الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ختمها بمدح الذين يحافظون عليها فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أى: يؤدونها كاملة غير منقوصة. لا في خشوعها، ولا في القراءة فيها، ولا في شيء من أركانها وسننها.
وهذا الافتتاح والختام، يدل على شرفها وعلو قدرها، واهتمام الشارع بشأنها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قال: عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ثم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ؟. قلت: معنى دوامهم عليها، أن يواظبوا على أدائها، لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل.
ومحافظتهم عليها: أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها، وسننها، وآدابها.. فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، والمحافظة تعود إلى أحوالها «1» .
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين حماهم- سبحانه- من صفة الهلع.. وصفهم بثماني صفات كريمة، منها: المداومة على الصلاة، والمحافظة على الإنفاق في وجوه الخير، والتصديق بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب، والحفظ لفروجهم، وأداء الأمانات والشهادات.
ثم بين- سبحانه- ما أعده لهم من عطاء جزيل فقال: أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ أى: أولئك المتصفون بذلك في جنات عظيمة، يستقبلون فيها بالتعظيم والحفاوة.. حيث تقول لهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
وبعد هذه الصورة المشرقة لهؤلاء المكرمين.. أخذت السورة في تصوير موقف المشركين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الحق، وفي تسليته عما لحقه منهم من أذى، وفي بيان أحوالهم السيئة عند ما يعرضون للحساب.. فقال- تعالى-.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَاّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 612.
والاستفهام في قوله- تعالى-: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ للتعجيب من حال هؤلاء الذين كفروا، ومن تصرفاتهم التي تدل على منتهى الغفلة والجهل. و «ما» مبتدأ. و «الذين كفروا» خبره.
وقوله مُهْطِعِينَ من الإهطاع، وهو السير بسرعة، مع مد العنق، واتجاه البصر نحو شيء معين.
وعِزِينَ جمع عزة- كفئة- وهي الجماعة. وأصلها عزوة- بكسر العين- من العزو، لأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى، فلامها واو، وقيل: لامها هاء، والأصل عزهة.
قال القرطبي: والعزين: جماعات متفرقة. ومنه الحديث الذي خرجه مسلم وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فرآهم حلقا فقال: مالي أراكم عزين: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف «1» .
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات، أن المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون إليه، ثم يكذبونه ويستهزئون به وبالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم «2» .
والمعنى: ما بال هؤلاء الكافرين مسرعين نحوك- أيها الرسول الكريم- وناظرين إليك بعيون لا تكاد تفارقك، وملتفين من حولك عن يمينك وعن شمالك، جماعات متعددة، ومظهرين التهكم والاستهزاء بك وبأصحابك؟
ما بالهم يفعلون ذلك مع علمهم في قرارة أنفسهم بأنك أنت الصادق الأمين»
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 293. [.....]
(2)
تفسير الآلوسى ج 29 ص 64.
وقدم- سبحانه- الظرف قِبَلَكَ الذي بمعنى جهتك، على قوله مُهْطِعِينَ للاهتمام، حيث إن مقصدهم الأساسى من الإسراع هو الاتجاه نحو النبي صلى الله عليه وسلم للاستهزاء به وبأصحابه.
والمراد بقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ: جميع الجهات، إلا أنه عبر بهاتين الجهتين، لأنهما الجهتان اللتان يغلب الجلوس فيهما حول الشخص.
وقوله: عِزِينَ تصوير بديع لالتفافهم من حوله جماعات متفرقة في مشاربها، وفي مآربها، وفي طباعها.
والاستفهام في قوله- تعالى- أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ للنفي والإنكار.
أى: أيطمع كل واحد من هؤلاء الكافرين أن يدخل الجنة التي هي محل نعيمنا وكرامتنا بدون إيمان صادق، وبدون عمل نافع..؟
وقوله- سبحانه- كَلَّا ردع لهم وزجر عن هذا الطمع، أى: كلا ليس الأمر كما يزعمون من أنهم سيدخلون الجنة قبل المؤمنين أو معهم أو بعدهم.. وإنما هم سيكون مأواهم جهنم وبئس المصير.
وقال- سبحانه-: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ولم يقل: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، للإشعار بأن كل واحد من هؤلاء الكافرين كان طامعا في دخولها، لاستيلاء الغرور والجهالة على قلبه.
وجملة إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ تأكيد لهذا الردع والزجر، وتهوين من شأنهم، وإبطال لغرورهم، وتنكيس لخيلائهم بأسلوب بديع مهذب.. لأنه مما لا شك فيه أنهم يعلمون أنهم قد خلقوا من ماء مهين، ومن كان كذلك فلا يليق به- متى كان عاقلا- أن يغتر أو يتطاول.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ويجوز أن يراد بقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أى: من النطفة المذرة، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه. ولذلك أبهم وأخفى:
إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم، ويقولون:
لندخلن الجنة قبلهم.
وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة، إلا بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يطمع في دخولها من ليس له إيمان وعمل «1» .
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 614.
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وعلى زيادة التهوين من شأن هؤلاء الكافرين، والتحقير من أمرهم فقال: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ.
وجمع- سبحانه- هنا المشارق والمغارب، باعتبار أن لها في كل يوم من أيام السنة مشرقا معينا تشرق منه، ومغربا معينا تغرب فيه.
وقال في سورة الرحمن رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ أى: مشرق ومغرب الشتاء والصيف.
وقال في سورة المزمل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ والمراد بهما هنا: جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس، وعلى كل مغرب من مغاربها.
وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجيء هذه الألفاظ تارة مفردة، وتارة بصيغة المثنى، وتارة بصيغة الجمع.
وجملة إِنَّا لَقادِرُونَ: جواب القسم. أى: أقسم بالله- تعالى- الذي هو رب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.. إنا لقادرون قدرة تامة عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أى: على أن نخلق خلقا آخر خيرا منهم ونهلك هؤلاء المجرمين إهلاكا تاما.. أو على أن نبدل ذواتهم، فنخلقهم خلقا جديدا يكون خيرا من خلقهم الذي هم عليه.. فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.
وقوله وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ معطوف على جواب القسم ومؤكد له. أى: إنا لقادرون على ذلك، وما نحن بمغلوبين أو عاجزين عن أن نأتى بقوم آخرين خير منهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «1» .
وقوله- سبحانه-:.. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2» ، والمقصود بهذه الآيات الكريمة تهديد المشركين وبيان أن قدرته- تعالى- لا يعجزها شيء.
والفاء في قوله: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا.. للتفريع على ما تقدم. والخوض يطلق على السير في الماء، والمراد به هنا: الكلام الكثير الذي لا نفع فيه.
واللعب: اشتغال الإنسان بشيء لا فائدة من ورائه. والمراد به هنا: استهزاؤهم بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة فاطر الآيات 15- 17.
(2)
سورة محمد الآية 38.
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك- أيها الرسول الكريم- فاترك هؤلاء الكافرين، ليخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم، ولا تلتفت إليهم.
ودعهم في هزلهم ولهوهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة الذي لا شك في إتيانه ووقوعه.
وقوله يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً بدل من يَوْمَهُمُ. والأجداث جمع جدث- بفتح الجيم والدال- وهو القبر. أى: اتركهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم المحتوم. وهو اليوم الذي يخرجون فيه من قبورهم مسرعين إلى الداعي.
كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ والنصب- بضمتين- حجارة كانوا يعظمونها. وقيل:
هي الأصنام، وسميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ويقيمونها للعبادة.
يُوفِضُونَ أى: يسرعون. يقال: وفض فلان يفض وفضا- كوعد- إذا أسرع في سيره. أى: يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي، مستبقين إليه، كما كانوا في الدنيا يسرعون نحو أصنامهم وآلهتهم لكي يستلموها، ويلتمسوا منها الشفاعة.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أى: يخرجون من قبورهم، حالة كونهم ذليلة خاضعة أبصارهم، لا يرفعونها لما هم فيه من الخزي والهوان.
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أى: تغشاهم ذلة شديدة، وهوان عظيم. يقال: رهقه الأمر يرهقه رهقا، إذا غشيه بقهر وغلبة لا يمكن له دفعها.
ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أى: ذلك الذي ذكرناه من الأهوال، هو اليوم الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل، والذي كانوا ينكرون وقوعه، وها هو ذا في حكم الواقع، لأن كل ما أخبر الله- تعالى- عنه، فهو متحقق الوقوع. كما قال- سبحانه- في أول السورة: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.
وهكذا افتتحت السورة بإثبات أن يوم القيامة حق، واختتمت كذلك بإثبات أن يوم القيامة حق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى