد بن أسد (في سفر التّجارة) ، وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة؛ تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامّة عير قريش، وكانت تستأجر

ص: 161

.........

الرجال؛ وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قوما تجّارا، ومن لم يكن منهم تاجرا؛ فليس عندهم بشيء.

وسبب ذلك- كما رواه الواقديّ، وابن السّكن-: أنّ أبا طالب قال: يا ابن أخي؛ أنا رجل لا مال لي، وقد اشتدّ الزمان علينا وألحّت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادّة، ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام؛ وخديجة تبعث رجالا من قومك يتّجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضّلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك!! وإن كنت أكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهود؛ ولكن لا نجد من ذلك بدّا. فقال صلى الله عليه وسلم:«لعلّها ترسل إليّ في ذلك» . فقال أبو طالب: أخاف أن تولّي غيرك.

فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمّه له، وقبل ذلك صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه. فقالت: ما علمت أنّه يريد هذا!! وأرسلت إليه؛ وقالت:

دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم اخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك.

فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لعمّه. فقال: إنّ هذا الرزق ساقه الله إليك.

فخرج ومعه ميسرة «غلام خديجة» في تجارة لها، حتى بلغ سوق بصرى لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظلّ شجرة في سوق بصرى قريبا من صومعة نسطور الراهب. فقال نسطور الراهب:«ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبي» .

ثمّ حضر سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى.. وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى. فقال: «ما حلفت بهما قطّ» . فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة- وخلا به-: هذا نبيّ، والّذي نفسي بيده؛ إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم. فوعى ذلك ميسرة.

ص: 162

واستدان برهن، وبغير رهن، واستعار، وضمن، ووقف أرضا كانت له.

ثم انصرف أهل العير جميعا، وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلّانه في الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علّيّة لها؛ رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعير، وملكان يظلّان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها صلى الله عليه وسلم فأخبرها بما ربحوا؛ فسرّت، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت! فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بقول نسطوراء، وقول الآخر الذي خالفه في البيع. وقدم صلى الله عليه وسلم بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما كانت سمّته له، وتزوّج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما.

انتهى؛ من «المواهب» و «شرحها» .

(واستدان) صلى الله عليه وسلم (برهن) . روى البخاريّ، ومسلم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل؛ ورهنه درعا من حديد.

(و) استدان صلى الله عليه وسلم (بغير رهن) . روى البخاريّ؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أعطوه» .

فقالوا: ما نجد إلّا سنّا أفضل من سنّه!! فقال الرجل: أوفيتني؛ أوفاك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوه؛ فإنّ من خيار النّاس أحسنهم قضاء» .

(واستعار) صلى الله عليه وسلم. روى البخاري، ومسلم؛ عن قتادة؛ قال: سمعت أنسا يقول: كان فزع بالمدينة. فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة؛ يقال له «المندوب» ، فلما رجع قال:«ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا» .

واستعار صلى الله عليه وسلم أدرعا من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال: أغصب؛ يا محمّد!! فقال: «لا؛ بل عاريّة مضمونة» . رواه أبو داود، والنسائي.

(وضمن) . روى الحاكم بإسناد صحيح أنّه صلى الله عليه وسلم تحمّل عن رجل عشرة دنانير؛ ذكره شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «شرح الروض» .

(ووقف) صلى الله عليه وسلم (أرضا كانت له) من أموال مخيريق النّضري الإسرائيلي؛ من

ص: 163

وحلف في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله تعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، في قوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي، وقوله تعالى:

قُلْ بَلى وَرَبِّي،

بني النضير، كان عالما؛ وكان أوصى بأمواله في السنة الثالثة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي سبع حوائط، وذلك أوّل وقف في الإسلام؛ كما في «الأوائل» للشيخ علاء الدين علي دده. لكن هذا خلاف المصرّح به في كتب الفقه، والمشهور- كما في «التحفة» ؛ و «شرح الروض» - أنّ أوّل وقف في الإسلام هو وقف سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أرضه التي أصابها بخيبر، وشرط فيها شروطا؛ منها أنّه لا يباع أصلها، ولا يورث، ولا يوهب، وأنّ من وليها يأكل منها بالمعروف؛ أو يطعم صديقا غير متموّل فيه. كما رواه الشيخان.

(وحلف في أكثر من ثمانين موضعا) بصيغ مختلفة؛ فتارة يقول «لا؛ ومقلّب القلوب» ، وتارة يقول «والّذي نفسي بيده» ، وطورا يقول «والّذي نفس أبي القاسم بيده» ، وأكثر أيمانه «لا ومصرّف القلوب» كما سيأتي.

(وأمره الله تعالى) في كتابه المبين (بالحلف في ثلاثة مواضع) من القرآن:

الأول (في قوله تعالى) في سورة يونس وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي:

ما وعدتنا به من العذاب والبعث. (قُلْ إِي) - نعم- (وربّى) إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: قل لهم في الجواب هذه الأمور الثلاثة إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ عطف على «إي» ، فهو من مقول القول.

(و) الثاني في سورة سبأ في (قوله تعالى) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (قُلْ) - لهم- (بَلى) - ردّ لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلّا إتيانها- (وَرَبِّي) لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فقوله «لتأتينكم» تأكيد لما

ص: 164

وقوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.

وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى.

نفوه على أتمّ الوجوه وأكملها، وقوله «عالم الغيب

» الخ تقوية للتأكيد، لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه؛ وقوّة إثباته، وصحّته، لما أنّ ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر.

(و) الثالث، في سورة التغابن في (قوله) تعالى زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا (قُلْ بَلى) - من المعلوم أنّ «بلى» تنقض النفي وتثبت المنفيّ. فالمعنى هنا: قل بلى تبعثون (وَرَبِّي) . فقوله (لَتُبْعَثُنَّ) هو المفاد بها، وإنما أعيد!! توصّلا لتوكيده بالقسم، ولعطف قوله ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) .

(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة) ؛ أي: يعقّب اليمين بقول «إن شاء الله» ونحوه، كقوله في حديث أبي موسى الأشعري:«إنّي- والله- إن شاء الله؛ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الّذي هو خير، وتحلّلتها» متفق عليه.

قال في «شرح مسلم» : ويشترط لصحّة هذا الاستثناء شرطان؛

أحدهما: أن يقوله متّصلا باليمين.

والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول «إن شاء الله»

قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على أن قوله «إن شاء الله» يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متّصلا. انتهى.

(ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى) ؛ بأن لا يحنث.

روى البخاريّ؛ عن أنس رضي الله عنه: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه؛ وكانت انفكّت رجله، فأقام في مشربة «1» تسعا وعشرين ليلة، ثم نزل. فقالوا: يا رسول

(1) العلّيّة.

ص: 165

ومدحه بعض الشّعراء فأثاب عليه، ومنع الثّواب في حقّ غيره، وأمر أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب.

الله؛ آليت شهرا!! فقال: «إنّ الشّهر يكون تسعا وعشرين» .

(ومدحه) صلى الله عليه وسلم (بعض الشّعراء) من الصّحابة، ومنهم كعب بن زهير بن أبي سلمى في قصيدته المشهورة «بانت سعاد» ؛ (فأثاب) صلى الله عليه وسلم (عليه) ؛ أي:

المدح، فقد ذكر العلماء أنّ كعب بن زهير لما أنشد قصيدة «بانت سعاد» بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع، ولما وصل إلى قوله:

إنّ الرّسول لسيف يستضاء به

مهنّد من سيوف الله مسلول

ألقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردته التي كانت عليه، ولذا قال أهل العلم: هذه القصيدة هي التي حقّها أن تسمّى ب «البردة» ، لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم أعطى كعبا بردته الشريفة. وأمّا قصيدة البوصيري!! فحقّها أن تسمّى ب «البرأة» ، لأنه كان أصابه داء الفالج؛ فأبطل نصفه، وأعيا الأطباء، فلما نظمها رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم فمسح بيده عليه فبرئ لوقته.

وقد بذل معاوية رضي الله عنه لكعب في هذه البردة عشرة آلاف من الدراهم؛ فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا من الدراهم فأخذها منهم؛ وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم. ويقال: إنها التي يلبسها الخلفاء في الأعياد. قال الشامي: ولا وجود لها الآن، لأن الظاهر أنّها فقدت في وقعة التتار.

قال الزرقاني في «شرح المواهب» : وقد جمع اليعمريّ شعراءه الذين مدحوه بالشعر من رجال الصحابة ونسائهم؛ فقارب بهم مائتين. انتهى.

(ومنع الثّواب) ؛ أي: المكافأة والمجازاة (في حقّ غيره) ؛ أي: غير البعض المثاب، لما رأى من المصلحة في المنع.

(وأمر) صلى الله عليه وسلم (أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب) ؛ بقوله: «احثوا التّراب

ص: 166

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حلف.. قال: «والّذي نفس محمّد بيده» .

في وجوه المدّاحين» رواه الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؛ واستغربه، ورواه ابن عدي، وأبو نعيم في «الحلية» ؛ عن ابن عمر بن الخطاب.

وبقوله «احثوا في أفواه المدّاحين التّراب» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ عن المقداد بن عمرو الكندي رضي الله عنه. انتهى؛ ذكره المناوي في «شرح الجامع» .

وفيه: الحثي: كناية عن الحرمان والردّ. يريد: لا تعطوهم على المدح شيئا، وقيل: هو على ظاهره، فيرمى في وجوههم التراب، وجرى عليهم ابن العربي قال: وصورته: أن يأخذ كفّا من تراب وترمى به بين يديه، ويقول:

ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا!! ومن أنا، وما قدري!! توبّخ بذلك نفسك ونفسه، وتعرّف المادح قدرك وقدره؛ هكذا فليحث التراب في وجوههم.

وعبّر بصيغة المبالغة في قوله «المدّاحين» !! إشارة إلى أنّ الكلام فيمن تكرّر منه المدح حتّى اتخذه صناعة وبضاعة يتأكّل بها الناس؛ وجازف في الأوصاف، وأكثر من الكذب.

قال الشافعية: ويحرم مجاوزة الحدّ في الإطراء في المدح؛ إذا لم يمكن حمله على المبالغة، وتردّ به الشهادة إن أكثر منه؛ وإن قصد إظهار الصنعة.

قال ابن عبد السلام في «قواعده» : ولا تكاد تجد مدّاحا إلّا رذلا، ولا هجّاء إلّا نذلا. انتهى.

(و) أخرج ابن ماجه- بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن رفاعة بن عرابة الجهني رضي الله تعالى عنه؛ قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف) على شيء وأراد تأكيد اليمين؛ (قال «والّذي نفس محمّد بيده» ) ؛ أي: بقدرته وتصريفه.

وفيه جواز تأكيد اليمين بما ذكر. أي: إذا عظم المحلوف عليه؛ وإن لم يطلب ذلك المخاطب.

ص: 167

وكان صلى الله عليه وسلم أكثر أيمانه: «لا ومصرّف القلوب» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين.. قال: «لا والّذي نفس أبي القاسم بيده» .

(و) أخرج ابن ماجه- بسند حسن؛ كما في العزيزي- عن ابن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أيمانه) - بفتح الهمزة- جمع يمين، وهو بالرفع اسم «كان» ، وخبرها قوله ( «لا؛ ومصرّف القلوب» ) ويصحّ العكس؛ وهو أحسن، لأن المحدّث عنه الثاني؛ قاله الحفني.

قال المناوي: وفي رواية البخاري: «لا؛ ومقلّب القلوب» أي: لا أفعل، أو:

لا أقول وحقّ مقلّب القلوب، ومصرّف القلوب. وفي نسبة تقلّب القلوب، أو تصرّفها إليه!! إشعار بأنه يتولّى قلوب عباده، ولا يكلها إلى أحد من خلقه.

قال الطيبي: «لا» نفي للكلام السابق، و «مصرّف القلوب» إنشاء قسم.

وفيه: أنّ أعمال القلب من الأدوات والدواعي وسائر الأعراض بخلق الله تعالى، وجواز تسمية الله بما صحّ من صفاته على الوجه اللائق، وجواز الحلف بغير تحليف.

قال النووي: بل يندب، إذا كان لمصلحة كتأكيد أمر مهمّ، ونفي المجاز عنه. وفي الحلف بهذه اليمين زيادة تأكيد، لأن الإنسان إذا استحضر أنّ قلبه وهو أعزّ الأشياء عليه- بيد الله يقلّبه كيف يشاء؛ غلب عليه الخوف؛ فارتدع عن الحلف على ما لا يتحقق. انتهى.

(و) أخرج الإمام أحمد بسند صحيح، وأبو داود في «الأيمان» ، وابن ماجه في (الكفارة) بألفاظ مختلفة؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا) حلف و (اجتهد في اليمين) أي: أراد تأكيده؛ (قال «لا؛ والّذي نفس أبي القاسم) - أي: ذاته وجملته- (بيده» ) . أي:

بقدرته وتدبيره.

ص: 168

وكان صلى الله عليه وسلم يحلف: «لا ومقلّب القلوب» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حلف على يمين.. لا يحنث؛ حتّى نزلت كفّارة اليمين.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر؛

قال الطيبي: وهذا في علم البيان من أسلوب التجريد، لأنّه جرّد من نفسه شخصا يسمّى «أبا القاسم» وهو هو، وكان يعبّر بذلك في بعض الأوقات. وأصل الكلام:«والذي نفسي بيده» ، ثم التفت من التكلّم إلى الغيبة.

(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «التوحيد» وغيره، والترمذي؛ والنسائي في «الأيمان» وغيره، وابن ماجه في «الكفارة» : كلهم؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف) فيقول: ( «لا؛ ومقلّب القلوب» ) قال العلقمي:

«لا» نفي للكلام السابق، «ومقلّب القلوب» هو المقسم به، والمراد ب «تقليب القلوب» : تقليب أعراضها وأحوالها؛ لا تقليب ذاتها. انتهى «عزيزي» .

(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» ؛ في «كتاب الأيمان» - وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبي- عن عائشة رضي الله تعالى عنها؛ قالت:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف على يمين) أي: بيمين واحتاج إلى فعل المحلوف عليه (لا يحنث)، أي: لا يفعل ذلك المحلوف عليه؛ وإن احتاجه (حتّى نزلت كفّارة اليمين) أي: الآية المتضمّنة مشروعية الكفارة؛ وهي قوله تعالى فَكَفَّارَتُهُ

[89/ المائدة] .

قال المناوي على «الجامع» : وتمامه عند الحاكم: فقال: «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا كفّرت عن يميني، ثمّ أتيت الذّي هو خير» انتهى.

(و) أخرج الإمام أحمد- بسند قال فيه الحافظ الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. قال: ورواه الترمذي أيضا، لكن جعل مكان طرفة ابن رواحة. انتهى (مناوي) - قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر) الذي يتطلّع له،

ص: 169

أي: استبطأه.. تمثّل ببيت طرفة:

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وكان صلى الله عليه وسلم يتمثّل بهذا البيت:

كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا

وأصل هذا الشّطر:

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

ولكنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تمثّل به على الوجه المذكور.

(أي: استبطأه) - وهو استفعل من الريث؛ وهو الاستبطاء، يقال: راث ريثا:

أبطأ، واسترثته: استبطأته- (تمثّل ببيت طرفة) - بفتحات- ابن العبد؛ أي:

بعجزه، وهو قوله (ويأتيك بالأخبار) - بفتح الهمزة جمع خبر- (من لم تزوّد) أي: من لم تصنع له زادا. وأوّل البيت:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

وجاء في بعض الروايات أنّه ينشد البيت بتمامه.

والتمثيل: إنشاد بيت، ثمّ آخر، ثمّ آخر. وتمثّل بشيء ضربه مثلا، كذا في «القاموس» . والمثل: الكلام الموزون في مورد خاصّ، ثم شاع في معنى يصحّ أن تورده باعتبار أمثال مورده؛ قاله شرّاح «الجامع الصغير» .

(و) أخرج ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن الحسن البصري مرسلا:

(كان صلى الله عليه وسلم يتمثّل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا) أي: زاجرا ورادعا.

(وأصل هذا الشّطر) موزونا هكذا: (كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا.

ولكنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تمثّل به على الوجه المذكور) ؛ فقدّم وأخرّ فيه؛ فصيّره غير موزون، إذ ملحظه المعاني فقط. وقد كان سيّدنا عمر رضي الله عنه يعترض على

ص: 170

قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ صلى الله عليه وسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يسافر يوم الخميس.

الشاعر، ويقول: الأولى تقديم «الإسلام» .

قال المناوي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتمثّل به!! لأن الشيب نذير الموت، والموت يسنّ إكثار ذكره؛ لتتنبّه النفس من سنة الغافلة، فيسنّ لمن بلغ سنّ الشيب أن يعاتب نفسه ويوبّخها بإكثار التمثّل بذلك، وفيه جواز إنشاد الشعر له صلى الله عليه وسلم؛ لا إنشاؤه.

(قال تعالى وَما عَلَّمْناهُ) - أي: النبي صلى الله عليه وسلم (الشّعر) - ردّ لقولهم «إنّ ما أتى به من القرآن شعر» ، فالمعنى ليس القرآن بشعر، لأن الشعر كلام متكلّف موضوع، ومقال مزخرف مصنوع؛ منسوج على منوال الوزن والقافية، مبنيّ على خيالات وأوهام واهية، فأين ذلك من التنزيل الجليل المنزّه عن مماثلة كلام البشر، المشحون بفنون الحكم والأحكام الباهرة، الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة!! - (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي: لا يصحّ منه، ولا يتأتّى له، أي: جعلناه بحيث لو أراد إنشاءه لم يقدر عليه، أو أراد إنشاده لم يقدر عليه أيضا بالطبع والسجية، لأنّه لو كان ممن يقول الشعر لتطرّقت إليه التّهمة عقلا في أنّ ما جاء به من عند نفسه.

قال العلماء: ما كان يتّزن له صلى الله عليه وسلم بيت شعر، وإن تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه مكسّرا.

قال القرطبي: وإصابة الوزن منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان!! لا توجب أنّه يعلم الشعر، كقوله «أنا النّبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب» . على أن التمثل بالبيت لا يوجب أن يكون قائله عالما بالشعر، ولا أن يسمّى «شاعرا» باتفاق العلماء، كما أنّ من خاط ثوبا على سبيل الاتفاق لا يكون خيّاطا. انتهى.

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» - بسند فيه خالد بن إياس وهو متروك؛ كما قال الحافظ الهيثمي وغيره- عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يسافر يوم الخميس) ، لأنّه بورك له ولأمّته

ص: 171

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا.. أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه.

فيه، أو لأنه أتمّ أيام الأسبوع عددا، لأنه تعالى بثّ الدواب في أصل الخلق؛ فلاحظ الحكمة الربانية، والخروج فيه نوع من بثّ الدوابّ الواقع في يوم المبدأ.

ومحبّته لا تستلزم المواظبة عليه، فقد خرج مرّة يوم السبت!! ولعله كان يحبّه أيضا، كما ورد في خبر آخر:«اللهمّ؛ بارك لأمّتي في سبتها وخميسها» . وفي البخاري أيضا: أنّه كان قلّما يخرج إذا خرج في السّفر إلّا يوم الخميس. وفي رواية للشيخين معا: ما كان يخرج إلّا يوم الخميس. قاله المناوي في «شرح الجامع» .

(و) في «الصحيحين» وغيرهما في «حديث الإفك» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وروي عن غيرها أيضا- أنّه (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا) لنحو غزو (أقرع بين نسائه) ؛ تطييبا لنفوسهنّ، وحذرا من الترجيح بلا مرجّح؛ عملا بالعدل، لأن المقيمة؛ وإن كانت في راحة لكن يفوتها الاستمتاع بالزوج، والمسافرة؛ وإن حظيت عنده بذلك تتأذّى بمشقّة السفر، فإيثار بعضهنّ بهذا وبعضهنّ بهذا اختيارا عدول عن الإنصاف. ومن ثمّ كان الإقراع واجبا، لكن محلّ الوجوب في حقّ الأمّة؛ لا في حقّه عليه الصلاة والسلام، لعدم وجوب القسم عليه؛ كما نبّه عليه ابن أبي جمرة؛ قاله المناوي. وفيه أن المقرّر في كتب الفقه الشافعي: أنّ القسم واجب عليه. (فأيّتهنّ) - بتاء التأنيث- أي: أيّة امرأة منهن (خرج سهمها خرج بها معه) في صحبته، وهذا أوّل حديث الإفك، وبقيّته- كما في البخاري-: وكان يقسم لكلّ امرأة منهنّ يومها وليلتها، غير أنّ سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ تبتغي بذلك رضاء الله ورسوله. هكذا ذكره في «كتاب الهبة» .

وفيه حلّ السفر بالزوجة، وخروج النساء في الغزوات، وذلك مباح إذا كان العسكر تؤمن عليه الغلبة، وكان خروج النساء مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجهاد فيه مصلحة بيّنة لإعانتهنّ على ما لا بدّ منه.

ص: 172

وكان صلى الله عليه وسلم يتخلّف في المسير، فيزجي الضّعيف ويردف، ويدعو لهم. ومعنى (يزجي الضّعيف) : يسوقه سوقا رفيقا.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر.. بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين،

وفيه مشروعية القرعة في القسمة بين الشركاء

ونحو ذلك.

والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبارها؛ قاله المناوي.

(و) أخرج أبو داود، والحاكم- وقال: على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي.

وسكت عليه أبو داود-: كلاهما في «الجهاد» ؛ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلّف) أي: يتأخّر (في المسير) ؛ أي في السّفر (فيزجي) - بضمّ أوّله- (الضّعيف، ويردف) نحو العاجز على ظهر الدابّة، أي: دابّته، أو دابة غيره (ويدعو لهم) بالإعانة ونحوها.

ونبّه به على أدب أمير الجيش؛ وهو الرفق بالسير؛ بحيث يقدر عليه أضعفهم، ويحفظ به قوّة أقواهم، وأن يتفقّد خيلهم وحمولهم، ويراعي أحوالهم، ويعين عاجزهم، ويحمل ضعيفهم ومنقطعهم، ويسعفهم بماله وحاله، وقاله ودعائه، ومدده وأمداده.

(ومعنى «يزجي) - بمثناة تحتية مضمومة وزاي معجمة فجيم- (الضّعيف» :

يسوقه سوقا رفيقا) ليلحق بالرّفاق.

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» والحاكم- بسند فيه يزيد بن سفيان أبو فروة وهو مقارب الحديث مع ضعف؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن أبي ثعلبة رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر) - زاد البخاري في رواية: ضحى؛ بالضمّ والقصر- (بدأ بالمسجد) . وفي رواية لمسلم: كان لا يقدم من سفر إلّا نهارا في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد (فصلّى فيه ركعتين) . زاد البخاري:

قبل أن يجلس. انتهى. وذلك للقدوم من السفر تبرّكا به، وليستا تحيّة المسجد!

ص: 173

ثمّ يثنّي بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا.

وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس.

واستنبط منه ندب الابتداء بالمسجد عند القدوم قبل بيته، وجلوسه للناس عند قدومه ليسلّموا عليه، ثمّ التوجّه إلى أهله. وهذه الجملة الأولى «وهي الصلاة في المسجد عند القدوم» رواه البخاريّ في «الصحيح» في نحو عشرين موضعا.

(ثمّ يثنّي بفاطمة) الزهراء البضعة الطاهرة رضي الله تعالى عنها.

(ثمّ يأتي أزواجه) فقدم من سفر فصلّى في المسجد ركعتين، ثم أتى فاطمة فتلقّته على باب القبّة؛ فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي، فقال:«ما يبكيك» ؟

قالت: أراك شعثا نصبا، قد اخلولقت ثيابك!! فقال لها:«لا تبكي، فإنّ الله عز وجل بعث أباك بأمر: لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر؛ ولا حجر؛ ولا وبر؛ ولا شعر إلّا أدخله الله به: عزّا؛ أو ذلّا، حتّى يبلغ حيث بلغ اللّيل» . انتهى.

هذا تمام الحديث؛ كما قاله المناوي رحمه الله تعالى.

(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي؛ عن أنس رضي الله عنه قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطرق) - بضم الراء؛ من باب: دخل- (أهله ليلا) أي: لا يقدم عليهم من سفر؛ ولا غيره في الليل على غفلة؛ فيكره ذلك لأنّ القادم إمّا أن يجد أهله على غير أهبة من نحو تنظّف، أو يجدهم بحالة غير مرضيّة.

قال المناوي: وتمام الحديث عند الشيخين: وكان يأتيهم غدوة؛ أو عشية. انتهى.

(و) أخرج الإمام أحمد، والبخاريّ في «الجهاد» ؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس) .

قال العلقمي: وسبب الخروج يوم الخميس ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمّتي في بكورها يوم الخميس» وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني، أو أنّه إنّما أحبّه؛ لكونه وافق الفتح له والنصر فيه، أو لتفاؤله بالخميس على أنه ظفر على

ص: 174

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودّع الجيش.. قال:

«أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سريّة

«الخميس» ؛ وهو الجيش، ومحبّته لا تستلزم المواظبة عليه، فقد خرج في بعض أسفاره يوم السبت- كما تقدّم-.

(و) أخرج أبو داود، والحاكم في «الجهاد» ، وكذا النسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن عبد الله بن يزيد الخطمي- بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة- قال في «الأذكار» : حديث صحيح. وقال في «رياض الصالحين» : رواه أبو داود بإسناد صحيح؛ قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودّع الجيش) الذي يجهّزه للغزو؛ (قال:

«أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» ) ؛ أي: أطلب من الله تعالى أن يكون دينكم وما بعده وديعة عنده تعالى؛ وهو تعالى خير من يحفظ الودائع، وفيه نوع مشاكلة للتوديع، إذ جعل دينهم وأمانتهم من الودائع، لأن السفر يصيب الإنسان فيه المشقّة والخوف؛ فيكون ذلك سببا لإهمال بعض أمور الدين، فدعا المصطفى صلى الله عليه وسلم لهم بالمعونة في الدين والتوفيق فيه، ولا يخلو المسافر من الاشتغال بما يحتاج فيه إلى نحو أخذ وعطاء وعشرة، فدعا لهم بحفظ الأمانة؛ وتجنّب الخيانة، ثم بحسن الاختتام، ليكون مأمون العاقبة عما سواه في الدنيا والدين، فيسنّ قول هذا الذكر عند المسافر؛ وإن كان الحديث في سفر الغزاة؛ فمثله غيره من بقية الأسفار.

(و) أخرج أبو داود في «الجهاد» ، والترمذي في «البيوع» ، وابن ماجه في «التجارة» : كلّهم؛ من حديث عمارة بن حديد؛ عن صخرة بن وداعة العامري الأزدي- وهو حديث حسن؛ كما في العزيزي- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث) ؛ أي: إذا أراد أن يرسل (سريّة) - بفتح

ص: 175

أو جيشا.. بعثهم من أوّل النّهار.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا قال: «أقصر الخطبة، وأقلّ الكلام، فإنّ من البيان لسحرا»

السين وكسر الرّاء المهملتين- وهي: قطعة من الجيش من مائة إلى خمس مائة، (أو جيشا) هو العدد من الجند مما زاد على ثمان مائة إلى أربعة آلاف، فإن زاد على أربعة آلاف فهو «جحفل» ، وما زاد على ذلك يقال له «جيش جرّار» . وقد نظم ذلك بعضهم؛ فقال:

سريّة سمّ إذا كانت فئه

من مائة إلى انتها خمس مائه

فإن تزد ف «منسر» ، فإن تزد

على ثمان مائة «جيش» يعدّ

فإن على أربعة آلاف

زادت ف «جحفل» بلا خلاف

ما زاد جيش صفه ب «الجرّار»

دونكها عن شارح «الأذكار»

(بعثهم من أوّل النّهار) ، لأنه بورك له ولأمّته في البكور.

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والخطيب في «تاريخه» - بسند فيه جميع بن ثور وهو متروك؛ كما قال الحافظ الهيثمي- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا) على جيش؛ أو نحو بلدة (قال) فيما يوصيه: «أقصر الخطبة) - بضم الخاء- أي: التي يقدّمها المتكلم أمام كلامه على عادتهم في تقديم خطبة على مقصودهم، فليس المراد خطبة نحو الجمعة؛ كما هو جليّ، (وأقلّ الكلام، فإنّ من الكلام لسحرا» ؛ أي: نوعا تستمال به القلوب كما تستمال بالسّحر، وذلك هو السّحر الحلال.

(و) أخرج البخاريّ في «غزوة تبوك» وغيرها، ومسلم في «التوبة» ، وكذا أخرجه أبو داود في «سننه» ؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

ص: 176

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة.. ورّى بغيرها.

وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يلقى العدوّ عند زوال الشّمس.

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورّى) - بتشديد الراء- أي: سترها وكنّى عنها (بغيرها) ؛ أي: بغير تلك الغزوة التي أرادها. يعني يذكر لفظا يوهم السامعين التوجّه إلى ناحية؛ مع أن مراده غيرها، كما إذا أراد غزوة خيبر مثلا؛ وقال «ما أحلى ماء مكّة، وما أطيب مالها» !! موهما أنّه يريد غزو مكّة، فهذا ليس بكذب، بل إيهام غير المراد؛ لئلا يتفطّن العدوّ فيستعدّ للدفع وللحرب، والمقصود أخذ العدوّ بغتة.

والتوراة: أن يذكر لفظا يحتمل معنيين: أحدهما أقرب من الآخر، فيسأل عنه وعن طريقه؛ فيفهم السامع بسبب ذلك أنّه يقصد المحلّ القريب، والمتكلّم صادق، لكن الخلل وقع في فهم السامع خاصّة. انتهى «شروح «الجامع الصغير» .

ولفظ «الصحيحين» : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها حتّى كانت تلك الغزوة- يعني تبوك- غزاها في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا، وغزوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بجهته التي يريد.

انتهى. وهو حديث طويل؛ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه.

(و) أخرج الطبرانيّ في «الكبير» - بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن ابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه؛ قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يلقى العدوّ) للقتال (عند زوال الشّمس)، لأنّه وقت تفتح فيه أبواب السماء؛ كما ثبت في الحديث؛ أنّه كان يستحبّ أن يصلّي بعد نصف النهار. فقالت عائشة: أراك تستحبّ الصلاة في هذه الساعة؟! قال:

«تفتح فيها أبواب السّماء، وينظر الله تبارك وتعالى بالرّحمة إلى خلقه، وهي صلاة

ص: 177

وكان صلى الله عليه وسلم يكره رفع الصّوت عند القتال.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق.. رجع في غيره.

كان يحافظ عليها آدم، وإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى» . رواه البزار؛ عن ثوبان. وهذا بخلاف الإغارة على العدو، فإنّه يندب أن يكون أوّل النهار، لأنّه وقت غفلتهم؛ كما فعل في خيبر.

(و) أخرج أبو داود، والطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «الجهاد» وقال: على شرطهما. وأقرّه الذهبيّ- كلّهم؛ عن أبي موسى الأشعري- وقال ابن حجر: إنّه حديث حسن؛ كما في المناوي- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره رفع الصّوت عند القتال) ، كأن ينادي بعضهم بعضا؛ أو يفعل أحدهم فعلا له أثر فيصيح ويعرّف نفسه؛ فخرا وإعجابا، وذلك لأنّ الساكت أهيب، والصمت أرعب، ولهذا كان عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يحرّض أصحابه يوم صفين ويقول: استشعروا الخشية وعنّوا بالأصوات؛ أي:

احبسوها وأخفوها؛ من التعنّن: الحبس عن اللّغط ورفع الأصوات. أمّا إذا كان رفع الأصوات لغير الإعجاب!! فلا بأس به، ولذا أخبر صلى الله عليه وسلم أنّ صوت بعض أصحابه في الحرب خير من ألف مقاتل لإرهاب الكفار، إذ قال صلى الله عليه وسلم:«صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» . انتهى؛ من شروح «الجامع الصغير» .

(و) أخرج الترمذي، والحاكم؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح؛ كما قال العزيزي- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد) أي: عيد الفطر؛ أو الأضحى (في طريق) لصلاته (رجع في غيره) ؛ أي: غير طريق الذهاب إلى المصلّى فيذهب في أطولهما تكثيرا للأجر، ويرجع في أقصرهما، لأن الذهاب أفضل من الرجوع؛ لتشهد له الطريقان.

وفي رواية البخاري؛ عن جابر قال: كان إذا كان يوم عيد خالف الطريق.

ص: 178

وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي.. نكّس رأسه، ونكّس أصحابه رؤوسهم، فإذا أقلع عنه.. رفع رأسه.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان.. أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل.

وفي «الصحيحين» ؛ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ أنّه كان يخرج في العيدين من طريق الشّجرة، ويدخل من طريق المعرّس، وإذا دخل مكة دخل من الثنيّة العليا، ويخرج من الثنيّة السّفلى.

(و) أخرج مسلم في «المناقب» ؛ عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي) ؛ أي: حامل الوحي.

أسند النزول إلى الوحي!! للملابسة بين الحامل والمحمول، ويسمّى «مجازا عقليا» تارة، و «استعارة بالكناية» تارة أخرى، بمعنى أنّه شبّه الوحي برجل مثلا، ثم أضيف إلى المشبّه الإتيان الذي هو من خواصّ المشبّه به، لينتقل الذهن منه إليه.

والوحي- لغة-: الكلام الخفيّ، وعرفا-: إعلام الله نبيّه الشرائع بوجه ما.

(نكّس) - بشدّ الكاف- (رأسه) أي: أطرق كالمتفكّر؛ لثقل الوحي إذا نزل عليه الملك في غير صورة رجل، حتى إنّه يحصل له مزيد العرق؛ وإن كان في شدّة البرد.

(ونكّس أصحابه رؤوسهم) لإدراكهم نزول الوحي عليه بسبب إطراقه رأسه.

(فإذا أقلع) - أي: الوحي بمعنى حامله- أي: سرّي وكشف (عنه رفع رأسه) صلى الله عليه وسلم.

(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، والخطيب، والبزار- بسند فيه أبو بكر الهذلي، قال فيه ابن حبان: يروي عن الأثبات أشياء موضوعة. وقال غندر: كان يكذب- وأخرجه ابن سعد في «طبقاته» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها- قال في العزيزي: وهو حديث ضعيف- قالت:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل) - في رواية: حضر- (رمضان أطلق كلّ أسير) كان مأسورا عنده قبله، (وأعطى كلّ سائل) ، فإنه كان أجود ما يكون في

ص: 179

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره، ثمّ لم يأت فراشه حتّى ينسلخ.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان.. تغيّر لونه، وكثرت صلاته، وابتهل في الدّعاء، وأشفق لونه؛ أي: تغيّر وصار كلون الشّفق.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر

رمضان. وفيه ندب العتق في رمضان، والتوسعة على الفقراء والمساكين.

(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» بإسناد حسن؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره) بكسر الميم-: إزاره، وهو كناية عن الاجتهاد في العبادة واعتزال النساء (ثمّ لم يأت فراشه) أي: غالب الليل (حتّى ينسلخ) ؛ أي: يمضي.

(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» - بسند فيه عبد الباقي بن قانع، قال الذهبي فيه: قال الدارقطني: يخطئ كثيرا. انتهى- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل) شهر (رمضان، تغيّر لونه) إلى الصفرة، أو الحمرة؛ خوفا من عدم الوفاء بحقّ العبودية فيه، وهو تعليم لأمّته، ولأنه على قدر علم المرء يعظم خوفه.

(وكثرت صلاته، وابتهل) أي: اجتهد (في الدّعاء، وأشفق لونه) أخصّ مما قبله؛ لخصوص هذا بالحمرة؛ كما قال: (أي: تغيّر) لونه (وصار) في الحمرة (كلون الشّفق) الأحمر.

(و) أخرج الشيخان في «الصوم» ، وأبو داود؛ والنسائي في (الصلاة)، وابن ماجه في (الصوم) : كلّهم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر) - زاد في رواية ابن أبي شيبة-

ص: 180

الأخير من رمضان.. شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيما.. اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا سافر.. اعتكف من العام المقبل عشرين.

(الأخير من رمضان) - والمراد الليالي- (شدّ مئزره) . قال القاضي: المئزر:

الإزار، ونظيره ملحف ولحاف، وشدّه كناية عن التشمير والاجتهاد، أراد به الجدّ في الطاعة، أو كناية عن اعتزال النساء وتجنّب غشيانهنّ، (وأحيا ليله) : أي:

ترك النوم الذي هو أخو الموت وتعبّد معظم الليل؛ لا كله، بقرينة خبر عائشة «ما علمته قام ليلة حتّى الصباح» ، فلا ينافي ذلك ما عليه الشافعية من كراهة قيام الليل كلّه.

(وأيقظ أهله) ؛ أي: زوجاته المعتكفات معه في المسجد، واللّاتي في بيوتهن إذا دخلها لحاجة؛ أي: يوقظهنّ للصلاة والعبادة، فيسنّ إيقاظ من وثق بقيامه للتهجّد.

(و) أخرج الإمام أحمد- بسند حسن؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان مقيما اعتكف العشر الأواخر من رمضان) ؛ طلبا لليلة القدر، لأنّها محصورة فيها عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

(وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين) : العشر الوسطى بدل ما فاته في السفر، والعشر الأخيرة على عادته. وفيه أنّ فائت الاعتكاف يقضى؛ أي: يشرع قضاؤه.

(و) أخرج البيهقي في «شعب الإيمان» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، والبزار: كلّهم من حديث زائدة بن أبي الرقاد؛ عن زياد النّميري؛ عن أنس بن مالك.

ص: 181

وكان صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلة الجمعة.. قال: «هذه ليلة غرّاء، ويوم أزهر» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاء الشّتاء.. دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف.. خرج ليلة الجمعة.

قال العزيزيّ: الظّاهر أنّ المراد

قال النووي في «الأذكار» : إسناده ضعيف، وقال البيهقيّ: تفرّد به زياد النميري، وعنه زائدة بن أبي الرقاد، وقال البخاري: زائدة عن زياد منكر الحديث وجهّله جماعة، وجزم الذهبي في «الضعفاء» بأنه منكر الحديث؛ قاله المناوي.

ولفظ الحديث- كما في «الجامع الصغير» -:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب؛ قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان؛ وبلّغنا رمضان» . وكان (إذا كانت) ؛ أي: وجدت (ليلة الجمعة؛ قال: «هذه ليلة غرّاء) - ك «حمراء» ؛ أي: سعيدة صبيحة مضيئة- (ويوم أزهر» ) ؛ أي: يومها يوم أزهر، أي: نيّر مشرق، ولذا طلب فيه أعمال صالحة كالكهف، وكذا ليلتها، وكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.

(و) أخرج الخطيب في «تاريخه» في ترجمة الربيع «حاجب المنصور» ، وابن عساكر في «تاريخه» ؛ كلاهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- وهو من رواية الربيع المذكور عن الخليفة المنصور؛ عن أبيه؛ عن جدّه. وبه عرف حال السند- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء الشّتاء) ؛ أي: زمن الشتاء (دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف) ؛ أي: زمن الصيف (خرج ليلة الجمعة)، وتمام الحديث: وإذا لبس ثوبا جديدا حمد الله وصلّى ركعتين، وكسا الخلق.

(قال) المناويّ: يحتمل أنّ المراد بيت الاعتكاف، ويحتمل أنّ المراد بالبيت: الكعبة. وقال العلامة علي بن أحمد (العزيزيّ) في كتابه «السّراج المنير شرح الجامع الصغير» : (الظّاهر أنّ المراد) بالدخول والخروج في الزمنين:

ص: 182

ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في الشّتاء، والخروج منها في الصّيف.

(ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في) زمن (الشّتاء) للكنّ من البرد، (والخروج منها) ؛ أي: البيوت (في) زمن (الصّيف) إلى المحلّ الذي هو أعلى الدار مثلا؛ الذي يقال له «السطوح» لكونه مكشوفا، أو الخروج إلى فناء الدار المكشوف أمامها مثلا؛ كما يقع في بعض البلدان، ولذا عبّر ب «دخل» المناسب للكنّ وب «خرج» المناسب للكشف، ويكون ابتداء الخروج والدخول ليلة الجمعة، أشار إلى ذلك الحفني.

ص: 183