المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ١٥

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌تفسير سورة الملك

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 5 الى 11]

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 18]

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 19 الى 22]

- ‌[سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 30]

- ‌تفسير سورة القلم

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]

- ‌[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]

- ‌تفسير سورة الحاقة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 24]

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]

- ‌[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]

- ‌تفسير سورة المعارج

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]

- ‌[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]

- ‌تفسير سورة نوح

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20]

- ‌[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28]

- ‌تفسير سورة الجن

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15]

- ‌[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28]

- ‌تفسير سورة المزمل

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 19]

- ‌[سورة المزمل (73) : آية 20]

- ‌تفسير سورة المدثر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 30]

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37]

- ‌[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]

- ‌تفسير سورة القيامة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 19]

- ‌[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 40]

- ‌تفسير سورة الإنسان

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 22]

- ‌[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]

- ‌تفسير سورة المرسلات

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15]

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 40]

- ‌[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50]

- ‌تفسير سورة النبأ

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 20]

- ‌[سورة النبإ (78) : الآيات 21 الى 40]

- ‌تفسير سورة النازعات

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]

- ‌[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 46]

- ‌تفسير سورة عبس

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16]

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32]

- ‌[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]

- ‌تفسير سورة التكوير

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]

- ‌تفسير سورة الانفطار

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]

- ‌تفسير سورة المطففين

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 17]

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]

- ‌[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]

- ‌تفسير سورة الانشقاق

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]

- ‌تفسير سورة البروج

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]

- ‌تفسير سورة الطارق

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]

- ‌تفسير سورة الأعلى

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]

- ‌تفسير سورة الغاشية

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]

- ‌تفسير سورة الفجر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]

- ‌تفسير سورة البلد

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]

- ‌تفسير سورة الشمس

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]

- ‌تفسير سورة الليل

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]

- ‌تفسير سورة والضحى

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]

- ‌تفسير سورة الشرح

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]

- ‌تفسير سورة التين

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]

- ‌تفسير سورة العلق

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]

- ‌تفسير سورة القدر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]

- ‌تفسير سورة البينة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]

- ‌تفسير سورة الزلزلة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]

- ‌تفسير سورة العاديات

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]

- ‌تفسير سورة القارعة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]

- ‌تفسير سورة التكاثر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]

- ‌تفسير سورة العصر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]

- ‌تفسير سورة الهمزة

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]

- ‌تفسير سورة الفيل

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]

- ‌تفسير سورة قريش

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]

- ‌تفسير سورة الماعون

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]

- ‌تفسير سورة الكوثر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]

- ‌تفسير سورة الكافرون

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]

- ‌تفسير سورة النصر

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]

- ‌تفسير سورة المسد

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]

- ‌تفسير سورة الإخلاص

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]

- ‌تفسير سورة الفلق

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]

- ‌تفسير سورة الناس

- ‌مقدمة وتمهيد

- ‌[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]

- ‌فهرس إجمالى لتفسير جزء تبارك وعم

الفصل: ‌[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]

روى البخاري عن أبى سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره، طبقا واحدا- أى: يصير ظهره كالشىء الصلب فلا يقدر على السجود-.

وعن ابن عباس قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: وهو يوم كرب وشدة.. «1» .

ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، بالتهديد الشديد للكافرين، وببيان جانب من تصرفه الحكيم معهم، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم، ويأمره بالصبر على أذاهم، وعلى أحقادهم التي تنبئ عنها نظراتهم المسمومة إليه، فقال- تعالى-:

[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)

لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

والفاء في قوله: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ

لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

والفعل: فَذَرْنِي من الأفعال التي يأتى منها الأمر والمضارع، ولم يسمع لها ماض، وهو بمعنى اترك. يقال: ذره يفعل كذا، أى: اتركه. ومنه قوله- تعالى- ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

والمراد بِهذَا الْحَدِيثِ

ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن كريم، ومن توجيهات حكيمة، لكي يبلغها للناس.

(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 224.

ص: 57

والاستدراج: استنزال الشيء من درجة إلى أخرى، والانتقال به من حالة إلى أخرى، والسين والتاء فيه للطلب والمراد به هنا: التمهل في إنزال العقوبة.

والإملاء: الإمداد في الزمن، والإمهال والتأخير، مأخوذ من الملاوة والملوة، وهي الطائفة الطويلة من الزمن. والملوان. الليل: والنهار، والمراد به هنا: إمدادهم بالكثير من النعم..

يقال: أملى فلان لبعيره، إذا أرخى له في الزمام، ووسع له في القيد، ليتسع المرعى.

والكيد كالمكر، وهو التدبير الذي يقصد به غير ظاهره، بحيث ينخدع الممكور به، فلا يفطن لما يراد به، حتى يقع عليه ما يسوؤه.

وإضافة الكيد إليه- تعالى- يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه، وكإمدادهم بالنعم. ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه.

والمعنى: إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين، كما ذكرت لك- أيها الرسول الكريم- فكل أمرهم إلىّ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك، ولا تشغل بالك بهم. فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، بأن أسوق لهم النعم، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج، ثم إنى أمد لهم في أسباب الحياة الرغدة، ليزدادوا إثما، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا لون من ألوان كيدي الشديد القوى، الذي لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء..

وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» .

وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» .

وقال الحسن البصري: كم من مستدرج بالإحسان، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه.

قال الآلوسى: وقوله سَنَسْتَدْرِجُهُمْ.. استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا.

(1) سورة الأنعام الآيتان 44، 45.

ص: 58

وقوله: مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أى: من حيث لا يعلمون أنه استدراج، بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم، وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم.

وقوله: وَأُمْلِي لَهُمْ أى: وأمهلهم ليزدادوا إثما. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أى: لا يدفع بشيء.

وتسمية ذلك كيدا- وهو ضرب من الاحتيال- لكونه في صورته، حيث إنه- سبحانه- يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا، ومراده- عز وجل به الضرر، لما علم من خبث جبلتهم، وتماديهم في الكفر والجحود.. «1» .

ثم عادت السورة الكريمة إلى إبطال معاذيرهم، بأسلوب الاستفهام الإنكارى، الذي تكرر فيها كثيرا، فقال- تعالى-: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ؟

والمغرم والغرامة: ما يفرض على المرء أداؤه من مال وغيره.

والمثقلون: جمع مثقل، وهو من أثقلته الديون، حتى صار في حالة عجز عن أدائها.

والمراد بالغيب: علم الغيب، وهو ما غاب عن علم البشر، فالكلام على حذف مضاف.

والمعنى: بل أتسألهم- يا محمد- على دعوتك لهم إلى الحق والخير أَجْراً دنيويا فَهُمْ من أجل ذلك مثقلون بالديون المالية، وعاجزون عن دفعها لك.. فترتب على هذا الغرم الثقيل. أن أعرضوا عن دعوتك، وتجنبوا الدخول في دينك؟.

أم أن هؤلاء القوم عندهم علم الغيب، بأن يكونوا قد اطلعوا على ما سطرناه في اللوح المحفوظ من أمور غيبية لا يعلمها أحد سوانا.. فهم يكتبون ذلك، ثم يصدرون أحكامهم.

ويجادلونك في شأنها. وكأنهم قد اطلعوا على بواطن الأمور!.

الحق الذي لا حق سواه، أن هؤلاء القوم، أنت لم تطلب منهم أجرا على دعوتك إياهم إلى إخلاص العبادة لنا، ولا علم عندهم بشيء من الغيوب التي لا يعلمها أحد سوانا، وكل ما يزعمونه في هذا الشأن فهو ضرب من الكذب والجهل..

وما دام الأمر كما ذكرنا لك فَاصْبِرْ أيها الرسول الكريم- لحكم ربك، ولقضائه فيك وفيهم، وسر في طريقك التي كلفناك به، وهو تبليغ رسالتنا إلى الناس.. وستكون العاقبة لك ولأتباعك.

(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 36.

ص: 59

وَلا تَكُنْ- أيها الرسول الكريم- كَصاحِبِ الْحُوتِ وهو يونس- عليه السلام.

أى: لا يوجد منك ما وجد منه، من الضجر، والغضب على قومه الذين لم يؤمنوا، ففارقهم دون أن يأذن له ربه بمفارقتهم..

والظرف في قوله: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ منصوب بمضاف محذوف، وجملة «وهو مكظوم» في محل نصب على الحال من فاعل «نادى» ..

والمكظوم- بزنة مفعول-: المملوء غضبا وغيظا وكربا، مأخوذ من كظم فلان السقاء إذا ملأه، وكظم الغيظ إذا حبسه وهو ممتلئ به.

أى: لا يكن حالك كحال صاحب الحوت، وقت ندائه لربه- عز وجل وهو مملوء غيظا وكربا، لما حدث له مع قومه. ولما أصابه من بلاء وهو في بطن الحوت.

وهذا النداء قد أشار إليه- سبحانه- في آيات منها قوله- تعالى-: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «1» .

وقوله- سبحانه-: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ..

استئناف لبيان جانب من فضله- تعالى- على عبده يونس- عليه السلام.

ولَوْلا هنا حرف امتناع لوجود، وأَنْ يجوز أن تكون مخففة من أَنْ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وهو ومحذوف، وجملة تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ خبرها.

ويجوز أن تكون مصدرية. أى: لولا تدارك رحمة من ربه.

والتدارك: تفاعل من الدرك- بفتح الدال- بمعنى اللحاق بالغير. والمقصود به هنا:

المبالغة في إدراك رحمة الله- تعالى- لعبده يونس- عليه السلام.

قال الجمل: قرأ العامة: تَدارَكَهُ، وهو فعل ماضى مذكر، حمل على معنى النعمة، لأن تأنيثها غير حقيقى، وقرأ ابن عباس وابن مسعود: تداركته- على لفظ النعمة- وهو خلاف المرسوم.. «2» .

والمراد بالنعمة: رحمته- سبحانه- بيونس- عليه السلام وقبول توبته، وإجابة دعائه..

(1) سورة الأنبياء الآية 87، 88.

(2)

حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 391.

ص: 60

والنبذ: الطرح والترك للشيء، والعراء: الأرض الفضاء الخالية من النبات وغيره.

والمعنى: لولا أن الله- تدارك عبده يونس برحمته، وبقبول توبته.. لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والعمران.. وهو مذموم، أى: وهو ملوم ومؤاخذ منا على ما حدث منه..

ولكن ملامته ومؤاخذته منا قد امتنعت، لتداركه برحمتنا، حيث قبلنا توبته، وغسلنا حوبته، ومنحناه الكثير من خيرنا وبرنا..

فالمقصود من الآية الكريمة بيان جانب من فضل الله- تعالى- على عبده يونس- عليه السلام، وبيان أن رحمته- تعالى- به، ونعمته عليه، قد حالت بينه وبين أن يكون مذموما على ما صدر منه، من مغاضبة لقومه ومفارقته لهم بدون إذن من ربه..

قال الجمل ما ملخصه: قوله: وَهُوَ مَذْمُومٌ أى: ملوم ومؤاخذ بذنبه والجملة حال من مرفوع «نبذ» ، وهي محط الامتناع المفاد بلولا، فهي المنفية لا النبذ بالعراء..

أى: لنبذ بالعراء وهو مذموم، لكنه رحم فنبذ غير مذموم..

فلولا- هنا-، حرف امتناع لوجود، وأن الممتنع القيد في جوابها لا هو نفسه.. «1» .

وقوله: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ تأكيد وتفصيل لنعمة الله- تعالى- التي أنعم بها على عبده يونس- عليه السلام، وهو معطوف على مقدر.

أى: فتداركته النعمة فاصطفاه ربه- عز وجل حيث رد عليه الوحى بعد انقطاعه، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون من الناس، وقبل توبته، فجعله من عباده الكاملين في الصلاح والتقوى، وفي تبليغ الرسالة عن ربه.

ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حقد عليه، فقال- تعالى-: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ، لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.

وقوله: لَيُزْلِقُونَكَ من الزّلق- بفتحتين-، وهو تزحزح الإنسان عن مكانه، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض، يقال: زلقه يزلقه، وأزلقه يزلقه إزلاقا، إذا نحاه وأبعده عن مكانه، واللام فيه للابتداء.

قال الشوكانى: قرأ الجمهور: لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء من أزلقه، أى: أزل رجله..

(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 391.

ص: 61

وقرأ نافع وأهل المدينة لَيُزْلِقُونَكَ- بفتح الياء- من زلق عن موضعه.

وإِنْ هي المخففة من الثقيلة، - واسمها ضمير الشأن محذوف، و «لما» ظرفية منصوبة بيزلقونك. أو هي حرف، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه. أى: لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك

«1» .

أى: وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك، أو ليزلون قدمك عن موضعها، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر، وهو القرآن الكريم..

وَيَقُولُونَ على سبيل البغض لك إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ أى: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن الأشخاص الذين ذهبت عقولهم..

وَما هُوَ أى: القرآن الذي أنزلناه عليك إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أى: تذكير بالله- تعالى- وبدينه وبهداياته.. وشرف لهم وللعالمين جميعا.

وجاء قوله يَكادُ بصيغة المضارع، للإشارة إلى استمرار ذلك في المستقبل.

وجاء قوله سَمِعُوا بصيغة الماضي، لوقوعه مع لَمَّا، وللإشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السّيئ..

وجاء قوله لَيُزْلِقُونَكَ بلام التأكيد للإشعار بتصميمهم على هذه الكراهية، وحرصهم عليها.

وقوله- سبحانه-: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ رد على أكاذيبهم، وإبطال لأقوالهم الزائفة، حيث وصفوه صلى الله عليه وسلم بالجنون، لأنه إذا كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس.. لم يكن معقولا أن يكون مبلغه مجنونا.

ومنهم من فسر قوله- تعالى-: لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ.. أى: ليحسدونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم..

قال الإمام ابن كثير: وقوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ: لينفذونك بأبصارهم، أى: ليعينوك بأبصارهم، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك، لولا وقاية الله لك، وحمايتك منهم.

وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله- عز وجل، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.

(1) تفسير فتح القدير ج 5 ص 277 للشوكانى.

ص: 62

ثم ساق- رحمه الله جملة من الأحاديث في هذا المعنى، منها ما رواه أبو داود في سننه، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا رقية إلا من عين أو حمه- أى: سم-، أو دم لا يرقأ» .

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين» .

وعن ابن عباس- أيضا- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول:

«أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة- والهامة كل ذات سم يقتل-، ومن كل عين لامّة» .

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق حتى لتورد الرجل القبر، والجمل القدر، وإن أكثر هلاك أمتى في العين «1» » .

وبعد: فهذا تفسير محرر لسورة «ن» ، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..

كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى

(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 226 وما بعدها.

ص: 63