الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاضر ناظر لهم، بخلاف المؤمنين، فالحجاب: مجاز عن عدم الرؤية، لأن المحجوب لا يرى ما حجب، أو الحجب المنع، والكلام على حذف مضاف. أى: عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه- سبحانه-.
واحتج مالك- رحمه الله بهذه الآية، على رؤية المؤمنين له- تعالى-، من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص.
وقال الشافعى- رحمه الله: لما حجب- سبحانه- قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا.. «1» .
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ بيان للون آخر من سوء مصيرهم.
أى: أن هؤلاء المكذبين سيكونون يوم القيامة محجوبين عن رؤية الله- تعالى- لسخطه عليهم، وممنوعين من رحمته، ثم إنهم بعد ذلك لداخلون في أشد طبقات النار حرا.. ثم يقال لهم بواسطة خزنة جهنم على سبيل التقريع والتأنيب، هذا هو العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا، وتقولون لمن يحذركم منه: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على أشد ألوان الإهانة لأنها أخبرت أن هؤلاء المكذبين: محجوبون عن ربهم، وأنهم مقاسون حر جهنم، وأنهم لا يقابلون من خزنتها إلا بالتيئيس من الخروج منها، وبالتأنيب والتقريع.
وكعادة القرآن الكريم في قرن الترهيب بالترغيب، والعكس، ساقت السورة الكريمة بعد ذلك، ما أعده- سبحانه- للأبرار من خير وفير، ومن نعيم مقيم، فقال- تعالى-:
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]
كَلَاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
(1) تفسير الآلوسى ج 30 ص 72.
وقوله: كَلَّا هنا، تكرير للردع والزجر السابق في قوله- تعالى- قبل ذلك:
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، لبيان ما يقابل ذلك من أن كتاب الأبرار في عليين.
ولفظ «عليين» جمع عليّ- بكسر العين وتشديد اللام المكسورة- من العلو. ويرى بعضهم أن هذا اللفظ مفرد، وأنه اسم للديوان الذي تكتب فيه أعمال الأبرار.
قال صاحب الكشاف: وكتاب الأبرار: ما كتب من أعمالهم. وعليون: علم لديوان الخير، الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين. منقول من جمع «عليّ» بزنة فعّيل- بكسر الفاء والعين المشددة- من العلو، كسجّين من السجن. سمى بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالى الدرجات في الجنة، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة.. تكريما له وتعظيما.. «1» .
أى: حقا إن ما كتبته الملائكة من أعمال صالحة للأتقياء الأبرار، لمثبت في ديوان الخير، الكائن في أعلى مكان وأشرفه.
وقوله- سبحانه-: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تفخيم لشأن هذا الديوان، وتنويه عظيم بشرفه.
وقوله: كِتابٌ مَرْقُومٌ تفسير لما كتب لهؤلاء الأبرار من خير وبركة، أى: كتاب الأبرار كتاب واضح بين، يقرؤه أصحابه بسهولة ويسر، فتنشرح صدورهم، وتقر عيونهم.
وقوله- تعالى- يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ صفة أخرى جيء بها على سبيل المدح لهذا المكتوب من الأعمال الصالحة لهؤلاء الأخيار.
أى: كتاب الأبرار، وصحائف أعمالهم، في أسمى مكان وأعلاه، وهو كتاب واضح بين، يقرءونه فيظهر البشر والسرور على وجوههم، وهو فوق ذلك يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أى:
يطلع عليه الملائكة المقربون من الله- تعالى-، ليكون هذا الاطلاع شهادة لهؤلاء الأبرار، بأنهم محل رضا الله- تعالى- وتكريمه وثوابه.
ثم بين- سبحانه- حالهم في الجنة، بعد بيان ما اشتمل عليه كتابهم من خير وبر فقال- تعالى-: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أى: لفي نعيم دائم، لا يحول ولا يزول.
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ والأرائك: جمع أريكة- بزنة سفينة- وهي اسم للسرير
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 722.
الذي يكون مفروشا فرشا أنيقا جميلا.
أى: هم في نعيم دائم لا يقادر قدره، وهم- أيضا- يجلسون على السرر المهيأة لجلوسهم تهيئة حسنة، ينظرون إلى كل ما يدخل البهجة والسرور على نفوسهم.
وحذف مفعول «ينظرون» لقصد التعميم، أى: ينظرون إلى كل ما يبهج نفوسهم.
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أى: تعرف في وجوههم- أيها الناظر إليهم- البهجة والحسن، وصلاح البال، وهناءة العيش.
وإضافة النضرة- وهي الجمال الواضح- إلى النعيم- الذي هو بمعنى التنعم والترفه- من إضافة المسبب إلى السبب. وهذه الجملة الكريمة صفة ثالثة من صفات هؤلاء الأبرار، ثم تأتى الصفة الرابعة المتمثلة في قوله- تعالى-: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ.
والرحيق: اسم للخمر الطيبة الصافية الخالية من كل ما يكدر أو يذهب العقل.
والمختوم: أى المسدود الذي لم تمسه يد قبل أيدى هؤلاء الأبرار.
وقوله: خِتامُهُ مِسْكٌ صفة ثانية للرحيق. أى: أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم- أيضا- أنهم يسقيهم ربهم- بفضله وكرمه- من خمر طيبة بيضاء لذيذة، خالصة من كل كدر.. هذه الخمر مختوم على إنائها بخاتم، بحيث لم تمسها يد قبل أيديهم. وهذه الخمر- أيضا- من صفاتها أن شاربها يجد في نهاية شربها ما يشبه المسك في جودة الرائحة.
وقال الشوكانى: وقوله: خِتامُهُ مِسْكٌ أى: آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه، وجد ريحه كريح المسك. وقيل: مختوم أوانيه بمسك مكان الطين، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته، وطيب رائحته.
والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه، كما تختم الأشياء بالطين ونحوه.
وقراءة الجمهور خِتامُهُ وقرأ الكسائي خاتمه والخاتم والختام يتقاربان في المعنى إلا أنا الخاتم الاسم، والختام المصدر.. «1» .
واسم الإشارة في قوله- تعالى-: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ يعود للرحيق المختوم، الدال على صلاح بالهم، وحسن أحوالهم.
وأصل التنافس: التغالب في الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه النفوس، بحيث
(1) تفسير فتح القدير للشوكانى ج 5 ص 402.
يبتغيه ويطلبه كل إنسان لنفسه خاصة. يقال: نفس فلان على فلان بهذا الشيء- كفرح- إذا بخل به عليه. أى: ومن أجل الحصول على ذلك الرحيق المختوم، والنعيم المقيم..
فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون، وليتنافس المتنافسون في وجوه الخير. عن طريق المسارعة في تقديم الأعمال التي ترضى الله- تعالى-.
فالمقصود من الآية الكريمة: تحريض الناس وحضهم على تقديم العمل الصالح، الذي يوصلهم يوم القيامة إلى أعلى الدرجات.
وقوله- سبحانه-: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صفة ثالثة من صفات هذا الرحيق.
والمزاج: ما يمزج به الشيء، ويطلق على الممزوج بالشيء- كما هنا- فهو من إطلاق المصدر على المفعول.
والتسنيم: علم لعين في الجنة مسماة بهذا الاسم، وهذا اللفظ مصدر سنمه إذا رفعه. يقال:
سنم فلان الطعام. إذا جعله كهيئة السنام في ارتفاعه.
قالوا: وسميت هذه العين بهذا الاسم، لأنها تنبع من مكان مرتفع، أو لعلو مكانتها.
وقوله: عَيْناً منصوب على المدح.
أى: ومزاج هذا الرحيق وخليطه كائن من ماء لعين في الجنة، مرتفعة المكان والمكانة، هذه العين يشرب منها المقربون إلى الله- تعالى- شرابهم.
قال الآلوسى: والباء في قوله بِهَا إما زائدة. أى يشربها. أو بمعنى من. أى:
يشرب منها، أو على تضمين يشرب معنى يروى. أى: يشرب راوين بها. أى يروى بها المقربون.. «1» .
وإلى هنا نجد أن هذه الآيات الكريمة قد بشرت الأبرار ببشارات متعددة، بشرتهم بأن صحائف أعمالهم في أعلى عليين، وبأنهم في تعميم مقيم، وبأنهم ينظرون إلى كل ما يشرح صدورهم، وبأن الناظر إليهم يرى آثار النعمة والرفاهية على وجوههم، وبأن شرابهم من خمر طيبة لذيذة الطعم والرائحة.
ثم حكى- سبحانه- جانبا من الرذائل التي كان يفعلها المشركون مع المؤمنين، وبشر المؤمنين بأن العاقبة الطيبة ستكون لهم.. فقال- تعالى-:
(1) تفسير الآلوسى ج 30 ص 76.