المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الثاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة] - منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول - جـ ٣

[عبد الله عبادى اللحجى]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌[الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، وصومه، وقراءته]

- ‌[الفصل الأوّل في صفة عبادته صلى الله عليه وسلم وصلاته]

- ‌[الفصل الثّاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّالث في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أذكار وأدعية]

- ‌[الفصل الأوّل في أخبار شتّى من أحواله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة]

- ‌[الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم]

- ‌(حرف الهمزة) ]

- ‌(حرف الباء) ]

- ‌(حرف التّاء) ]

- ‌(حرف الثّاء) ]

- ‌(حرف الجيم) ]

- ‌(حرف الحاء) ]

- ‌(حرف الخاء) ]

- ‌(حرف الدّال) ]

- ‌(حرف الذّال) ]

- ‌(حرف الرّاء) ]

- ‌(حرف الزّاي) ]

- ‌(حرف السّين) ]

- ‌(حرف الشّين) ]

- ‌(حرف الصّاد) ]

- ‌(حرف الضّاد) ]

- ‌(حرف الطّاء) ]

- ‌(حرف الظّاء) ]

- ‌(حرف العين) ]

- ‌(حرف الغين) ]

- ‌(حرف الفاء) ]

- ‌(حرف القاف) ]

- ‌(حرف الكاف) ]

- ‌(حرف اللّام) ]

- ‌فهرسة الجزء الثالث من كتاب منتهى السول شرح شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌[الفصل الثاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة]

[الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة]

الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأل الله تعالى.. جعل باطن كفّيه

الفصل الثّاني) ؛ من الباب السابع (في) ذكر (بعض أذكار) جمع ذكر؛ وهو- لغة-: كلّ مذكور. وشرعا-: قول سيق لثناء؛ أو دعاء، وقد يستعمل شرعا لكلّ قول يثاب قائله؛ قاله ابن حجر في «التحفة» .

(و) في ذكر بعض (أدعية) ؛ جمع: دعاء، وهو: الطلب على سبيل التضرّع، وهو أفضل من تركه عند جمهور العلماء، وهو من أعظم العبادات.

(كان يقولها) أي: هذه الأذكار والأدعية

النبيّ صلى الله عليه وسلم في أوقات) وحالات (مخصوصة) ك: عند الكرب، وعند الخروج من بيته، وفي الصباح والمساء

ونحو ذلك.

أخرج الإمام أحمد- بسند فيه ابن لهيعة، وقال الهيثمي: رواه أحمد مرسلا بإسناد حسن، وفيه إيذان بضعف هذا المتصل المرويّ- عن السائب بن خلّاد رضي الله تعالى عنه؛ قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأل الله تعالى) خيرا (جعل باطن كفّيه) بالتثنية- وفي

ص: 184

إليه، وإذا استعاذ.. جعل ظاهرهما إليه.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصابته شدّة فدعا.. رفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه.

نسخة بالإفراد- (إليه، وإذا استعاذ) من شرّ (جعل ظاهرهما إليه) ؛ لدفع ما يتصوّره من مقابلة العذاب والشرّ، فيجعل يديه كالتّرس الواقي عن المكروه، ولما فيه من التفاؤل بردّ البلاء؛ قاله المناوي.

(و) أخرج أبو يعلى بإسناد حسن؛ عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابته شدّة) - بالتشديد ك: عدّة- (فدعا) في الصلاة برفع الشّدّة (رفع يديه) حال الدعاء، ففيه أنّه يندب رفع اليدين حال الدعاء، إذ قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه رفع يديه حال الدّعاء في مواطن كثيرة، وعلى ذلك قول بعضهم:

رفع اليدين سنّة حال الدّعا

فدع لمن يتركه مبتدعا

فخمسة وأربعون أثرا

فيه أتت عن أحمد خير الورى

فيها الضّعيف والصّحيح والحسن

فليس من يتركه على سنن «1»

قال المناوي: وحكمة الرفع: اعتياد العرب رفعهما عند الخضوع في المسألة؛ والذّلّة بين يدي المسؤل، وعند استعظام الأمر، والداعي جدير بذلك لتوجّهه بين يدي أعظم العظماء. ومن ثمّ ندب الرفع عند تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول؛ إشعارا بأنه ينبغي أن يستحضر عظمة من هو بين يديه حتى يقبل بكليّته عليه. انتهى.

فكان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه (حتّى يرى) - بالبناء للمجهول- (بياض إبطيه) ؛ أي:

لو كان بلا ثوب لرئي، أو كان ثوبه واسعا فيرى بالفعل، وذكر بعض الشافعية أنّه لم يكن بإبطيه شعر. قال في «المهمات» : وبياض الإبط كان من خواصّه صلى الله عليه وسلم، وأما

(1) بل ذكر الحافظ السيوطي- رحمه الله تعالى- أن أصل الرفع بلغ حد التواتر، ولا القضايا التي ورد فيها بأعيانها.

ص: 185

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدّعاء.. لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له.. بدأ بنفسه.

إبط غيره!! فأسود لما فيه من الشعر، وردّه الحافظ الزين العراقي بأن ذلك لم يثبت، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من بياض إبطه ألايكون له شعر، فإنّ الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض؛ وإن بقي فيه آثار الشعر. انتهى.

(و) أخرج الترمذي في «الدعوات» وقال: صحيح غريب، لكن جزم النووي في «الأذكار» بضعف سنده. وأخرجه أيضا الحاكم: كلاهما؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدّعاء لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه) ؛ تفاؤلا بحصول المراد.

قال المناوي في «شرح الجامع» : ففعل ذلك سنّة كما جرى عليه جمع شافعية؛ منهم النووي في «التحقيق» ؛ تمسّكا بعدّة أخبار هذا منها، وهي؛ وإن ضعفت أسانيدها؛ تقوّت باجتماعها، فقوله في «المجموع» «لا يندب» ؛ تبعا لابن عبد السلام، وقال: لا يفعله إلّا جاهل!! في حيّز المنع. انتهى كلام المناوي.

لكن قال الحفني: هذا المسح في غير الصلاة، أمّا في الصلاة! فلا يطلب المسح أصلا. انتهى. وكأنّ فيه جمعا بين القولين. والله أعلم.

(و) أخرج أصحاب السنن الثلاثة، وابن حبّان، والحاكم؛ عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه- وقال الترمذي: حسن صحيح، والحاكم: صحيح- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له) بخير (بدأ بنفسه) ؛ ثمّ ثنّى بغيره، ثم عمّم؛ اتباعا لملّة أبيه إبراهيم، فتتأكّد المحافظة على ذلك وعدم الغافلة عنه، وإن كان لا أحد أعظم من الوالدين، ولا أكبر حقّا على المؤمن منهما، ومع

ص: 186

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دعا لرجل.. أصابته الدّعوة، وولده وولد ولده.

وكان صلى الله عليه وسلم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب؛ ثبّت قلبي على دينك» ، فقيل له في ذلك؟ قال:«إنّه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله؛ فمن شاء.. أقام، ومن شاء.. أزاغ» .

ذلك قدّم الدعاء للنفس عليهما في القرآن في غير موضع، فغيرهما أولى. انتهى مناوي على «الجامع» .

(و) أخرج الإمام أحمد؛ عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما- قال العلقمي بجانبه علامة الصحة- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لرجل؛ أصابته الدّعوة، و) أصابت (ولده وولد ولده) ؛ أي: ذريته؛ أي: استجيب دعاؤه للرجل وذريته من بعده، وسكت عمّا لو دعا عليه!! لأنه قد سأل الله تعالى أن يجعل دعاءه رحمة على المدعوّ عليه.

(و) أخرج الترمذي- بسند فيه شهر بن حوشب؛ كما قال الهيثمي- عن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب) - المراد: تقليب أعراضها وأحوالها؛ لا ذواتها- (ثبّت قلبي على دينك» ) - بكسر الدال- وهذا تعليم للأمّة، وإلّا! فقلبه ثابت ودائم له ذلك لعصمته.

(فقيل له في ذلك!!) - يعني: قالت له أمّ سلمة لما رأته يكثر ذلك: إن القلوب لتتقلب؟!. (قال: «إنّه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله) يقلّبه الله كيف يشاء- (فمن شاء أقام) - قلبه على الدين الحقّ- (ومن شاء أزاغ» ) قلبه، أي: أماله إلى الدين الباطل.

قال المناويّ على «الجامع» : وتمامه عند الإمام أحمد: «فنسأل الله أن لّا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأل الله أنّ يهب لنا من لدنه رحمة؛ إنّه هو الوهّاب» . انتهى.

ص: 187

وكان صلى الله عليه وسلم أكثر دعوة يدعو بها: «ربنا؛ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ» .

قال الغزالي: إنّما كان ذلك أكثر دعائه! لاطّلاعه على عظيم صنيع الله تعالى في عجائب القلب؛ وتقلّبه، فإنّه هدف يصاب على الدوام من كلّ جانب، فإذا أصابه شيء وتأثّر؛ أصابه من جانب آخر ما يضادّه فيغيّر وصفه. وعجيب صنع الله في تقلّبه لا يهتدي إليه إلّا المراقبون بقلوبهم، والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى.

وقال ابن عربي: تقليب الله القلوب هو ما خلق فيها من الهمّ بالحسن والهمّ بالسوء. فلما كان الإنسان يحسّ بترادف الخواطر المتعارضة عليه في قلبه الذي هو عبارة عن تقليب الحقّ، وهذا لا يقتدر الإنسان على دفعه؛ كان ذلك أكثر دعائه.

يشير إلى سرعة التقليب من الإيمان إلى الكفر وما تحتهما فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)[الشمس] وهذا قاله للتشريع والتعليم. انتهى.

(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؛ قال صهيب: سأل قتادة أنسا: أيّ دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟!. قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر دعوة يدعو بها: ربّنا) بإحسانك (آتنا في الدّنيا) حالة (حسنة) لنتوصّل بها إلى الآخرة على ما يرضيك.

قال الحرالي: هي الكفاف من مطعم ومشرب وملبس ومأوى وزوجة؛ لا سرف فيها. (وفي الآخرة حسنة) من رحمتك التي تدخلنا بها جنّتك، (وقنا عذاب النّار» ) بعفوك وغفرانك.

قال الطيبي: إنما كان يكثر من هذا الدعاء!! لأنه من الجوامع التي تحوز جميع الخيرات الدنيوية والآخروية. وبيان ذلك: أنّه كرّر الحسنة؛ ونكّرها: تنويعا، وقد تقرّر في علم المعاني: أنّ النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى، فالمطلوب في الأولى: الحسنات الدنيوية من الاستعانة والتوفيق والوسائل التي بها

ص: 188

وكان صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.

وكان صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من خمس: من الجبن، والبخل،

اكتساب الطاعات والمبرّات، بحيث تكون مقبولة عند الله تعالى، والمطلوب في الثانية: ما يترتّب من الثواب والرضوان في العقبى.

وقوله «وقنا عذاب النّار» تتميم، أي: إن صدر منا ما يوجبها من التقصير والعصيان؛ فاعف عنا، وقنا عذاب النار. فحقّ لذلك أن يكثر من هذا الدعاء.

قال قتادة: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها. انتهى. كذا قرّره المناوي على «الجامع» رحمه الله تعالى.

(و) أخرج البخاريّ، ومسلم، والنسائي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من جهد) - بفتح الجيم وضمّها-: مشقّة (البلاء) - بالفتح والمد، ويجوز الكسر مع القصر- (ودرك) - بفتح الدال والراء وتسكّن-؛ وهو: الإدراك واللّحاق (الشّقاء) - بمعجمة ثم قاف-: الهلاك، ويطلق على الأمر الشاقّ المؤدّي إلى الهلاك (وسوء القضاء) ؛ أي: المقضي، والّا! فحكم الله كلّه حسن لا سوء فيه، (وشماتة الأعداء) : فرحهم ببليّة تنزل بالمعادي تنكأ القلب، أو تبلغ من النفس أشدّ مبلغ.

وقد أجمع العلماء في كلّ عصر ومصر على ندب الاستعاذة من هذه الأشياء، وردّوا على من شذّ من الزهّاد؛ قاله المناوي على «الجامع» .

(و) أخرج أبو داود في «الصلاة» ، والنسائي في «الاستعاذة» ، وابن ماجه في «الدعاء» - وسكت عليه أبو داود-: كلّهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من خمس؛ من 1- الجبن) - بضم الجيم وسكون الموحدة-؛ هو البخل بالنفس خوفا من الموت، فلا يقاتل الأعداء.

(و 2- البخل) ؛ أي: منع بذل الفضل لا سيما للمحتاج، وحبّ الجمع والادّخار.

ص: 189

وسوء العمر، وفتنة الصّدر، وعذاب القبر.

وكان يتعوّذ من الجانّ، وعين الإنسان.. حتّى نزلت المعوّذتان، فأخذ بهما وترك ما سواهما.

(و 3- سوء العمر) ؛ أي: عدم البركة فيه، بأن يخلّ بالواجبات ولا يصرفه في الطاعات:

من بارك الله له في عمره

أدرك في مديدة من برّه

ما لم تكن تحصره العباره

ولم تكد تلحقه الإشاره

(و 4- فتنة الصّدر) - بفتح الصاد وسكون الدال المهملتين- أي: القلب، أي: الأمور القبيحة التي تكون في القلب؛ كالحقد، والكبر، والغلّ، والحسد، والعقيدة الزائغة. وهذا تعليم للأمة، وإلّا! فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك.

(و 5- عذاب القبر» ) أي: التعذيب فيه بنحو ضرب، أو نار، أو غيرهما على ما وقع التقصير فيه من المأمورات أو المنهيّات، والقصد بذلك تعليم الأمّة كيف يتعوّذون.

(و) أخرج الترمذي- وقال: حسن غريب- والنسائي، وابن ماجه، والضياء في «المختارة» ؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه.

أنّ النبي صلى الله عليه وسلم (كان يتعوّذ من الجانّ)، أي: يقول: «أعوذ بالله من الجانّ (وعين الإنسان)، من: ناس ينوس إذا تحرّك، وذلك يشترك فيه الجنّ والإنس، وعين كلّ ناظر (حتّى نزلت المعوّذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما) ؛ أي: ممّا كان يتعوّذ به من الكلام غير القرآن، لما ثبت أنّه كان يرقي بالفاتحة، وفيهما الاستعاذة بالله، فكان يرقي بها تارة، ويرقي بالمعوّذتين أخرى؛ لما تضمّنتاه من الاستعاذة من كلّ مكروه، إذ الاستعاذة من شرّ ما خلق تعمّ كلّ شرّ يستعاذ منه في الأشباح والأرواح، والاستعاذة من شر الغاسق- وهو الليل وآفته؛ أو القمر إذا غاب- يتضمّن الاستعاذة من شرّ ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة، والاستعاذة من شرّ

ص: 190

وكان صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من موت الفجاءة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى.. يدعو بهذه الدّعوات: « (اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير،

النفّاثات تتضمّن الاستعاذة من شرّ السواحر وسحرهنّ، والاستعاذة من شرّ الحاسد تتضمّن الاستعاذة من شرّ النفوس الخبيثة المؤذية.

والسورة الثانية تتضمّن الاستعاذة من شرّ الإنس والجنّ.

فجمعت السورتان الاستعاذة من كل شرّ، فكانتا جديرتين بالأخذ بهما وترك ما عداهما.

قال ابن حجر: هذا لا يدلّ على المنع من التعوّذ بغير هاتين السورتين، بل يدلّ على الأولوية؛ لا سيما مع ثبوت التعوّذ بغيرهما.

وإنما اكتفى بهما!! لما اشتملتا عليه من جوامع الكلم، والاستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلا؛ قاله المناوي على «الجامع» .

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من موت الفجاءة) - بالضمّ والمدّ، و [الفجأة] يفتح ويقصر: البغتة-.

(وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت) ، وقد وقع ذلك، فإنه مرض في ثاني ربيع الأول؛ أو ثامنه؛ أو عاشره، ثمّ امتدّ مرضه اثني عشر يوما.

(و) أخرج أبو يعلى، وابن السنّي- بإسناد حسن؛ كما في العزيزي- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى) ؛ أي إذا دخل في الصباح والمساء (يدعو بهذه الدّعوات: «اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير) - بضم

ص: 191

وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) ؛ فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى.. قال:

«أصبحنا على فطرة

الفاء والمد- كذا الرواية؛ وإن صحّ القصر في لغة؛ على وزان «تمرة» أي: من الخير الذي يأتي بغتة، ويقال مثل ذلك فيما بعد؛ قاله الحفني.

(وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) . هذا آخر الدعاء.

قال ابن القيّم: من جرّب هذا الدعاء عرف قدر فضله، وظهر له جموم «1» نفعه، وهو يمنع وصول أثر العائن، ويدفعه بعد وصوله؛ بحسب قوة إيمان العبد القائل وقوّة نفسه واستعداده وقوّة توكّله وثبات قلبه، فإنّه سلاح والسلاح يضارب به. انتهى، ذكره المناوي؛ على «الجامع» .

وأما قوله (فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» ) ، فإنّما هو بيان منه صلى الله عليه وسلم لوجه طلب الدعاء، فلا يقوله الداعي؛ بل يقتصر على حدّ «من فجاءة الشرّ» ، فمن قال ذلك حفظ من بغتة الشرّ إلى المساء أو الصباح.

(و) أخرج الإمام أحمد، والطبراني في «الكبير» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ، وابن السنّي في «اليوم والليلة»

وقال النووي في «الأذكار» : إسناده صحيح، وقال العراقي في «المغني» :

إسناده صحيح، وقال الحافظ الهيثمي: رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح-:

كلهم؛ من طريق عبد الرحمن بن أبزى- بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالزاي وألف مقصورة- الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث- مختلف في صحبته- قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى؛ قال: «أصبحنا على فطرة)

(1) هكذا في الأصل، وكذا في المناوي؛ على «الجامع» !!. وهو بمعنى العموم مع الوفرة والكثرة.

ص: 192

الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» .

- بكسر الفاء- (الإسلام) ؛ أي: دينه الحق، وقد ترد الفطرة بمعنى السّنّة.

(وكلمة الإخلاص) ، هي كلمة الشهادة، (ودين نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، الظاهر أنّه قال [ذلك] تعليما لغيره. ويحتمل أنّه جرّد من نفسه نفسا يخاطبها.

قال ابن عبد السلام في «أماليه» : و «على» في مثل هذا تدلّ على الاستقرار والتمكّن من ذلك المعنى، لأن الجسم إذا علا شيئا تمكّن منه واستقرّ عليه، ومنه أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [5/ البقرة] . قال النووي في «الأذكار» : لعله صلى الله عليه وسلم قال ذلك جهرا ليسمعه غيره؛ فيتعلّمه منه. انتهى مناوي على «الجامع» .

(وملّة أبينا إبراهيم) الخليل (حنيفا) : مائلا إلى الدين المستقيم، (مسلما؛ وما كان من المشركين» ) .

قال العلقمي في «شرح الجامع الصغير» : قال شيخنا- يعني السيوطي-:

فائدة؛ وهي عزيزة النقل: فرع أوّل المساء: من الزوال. ذكره الفقهاء عند كلامهم على كراهة السّواك للصائم بعد الزوال، أما الصباح!! فقلّ من تعرّض له، وطالما فحصت عنه!! إلى أن وقفت عليه في ذيل «فصيح ثعلب» للعلّامة موفق الدين البغدادي قال: الصباح عند العرب: من نصف الليل الأخير إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول. انتهى ما نقله.

قلت: ومن فوائده أنه يشرع ذكر الألفاظ الواردة في الأذكار المتعلّقة بالصباح والمساء، وهذا واضح في «الأذكار» التي فيها ذكر المساء والصباح، أمّا التي فيها ذكر اليوم والليلة!! فلا يتأتّى فيها ذلك إذ أوّل اليوم شرعا من طلوع الفجر، والليل من غروب الشمس. انتهى.

وقال ابن حجر في «شرح المشكاة» - بعد كلام الموفّق-: والظاهر أنّ المراد في الأحاديث بالمساء: أوائل الليل، وبالصباح: أوائل النهار.

ص: 193

.........

ثم رأيتني في «شرح سيد الاستغفار» ذكرت لذلك زيادة؛ وهي قوله: ومن إطلاقه المساء على ما ذكر- أي: من غروب شمس اليوم، والصباح على ما يأتي، أي: طلوع الفجر- يؤخذ ما قرّرناه سابقا أنّ الأذكار المقيّدة بالصباح والمساء ليس المراد منها حقيقتهما من نصف الليل إلى الزوال في الأول، ومنه إلى نصف الليل في الثاني؛ كما نقل عن ثعلب! وإنما المراد بهما العرف: من أوائل النهار في الأول، وآخره في الثاني.

ويؤيّده أنّ ابن أمّ مكتوم الأعمى مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يؤذّن الأذان الثاني الذي هو علامة على الفجر الصادق حتى يقال له «أصبحت

أصبحت» . وفي الصباح ابتداؤه من هذا الوقت وما قرب منه؛ لا من نصف الليل، وشروع الأذان منه عندنا لا يدلّ على أنّه من حينئذ لا يسمّى «صباحا» . انتهى.

وسبقه لذلك ابن الجزري؛ فقال: من قال «إنّ ذكر المساء يدخل بالزوال» ؛ فكيف يعمل في قوله «أسألك خير هذه اللّيلة وما بعدها» !! وهل تدخل الليلة إلّا بالغروب!؟ انتهى.

وسبقه أيضا لذلك العلامة الرداد؛ وزاد بيان آخر الوقت في كلّ منهما؛ فقال في «موجبات الرحمة وعزائم المغفرة» : وقت أذكار الصباح: من طلوع الفجر إلى أن تكون الشمس من ناحية المشرق كهيئتها من ناحية المغرب عند العصر، ووقت أذكار المساء: من بعد صلاة العصر إلى المغرب إلى أن يمضي ثلث الليل أو نصفه.

والله أعلم.

وقال ابن حجر في «شرح المشكاة» ؛ في الكلام على حديث عثمان «ما من عبد يقول في صباح كلّ يوم ومساء كلّ ليلة

» الخ. قال «ثمّ» في صباح ومساء، وحين يصبح وحين يمسي أنّه لو قال أثناء النهار؛ أو الليل لا تحصل له تلك الفائدة، وعظيم بركة الذكر يقتضي الحصول. انتهى. ذكر جميع ذلك الشيخ العلامة محمد بن علي بن علّان الصديقي في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى آمين.

ص: 194

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أصابه غمّ أو كرب.. يقول:

«حسبي الرّبّ من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أهمّه الأمر.. رفع رأسه إلى السّماء (و) أخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب «الفرج بعد الشدة» ؛ من طريق الخليل بن مرّة الضبعي؛ عن فقيه أهل الأردن بلاغا؛ أي قال:

بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه (كان صلى الله عليه وسلم إذا أصابه غمّ) ؛ أي: حزن، سمّي به!! لأنه يغطّي السرور. (أو كرب) أي: همّ (يقول: «حسبي الرّبّ من العباد) أي: كافيني من شرّهم- (حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي

حسبي الله ونعم الوكيل) - أي: نعم من يفوّض له الأمر هو- (حسبي الله؛ لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» ) الذي ضمّني إليه وقرّبني منه، ووعدني بالجميل والرجوع إليه.

قال الحكيم: قد جعل الله في كلّ موطن سببا وعدة لقطع ما يحدث فيه من النوائب، فمن أعرض عن السبب والعدة ضرب عنه صفحا، ومن اغتنى بالله كافيا وحسيبا وأعرض عما سواه؛ وقال «حسبي الله» عند كل موطن؛ ومن كلّ أحد كفاه الله، وكان عند ظنّه؛ إذ هو عبد تعلّق بربّه، ومن تعلّق به لم يخيّبه، وكان في تلك المواطن محفوظا، فإذا ردّد العبد هذه الكلمات بإخلاص عند الكرب نفعته نفعا عظيما، وكنّ له شفيعا إلى الله تعالى في كفايته شرّ الخلق، ورزقه من حيث لا يحتسب، وكان الله بكل خير إليه أسرع. انتهى.

(و) أخرج الترمذي؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أهمّه الأمر رفع رأسه إلى السّماء) ، لأنها قبلة

ص: 195

وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء.. قال:«يا حيّ يا قيّوم» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل به همّ أو غمّ.. قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» .

الدعاء؛ (وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء قال: «يا حيّ يا قيّوم» ) .

أخذ منه أنه الاسم الأعظم، والراجح أنه لفظ «الله» . وعدم الاستجابة فورا! لنقص في الدعاء. و «قيّوم» من أبنية المبالغة، ومعنى القيوم: القائم بمصالح عباده.

وأخذ الحليمي من الخبر أنّه يندب أن يدعو الله بأسمائه الحسنى، قال:

ولا يدعوه بما لا يخلص ثناء؛ وإن كان في نفسه حقا.

(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» في «الدعاء» ؛ عن وضّاح؛ عن النضر بن إسماعيل البجلي؛ عن عبد الرحمن بن إسحاق؛ عن القاسم بن عبد الرحمن؛ عن أبيه؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- وقال الحاكم:

صحيح. وردّه الذهبي؛ بأن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه!! وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة!!. انتهى. ذكره المناوي؛ على «الجامع» - قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل به همّ أو غمّ؛ قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» ) : أستعين وأستنصر، يقال: أغاثه الله: أعانه ونصره، وأغاثه الله برحمته: كشف شدّته.

وقد روى هذا الحديث الترمذيّ؛ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه بلفظ:

إذا كربه أمر؛ قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك استغيث» .

قال المناوي على «الجامع» : في تأثير هذا الدعاء في دفع هذا الهمّ والغمّ مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمّنة لجميع صفات الكمال؛ مستلزمة لها،

ص: 196

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض وربّ العرش الكريم» .

وصفة القيّوميّة متضمّنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا قيل: إن الاسم الأعظم هو «الحي القيوم» ، والحياة التامّة تضادّ جميع الآلام والأجسام الجسمانية والروحانية، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم همّ ولا غمّ، ونقصان الحياة يضرّ بالأفعال وينافي القيومية. فكمال القيومية بكمال الحياة، فالحيّ المطلق التامّ الحياة لا يفوته صفة كمال البتّة. والقيّوم لا يتعذّر عليه فعل ممكن البتة، فالتوسّل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضادّ الحياة ويغيّر الأفعال؛ فاستبان أن لاسم «الحيّ القيّوم» تأثيرا خاصّا في كشف الكرب وإجابة الدعاء.

انتهى.

(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه؛ كلهم في (الدعوات) ؛ عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب) ؛ أي: عند حلوله يقول:

( «لا إله إلّا الله العظيم) : الذي لا شيء يعظم عليه، (الحليم) : الذي يؤخّر العقوبة مع القدرة، (لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض، وربّ العرش الكريم» ) روي برفع «العظيم» و «الكريم» على أنهما نعتان ل «ربّ» ، والثابت في رواية الجمهور: الجرّ نعت العرش.

قال المناوي في «شرح الجامع» : هذا دعاء جليل ينبغي الاعتناء به، والإكثار منه عند العظائم؛ فيه التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة الدالّة على تمام القدرة، والحلم الدالّ على العلم، إذ الجاهل لا يتصوّر منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية.

قال الإمام ابن جرير: كان السلف يدعون به ويسمّونه «دعاء الكرب» ؛ وهو؛

ص: 197

وكان صلى الله عليه وسلم إذا راعه شيء.. قال: «الله.. الله ربّي لا شريك له» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أمرا.. قال: «اللهمّ؛ خرلي واختر لي» .

وإن كان ذكرا! لكنه بمنزلة الدعاء، لخبر:«من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائل» .

فائدة: قال ابن بطّال؛ عن أبي بكر الرازي: كنت بإصبهان عند أبي نعيم، وهناك شيخ يسمى «أبا بكر» عليه مدار الفتيا، فسعي به عند السلطان فسجن، فرأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه؛ يحرّك شفتيه بالتسبيح لا يفتر، فقال لي المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر يدعو ب «دعاء الكرب» الذي في «صحيح البخاري» حتى يفرّج الله عنه، فأصحبت فأخبرته، فدعا به؛ فلم يكن إلّا قليلا حتى أخرج. والمدار على صدق النية. انتهى.

(و) أخرج النسائي- بسند حسن؛ كما في العزيزي، لكن قال المناوي: فيه سهل بن هاشم الشامي؛ قال في «الميزان» عن الأزدي: منكر الحديث، ثم ساق له هذا الخبر، وقال أبو داود: هو فوق الثقة لكن يخطئ في الأحاديث. انتهى عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا راعه شيء) من الرّوع: الفزع والخوف، أي: إذا أفزعه شيء؛ (قال «الله

الله؛ ربّي لا شريك له» ) أي: لا مشارك له في ملكه، وهذا تعليم للأمّة، فيسنّ قول ذلك عند الفزع والخوف.

(و) أخرج الترمذي- بسند ضعيف؛ كما قال ابن حجر والنووي- عن أبي بكر الصّديق رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أمرا) ؛ أي:

فعل أمر من الأمور؛

(قال: «اللهمّ؛ خر لي) - أي: فوّضت أمري إليك أن تختار لي ما فيه خير، وتدفع عني ما فيه شرّ- ( «واختر لي» ) . أصلح الأمرين واجعل لي الخيرة

ص: 198

وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل به أمر.. فوّض الأمر فيه إلى الله عز وجل، وتبرّأ من الحول والقوّة، وسأله الهدى واتّباعه، وسأله البعد عن الضّلالة. وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمر يسرّ به.. خرّ ساجدا شكرا لله تعالى.

فيه؛ أي: إذا كان الأمران خيرا فاختر لي الأكثر خيرا منهما، فالخيرات كلّها من خيرته، والصفوة من الخيرات مختاره، فلا تكرار.

(و) في «كشف الغمة» للعارف الشعراني رحمه الله تعالى:

(كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل به أمر) أي: هجم عليه حزن أو همّ؛ (فوّض الأمر فيه إلى الله عز وجل ؛ أي: ردّه إليه وجعله الحاكم فيه، (وتبرّأ من الحول والقوّة) إلى حول الله وقوّته، (وسأله الهدى) إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم (واتّباعه) ، وأطلق «الهدى» !! ليتناول كلّ ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، (وسأله البعد عن الضّلالة) أي: الهلاك بعدم التوفيق للرشاد، وهذا تشريع وتعليم للأمّة ما ينفعها.

(و) أخرج الترمذيّ في آخر «الجهاد» - وقال: حسن غريب؛ لا يعرف إلّا من هذا الوجه- وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم في «الصلاة» ؛ كلّهم من حديث بكّار بن عبد العزيز بن أبي بكرة؛ عن أبيه؛ عن جدّه: أبي بكرة رضي الله تعالى عنه- قال الحاكم: وبكّار صدوق، وللخبر شواهد. وقال عبد الحق: فيه بكار؛ وليس بقويّ. وقال ابن القطّان: لكنه مشهور مستور، وقد عهد قبول المستورين.

انتهى مناوي على «الجامع» . وقال العزيزي: إنّه حديث حسن لغيره، - قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه) - لفظ رواية الحاكم: «إذا أتاه» - (أمر) أي: أمر عظيم كما يفيده التنكير (يسرّ به) أي: بغتة، فلا يسنّ سجود الشكر لكلّ نعمة كدوام العافية والجاه، وإلّا! لزم استغراق العمر في سجود الشكر. وقوله (خرّ ساجدا شكرا لله تعالى) ؛ أي: سقط على الفور هاويا إلى إيقاع سجدة الشكر لله تعالى؛ على ما أحدث له من السرور، فسجدة الشكر سنّة عند حدوث نعمة، وكذا عند اندفاع نقمة، والسجود أقصى حالة العبد في التواضع لربّه؛ وهو: أن

ص: 199

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته.. قال: «باسم الله، التّكلان على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . رواه أبو هريرة

يضع مكارم وجهه بالأرض، وينكّس جوارحه. وهكذا يليق بالمؤمن كلّما زاده ربّه محبوبا ازداد له تذلّلا وافتقارا، فبه ترتبط النعمة ويجتلب المزيد لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [7/ إبراهيم] .

والمصطفى صلى الله عليه وسلم أشكر الخلق للحقّ لعظم يقينه؛ فكان يفزع إلى السجود.

وفيه 1- حجّة للشافعي في ندب سجود الشكر عند حدوث سرور؛ أو دفع بلية.

2-

وردّ على أبي حنيفة في عدم ندبه. وقوله «لو ألزم العبد بالسجود لكلّ نعمة متجدّدة كان عليه ألايغافل عن السجود طرفة عين، فإنّ أعظم النعم نعمة الحياة؛ وهي متجدّدة بتجدّد الأنفاس» .

وردّ بأن المراد سرور يحصل عند هجوم نعمة ينتظر أن يفجأ بها مما يندر وقوعه، ومن ثمّ قيّدها في الحديث بالمجيء على الاستعارة؛ قاله المناوي على «الجامع» رحمه الله تعالى.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته؛ قال: «باسم الله) أي: أعتصم، زاد الغزالي في «الإحياء» : «الرّحمن الرّحيم» ، (التّكلان) - بضم التاء:

الاعتماد- (على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ) ؛ أي: لا تحوّل لنا عن المعصية، ولا قوّة لنا على الطاعة إلّا بتيسير الله وإقداره.

قال الحفني على «الجامع» : وقد ورد أنّ الشخص إذا خرج إلى السفر؛ فقال أوّل توجّهه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم توكّلت على الله» ، وقرأ آية الكرسي؛ كان محفوظا في سفره إلى أن يرجع إلى محلّه.

وإنّما أمر الشخص بقول ذلك عند الخروج من منزله!! لأن مخالطة الناس ربّما توقع فيما لا يليق. انتهى.

وهذا الحديث (رواه أبو هريرة) : عبد الرحمن بن صخر اليماني الدّوسي

ص: 200

رضي الله تعالى عنه.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته.. قال:

«باسم الله، توكّلت على الله، اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ أو نضلّ، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا» . روته أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها.

(رضي الله تعالى عنه) فيما أخرجه ابن ماجه وابن السّنّي، والحاكم- وفي العزيزي: قال الشيخ: حديث حسن، لكن قال المناوي؛ عن العراقي: فيه ضعف انتهى-:

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته؛ قال: «باسم الله، توكّلت على الله) ؛ أي: اعتمدت عليه في جميع أموري، (اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ) بفتح النون وكسر الزاي-، من الزّلل؛ أي: من أن نقع في معصية.

(أو نضلّ) - بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- عن الحق؛ من الضلالة.

(أو نظلم) - بفتح النون وكسر اللام- (أو نظلم) - بضم النون وفتح اللام- (أو نجهل) - بفتح النون- على أحد. (أو يجهل) - بضم الياء- (علينا» ) أي:

أن نفعل بغيرنا ما يضرّه؛ أو يفعل بنا غيرنا ما يضرّنا. والقصد من ذلك تعليم الأمة، وإلّا! فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الظلم والجهل وغيرهما.

(روته أمّ سلمة) زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدّمت ترجمتها (رضي الله تعالى عنها) ؛ فيما أخرجه عنها الترمذي في «الدعوات» ، وابن السنّي، والنسائي في «الاستعاذة» لكن ليس في لفظه «توكّلت على الله» !!. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وقال في «رياض الصالحين» : حديث صحيح؛ رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. انتهى.

(و) أخرج أبو داود بإسناد جيّد- كما في «الأذكار» ، وفي العزيزي: إنه حديث حسن- عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنهما قال:

ص: 201

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد.. قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم؛ من الشّيطان الرّجيم» . وقال: «إذا قال ذلك.. حفظ منه سائر اليوم» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد.. يقول:

«باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد؛ قال) حال شروعه في دخوله:

( «أعوذ بالله العظيم) أي: ألوذ بملاذه، وألجأ إليه مستجيرا به،

(وبوجهه الكريم) أي: ذاته، إذ الوجه يعبّر به: 1- عن الذات بشهادة كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [88/ القصص] أي: ذاته، و 2- عن الجهة؛ كما في قوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [115/ البقرة] أي: جهته؛ قاله المناوي على «الجامع» .

(وسلطانه القديم) على جميع الخلائق قهرا وغلبة (من الشّيطان الرّجيم» ) أي: المرجوم.

(وقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم: ( «إذا قال) ؛ أي: ابن آدم (ذلك؛ حفظ منه) ؛ أي: من الشيطان؛ أي: من وسوسته (سائر اليوم» ) أي: جميع ذلك اليوم الذي يقول فيه هذا الذكر.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد؛ يقول: «باسم الله، والسّلام على رسول الله) أبرز اسمه الميمون على سبيل التجريد عند ذكره، التجاء إلى منصب الرسالة، ومنزل النبوة!! تعظيما لشأنها كأنّه غيره امتثالا لأمر الله في قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [56/ الأحزاب] . قاله المناوي؛ على «الجامع» . (اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» ، وإذا خرج؛ قال: «باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي

ص: 202

أبواب فضلك» . روته فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنها.

أبواب فضلك» ) .

خصّ الرحمة بالدخول؛ والفضل بالخروج!! لأنّ من دخل اشتغل بما يزلفه إلى الله تعالى وثوابه؛ فناسب ذكر الرحمة، فإذا خرج انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله من الرزق؛ فناسب ذكر الفضل.

وطلب المغفرة في هذا الخبر تشريع لأمّته، لأن الإنسان محلّ التقصير في سائر الأحيان؛ قاله المناوي، على «الجامع» .

(روته) البضعة الطاهرة (فاطمة) بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشبه الناس به، سيّدة نساء العالمين، ولقبها (الزّهراء) !! قيل: لأنها لم تحض أصلا، ولقبها «البتول» !! لتبتّلها؛ أي: انقطاعها إلى الله عز وجل.

ولدت قبل النبوة بخمس سنين، روى الدولابي: أن العبّاس دخل على عليّ وفاطمة وهما يتراجعان في مواليدهما؛ فقال العباس: ولدت يا علي قبل بناء الكعبة بسنوات، وولدت فاطمة وهي تبنى.

وقيل: ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم.

وتزوّجها في السنة الثانية من الهجرة. قيل: ولها يومئذ خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، ولعليّ يومئذ إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر.

وكان تزوّجها في صفر، وبنى بها في ذي الحجة بعد وقعة أحد، ولم يتزوّج عليّ غيرها حتّى ماتت؛ كأمّها خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

واشتهر أن عليّا أصدقها درعه التي منحه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وتسمّى «الحطميّة» وقيل: أصدقها أربعمائة مثقال فضة، واشتهر في كتب الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد في صداق بناته وأزواجه على خمسمائة درهم.

وحضر عقدها جماعة من النبلاء، ودعا صلى الله عليه وسلم برطب وزبيب؛ وقال «انتهبوا» .

ص: 203

.........

وروي أنّه خطبها قبل علي جمع من الصحابة، وأنّ تزويجها من عليّ كان بوحي من الله، ودعا لهما النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعا؛ وقال:«جمع الله شملكما، وسعد جدّكما وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيّبا» . قال جابر: رضي الله عنهما؛ فوالله؛ لقد أخرج الله منهما الكثير الطيّب.. ولدت الحسن والحسين، قيل:

ومحسن، وأم كلثوم، وزينب.

وتوفيت رضي الله تعالى عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستّة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر.

وقيل غير ذلك؛ ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة- 11- إحدى عشرة. واختلف في سنّها يوم وفاتها!! فقيل: ثمان وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون. وقطع الحافظ ابن حجر أنّها ماتت؛ وقد جاوزت العشرين بقليل، والخلاف في عمرها بحسب الخلاف في ميلادها.

وغسّلها عليّ وأسماء بنت عميس، وكانت أوصتها بذلك؛ وقالت لها: يا أسماء! إني أستقبح أن يطرح على المرأة ثوب وتحمل على النعش كالرجل، فوصفت لها أسماء فعل أهل الحبشة، ودعت بجرائد رطبة فأرتها ذلك، فأوصتها أن يعمل لها مثله، فهي أوّل من غطّي نعشه.

ودفنت ليلا، وتولّى ذلك عليّ والعبّاس وأخفي قبرها.

وذكر ابن عبد البرّ: أن الحسن دفن إلى جنب أمّه. انتهى.

وقبر الحسن معروف في قبّة واحدة هو والعبّاس بن عبد المطلب.

ويؤيّد ذلك ما ذكره المحبّ الطبري في «تاريخ المدينة المنورة» : أنّ الشيخ أبا العباس المرسيّ كان يسلّم على فاطمة أمام قبّة العباس، ويذكر أنّه كشف له عن قبرها ثمّ. ذكر هذه الترجمة الشيخ محمد بن علي بن علّان الصدّيقي المكي في «شرح الأذكار» رحمه الله تعالى، و (رضي الله تعالى عنها) فيما أخرجه عنها الإمام أحمد، وابن ماجه، والطبراني.

قال مغلطاي: حديث فاطمة هذا حسن، لكن إسناده ليس بمتّصل. انتهى؛

ص: 204

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد.. قال:

«باسم الله، اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» . رواه أنس رضي الله تعالى عنه.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل السّوق.. قال:

«باسم الله، اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق وخير ما فيها، نقله المناوي؛ على «الجامع» رحمه الله تعالى.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد؛ قال: «باسم الله، الّلهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» ) ، أورده المصنف عقب ما تقدّم!! إشعارا بندب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه كما يشرع السلام عليه أيضا عند دخول المسجد، لأنّه محلّ الذكر.

(رواه أنس رضي الله تعالى عنه) فيما أخرجه ابن السّنّي في كتاب «عمل اليوم والليلة» بدون ذكر الأزواج. قال السخاوي: وفي سنده من لا يعرف. قال النووي في «الأذكار» : وروينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، من رواية ابن عمر أيضا. انتهى كلامه.

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» في «باب الدعاء» بإسناد ضعيف: كلاهما؛ عن بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل السّوق) أي: أراد دخولها؛ (قال) عند الأخذ فيه: « (باسم الله) - ادخلها- (اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق) بضمّ المهملة، مؤنّث سماعي وقد يذكّر؛ كما أشار إليه الكرماني.

سمّيت بذلك!! لسوق البضائع إليها، وقيل: لقيام الناس فيها على سوقهم؛ جمع ساق، وقيل: لتصاكك السّوق فيها من الازدحام-.

(وخير ما فيها) - مما ينتفع به من الأمور الدنيوية، ويستعان به على القيام بوظائف العبودية، وللوسائل حكم المقاصد-.

ص: 205

وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء

(وأعوذ بك من شرّها) في ذاتها؛ أو مكانها لكونها مكان إبليس.

(وشرّ ما فيها) أي: من شر ما خلق ووقع فيها، وسيق إليها مما يشغل عن ذكر الربّ سبحانه، أو مخالفة من غشّ، أو خيانة، أو ارتكاب عقد فاسد

وأمثال ذلك.

وقد ورد أن الشيطان يدخل السوق مع أول داخل؛ ويخرج مع آخر خارج.

(اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة) ؛ أي: حلفا كاذبا، (أو صفقة خاسرة» )، أي: عقدا فيه خسارة دنيوية؛ أو دينية، وذكرهما تخصيص بعد تعميم، لكونهما أهمّ، ووقوعهما أغلب.

قال المناوي على «الجامع» : وإنما سأل خيرها واستعاذ من شرّها!! لاستيلاء الغافلة على قلوب أهلها حتّى اتخذوا الأيمان الكاذبة شعارا، والخديعة بين المتبايعين دثارا، فأتى بهذه الكلمات ليخرج من حال الغافلة. فيندب لمن دخل السوق أن يحافظ على قول هذا الذكر، فإذا نطق الرجل بهذه الكلمات؛ كان فيه تحرّزا عمّا يكون من أهل الغافلة فيها، وهذا مؤذن بمشروعية دخول السوق، أي:

إذا لم يكن فيه حال الدخول معصية كالصّاغة، وإلّا! حرم. انتهى.

(و) أخرج ابن السنّي في «عمل اليوم والليلة» ؛ من طريق إسماعيل بن رافع؛ عن دريد بن نافع؛ عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما- وقال المنذري: هذا حديث ضعيف. وقال العراقي: إسماعيل مختلف فيه، ورواية دريد بن نافع عن ابن عمر منقطعة، وفي العزيزي: إنّ هذا الحديث حسن لغيره قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل) أي: أراد أن يدخل (الخلاء) أصله المحلّ

ص: 206

قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس، الخبيث المخبث، الشّيطان الرّجيم» . وإذا خرج.. قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته، وأبقى فيّ قوّته، وأذهب عنّي أذاه» .

الذي لا أحد به، ويطلق على المعدّ لقضاء الحاجة، ويكنّى به عن إخراج الفضلة المعهودة، قال الوليّ العراقيّ: والأوّلان حقيقيان، والثالث مجازي. قال:

فيحتمل أن المراد في الحديث الأول؛ ويوافقه أن الإتيان بهذا الذكر لا يختصّ بالبنيان عند الفقهاء. وأن المراد الثاني؛ ويوافقه لفظ «الدخول» . انتهى. نقله المناوي على «الجامع» .

(قال) عند شروعه في الدخول: ( «الّلهمّ؛ إنّي أعوذ) أي: ألوذ وألتجئ (بك من الرّجس النّجس) - قال العلقمي: بكسر الراء والنون وسكون الجيم فيهما، لأنه من باب الإتباع؛ وهو أنواع. فمنه: إتباع حركة فاء كلمة حركة فاء أخرى، لكونها قرنت معها. وسكون عين كلمة لسكون عين كلمة أخرى، أو حركتها كذلك. انتهى؛ نقله العزيزي-.

(الخبيث) في نفسه (المخبث) لغيره- بضمّ الميم فسكون الخاء المعجمة؛ فكسر الموحدة- أي: الذي يوقع الناس في الخبائث والنجاسات الحسيّة والمعنوية؛ أي: يفرح بوقوعهم فيها (الشّيطان الرّجيم» ) ؛ أي: المرجوم.

(وإذا خرج؛ قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته) - أي: المأكول والمشروب- (وأبقى فيّ) - بتشديد الياء- (قوّته، وأذهب عنّي أذاه» ) بإذهاب فضلته.

وخصّ هذا الدعاء بالخارج من الخلاء!! للتوبة من تقصيره في شكر النعمتين المنعم على العبد بهما، وهما: 1- ما أطعمه ثم هضمه ثم سهّل خروج الأذى منه. و 2- أبقى فيه قوّة ذلك.

ص: 207

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الجبّانة.. يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانية، والأبدان البالية، والعظام النّخرة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بالله مؤمنة، اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا منك وسلاما منّا» .

(و) أخرج ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» ؛ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الجبّانة) - بالجيم والموحدة المشدّدة المفتوحتين-: محلّ الدفن. سمّي به!! لأنه يجبن ويفزع عند رؤيته، ويذكر الحلول فيه.

وقال ابن الأثير: الجبّانة الصحراء، وتسمّى بها المقابر!! لأنها تكون في الصحراء؛ تسمية للشيء باسم موضعه. ذكره المناوي؛ على «الجامع» .

(يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانيّة) ؛ أي: الفاني أجسادها، إذ الأرواح لا تفنى، ولذا أتى بالجملة بعدها مفسّرة لذلك، أعني قوله:

(والأبدان البالية) ؛ أي: في غير نحو الشهداء ممن لا تبلى أجسادهم؛ المنظومة في قول بعضهم:

لا تأكل الأرض جسما للنّبيّ ولا

لعالم وشهيد قتل معترك

ولا لقارئ قرآن ومحتسب

أذانه لإله مجري الفلك

وزيد من صار صدّيقا كذلك من

غدا محبّا لأجل الواحد الملك

ومن يموت بطعن والرّباط ومن

كثير ذكر وهذا أعظم النّسك

(والعظام النّخرة) : المتفتّتة، تقول: نخر العظم نخرا من باب «تعب» :

بلي وتفتّت؛ فهو نخر وناخر (الّتي خرجت) - صفة للأرواح- (من الدّنيا؛ وهي بالله) ؛ لا بغيره كما يؤذن به تقديم الجارّ والمجرور على قوله (مؤمنة) أي:

مصدّقة موقنة. (اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا) - بفتح الراء-؛ أي سعة واستراحة ورحمة (منك وسلاما منّا) .

ص: 208

قوله: (الأرواح الفانية) أي: الفانية أجسادها.

قال المناوي على «الجامع» : أي دعاء مقبولا، وأخذ ابن تيمية من مخاطبته للموتى أنّهم يسمعون، إذ لا يخاطب من لا يسمع، ولا يلزم منه أن يكون السمع دائما للميت، بل قد يسمع في حال؛ دون حال، كما يعرض للحيّ، فإنّه قد لا يسمع الخطاب لعارض، وهذا السمع سمع إدراك لا يترتّب عليه جزاء؛ ولا هو السمع المنفيّ في قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [80/ النمل] ، إذ المراد به سمع قبول وامتثال أمر، ولذلك قال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى:

سماع موتى كلام الخلق قاطبة

جاءت به عندنا الآثار في الكتب

وآية النّفي معناها سماع هدى

لا يهتدون ولا يصغون للأدب

قال الحفني: وفي رواية: «إنّ من دخل الجبّانة؛ فقال (السّلام عليكم ورحمة الله دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، الّلهمّ ربّ هذه الأرواح الفانية، والأجساد البالية، والعظام النّخرة، والجلود الممزّقة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بك مؤمنة؛ أنزل عليها رحمة من عندك وسلاما منّي) غفر له بعدد من مات من لدن خلق آدم إلى أن تقوم السّاعة» .

قال شيخنا: وهذا الغفران حاصل أيضا برواية المتن. انتهى كلام الحفني.

وقال المناوي على «الجامع» : جاء في كثير من الروايات أنّه كان إذا وقف على القبور؛ قال: «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . قال البطليوسي: وهنا مما استعملت فيه «إن» مكان «إذا» ، فإنّ كلّا منهما يستعمل مكان الآخر. انتهى.

(قوله) في الحديث ( «الأرواح الفانية» ؛ أي: الفانية أجسادها) ، إذ الأرواح لا تفنى كما تقدّم، بل هي من الثمانية المستثناة في قول بعضهم:

ثمانية حكم البقاء يعمّها

من الهلك والباقون في حيّز العدم

هي العرش والكرسيّ نار وجنّة

وعجب وأرواح كذا الّلوح والقلم

ص: 209

و (الرّوح) : السّعة.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا مرّ بالمقابر.. قال: «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون» .

(والرّوح) - بفتح الراء-؛ في قوله «روحا منك» المراد به: (السّعة) والاستراحة.

(و) أخرج ابن السنّي- بإسناد ضعيف؛ كما قال الحافظ ابن حجر في «أمالي الأذكار» - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ بالمقابر) أي: مقابر المسلمين؛ (قال:

«السّلام عليكم أهل الدّيار) - بحذف حرف النداء، وسمّيت القبور «ديارا» !! تشبيها لها بديار الأحياء في الدنيا، لاجتماع الموتى فيها وإقامتهم بها- (من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون» ) أي: لا حقون بكم في الوفاة، وقيّد المشيئة!! للتبرّك والتفويض إلى الله تعالى.

قال الخطّابي: وفيه أنّ السلام على الموتى كهو على الأحياء، خلاف ما كانت الجاهلية عليه.

قال المناوي على «الجامع» : وقد ورد بمعنى هذا الحديث في «مسلم» ؛ فقال: كان يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم لا حقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» .

وفي خبر الترمذي: كان إذا مرّ بقبور المدينة؛ قال: «السّلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» . انتهى.

(و) أخرج أبو داود وسكت عليه، - وأقرّه المنذري، وفي العزيزي: إن

ص: 210

وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت.. وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التّثبيت؛ فإنّه الآن يسأل» .

إسناده حسن. انتهى- وكذا رواه الحاكم والبزّار: كلّهم؛ عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت) أي: المسلم.

قال الطيبيّ: والتعريف للجنس، وهو قريب من النّكرات.

(وقف عليه) أي: على قبره هو وأصحابه صفوفا؛ (فقال: «استغفروا لأخيكم) - في الإسلام- (وسلوا له التّثبيت) - أي: اطلبوا له من الله تعالى أن يثبّت لسانه وجنانه لجواب الملكين- (فإنّه الآن يسأل» ) - بضمّ أوّله-؛ أي: يسأله الملكان: منكر ونكير، فهو أحوج ما كان إلى الدعاء والاستغفار، وذلك لكمال رحمته صلى الله عليه وسلم بأمّته، ونظره إلى الإحسان إلى ميتهم ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده.

قال الحكيم الترمذي: الوقوف على القبر وسؤال التثبيت للميت المؤمن في وقت دفنه مدد للميت بعد الصلاة، لأنّ الصلاة بجماعة المؤمنين كالعسكر له اجتمعوا بباب الملك يشفعون له، والوقوف على القبر بسؤال التثبيت مدد العسكر، وتلك ساعة شغل المؤمن، لأنّه يستقبله هول المطلع والسؤال وفتنته، فيأتيه منكر ونكير؛ وخلقهما لا يشبه خلق الآدميين، ولا الملائكة، ولا الطير، ولا البهائم، ولا الهوام، بل خلق بديع، وليس في خلقهما أنس للناظرين!! جعلهما الله مكرمة للمؤمن لتثبيته ونصرته، وهتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحلّ عليه العذاب.

وإنما كان مكرمة للمؤمن!! لأن العدوّ لم ينقطع طمعه بعد، فهو يتخلّل السبيل إلى أن يجيء إليه في البرزخ، ولو لم يكن للشيطان عليه سبيل هناك؛ ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء بالتثبيت!!.

ص: 211

.........

وقال الإمام النووي: قال الشافعي والأصحاب: يسنّ عقب دفنه أن يقرأ عنده من القرآن، فإن ختموا القرآن كلّه فهو أحسن. قال:

ويندب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أوّل البقرة وخاتمتها. وقال المظهري: فيه دليل على أنّ الدعاء نافع للميت، وليس فيه دلالة على التلقين عند الدفن؛ كما هو العادة.

لكن قال النووي: اتفق كثير من أصحابنا على ندبه!!.

قال الآجرّيّ في «النصيحة» : يسنّ الوقوف بعد الدفن قليلا، والدعاء للميت مستقبل وجهه- بالثبات، فيقال «اللهمّ؛ هذا عبدك وأنت أعلم به منا، ولا نعلم منه إلّا خيرا، وقد أجلسته تسأله، اللهمّ؛ فثبّته بالقول الثابت في الآخرة كما ثبّتّه في الدنيا، اللهمّ؛ ارحمه وألحقه بنبيّه، ولا تضلّنا بعده، ولا تحرمنا أجره» ) .

انتهى. ذكر ذلك كلّه المناويّ رحمه الله تعالى على «الجامع» .

واستدلّ الشافعيّة على ندب التلقين بعد الدفن: بما رواه الطبراني في «الكبير» ؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال: إذا أنا متّ فاصنعوا بي كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:

«إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التّراب على قبره؛ فليقم أحدكم على رأس قبره، ثمّ ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنّه يسمعه ولا يجيب، ثمّ يقول يا فلان بن فلانة فإنّه يقول: أرشدنا رحمك الله!. ولكن لا تشعرون؛ فليقل أذكر ما كنت عليه في الدّنيا من شهادة أن لّا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وأنّك رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، وبالقرآن إماما فإنّ منكرا ونكيرا يأخذ كلّ واحد منهما بيد صاحبه؛ فيقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند من لقّن حجّته!!» .

فقال رجل: يا رسول الله؛ فإن لم يعرف أمّه!؟ قال: ينسبه إلى أمّه حواء:

يا فلان بن حوّاء.

ص: 212

وكان صلى الله عليه وسلم إذا شيّع جنازة.. علا كربه،

قال في «سبل السلام» للسيد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى:

قال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح، لكن قال الهيثميّ بعد سياقه: أخرجه الطبراني في «الكبير» ، وفي إسناده جماعة لم أعرفهم! وجزم ابن القيم في «الهدي» بوضع حديث التلقين.

وأما في «كتاب الروح» !! فإنه جعل حديث التلقين من أدلّة سماع الميت لكلام الأحياء، وجعل اتصال العمل بحديث التلقين من غير نكير كافيا في العمل به، ولم يحكم له بالصحّة، بل قال في «كتاب الروح» : إنّه حديث ضعيف.

قال السيد الصنعاني في «سبل السلام» : ويتحصّل من كلام أئمة التحقيق: أنّه حديث ضعيف، وبه جزم النووي- كما ذكره في «شرح الروض» - وقال: لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث «اسألوا الله له التّثبيت» ، ووصية عمرو بن العاصي إذ قال حين حضرته الوفاة: فإذا دفنتموني فشنّوا علي التراب شنّا، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها؛ حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي. رواه مسلم. لكن في «سبل السلام» : إن قصة عمرو بن العاصي وحديث «اسألوا له التّثبيت» لا شهادة فيهما على التلقين.

قال في «شرح الأذكار» للشيخ محمد بن علّان الصدّيقي المكي رحمه الله تعالى: وقد ألّف الحافظ السخاوي جزآ في التلقين نقل فيه عن أئمة من أئمة المذاهب الأربعة استحبابه؛ وأطال في ذلك، وتكلّم فيه على حديث التلقين وشواهده؛ وبلغ فيه بضعة عشر شاهدا. والله أعلم.

(و) أخرج الحاكم في كتاب «الكنى والألقاب» ؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شيّع جنازة علا كربه) - بفتح الكاف وسكون الراء بعدهما موحدة؛ هو ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه فيغمّه

ص: 213

وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه.

ويحزنه- (وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه) . تفكّرا في أهوال الموت وما بعده؛ من القبر والظلمة وأحوال القيامة، وما إليه المصير. ولعل مستند الراوي في ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم، وإلّا! فهو أمر خفيّ لا يطّلع عليه.

وقد أخرج هذا الحديث الطبراني في «الكبير» بسند فيه ابن لهيعة- عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما- بلفظ: كان إذا شهد جنازة رئيت عليه كابة، وأكثر حديث النفس.

وأخرجه أيضا ابن المبارك وابن سعد في «الطبقات» ؛ عن عبد العزيز بن أبي رواد مرسلا بلفظ: كان إذا شهد جنازة أكثر الصّمات وأكثر حديث نفسه.

قال المناوي في «شرح الجامع» : قال في «فتح القدير» : ويكره لمشيّع الجنازة رفع الصوت بالذكر والقراءة، ويذكر في نفسه. انتهى.

وقال النووي في «الأذكار» : يستحبّ للماشي مع الجنازة أن يكون مشتغلا بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه الميت، وما يكون مصيره، وحاصل ما كان فيه، وأنّ هذا آخر الدنيا، ومصير أهلها، وليحذر كلّ الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإنّ هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغافلة واللهو، والاشتغال بالحديث الفارغ، فإنّ الكلام بما لا فائدة فيه منهيّ عنه في جميع الأحوال؛ فكيف في هذا الحال!!

واعلم أنّ الصواب والمختار ما كان عليه السّلف رضي الله عنهم من السكوت في حال السّير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك.

قال ابن علّان في «شرح الأذكار» : لأن الصحابة كرهوا ذلك حينئذ. رواه البيهقي، وكره الحسن وغيره «استغفروا لأخيكم» ، ومن ثمّ قال ابن عمر لقائله:

لا غفر الله لك.

لكن رأيت السيد طاهر الأهدل نقل عن جدّه السيد حسين بن عبد الرحمن الأهدل ما لفظه:

ص: 214

وكان صلى الله عليه وسلم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز.

اعلم أنّه؛ وإن كانت السّنّة السكوت؛ فقد اعتاد الناس كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ورفع أصواتهم بذلك، فلا ينبغي أن ينهوا عن ذلك؛ ويقال إنها بدعة مكروهة، فإنّ المكروه ما ورد فيه نهي مقصود، ولأن دواعيهم لا تتوفّر على السكوت، والفكر في أمر الموت، بل يفيضون في حديث الدنيا بأهلها فيقعون في محذور أعظم من الذي يحاوله الناهي، وقد قالوا: إنّ الناهي يترك النهي عن المنكر إذا لزم عليه الوقوع في منكر أقوى منه. انتهى.

ونقله ابن زياد في «فتاويه» ؛ وقال بعد نقله:

وقد جرت العادة في بلدنا «زبيد» بالجهر بالذكر أمام الجنازة بمحضر من العلماء والفقهاء والصلحاء، وقد عمّت البلوى بما شاهدناه من اشتغال غالب المشيّعين بالحديث الدنيوي، وربّما أدّاهم ذلك إلى الغيبة أو غيرها من الكلام المحرّم.

فالذي أختاره أنّ شغل أسماعهم بالذكر المؤدّي إلى ترك الكلام وتقليله أولى من استرسالهم في الكلام الدنيوي؛ ارتكابا لأخفّ المفسدتين، كما هو القاعدة الشرعية، وسواء الذكر والتهليل وغيرهما من أنواع الذكر. والله اعلم. انتهى كلام «شرح الأذكار» .

(و) في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز ابن سعد في «الطبقات» :

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز) .

وقد أخرج الطبراني والبيهقي في «سننه» ؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما:

«ليس للنّساء في اتّباع الجنائز أجر» .

وأخرج الطبراني في «الكبير» ، والبزّار؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:«ليس للنّساء في الجنازة نصيب» .

ص: 215

وكان صلى الله عليه وسلم إذا عزّى.. قال: «يرحمه الله ويؤجركم» .

وفي «الصحيحين» ؛ عن أمّ عطيّة رضي الله تعالى عنها: نهينا عن اتباع الجنائز؛ ولم يعزم علينا. أي: نهيا غير محتّم، فهو نهي تنزيه يفيد الكراهة في حقّهنّ فقط.

وأما ما رواه ابن ماجه وغيره مما يدلّ على التحريم!! فضعيف، ولو صحّ، حمل على ما يتضمّن حراما. أمّا اتباع الجنازة للرجال إلى أن تدفن!! فسنّة متأكّدة، لخبر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي؛ ورمز له برمز أبي نعيم في «الحلية» :

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عزّى) التعزية معناها- لغة-: التصبير لمن أصيب بما يعزّ عليه. وقد يطلق على الصبر على المكروه. وشرعا-: الحمل على الصبر بوعد الأجر والتذكير بأن الأمور جميعها مرجعها لله تعالى، وأنّ له ما أخذ وما أعطى، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت المسلم بالمغفرة

ونحو ذلك.

وهي مستحبّة على سبيل التأكيد، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي داخلة في قوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [2/ المائدة] .

وثبت في «الصحيحين» ؛ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .

وروى الترمذي والبيهقي في «سننه الكبرى» ؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من عزّى مصابا فله مثل أجره» . وإسناده ضعيف، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا عزّى (قال: «يرحمه الله) - أي:

يرحم الله الميت- (ويؤجركم» ) معاشر الأقارب، ويدخل وقت التعزية من حين يموت، والتعزية بعد الدفن أفضل منها قبله، لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه.

وتحصل التعزية بأيّ لفظ. واستحبّ الشافعية أن يقول:

ص: 216

وكان صلى الله عليه وسلم إذا هنّأ.. قال: «بارك الله لكم، وبارك عليكم» .

1-

في تعزية المسلم بالمسلم «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميّتك» .

و2- في المسلم بالكافر «أعظم الله أجرك وأحسن عزاك» .

و3- في الكافر بالمسلم «أحسن الله عزاءك وغفر لميّتك» .

و4- في الكافر بالكافر «أخلف الله عليك» .

وأحسن ما يعزّى به ما ثبت في «الصحيحين» ؛ عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما في حديث بنت النبي صلى الله عليه وسلم التي أرسلت تدعوه وتخبره أنّ ابنا لها في الموت فقال للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أنّ لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى، فمرها فلتصبر ولتحتسب

» وذكر تمام الحديث؛ قاله النووي رحمه الله تعالى.

(و) في «كنوز الحقائق» ورمز له برمز ابن منيع؛

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هنّأ) - بالتشديد والهمزة آخره- والتهنئة: الدعاء بالهنا لمن فاز بخير ديني؛ أو دنيوي لا يضرّه في دينه؛ قاله في «شرح الأذكار» .

(قال) في تهنئته ( «بارك الله لكم) - أي: كثّر لكم النموّ والإنعام والأمن من كلّ مؤذ في هذا الأمر المهم الذي يحتاج إلى الإمداد- (وبارك عليكم» ) أعاد العامل!! لزيادة الابتهال.

قال الكرماني في أواخر «كتاب الدعوات» ؛ من «شرح البخاري» : أراد بقوله «بارك الله لك» اختصاص البركة، وبقوله «عليك» استعلاء عليه. انتهى.

وهذا الذكر ورد الدعاء به للمتزوّج، فقد قال صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين أخبره أنّه تزوّج:«بارك الله لك وبارك عليك» أخرجه الشيخان، والترمذي، والنسائي عنه.

ص: 217

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده.. قال:

«لا بأس، طهور إن شاء الله تعالى» .

قال النووي: وروّينا بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرها؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفّأ الإنسان إذا تزوّج، قال:«بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قال المناوي: وأخرج النسائي، وابن ماجه؛ عن عقيل بن أبي طالب أنّه تزوّج بامرأة من بني جشم، وقالوا «بالرفاء والبنين» ؛ فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله لهم وبارك عليهم» .

وأخرج الحارث بن أبي أسامة، والطبراني في «الكبير» ؛ عن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: إذا تزوّج أحدكم؛ فليقل له «بارك الله لك وبارك عليك» .

قال المناوي على «الجامع» : وكانت عادة العرب إذا تزوّج أحدهم، قالوا له «بالرفاء والبنين» فنهى عن ذلك وأبدله بالدعاء المذكور.

قال النووي: ويكره أن يقال «بالرفاء والبنين» لهذا الحديث. انتهى.

وقد ألّف الحافظ السيوطي في هذا المعنى جزآ سمّاه «حصول الأماني بأصول التهاني» ، وأورد فيه أحاديث وأثارا في التهنئة بأحوال عالية وأزمنة فاضلة وأعمال كاملة وحوادث مسفرة.

(وكان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده، قال: «لا بأس) - أي:

لا ضرر ولا مشقّة عليك هو- (طهور) - بفتح الطاء؛ أي مرضك مطهّر لك من ذنوبك- (إن شاء الله تعالى» ) . وذلك يدلّ على أن «طهور» دعاء لا خبر فيه.

وفيه أنّه لا نقص على الإمام في عيادة بعض رعيّته؛ ولو أعرابيا جاهلا جافيا، ولا نقص على العالم في عيادة الجاهل ليعلّمه ويذكّره ما ينفعه، ويأمره بالصبر

ص: 218

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم.. قال:

«اللهمّ؛ صلّ على آل فلان» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا.. قال:

ويسلّيه

إلى غير ذلك مما يجبر خاطره وخاطر أهله.

وهذا الحديث أخرجه البخاري في «الطب» وغيره؛ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أعرابي يعوده؛ فقال: «لا بأس، طهور» .

فقال الأعرابي: كلّا؛ بل هي حمّى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فنعم؛ إذن» .

(و) أخرج الإمام أحمد، والشيخان، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ كلهم في «الزكاة» ؛ عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم) أي: بزكاة أموالهم؛ (قال) امتثالا لقول ربه له وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [103/ التوبة] : ( «اللهمّ؛ صلّ على آل فلان» ) كناية عمن ينسبون إليه، أي: زكّ أموالهم التي بذلوا زكاتها، واجعلها لهم طهورا، واخلف عليهم ما أخرجوه منها، واعطف عليهم بالرحمة، واغفر لهم؛ إنّك أنت الغفور الرحيم.

وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام؛ إذ يكره تنزيها إفراد الصلاة على غير نبي؛ أو ملك، لأنّه صار شعارا لهم إذا ذكروا، فلا يقال لغيرهم؛ وإن كان معناه صحيحا. وتمام الحديث عن ابن أبي أوفى؛ قال: فأتاه أبي بصدقته؛ فقال:

«اللهمّ؛ صلّ على آل أبي أوفى» .

(و) أخرج الإمام أحمد، والبزّار بسند رجاله ثقات؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا) لغزو

أو نحوه (قال) عند خروجه له:

ص: 219

«اللهمّ؛ بك أصول، وبك أحول، وبك أسير» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا.. قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو، أو حجّ، أو عمرة

( «اللهمّ؛ بك أصول) - أي: أسطو على العدو وأحمل عليه- (وبك أحول) أي: أتحوّل عن المعصية، أو أتحوّل وأنتقل عن مكاني؛ أي ذهابي إلى العدو إنما هو بقدرتك- (وبك أسير» ) إلى العدو فانصرني عليه.

(و) أخرج الإمام أحمد، وأبو داود في «الجهاد» ، والترمذي، وابن ماجه في «الدعوات» ، وابن حبان، والضياء المقدسي في «المختارة» بأسانيد صحيحة؛ كلّهم عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا) ؛ أي: خرج للغزو (قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي) - أي: معتمدي في جميع أموري، لا سيما في الحرب، فأنا أتقوّى بك كما يتقوّى الشخص بعضده- (وأنت نصيري) ؛- أي: كثير النصر على أعدائي.

(بك أحول) - بحاء مهملة، من حال يحول، بمعنى: احتال، والمراد: كيد العدو- (وبك أصول) - بصاد مهملة؛ أي: أقهر. قال القاضي: الصّول:

الحمل على العدو، ومنه الصائل- (وبك أقاتل» ) العدو.

(و) أخرج الإمام مالك في «الموطأ» ، والإمام أحمد، والشيخان في «الحج» ، وأبو داود، والترمذي في «الجهاد» ؛ كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل) - بقاف ثم فاء- أي: رجع وزنا ومعنى، ومنه القافلة؛ أي: الراجعة (من غزو؛ أو حجّ؛ أو عمرة) .

قال الحافظ في «الفتح» : ظاهره اختصاص الذكر الآتي بهذه الأمور الثلاثة،

ص: 220

يكبّر على كلّ شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له،

وليس الحكم كذلك عند الجمهور، بل يشرع قول ذلك في كلّ سفر إذا كان سفر طاعة؛ وإن كان المسافر فيه لا ثواب له، فلا يمتنع عليه فعل ما يحصل له الثواب من غيره، وهذا التعليل متعقّب، لأن الذي يخصّه بسفر الطاعة لا يمنع من سافر في مباح أو معصية من الإكثار من ذكر الله تعالى، وإنّما النزاع في خصوص استحباب هذا الذكر بسفر الطاعة، فذهب قوم إلى الاختصاص لكونه عبادة مخصوصة شرع له ذكر مخصوص، فيختصّ به كالذكر المأثور عقب الأذان والصلاة، وإنما اقتصر الصحابيّ على الثلاث!! لانحصار سفره صلى الله عليه وسلم فيها. انتهى.

(يكبّر على كلّ شرف) - بفتحتين: مكان عال- (من الأرض ثلاث تكبيرات) . هذا غاية ما كان يقول صلى الله عليه وسلم، فالتقييد بالثلاث لبيان الواقع؛ لا للاختصاص، فإنّ الزيادة على الثلاث زيادة خير.

قال الطيبيّ: وجه التكبير على الأماكن العالية هو ندب الذكر عند تجدّد الأحوال والتقلّبات، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في الزمان والمكان. انتهى.

وقال الحافظ العراقي: مناسبة التكبير على المرتفع: أنّ الاستعلاء محبوب للنفس، وفيه ظهور وغلبة، فينبغي للمتلبّس به أن يذكر عنده أنّ الله أكبر من كلّ شيء، ويشكر له ذلك ويستمطر منه المزيد.

(ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله) بالرفع على البدلية؛ من الضمير المستتر في الخبر المقدّر، أو من اسم «لا» ؛ باعتبار محلّه قبل دخولها.

(وحده) ؛ نصب على الحال، أي: لا إله منفرد إلّا هو وحده.

(لا شريك له) عقلا ونقلا.

أمّا الأول!! فلأن وجود إلهين محال كما تقرّر في الأصول.

وأمّا الثاني!! فلقوله تعالى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [163/ البقرة] ، وذلك يقتضي أن

ص: 221

له الملك وله الحمد؛ وهو على كلّ شيء قدير، آئبون،

لا شريك له، وهو تأكيد لقوله «وحده» لأن المتّصف بالوحدانية لا شريك له.

(له الملك) - بضم الميم-: السلطان والقدرة وأصناف المخلوقات

(وله الحمد) . زاد الطبراني في رواية: «يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت بيده الخير، (وهو على كلّ شيء قدير)

هذه الجملة الأخيرة عدّها بعضهم من العمومات في القرآن التي لم يدخلها تخصيص؛

وهي كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [185/ آل عمران] ، وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [6/ هود] وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)[الحجرات] وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)[البقرة] ونوزع في الأخيرة بتخصيصها بالممكن.

قال القرطبي: وفي تعقيب التكبير بالتهليل إشارة إلى أنّه المنفرد بإيجاد كلّ موجود، وأنّه المعبود في كلّ مكان.

(آئبون) بهمزة ممدودة فهمزة مكسورة. فموحّدة؛ واحده: آئب؛ وهو:

الراجع. قال في «مفتاح الحصن» : بكسر الهمزة بعد الألف، وكثير من الناس يلفظ بياء بعد الألف، وهو لحن. ومعناه: راجعون.

قال في «الحرز» : وكون الياء لحنا إنما هو في الوصل، أما في الوقف عليه!! فهو صحيح بلا خلاف. انتهى.

ثم هو خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن راجعون، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع، فإنّه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة، وهي تلبّسهم بالعبادة المخصوصة، والاتصاف بالأوصاف المذكورة؛ أشار إليه العلقمي.

وفي «الحرز» : الأولى أن يفسّر «آئبون» براجعون عن الغافلة. فإنّ الأوّاب وصف الأنبياء، ومنه قوله تعالى إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) ونعت الأولياء، ومنه فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)[الإسراء] ويقال للصلاة بين العشاءين «صلاة الأوّابين» . انتهى.

ص: 222

تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .

(تائبون) قال الغزالي في «المنهاج» ؛ نقلا عن شيخه: التوبة ترك اختيار ذنب سبق عنك مثله؛ تعظيما لله تعالى.

قال الأبّي: وأصلها الرجوع عما هو مذموم شرعا إلى ما هو محمود شرعا.

وفي قوله «تائبون» إشارة إلى التقصير في العبادة، أو قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع، أو تعليما لأمّته!! أو المراد أمّته.

وقد تستعمل التوبة لإرادة الاستمرار على الطاعة، فيكون المراد ألايقع منهم ذنب؛ قاله العلقمي.

(عابدون، ساجدون، لربّنا) ؛ متعلّق ب «ساجدون» ، أو بسائر الصفات على سبيل التنازع، وهو مقدّر بعد قوله (حامدون) أيضا.

وقال الحفني: يقدّر مع كلّ من هذه الأوصاف «لربّنا» فيكون حذف من الأوّل لدلالة الثاني. انتهى. ومعنى «حامدون» : أي مثنون عليه بصفات الكمال، وشاكرون حوارف الإفضال.

(صدق الله وعده) فيما وعد به من إظهار دينه وكون العاقبة للمتقين؛ وذلك في نحو قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ [55/ النور] .

قال العلقمي: وهذا في سفر الغزو، ومناسبته لسفر الحجّ والعمرة قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [27/ الفتح] .

(ونصر عبده) محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فهو يعني به نفسه، إذ المطلق ينصرف للفرد الكامل.

(وهزم الأحزاب) أي: الطوائف المتفرّقة الذين تجمّعوا عليه للقتال يوم الخندق.

ويحتمل عموم الكفار في ذلك اليوم وغيره (وحده» ) بغير فعل أحد من

ص: 223

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب.. قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان، وبلّغنا رمضان» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن.. قال مثل ما يقول؛ حتّى إذا بلغ (حيّ على الصّلاة

حيّ على الفلاح)

الآدميين، ولا سبب من جهتهم، فقوله «وهزم الأحزاب وحده» نفي لما سبق ذكره.

وهذا معنى الحقيقة، فإنّ فعل العبد خلق لربّه، والكلّ منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد أهل الكفر بلا قتال لفعل، وفيه دلالة على التفويض إلى الله تعالى واعتقاد أنّه مالك الملك، وأنّ له الحمد ملكا واستحقاقا، وأنّ قدرته تتعلّق بكلّ شيء من الممكنات.

(و) أخرج البيهقي؛ في «شعب الإيمان» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، وأبو نعيم في «الحلية» ، وكذا البزّار- بإسناد ضعيف؛ كما تقدّم- كلّهم رووه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب) أي: الشهر المسمّى بذلك الذي هو فرد من أفراد الأشهر الحرم؛ (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم:

( «اللهمّ) ؛ أي: يا الله (بارك لنا في رجب) - بالتنوين- (وشعبان) أي:

وفّقنا للأعمال الصالحة فيهما- (وبلّغنا رمضان» ) . لم يقل «ورمضان» ؛ بل زاد «وبلّغنا» !! لبعده عن أول رجب؛ كذا قاله الحفني.

قال ابن رجب: وفيه دليل على ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمنة الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإنّ المؤمن لا يزيده عمره إلّا خيرا.

(و) أخرج الإمام أحمد، والبزّار، والطبراني- بسند؛ قال الهيثمي: فيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف، لكن روى عنه مالك- كلّهم رووه عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه قال:

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن قال مثل ما يقول) ذلك المؤذّن، (حتّى إذا بلغ) أي: ذلك المؤذّن (حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح) أي: هلمّوا

ص: 224

قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن يتشهّد.. قال:

«وأنا.. وأنا» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن قال:

(حيّ على الفلاح)

إليها، وأقبلوا وتعالوا مسرعين، (قال:«لا حول) ؛ أي: لا تحوّل لنا عن معصية الله. (ولا قوّة) لنا على طاعة الله تعالى (إلّا بالله» ) تعالى.

قال ابن الأثير: المراد بهذا ونحوه: إظهار الفقر إلى الله تعالى بطلب المعونة منه على ما يحاول من الأمور كالصلاة هنا، وهو حقيقة العبودية. انتهى.

(و) أخرج أبو داود، والحاكم؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن يتشهّد) ؛ أي: ينطق بالشهادتين في أذانه؛ (قال: «وأنا.. وأنا» ) أي: يقول عند أشهد ألاإله إلّا الله: «وأنا» ، ويقول عند أشهد أنّ محمدا رسول الله:«وأنا» .

فقوله «وأنا» مبتدأ خبره محذوف؛ أي: وأنا أشهد كما تشهد، فتكرير «أنا» راجع إلى الشهادتين.

وفيه أنّه كان مكلّفا أن يشهد على رسالته كسائر الأمة.

وفيه أنّه لو اقتصر على قوله «وأنا» حصل له فضل متابعة الأذان كلّه؛ ذكره المناوي على «الجامع» ، وقال: رواه ابن حبّان وبوّب عليه «باب إباحة الاقتصار عند سماع الأذان على وأنا

وأنا» . انتهى.

لكن قال الحفني في «حواشي الجامع الصغير» : لا تحصل سنّة الإجابة على لفظ «وأنا» ، بل لا بدّ من أن يقول «وأنا أشهد

الخ» ، أو يقتصر على «أشهد

الخ» بدون لفظ «أنا» . انتهى.

(و) أخرج ابن السّنّي في «عمل اليوم والليلة» بسند ضعيف؛ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قال:

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع المؤذّن؛ قال) في أذانه (حيّ على الفلاح) ؛

ص: 225

قال: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا نظر

أي: هذه الجملة؛ (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا له: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» أي: فائزين بكلّ خير، ناجين من كل ضير.

فيسنّ لمن سمع المؤذن أن يقول مثل قوله، فيأتي بكلّ كلمة عقب فراغ المؤّذن منها حتّى في الترجيع؛ وإن لم يسمعه. إلّا في قوله «حي على الصلاة.. حي على الصلاة، حي على الفلاح.. حي على الفلاح» فإنّه يقول «لا حول ولا قوة إلا بالله» .

قال في «حواشي فتح المعين» ويسنّ أن يجيب كلّا من الحيعلة بلفظه أيضا، ثم يحوقل ويزيد مع حيّ على الفلاح:«اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» . انتهى. قال في «فتح المعين» : ولو سمع بعض الأذان!! أجاب فيه وفيما لم يسمعه. ولو ترتّب المؤذّنون؟! أجاب الكلّ.

وفي «حواشي فتح المعين» . ومما عمّت به البلوى ما إذا أذّن المؤذنون، واختلطت أصواتهم على السامع؛ وصار بعضهم يسبق بعضا! وقد قال بعضهم:

لا يستحبّ إجابة هؤلاء. والذي أفتى به الشيخ عز الدين أنّه يستحبّ إجابتهم؛ أي: إجابة واحدة؛ ويتحقق ذلك بأن يتأخّر بكلّ كلمة حيث يغلب على ظنّه أنهم أتوابها، بحيث تقع إجابته متأخرة؛ أو مقارنة، فلو سكت حتى فرغ كلّ الأذان؛ ثم أجاب قبل فاصل طويل عرفا؟! كفى في أصل سنة الإجابة. انتهى.

وفي «فتاوي السمهودي» : لا يستحبّ للمؤذّن أن يجيب أذان نفسه؛ وإن تردّد في ذلك الإسنوي في «تمهيده» . وصنّف فيه السمهودي «جزآ» أودعه فتاويه المشرقة. وتردّد الأشخر في إجابة أذان غير الصلاة: هل يطلب؛ أم لا؟

واستظهر الثاني. قال: لأنّ الجواب إنّما هو للدّعاء إلى الصلاة، وغيره ذكر قد يطلب إجابته. قال: ولم أر فيه شيئا. انتهى «شرح الأذكار» .

(و) أخرج الطبراني في «الكبير» بإسناد ضعيف؛ عن حذيفة بن أسيد- بفتح الهمزة والتنوين-: الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: (كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر

ص: 226

إلى البيت.. قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّ.. قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ، وإذا رأى ما يكره.. قال: «الحمد لله على كلّ حال،

إلى البيت) - أي: الكعبة- (قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا) أضافه إليه! لمزيد التشريف، وأتى باسم الإشارة! تفخيما (تشريفا) ؛ أي: ترفيعا وإعلاء (وتعظيما) ؛ أي: تبجيلا (وتكريما)، أي: تفضيلا.

وكأنّ حكمة تقديم التعظيم على التكريم في البيت؛ وعكسه في قاصده: أنّ المقصود بالذّات في البيت إظهار عظمته في النفوس حتّى يخضع لشرفه ويقوم بحقوقه، ثم كرامته بإكرام زائريه بإعطائهم ما طلبوه، وإنجازهم ما أمّلوه. وفي زائره وجود كرامته عند الله تعالى بإسباغ رضاه عليه، وعفوه عمّا جناه واقترفه؛ ثم عظمته بين أبناء جنسه بظهور تقواه وهدايته أيضا!!.

ويرشد إلى هذا ختم دعاء البيت بالمهابة الناشئة عن تلك العظمة، إذ هي التوقير والإجلال، وختم دعاء الزائر بالبرّ الناشئ عن ذلك التكريم، إذ هو الاتساع في الإحسان. فتأمّله. أشار إليه بعض المتأخّرين؛ قاله ابن علّان.

(وبرّا ومهابة» ) إجلالا وعظمة، وتمام هذا الدّعاء في حديث الطبراني؛ كما في شرح «الأذكار» :«وزد من عظّمه وشرّفه ممّن حجّه؛ أو اعتمره، تشريفا وتكريما ومهابة وبرّا» . انتهى.

(و) أخرج ابن ماجه وابن السنّيّ: كلاهما؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال في «الأذكار» : وإسناده جيّد- قالت:

(كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّ قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ) قال الحسن: ما من رجل يرى نعمة الله عليه؛ فيقول: الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات إلّا أغناه الله. وزاد: (وإذا رأى ما يكره قال: «الحمد لله على كلّ حال

ص: 227

ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرّعد

ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» ) بيّن به أنّ شدائد الدنيا مما يلزم العبد الشكر عليها، لأنّ تلك الشدائد نعم في الحقيقة؛ لأنّها تعرّضه لمنافع عظيمة ومثوبات جزيلة، وأعواض كريمة في العاقبة؛ تتلاشى في جنبها مشقّة هذه الشدائد فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)[النساء] ، وما سمّاه الله خيرا فهو أكثر مما يبلغه الوهم.

نحمده على شمول النّعم

حتّى لقد أبطنها في الألم

والنعمة ليست هي اللّذة، وما اشتهته النّفس بمقتضى الطّبع، بل هي ما يزيد في رفعة الدّرجة؛ ذكره الإمام الغزالي؛ ونقله المناوي رحمهم الله تعالى. آمين.

(و) أخرج الإمام أحمد، والترمذي؛ في «كتاب الدعاء» - قال الصدر المناوي: بسند جيّد- وأخرجه الحاكم في «الأدب» : كلّهم عن ابن عمر بن الخطاب- قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذّهبيّ. وفي العزيزي: قال الشيخ حديث صحيح، لكن قال النووي في «الأذكار» بعد عزوه للترمذي: إسناده ضعيف. وقال الحافظ العراقي: وسنده حسن؛ ذكره المناوي على «الجامع» - قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرّعد) بإضافة العامّ إلى الخاصّ للبيان، فالرّعد: هو الصوت الّذي يسمع من السّحاب؛ كذا قاله ابن الملك.

والصحيح: أن الرعد ملك موكّل بالسّحاب. وقد نقل الشافعي؛ عن الثّقة؛ عن مجاهد: أنّ الرّعد ملك، والبرق أجنحته يسوق السحاب بها، ثمّ قال:

وما أشبه ما قاله بظاهر القرآن!!. قال بعضهم: وعليه فيكون المسموع صوته، أو صوت سوقه على اختلاف فيه.

ونقل البغوي عن أكثر المفسرين: أنّ الرّعد ملك يسوق السحاب، والمسموع

ص: 228

والصّواعق

تسبيحه. وعن ابن عباس: أنّ الرّعد ملك موكل بالسّحاب؛ وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه، وأنّه يسبح الله تعالى؛ فلا يبقى ملك إلّا يسبح، فعند ذلك ينزل المطر.

وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعث الله السّحاب فنطقت أحسن النّطق، وضحكت أحسن الضّحك، فالرّعد نطقها، والبرق ضحكها» .

وقيل: البرق لمعان صوت الرّعد يزجر به السّحاب.

وأما قول الفلاسفة: إن الرّعد صوت اصطكاك أجرام السّحاب، والبرق ما يقدح من اصطكاكها!! فهو من حزرهم وتخمينهم؛ فلا يعوّل عليه. انتهى.

ذكر جميع ذلك العلّامة محمد بن علي بن علّان في «شرح الأذكار» .

(والصّواعق) بالنصب، فيكون التقدير: وأحسّ الصّواعق، من باب:

«علفتها تبنا وماء باردا» . أو أطلق السّمع وأريد به الحسّ؛ من باب: إطلاق الجزء وإرادة الكلّ. وفي نسخة: بالجر؛ عطفا على الرّعد، وهو إنّما يصحّ على بعض الأقوال في تفسير الصّاعقة. قال بعضهم: قيل. هي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصحّ عطفه على شيء ممّا قبله.

وقيل: الصّاعقة صيحة العذاب أيضا، وتطلق على صوت شديد غاية الشّدة يسمع من الرّعد، وعلى هذا يصحّ عطفه على صوت الرعد، أي: صوت السحاب، فالمراد بالرّعد: السّحاب؛ بقرينة إضافة الصوت، أو الرعد: صوت السّحاب.

وقال الطيبيّ: هي قصفة رعد تنقضّ معها قطعة من نار، يقال: صعقته الصّاعقة: إذا أهلكته فصعق؛ أي: مات. إمّا لشدة الصوت، وإمّا بالإحراق، ولعلّ اختيار الجمع في قوله: الصواعق؛ موافقته للآية. انتهى.

ذكر ذلك كلّه الشيخ محمد علي بن علّان في «شرح الأذكار» النووية.

ص: 229

قال: «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرّعد.. قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده» .

(قال «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك) الغضب استعارة، والمشبّه به الحالة التي تعرض للملك عند انفعاله، وغليان دم القلب، ثم الانتقام من المغضوب عليه، وأكثر ما ينتقم به القتل، فرشّح الاستعارة به عرفا.

(ولا تهلكنا بعذابك) الإهلاك والعذاب جاريان على الحقيقة في حقّه تعالى، وقيل: الغضب هنا من صفة الذّات، أي: إرادة الهلاك ونحوه، والعذاب من صفة الأفعال. ولمّا لم يكن تحصيل المطلوب إلّا بمعافاة الله تعالى كما أخبر:«أعوذ بمعافاتك من عقوبتك» ؛ قال: (وعافنا) من البلايا والخطايا المقتضية للعذاب والغضب (قبل ذلك» ) أي: قبل وقوع ما ينتظر، والمراد الدّعاء بأن لا يقع شيء من ذلك.

(و) في «كنوز الحقائق» للمناوي ورمز له برمز البخاريّ: (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرّعد؛ قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد) هو: ملك موكّل بالسّحاب على ما ثبت في الأحاديث، فنسبة التسبيح إليه حقيقة، أي: ينزّهه متلبّسا (بحمده» ) .

وفي «الأذكار النووية» : روّينا بالإسناد الصحيح في «الموطأ» ؛ عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان إذا سمع الرّعد ترك الحديث؛ وقال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته» . انتهى.

قال في «شرحه» ؛ نقلا عن الحافظ ابن حجر: وهو حديث موقوف؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب المفرد» ، عن إسماعيل بن أبي أويس؛ عن مالك.

وقوله: «ترك الحديث» ؛ أي: الكلام مع الأنام.

ص: 230

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر.. قال: «اللهمّ؛ صيّبا نافعا» .

وزاد الحافظ في روايته بعد قوله «جثا وترك الحديث» قوله: «وما كان فيه» ، فإن كان في صلاة أتمّ الصلاة؛ وقال: إنّ هذا لوعيد شديد لأهل الأرض، سبحان الّذي يسبح الرّعد بحمده

الخ.

وأخرج الطبراني بإسناده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:

كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق ومطر، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته «ثلاثا» ؛ عوفي من ذلك الرعد، فقلنا فعوفينا، ثم لقيت عمر في بعض الطريق، فإذا بردة أصابت أنفه، فقلت: ما هذا؟ فقال: بردة أصابت أنفي، فأثّرت فيّ، فقلت: إن كعبا قال

فذكره. فقلنا فعوفينا، فقال عمر:

فهلّا أعلمتمونا حتى نقول!! قال الحافظ: هذا موقوف حسن الإسناد، وهو؛ وإن كان عن كعب؛ فقد أقرّه ابن عباس وعمر، فدلّ على أنّ له أصلا.

قال: وقد وجدت بعضه بمعناه من وجه آخر عن ابن عباس أخرجه الطبراني أيضا؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الرّعد فاذكروا الله فإنّه لا يصيب ذاكرا» وفي سنده ضعف. انتهى. وقد جاء عن ابن عباس أيضا قال: ومن قال هذا الذكر فأصابته صاعقة؛ فعليّ ديته. انتهى كلام «شرح الأذكار» .

(و) أخرج البخاريّ في «صحيحه» ؛ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:

(كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: «اللهمّ صيّبا) أي: اسقنا «صيّبا» أي: مطرا (نافعا) لا مغرقا كطوفان نوح؛ قاله ابن مالك.

وقال الطيبيّ: هو تتميم في غاية الحسن؛ لأنّ «صيّبا» مظنّة الضّرر، وتبعه عليه ابن حجر الهيتمي المكيّ. ويجوز أن يكون احترازا عن مطر لا يترتّب عليه نفع، أعمّ من أن يترتّب عليه ضرر؛ أم لا، وقد روى هذا الحديث النسائيّ وابن ماجه، لكن قال:«سيّبا» بإبدال الصّاد في «صيبا» سينا.

ص: 231

وكان صلى الله عليه وسلم إذا سال السّيل.. قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا، فنتطهّر منه، ونحمد الله عليه» .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل.. قال:

«اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت فيها» .

قال الحافظ العراقي: وسند الكلّ صحيح، فينبغي- كما نقل في «المرقاة» عن النووي- الجمع بين ذلك كلّه، أو يأتي بما في كلّ رواية. والله أعلم.

(و) أخرج الإمام الشافعي في «مسنده» ، والبيهقي في «سننه» : كلاهما عن يزيد بن الهاد مرسلا، ونقل المناوي عن الذّهبيّ أنه مع إرساله منقطع أيضا:

(كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سال السّيل قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا) أي: جعل ما سال فيه مطهرا (فنتطهّر منه) الطهارة: تشمل الغسل والوضوء، والأفضل عند الشافعية الجمع بين الغسل والوضوء، ثم الغسل، ثم الوضوء، فيسنّ فعل ذلك لكلّ أحد. قالت الشافعية: ويسنّ لكلّ أحد أن يبرز للمطر، ولأول مطر آكد، ويكشف له من بدنه غير عورته، ويغتسل ويتوضّأ في سيل الوادي، فإن لم يجمعهما توضأ.

(ونحمد الله عليه» ) ؛ أي: على حصوله.

(و) أخرج ابن السنيّ والبزار والطبراني في «الكبير» كلّهم؛ عن عثمان بن أبي العاصي رضي الله تعالى عنه- وفي سنده عبد الرحمن بن إسحاق وأبو شيبة؛ وكلاهما ضعيف كما قال الحافظ الهيثمي، قال الحافظ ابن حجر: لكن تقوى بشواهده-.

(كان) النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل) - قال العزيزي: بسكون الميم؛ مقابل الجنوب-.

(قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت) - بفتح التاء المثناة- (فيها» )

ص: 232

وكان صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ اجعلها لقحا لا عقيما» ؛

وفي رواية بدله: «من شرّ ما أرسلت به» ؛ على صيغة المجهول، والمراد: أنها قد تبعث عذابا على قوم، فتعوّذ من ذلك، فتندب المحافظة على قول ذلك عند اشتدادها وعدم الغافلة عنه.

قال النووي في «الأذكار» : روّينا في «سنن أبي داود» وابن ماجه بإسناد حسن؛ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«الرّيح من روح الله تعالى، تأتي بالرّحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرّها» . قلت: قوله صلى الله عليه وسلم «من روح الله» هو- بفتح الراء- قال العلماء، أي: من رحمة الله بعباده. انتهى.

فائدة: ذكر شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ وغيره: أنّ الرياح أربع: التي تجيء من تجاه الكعبة: الصّبا، ومن ورائها: الدّبور، ومن جهة يمينها: الجنوب، ومن جهة شمالها: الشمأل. ولكلّ منها طبع، فالصّبا: حارّة رطبة، والدّبور:

باردة رطبة، والجنوب: حارّة رطبة، والشمأل: باردة يابسة، وهي من ريح الجنة التي تهبّ عليهم؛ كما في «مسلم» انتهى. ذكره ابن علان في «شرح الأذكار» .

(و) أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» ، وابن حبان في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» ، وابن السنّي كلّهم؛ عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح؛ كما قال الحافظ ابن حجر- قال:

(كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اشتدّت الرّيح قال: «اللهمّ [اجعلها] لقحا) - بفتح اللام والقاف-؛ من باب تعب، قال في «السلاح» - بفتح اللام مع فتح القاف وسكونها، وبالحاء المهملة-: الحاملة للسحاب، والعقيم بعكسه انتهى.

أي: اجعلها حاملة للماء كاللّقحة من الإبل؛ (لا عقيما» ) هو تأكيد لما قبله؛ أي: لا تجعلها خالية عن الماء كالعقيم من الحيوان؛ لا ولد له، شبّه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك

ص: 233

أي: حاملا للماء كاللّقحة من الإبل.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها؛ وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، وشرّ ما أرسلت به»

بالعقيم. قال تعالى وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [22/ الحجر] .

ثم بيّن المصنف معنى قوله في الحديث «لقحا» ؛ فقال: (أي: حاملا للماء كاللّقحة) - بكسر اللام وفتحها- أي: الناقة (من الإبل) القريبة العهد بالنتاج، والجمع: لقح، وقد لقحت الناقة لقحا ولقاحا، وناقة لاقح إذا كانت حاملا، ونوق لواقح، واللّقاح: ذوات الألبان، الواحدة: لقوح. كذا في «النهاية» .

(وكان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عصفت) - بفتح أوّليه المهملتين وبالفاء- (الرّيح) أي: اشتدّ هبوبها (قال) داعيا إلى الله ( «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها) أي: الخير العارض منها من المنافع كلّها.

(و) أسألك (خير ما أرسلت به) ؛ أي: بخصوصها في وقتها، وهي بصيغة المجهول. (وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها؛ وشرّ ما أرسلت به» ) - على صيغة المجهول- قال المناوي كالعلقمي: - وتمامه عند مخرّجه مسلم- قالت: أي:

عائشة، وإذا تخيّلت السماء تغيّر لونه، وخرج؛ ودخل، وأقبل؛ وأدبر، فإذا أمطرت سرّي عنه فعرفت ذلك فسألته!، فقال:«لعلّه يا عائشة كما قال الله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» [24/ الأحقاف] الآية. انتهى.

قال الحفني: ففيه الاستعداد بالمراقبة لله تعالى والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه، وكان خوفه صلى الله عليه وسلم أن يعاقبوا بعصيان العصاة، وسروره بزوال الخوف. وهذا لا ينافي قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال] !! لأنه يخاف أن يكون عذابا مخصوصا أو معلقا على شيء، كما قال بعض المبشرين بالجنة: لو كانت إحدى رجليّ داخل الجنّة والآخرى خارجها

ص: 234

روته عائشة رضي الله تعالى عنها.

ما أمنت مكر الله. انتهى.

قال العزيزي: قال أبو عبيد وغيره: «تخيلت السماء» من المخيلة- بفتح الميم-: وهي سحابة فيها رعد وبرق تخيّل إليه أنها ماطرة، ويقال: أخالت إذا تغيّرت. انتهى.

(روته عائشة) أم المؤمنين (رضي الله تعالى عنها) فيما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي عنها.

تنبيه: قال في «شرح الأذكار» : وقع في «المشكاة» أن الحديث متفق عليه!! فنظر فيه في «المرقاة» بأنه من أفراد مسلم، كما يفهم من كلام ابن الجزري في «التصحيح» حيث قال: رواه مسلم، وأبو داود

الخ.

وقد عزاه السيوطي في «الجامع الصغير» إلى تخريج الترمذي أيضا؛ ولم يذكر أبا داود فيمن خرّجه!! وراجعت «باب ما يقول: إذا هاجت الريح» ؛ من «سنن أبي داود» فلم أره فيه، فلعلّ ما نقله ابن الجزري عنه في بعض النسخ، ثم رأيت ما يؤيد ما ذكره صاحب «المشكاة» ؛ وهو «تيسير الوصول إلى جامع الأصول» لابن الدّيبع بعد ذكر الحديث باللفظ المذكور، وقال: أخرجه الشيخان هكذا، والترمذي. انتهى. وأخرجه الترمذي؛ وقال: حديث حسن صحيح، والإمام أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد» ، والنسائي في «اليوم والليلة» ؛ عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الرّيح، فإذا رأيتم ما تكرهون؛ فقولوا: اللهمّ؛ إنّا نسألك خير هذه الرّيح وخير ما فيها؛ وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شرّ هذه الرّيح؛ وشرّ ما فيها؛ وشرّ ما أمرت به» .

وأخرج ابن السنّي؛ عن أنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقعت كبيرة؛ أو هاجت ريح عظيمة فعليكم بالتّكبير؛ فإنه يجلو العجاج الأسود» . ذكره النووي في «الأذكار» . وقوله:

ص: 235

وروى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هاجت ريح

«كبيرة» الله أعلم أنّ التقدير: مصيبة كبيرة؛ أي: من موت، أو حريق، فالتكبير يدفع حرّ النار، وإذا استحضر العبد مضمون التكبير هان عليه ما لاقاه من مصيبة.

وقوله: «العجاج الأسود» !! قال النووي في «التهذيب» ؛ نقلا عن أبي عبيد: العجاج غبار تثور به الريح، الواحدة: عجاجة؛ أي: أنّ التكبير يجلو؛ أي: يذهب عن مرآة الجوّ العجاج الأسود من الظلمة والقتام. والله أعلم.

ثم يحتمل أن يكون ذلك على حقيقته بما خصّ الله به التكبير من رفع ذلك، ويحتمل أن يكون المراد يجلو عن القلب التعب الحاصل من القتام الأسود؛ أي:

لردّه الأمر حينئذ إلى فاعله، وعلمه بالفاعل المختار الّذي لا يخلو فعل من أفعاله عن حكمة والله أعلم. انتهى. ذكره في «شرح الأذكار» .

(وروى ابن عبّاس) حبر الأمّة وترجمان القرآن- وقد تقدمت ترجمته- (رضي الله تعالى عنهما) فيما أخرجه الطّبراني في «الكبير» ، والبيهقي في «سننه» عنه بسند فيه حسين بن قيس الملقب ب «حنش» ، وهو متروك؛ وبقية رجاله رجال الصحيح؛ كما قال الحافظ الهيثمي-.

ورواه ابن عدي في «الكامل» من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي، وذكره المناوي؛ فقال: ثم رأيت الحافظ في «الفتح» عزاه لأبي يعلى وحده؛ عن أنس رفعه، وقال: إسناده صحيح. انتهى.

قال:

(كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هاجت ريح) ؛ أي: اشتدّ هبوبها، والريح المفردة في القرآن للشرّ، والمجموعة للخير، ولم ترد في القرآن مفردة في الخير إلّا في موضع واحد، وهو قوله تعالى وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [22/ يونس] ذكره العزيزي والحفني وغيرهما. قال المناوي: وفي رواية: «الريح» معرّفا.

ص: 236

استقبلها بوجهه، وجثا على ركبتيه، ومدّ يديه، وقال:«اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، اللهمّ؛ اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» .

(استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه) أي: قعد عليهما وعطف ساقيه إلى تحته، وهو قعود المستوفز الخائف الّذي إذا احتاج إلى النهوض نهض سريعا، وهو قعود الصغير بين يدي الكبير، وفيه نوع أدب مع الله تعالى، فكان هذا منه صلى الله عليه وسلم تواضعا لله وخوفا على أمّته، وتعليما لهم في تبعيّته كأنّه لمّا هبت الريح وأراد أن يخاطب ربّه بالدعاء قعد قعود المتواضع لربّه الخائف من عذابه.

(ومدّ يديه) للدعاء (وقال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، [وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به] ، اللهمّ؛ اجعلها رحمة) لنا (ولا تجعلها عذابا) علينا، (اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» ) .

لأنّ الريح من الهواء، والهواء أحد العناصر الأربع التي بها قوام الحيوان والنبات، حتّى لو فرض عدم الهواء دقيقة لم يعش حيوان، ولم ينبت نبات.

والريح: اضطراب الهواء وتموّجه في الجوّ؛ فيصادف الأجسام فيحللها، فيوصل إلى دواخلها من لطائفها ما يقوم لحاجته إليه، فإذا كانت الريح واحدة جاءت من جهة واحدة، وصدمت جسم الإنسان والنبات من جانب واحد، فتؤثّر فيه أثرا أكثر من حاجته؛ فتضرّه، ويتضرّر الجانب المقابل لعكس مهبّها بفوت حظّه من الهواء؛ فيكون داعيا إلى فساده، بخلاف ما لو كانت رياحا تعمّ جوانب الجسم، فيأخذ كلّ جانب حظّه؛ فيحدث الاعتدال. ذكره المناوي.

وفي «شرح الأذكار» لابن علان رحمه الله تعالى: قال ابن الجوزي في «المنتخب» : قال ابن عباس: الرّياح ثمان؛

أربع للرحمة: المبشرات، والمثيرات، والمرسلات، والرّخاء. قلت:

ص: 237

.........

وفي «المرقاة» بدل «المبشرات والرخاء» بدلهما «الذاريات، والناشرات» .

وأربع للعذاب: العاصف، والقاصف- وهما في البحر-. والصّرصر، والعقيم- وهما في البرّ-.

قال عبيد بن عمر: يبعث الله تعالى ريحا فتقمّ الأرض، ثمّ يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثمّ يبعث المؤلّفة فتؤلّفه، ثمّ يبعث اللّواقح؛ فتلقّح الشجر. انتهى كلام «المنتخب» .

قال المناوي: استشكل ابن العربي خوفه أن يعذّبوا؛ وهو فيهم، مع قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [33/ الأنفال] !!؟.

ثمّ أجاب بأن الآية نزلت بعد القصة.

واعترضه ابن حجر بأن آية الأنفال كانت في المشركين من أهل بدر، ولفظ «كان» في الخبر يشعر بالمواظبة على ذلك. ثمّ أجاب بأنّ في الآية احتمال التخصيص بالمذكورين، أو بوقت دون وقت، أو بأنّ مقام الخوف يقتضي عدم أمن المكر، أو خشي على من ليس فيهم أن يقع بهم العذاب، فالمؤمن شفقة عليه، والكافر يودّ إسلامه، وهو مبعوث رحمة للعالمين. انتهى.

ثمّ قال: قال ابن المنيّر: هذا الحديث مخصوص بغير الصّبا من جميع أنواع الريح؛ لقوله في الحديث: «نصرت بالصّبا» .

ويحتمل إبقاء هذا الحديث على عمومه ويكون نصرها له متأخّرا عن ذلك، أو أنّ نصرها له بسبب إهلاك أعدائه، فيخشى من هبوبها أن تهلك أحدا من عصاة المؤمنين؛ وهو كان بهم رؤوفا رحيما.

وأيضا فالصّبا يؤلّف السحاب ويجمعه، ثمّ يقع المطر غالبا، وقد جاء في خبر: أنه كان إذا أمطرت سرّي عنه، وذلك يقتضي أن يكون الصّبا مما يقع التخوف عند هبوبها، فيعكّر ذلك على التخصيص المذكور!. انتهى ما ذكره المناوي رحمه الله تعالى.

ص: 238

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال.. قال: «هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك» (ثلاثا) .

(و) أخرج أبو داود في «سننه» ؛ في «كتاب الأدب» عن قتادة بلاغا، قال الحافظ: ورجاله ثقات، فإن كان المبلّغ صحابيا فهو صحيح. انتهى.

وأخرجه ابن السنّي أيضا؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال الحافظ العراقي: وأسنده أيضا الدارقطني في «الأفراد» ، والطبراني في «الأوسط» ؛ عن أنس، قال أبو داود: ليس في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مسند صحيح. قال:

(كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال) الهلال: اسم للقمر لليلتين من أول الشهر، ثمّ هو قمر، لكن في «الصحاح» : أنه اسم لثلاث ليال من أول الشهر.

(قال: «هلال) الظاهر أنه منصوب بمقدر؛ أي: اللهمّ اجعله هلال (خير) أي: بركة (ورشد) أي: صلاح، كما يدلّ على ذلك رواية ابن السنيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه: كان إذا نظر إلى الهلال قال: «اللهمّ اجعله هلال يمن ورشد، آمنت بالّذي خلقك فعدلك، تبارك الله أحسن الخالقين» . ففي هذه الرواية التصريح بالفعل المقدر.

(آمنت ب) الله (الّذي خلقك» ثلاثا) أي: يكرّر ذلك ثلاثا، فيقول:«هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك، آمنت بالّذي خلقك، آمنت بالّذي خلقك» ، والتّكرار! للاعتناء بالمقام، والثلاث! لأنها آخر القلّة ومبدأ الكثرة.

وقد ورد في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا. وإضافة الخير والرشد! رجاء أن يقعا فيه، وتعليما لأمته.

وظاهر مخاطبته صلى الله عليه وسلم له!! أنّه ليس بجماد، بل حيّ دارك يعقل ويفهم.

قال حجّة الإسلام: وليس في أحكام الشريعة ما يدفعه؛ ولا ما يثبته!! فلا

ص: 239

ثمّ يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» .

ضرر علينا في إثباته. ذكره المناوي على «الجامع» والعزيزي أيضا.

(ثمّ يقول) بعده ( «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» ) .

ولأبي داود عن قتادة مرسلا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه.

قال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه: ووجدت لمرسل قتادة شاهدا مرسلا أيضا؛ أخرجه مسدد في «مسنده الكبير» ورجاله ثقات،

قال: ووجدت له شاهدا موصولا؛ من حديث أنس بن مالك قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقاويل يقولها في الهلال إذا رآه؛

منها أنّه كان إذا رأى الهلال صرف وجهه عنه؛ وقال: «هلال خير ورشد، آمنت بالّذي خلقك» . يردّدها ثلاثا.

ومنها: كان يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» .

وكان يقول: «اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسّلامة والإسلام» .

وكان يقول: «الحمد لله الّذي بدأكم ثمّ يعيدكم» .

وكان يقول: «الحمد لله الّذي خلقك وسوّاك فعدلك، ربّي وربّك الله» .

قال الحافظ بعد تخريجه: هذا غريب أخرجه أبو نعيم في «عمل اليوم والليلة» ، ورجاله ثقات إلّا عمر بن أيوب- يعني: الغفاري- فإنّه ضعيف جدّا، ونسبه الدّارقطني مرّة إلى الوضع. انتهى ذكره في «شرح الأذكار» .

(و) أخرج الإمام أحمد والترمذي في «الدعوات» ؛ وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمي في «مسنده» ، والحاكم في «مستدركه» في «الأدب» : كلّهم من حديث سليمان بن سفيان، عن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه يحيى، عن جدّه طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ المكيّ ثم المدنيّ، أحد العشرة رضي الله تعالى عنه.

ص: 240

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال.. قال: «اللهمّ؛ أهلّه علينا باليمن والإيمان والسّلامة والإسلام، ربّي وربّك الله» .

وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ونوزع بأن الحديث عدّ من منكرات سليمان المذكور!! وقد ضعفه ابن المديني، وأبو حاتم، والدارقطني، وقال: ليّن ليس بثقة. وذكره ابن حبان في «الثقات» ؛ وقال: يخطئ!!

وقال الحافظ ابن حجر: صحّحه الحاكم وغلط في ذلك، فإن فيه سليمان بن سفيان ضعّفوه، وإنّما حسّنه الترمذيّ!! لشواهده. انتهى. قال:

(كان) النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال؛ قال: «اللهمّ؛ أهلّه) قال الطيبي: روي بالفكّ والإدغام. (علينا) ؛ أي: أطلعه علينا مقترنا (باليمن) ؛ أي: البركة (والإيمان) ؛ أي: بدوامه وكماله (والسّلامة والإسلام) ؛ أي: الانقياد للأحكام.

قال الحكيم الترمذيّ: «اليمن» : السعادة، و «الإيمان» : الطمأنينة بالله، كأنّه سأل دوامهما، و «السلامة والإسلام» : أن يدوم له الإسلام ويسلم له شهره، فإنّ لله في كلّ شهر حكما وقضاء في الملكوت، وفيه تنبيه على ندب الدعاء؛ لا سيّما عند ظهور الآيات وتقلّب أحوال النيرات: وعلى أنّ التوجّه فيه إلى الربّ؛ لا إلى المربوب، والالتفات في ذلك إلى صنع الصانع؛ لا إلى المصنوع. ذكره التوربشتي. انتهى من المناوي على «الجامع» .

وزاد قوله: (ربّي وربّك الله» ) لأن أهل الجاهلية فيهم من يعبد القمرين؛ فكأنه يناغيه ويخاطبه؛ فيقول: أنت مسخّر لنا لتضيء لأهل الأرض؛ ليعلموا عدد السنين والحساب.

وقال الطّيبي: لما قدّم الدعاء في قوله: «اليمن والإيمان، والسلامة والإسلام» طلب في كلّ من الفقرتين دفع ما يؤذيه من المضارّ، وجلب ما يرفعه من المنافع. وعبّر بالإيمان والإسلام عنها!! دلالة على أنّ نعمة الإيمان والإسلام

ص: 241

وفي رواية: «بالأمن» بدل «اليمن» .

وكان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم:

شاملة للنّعم كلّها، ومحتوية على المنافع بأسرها، فدلّ على عظم شأن الهلال حيث جعل وسيلة لهذا المطلوب، فالتفت إليه قائلا:«ربي وربك الله» مقتديا بأبيه إبراهيم حيث قال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) ؛ بعد قوله هذا رَبِّي [76/ الأنعام] .

وفيه من اللطائف أنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم جمع بين طلب دفع المضارّ وجلب المنافع في ألفاظ يجمعها معنى الاشتقاق؛ ذكره المناوي في «كبيره على الجامع» رحمه الله تعالى. آمين.

(وفي رواية) للدارمي في «مسنده» ، والطبراني في «الكبير» بسند ضعيف (بالأمن بدل) قوله:(اليمن) الواقع في الرواية السابقة.

ولفظ الرواية هذه: عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر، اللهم؛ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسّلامة والإسلام، والتّوفيق لما تحبّ وترضى، ربّنا وربّك الله» .

انتهى. ذكرها في «الأذكار» و «الجامع الصغير» .

(و) أخرج أبو داود في الأدب، وابن ماجه في «الوصايا» ؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه- وفي العزيزي: إنه حديث صحيح- قال:

(كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم ؛ أي: ممّا يتعلّق بنصح الأمة والأعمال المطلوبة منهم، وكذا ما بعده، فإنّ فيه نهيا للأمّة عن مثل فعل اليهود من اتّخاذهم قبور أنبيائهم مساجد كما سيأتي. أما آخر كلامه على الإطلاق: ف «جلال ربّي الرّفيع» كما سيأتي، وقيل:«الرّفيق الأعلى» . وجمع بأنه نطق بهما معا؛ بأن قال:

«جلال ربّي الرّفيع.. الرّفيق الأعلى» ! قاله الحفني على «الجامع» .

ص: 242

«الصّلاة

الصّلاة، اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» .

وكان آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وسلم أن قال: «قاتل الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد،

وقوله: ( «الصّلاة الصّلاة) ؛ أي: احفظوها بالمواظبة عليها، والإتيان بها في أوقاتها، فهو منصوب على الإغراء، وكرّره للتأكيد.

(اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» ) ؛ أي: فيما ملكتم من الأرقّاء بالإنفاق عليهم، والرّفق بهم، وخصّ اليمين!! لأنّ أكثر تصرّف الشخص فيما يملك بيده اليمنى، فأضيف الملك إليها لذلك، وقرن الوصيّة بالصّلاة الوصيّة بالمملوك!! إشارة إلى وجوب رعاية حقّه على سيّده كوجوب الصلاة. قالوا: وذا من جوامع الكلم، لشمول الوصية بالصلاة لكلّ مأمور ومنهي إذ هي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وشمول ما ملكت أيمانكم لكلّ ما يتصرّف فيه ملكا وقهرا، لأنّ «ما» عامّ في ذوي العلم وغيرهم، فلذا جعله آخر كلامه. انتهى. ذكره شرّاح «الجامع الصغير» .

(و) أخرج البيهقي في «سننه» ؛ عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه قال: (كان آخر ما تكلّم به) النبيّ صلى الله عليه وسلم أن قال «قاتل الله اليهود والنّصارى) ؛ أي: قتلهم وأهلكهم. (اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد) هذا ظاهر في اليهود؛ دون النّصارى، إذ ليس لهم نبيّ مدفون، لأن سيدنا عيسى رفع وليس بينه وبين نبيّنا نبيّ أصلا!! فإمّا أن يكون ضمير «اتخذوا» راجعا لليهود فقط، وإما يكون راجعا للنصارى أيضا باعتبار إطلاق لفظ الأنبياء على أحبارهم تجوّزا، لأنّهم كانوا يعظّمونهم كتعظيم الأنبياء ويسجدون إلى قبورهم، وهذا نهي لأمّته عن مثل فعلهم. ويؤيده قوله في رواية لمسلم:«قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» .

ولهذا لما أفرد النّصارى في حديث قال: «إذا مات فيهم الرجل الصّالح» ، ولما أفرد اليهود في حديث قال:«قبور أنبيائهم» .

ص: 243

لا يبقينّ دينان بأرض العرب» .

وكان آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وسلم: «جلال ربّي الرّفيع، فقد بلّغت» ، ثمّ قضى صلى الله عليه وسلم.

(لا يبقينّ دينان) - بكسر الدال- (بأرض العرب» ) .

قال المناوي: وفي رواية: «بجزيرة العرب» انتهى.

أي: فهو نهي عن إقامة الكفّار فيها.

وفي المناوي على «الجامع» : وقد أخذ الأئمّة بهذا الحديث؛ فقالوا: يخرج من جزيرة العرب من دان بغير ديننا، لكنّ الشافعي خصّ المنع بالحجاز: وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها؛ دون اليمن من أرض العرب. انتهى.

(و) أخرج الحاكم في «المستدرك» عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:

(كان آخر ما تكلّم به صلى الله عليه وسلم مطلقا ( «جلال ربّي) - بالنصب- أي: أختار جلال ربّي (الرّفيع، فقد بلّغت» ) جميع ما أمرت بتبليغه فلا عذر لكم.

(ثمّ قضى) ؛ أي: مات صلى الله عليه وسلم . ولا يناقضه ما سبق، لأنّ ذلك آخر وصاياه لأهله وأصحابه وولاة الأمور من بعده؛ وذا آخر ما نطق به.

قال السهيليّ: وجه اختيار هذه الكلمة من الحكمة أنّها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب حتى يستفاد منه الرّخصة لغيره في النّطق، وأنّه لا يشترط الذكر باللّسان.

وأصل هذا الحديث في «الصحيحين» عن عائشة رضي الله تعالى عنها:

كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة» ، ثمّ أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثمّ قال:«اللهمّ الرّفيق الأعلى» . فعلمت أنّه لا يختارنا، وعرفت أنّه الحديث الّذي كان يحدّثنا وهو صحيح، والذي دعاه إلى ذلك رغبته في لقاء محبوبه، فلما عيّن للبقاء محلا خاصّا؛ ولا ينال إلا بالخروج من هذه الدّار التي تنافي ذلك اللّقاء اختار الرفيق الأعلى.

ص: 244

.........

تتمة: ذكر السهيليّ عن الواقدي: أنّ أول كلمة تكلّم بها المصطفى صلى الله عليه وسلم لمّا ولد: «جلال ربّي الرفيع» ، لكن روى عائذ: أنّ أوّل ما تكلّم به لما ولدته أمّه حين خروجه من بطنها: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا» . انتهى.

ذكره المناوي في «شرح الجامع الصغير» رحمه الله تعالى. آمين.

ص: 245