الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانتصب لفظ «نذيرا» من قوله: نَذِيراً لِلْبَشَرِ على أنه حال من الضمير في قوله إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ أى: إن سقر لعظمى العظائم، ولداهية الدواهي، حال كونها إنذارا للبشر، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم، ويعودوا إلى إخلاص العبادة لخالقهم.
ويصح أن يكون تمييزا لإحدى الكبر، لما تضمنته من معنى التعظيم، كأنه قيل: إنها لإحدى الكبر إنذارا للبشر، وردعا لهم عن التمادي في الكفر والضلال.. فالنذير بمعنى الإنذار.
وقوله- سبحانه-: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدل مفصل من مجمل، هذا المجمل هو قوله لِلْبَشَرِ.
أى: إن سقر لهى خير منذر للذين إن شاءوا تقدموا إلى الخير ففازوا، وإن شاءوا تأخروا عنه فهلكوا. فالمراد بالتقدم نحو الطاعة والهداية. والمراد بالتأخر: التأخر عنهما والانحياز نحو الضلال والكفر إذ التقدم تحرك نحو الأمام، وهو كناية عن قبول الحق، وبعكسه التأخر..
ويجوز أن يكون المعنى: هي خير نذير لمن شاء منكم التقدم نحوها، أو التأخر عنها.
وتعليق نَذِيراً بفعل المشيئة، للإشعار بأن عدم التذكر مرجعه إلى انطماس القلب، واستيلاء المطامع والشهوات عليه، وللإيذان بأن من لم يتذكر، فتبعة تفريطه واقعة عليه وحده، وليس على غيره.
قال الآلوسى: قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق، أعنى لِلْبَشَرِ وضمير «شاء» للموصول. أى: نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير، والتخلف عنه. وقال السدى: أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة، وقال الزجاج: أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات.. «1» .
ثم بين- سبحانه- جانبا من مظاهر عدله في أحكامه: وفي بيان الأسباب التي أدت إلى فوز المؤمنين، وهلاك الكافرين.. فقال- تعالى-:
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَاّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلَاّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
(1) تفسير الآلوسى ج 29 ص 131.
وقوله- تعالى-: رَهِينَةٌ خبر عن كُلُّ نَفْسٍ، وهو بمعنى مرهونة. أى: كل نفس مرهونة عند الله- تعالى- بكسبها، مأخوذة بعملها، فإن كان صالحا أنجاها من العذاب، وإن كان سيئا أهلكها، وجعلها محلا للعقاب.
قالوا: وإنما كانت مرهونة، لأن الله- تعالى- جعل تكليف عباده كالدّين عليهم، ونفوسهم تحت استيلائه وقهره، فهي مرهونة، فمن وفي دينه الذي كلف به، خلص نفسه من عذاب الله- تعالى- الذين نزل منزلة علامة الرهن، وهو أخذه في الدين، ومن لم يوف عذب. «1»
والاستثناء في قوله إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناء متصل أى أن كل نفس مرهونة بعملها..
إلا أصحاب اليمين وهم المؤمنين الصادقون فإنهم مستقرون فِي جَنَّاتٍ عالية يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أى: يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين.
وهذا التساؤل إنما يكون قبل أن يروهم، فإذا ما رأوهم سألوهم بقولهم. ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أى: قال أصحاب اليمين للمجرمين: ما الذي أدخلكم في سقر، وجعلكم وقودا لنارها وسعيرها؟ والسؤال إنما هو على سبيل التوبيخ والتحسير لهؤلاء المجرمين.
وعبر- سبحانه- بقوله: ما سَلَكَكُمْ
…
للإشعار بأن الزج بهم في سقر، كان بعنف وقهر، لأن السلك معناه: إدخال شيء بصعوبة وقسر، ومنه قوله- تعالى-:
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 443.
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ثم حكى- سبحانه- ما رد به المجرمون على أصحاب اليمين فقال: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ. أى: قال المجرمون لأصحاب اليمين: الذي أدى بنا إلى الإلقاء في سقر، أننا في الدنيا لم نقم بأداء الصلاة الواجبة علينا، ولم نعط المسكين ما يستحقه من عطاء، بل بخلنا عليه، وحرمناه حقوقه..
وكنا- أيضا- في الدنيا نخوض في الأقوال السيئة وفي الأفعال الباطلة مع الخائضين فيها، دون أن نتورع عن اجتناب شيء منها.
وأصل الخوض: الدخول في الماء، ثم استعير للجدال الباطل، وللأحاديث التي لا خير من ورائها.
وكنا- أيضا- نكذب بيوم القيامة، وننكر إمكانه ووقوعه، وبقينا على هذا الإنكار والضلال حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أى: حتى أدركنا الموت، ورأينا بأعيننا صدق ما كنا نكذب به.
فأنت ترى أن هؤلاء المجرمين قد اعترفوا بأن الإلقاء بهم في سقر لم يكن على سبيل الظلم لهم، وإنما كان بسبب تركهم للصلاة وللإطعام، وتعمدهم ارتكاب الباطل من الأقوال والأفعال، وتكذيبهم بيوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء.
وقوله- سبحانه-: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ حكم منه- سبحانه- عليهم بحرمانهم ممن يشفع لهم أو ينفعهم.
أى: أن هؤلاء المجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة أحد لهم، فيما لو تقدم أحد للشفاعة لهم على سبيل الفرض والتقدير، وإنما الشفاعة تنفع غيرهم من المسلمين.
والاستفهام في قوله: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ للتعجيب من إصرارهم على كفرهم، ومن إعراضهم عن الحق الذي دعاهم إليه نبيهم صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالتذكرة: التذكير بمواعظ القرآن وإرشاداته، والحمر: جمع حمار، والمراد به الحمار الوحشي المعروف بشدة نفوره وهروبه إذا ما أحس بحركة المقتنص له.
وقوله: مُسْتَنْفِرَةٌ أى: شديدة النفور والهرب فالسين والتاء للمبالغة.
والقسورة: الأسد، سمى بذلك لأنه يقسر غيره من السباع ويقهرها، وقيل: القسورة اسم لجماعة الرماة الذين يطاردون الحمر الوحشية، ولا واحد له من لفظه، ويطلق هذا اللفظ عند العرب على كل من كان بالغ النهاية في الضخامة والقوة. من القسر بمعنى القهر. أى:
ما الذي حدث لهؤلاء الجاحدين المجرمين، فجعلهم يصرون إصرارا تاما على الإعراض عن مواعظ القرآن الكريم، وعن هداياته وإرشاداته، وأوامره ونواهيه.. حتى لكأنهم- في شدة إعراضهم عنه، ونفورهم منه- حمر وحشية قد نفرت بسرعة وشدة من أسد يريد أن يفترسها، أو من جماعة من الرماة أعدوا العدة لاصطيادها؟.
قال صاحب الكشاف: شبههم- سبحانه- في إعراضهم عن القرآن، واستماع الذكر والموعظة، وشرادهم عنه- بحمر جدت في نفارها مما أفزعها.
وفي تشبيههم بالحمر: مذمة ظاهرة، وتهجين لحالهم بين، كما في قوله- تعالى-:
كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش، واطرادها في العدو، إذا رابها رائب ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب، في وصف الإبل، وشدة سيرها، بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص.. «1» .
والتعبير بقوله: فَما لَهُمْ
…
وما يشبهه قد كثر استعماله في القرآن الكريم، كما في قوله- تعالى-: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
…
والمقصود منه التعجيب من إصرار المخاطبين على باطلهم، أو على معتقد من معتقداتهم.. مع أن الشواهد والبينات تدل على خلاف ذلك.
وقال- سبحانه- عَنِ التَّذْكِرَةِ بالتعميم، ليشمل إعراضهم كل شيء يذكرهم بالحق، ويصرفهم عن الباطل.
وقوله- سبحانه-: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً معطوف على كلام مقدر يقتضيه المقام، وهو بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة.
والصحف: جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها. ومنشره: صفة لها والمراد بها: الصحف المفتوحة غير المطوية. بحيث يقرؤها كل من رآها.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أن المشركين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم لن نتبعك حتى تأتى لكل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه: من رب العالمين، إلى فلان بن فلان، نؤمر في هذا الكتاب باتباعك.
أى: إن هؤلاء الكافرين لا يكتفون بمواعظ القرآن.. بل يريد كل واحد منهم أن يعطى
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 656.
صحفا مفتوحة، وكتبا غير مطوية، بحيث يقرؤها كل من يراها. وفيها الأمر من الله- تعالى- لهم بوجوب اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ
…
وقوله- سبحانه- كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ إبطال آخر لكلامهم، وزجر لهم عن هذا الجدال السخيف. أى: كلا ليس الأمر كما أرادوا وزعموا بل الحق أن هؤلاء القوم لا يخافون الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، لأنهم لو كانوا يخافون لما اقترحوا تلك المقترحات السخيفة المتعنتة..
وقوله- تعالى- بعد ذلك: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ زجر آخر مؤكد للزجر السابق. أى:
كلا ثم كلا، لن نمكنهم مما يريدون، ولن نستجيب لمقترحاتهم السخيفة.. لأن القرآن الكريم فيه التذكير الكافي، والوعظ الشافي، لمن هو على استعداد للاستجابة لذلك.
فالضمير في إِنَّهُ يعود إلى القرآن، لأنه معلوم من المقام، والجملة بمنزلة التعليل للردع عن سؤالهم الذي اقترحوا فيه تنزيل صحف مفتوحة من عند الله- تعالى- تأمرهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم..
وقوله- سبحانه-: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تفريع عن كون القرآن تذكرة وعظة لمن كان له قلب يفقه، أو عقل يعقل.
أى: إن القرآن الكريم مشتمل على ما يذكر الإنسان بالحق، وما يهديه إلى الخير والرشد، فمن شاء أن يتعظ به اتعظ، ومن شاء أن ينتفع بهداياته انتفع، ومن شاء أن يذكر أوامره ونواهيه وتكاليفه.. فعل ذلك، وظفر بما يسعده، ويشرح صدره.
والتعبير بقوله- تعالى- فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يشعر بأن تذكر القرآن وحفظه. والعمل بأحكامه وإرشاداته.. في إمكان كل من كان عنده الاستعداد لذلك.
أى: إن التذكر طوع مشيئتكم- أيها الناس- متى كنتم جادين وصادقين ومستعدين لهذا التذكر، فاعملوا لذلك بدون إبطاء أو تردد..
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال:
وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
أى: فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ. لا يتم بمجرد مشيئتكم، وإنما يتم في حال مشيئة الله- تعالى- وإرادته، فهو
- سبحانه- أهل التقوى، أى: هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه، وهو- عز وجل «أهل المغفرة» أى: هو- وحده- صاحب المغفرة لذنوب عباده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فالمقصود من الآية الكريمة، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن، لا يتم إلا بعد إرادة الله- تعالى- ومشيئة، لأنه هو الخالق لكل شيء، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله، التي لا يعلمها أحد سواه.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فقال: قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له.
وبعد: فهذا تفسير لسورة المدثر، نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الراجي عفو ربه د. محمد سيد طنطاوى