الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الحالة والقصة التي أنكروها، وهي قيام الساعة.
أى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التوبيخ والتقريع: ليس الأمر كما زعمتم من أنه لا بعث ولا جزاء
…
بل الحق أن ذلك آت لا ريب فيه، وأن عودتكم إلى الحياة مرة أخرى لا تقتضي من خالقكم سوى صيحة واحدة يصيحها ملك من ملائكته بكم، فإذا أنتم قيام من قبوركم، ومجتمعون في المكان الذي يحدده الله- تعالى- لاجتماعكم ولحسابكم وجزائكم.
وعبر- سبحانه- عن اجتماعهم بأرض المحشر بإذا الفجائية فقال: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ للإيذان بأن اجتماعهم هذا سيكون في نهاية السرعة والخفة، وأنه سيتحقق في أعقاب الزجرة بدون أقل تأخير.
ووصف- سبحانه- الزجرة بأنها واحدة، لتأكيد ما في صيغة المرة من معنى الوحدة، أى: أن الأمر لا يقتضى سوى الإذن منا بصيحة واحدة لا أكثر، تنهضون بعدها من قبوركم للحساب والجزاء، نهوضا لا تملكون معه التأخر أو التردد
…
والمراد بها: النفخة الثانية.
وقال- سبحانه-: فَإِذا هُمْ بضمير الغيبة، إهمالا لشأنهم، وتحقيرا لهم عن استحقاق الخطاب.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله- تعالى-: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ.
وإلى هنا نجد السورة الكريمة قد حدثتنا حديثا بليغا مؤثرا عن أهوال يوم القيامة، وعن أحوال المجرمين في هذا اليوم العسير.
ثم ساق- سبحانه- بعد ذلك جانبا من قصة موسى مع فرعون، لتكون تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين، وتهديدا لهم حتى يقلعوا عن غيهم
…
فقال- تعالى-:
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
قال الإمام الرازي: اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين:
الأول: أنه- تعالى- حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث، حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، وكان ذلك يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم فذكر- سبحانه- قصة موسى- عليه السلام، وبين أنه تحمل المشقة في دعوة فرعون، ليكون ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن فرعون كان أقوى من كفار قريش
…
فلما تمرد على موسى، أخذه الله- تعالى- نكال الآخرة والأولى، فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك، إن أصروا، أخذهم الله وجعلهم نكالا.... «1» .
والمقصود من الاستفهام في قوله- تعالى-: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى
…
التشويق إلى الخبر، وجعل السامع في أشد حالات الترقب لما سيلقى إليه، حتى يكون أكثر وعيا لما سيسمعه.
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لقصد تسليته، ويندرج فيه كل من يصلح له.
والمعنى: هل وصل إلى علمك- أيها الرسول الكريم- خبر موسى- عليه السلام مع فرعون؟ إن كان لم يصل إليك فهاك جانبا من خبره نقصه عليك، فتنبه له، لتزداد ثباتا على ثباتك، وثقة في نصر الله- تعالى- لك على ثقتك.
والظرف «إذ» في قوله- تعالى-: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً متعلق بلفظ «حديث» ، والجملة بدل اشتمال مما قبلها.
و «الواد» المكان المنخفض بين جبلين، أو بين مكانين مرتفعين. و «المقدس» : بمعنى المطهر. و «طوى» اسم للوادي. وقد جاء الحديث عنه في آيات متعددة، منها قوله- تعالى-: فَلَمَّا أَتاها- أى النار- نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً «2» .
(1) تفسير الفخر الرازي ج 8 ص 321.
(2)
سورة طه الآيتان 11- 12.
والمعنى: هل بلغك- أيها الرسول الكريم- خبر موسى، وقت أن ناديناه وهو بالواد المقدس طوى، الذي هو بجانب الطور الأيمن، بالنسبة للقادم من أرض مدين التي هي في شمال الحجاز.
ويدل على ذلك قوله- تعالى-: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ
…
مقول لقول محذوف، أى: ناديناه وقلنا له: اذْهَبْ يا موسى إلى فرعون إنه طغى، أى: إنه تجاوز كل حد في الكفر والغرور والعصيان.
وفرعون: لقب لكل ملك من ملوك مصر في ذلك الزمان، وقد قالوا إن فرعون الذي أرسل الله- تعالى- إليه موسى- عليه السلام هو منفتاح بن رمسيس الثاني.
ثم بين- سبحانه- ما قاله لموسى على سبيل الإرشاد إلى أحكم وأفضل وسائل الدعوة إلى الحق فقال: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى.
والمقصود بالاستفهام هنا: الحض والترغيب في الاستجابة للحق، كما تقول لمن تنصحه:
هل لك في كذا، والجار والمجرور «لك» خبر لمبتدأ محذوف، أى: هل لك رغبة في التزكية.
أى: اذهب يا موسى إلى فرعون، فقل له على سبيل النصح الحكيم. والإرشاد البليغ:
هل لك يا فرعون رغبة في أن أدلك على ما يزكيك ويطهرك من الرجس والفسوق والعصيان.
وهل لك رغبة- أيضا- في أن أرشدك الى الطريق الذي يوصلك إلى رضى ربك، فيترتب على وصولك إلى الطريق السوى، الخشية منه- تعالى- والمعرفة التامة بجلاله وسلطانه.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ.... أى: وأرشدك إلى معرفة الله، أى: أنبهك عليه فتعرفه فَتَخْشى لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة
…
وذكر الخشية، لأنها ملاك الأمر، من خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شيء. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«من خاف أدلج، - أى: سار في أول الليل- ومن أدلج بلغ المنزل» .
بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر
(1) سورة القصص الآيتان 29- 30.
بذلك في قوله- تعالى- فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى
…
«1» .
والحق أن هاتين الآيتين فيهما أسمى ألوان الإرشاد إلى الدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة.
والفاء في قوله- تعالى-: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى. فَكَذَّبَ وَعَصى للإفصاح والتفريع على كلام محذوف يفهم من المقام. والتقدير: فامتثل موسى- عليه السلام أمر ربه، فذهب إلى فرعون، فدعاه إلى الحق، فكذبه فرعون، فما كان من موسى إلا أن أراه الآية الكبرى التي تدل على صدقه، وهي أن ألقى أمامه عصاه فإذا هي حية تسعى، وأن نزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء.
ولكن فرعون لم يستجب لدعوة موسى، بعد أن أراه الآية الكبرى الدالة على صدقه، بل كذب ما رآه تكذيبا شديدا، وعصى أمر ربه عصيانا كبيرا.
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى أى: ثم أضاف إلى تكذيبه وعصيانه. إعراضه وتوليه عن الإيمان والطاعة. وسعيه سعيا حثيثا في إبطال أمر موسى، وإصراره على تكذيب معجزته.
وجاء العطف هنا بثم، للدلالة إلى أنه قد تجاوز التكذيب والعصيان، إلى ما هو أشد منهما في الجحود والعناد، وهو الإعراض عن الحق والسعى الشديد في إبطاله.
ثم بين- سبحانه- ما فعله بعد ذلك فقال: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى.
والحشر: جمع الناس، والنداء: الجهر بالصوت لإسماع الغير، ومفعولاهما محذوفان.
أى: فجمع فرعون الناس عن طريق جنده، وناداهم بأعلى صوته، قائلا لهم: أنا ربكم الأعلى الذي لا رب أعلى منه، وليس الأمر كما يقول موسى من أن لكم إلها سواي.
والتعبير بالفاء في قوله: فَنادى للإشعار بأنه بمجرد أن جمعهم دعاهم إلى الاعتراف بأنه هو رب الأرباب.
وجاء نداؤه بالصيغة الدالة على الحصر أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى للرد على ما قاله موسى له.
من وجوب إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده.
ثم بين- سبحانه- ما ترتب على هذا الفجور الذي تلبس به فرعون، وعلى هذا الطغيان الذي تجاوز معه كل حد، فقال: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 695.
والنكال: مصدر بمعنى التنكيل، وهو العقاب الذي يجعل من رآه في حالة تمتعه وتصرفه عما يؤدى إليه، يقال: نكّل فلان بفلان، إذا أوقع به عقوبة شديدة تجعله نكالا وعبرة لغيره.
وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد لقوله فَأَخَذَهُ، لأن معناه نكل به، والتعبير بالأخذ للإشعار بأن هذه العقوبة كانت محيطة بالمأخوذ بحيث لا يستطيع التفلت منها.
والمراد بالآخرة: الدار الآخرة، والمراد بالأولى: الحياة الدنيا.
أى: أن فرعون عند ما تمادى في تكذيبه وعصيانه وطغيانه
…
كانت نتيجة ذلك أن أخذه الله- تعالى- أخذ عزيز مقتدر، بأن أنزل به في الآخرة أشد أنواع الإحراق، وأنزل به في الدنيا أفظع ألوان الإغراق.
وقدم- سبحانه- عذاب الآخرة على الأولى، لأنه أشد وأبقى.
ومنهم من يرى أن المراد بالآخرة قوله لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، وأن المراد بالأولى تكذيبه لموسى- عليه السلام أى، فعاقبه الله- تعالى- على هاتين المعصيتين وهذا العقاب الأليم، بأن أغرقه ومن معه جميعا
…
ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأقرب إلى ما تفيده الآية الكريمة، إذ من المعروف أن الآخرة، هي ما تقابل الأولى وهي دار الدنيا، ولذا قال الإمام ابن كثير: قوله- تعالى-:
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أى: انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا. ويوم القيامة بئس الرفد المرفود، كما قال- تعالى-:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ. هذا هو الصحيح في معنى الآية، أن المراد بقوله: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أى: الدنيا والآخرة. وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية. وقيل: كفره وعصيانه، والصحيح الذي لا شك فيه الأول
…
«1» .
والإشارة في قوله- تعالى-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، تعود إلى حديث موسى الذي دار بينه وبين فرعون، وما ترتب عليه من نجاة لموسى ومن إهلاك لفرعون.
أى: إن في ذلك الذي ذكرناه عما دار بين موسى وفرعون، لعبرة وعظة، لمن يخشى الله- تعالى-، ويقف عند حدوده، لا لغيره ممن لا يتوبون ولا يتذكرون ولا تخالط أنفسهم خشية الله- تعالى-.
والمقصود من هذه القصة كلها، تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهديد المشركين بأنهم إذا ما استمروا في طغيانهم، كانت عاقبتهم كعاقبة فرعون.
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 338.