الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير وقد افتتحت هذه السورة بقوله- تعالى-:
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15]
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذي، عن ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر- من الجن- الذي أخذوا نحو تهامة، عامدين إلى سوق عكاظ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح، فلما سمعوا القرآن، استمعوا إليه وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدى الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، وأنزل الله- تعالى- على نبيه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ....
وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أتانى داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن..
وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها: أنه لما مات أبو طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإيمان.. فأغروا به سفهاءهم، يسبونه ويستهزئون به..
فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم، حتى إذا كان ببطن نخلة- هو موضع بين مكة والطائف- قام يصلى من الليل، فمر به نفر من جن نصيبين- وهو موضع قرب الشام- فاستمعوا إليه، فلما فرغ من صلاته، ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله- تعالى- خبرهم عليه..
وهناك روايات أخرى في عدد هؤلاء الجن، وفي الأماكن التي التقوا فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم..
ويبدو لنا من مجموع الروايات، أن لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن «1» .
قال الآلوسى: وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك. وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال:
صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.. «2» .
قال القرطبي: واختلف أهل العلم في أصل الجن. فعن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان..
وعن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر، والشياطين هم ولد إبليس، لا يموتون إلا مع إبليس.. «3» .
وقال بعض العلماء: عالم الجن من العوالم الكونية، كعالم الملائكة وقد أخبر الله- تعالى- أنه خلقه من مارج من نار، أى: أن عنصر النار فيه هو الغالب، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه، أى: بصورته الجبلية، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى، كما رئي جبريل حين تشكل بشكل آدمي.
وأخبر- سبحانه- بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة. وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل
…
وأخبر بأن من الجن مؤمنين، وأن منهم شياطين متمردين، ومن هؤلاء إبليس اللعين.
ولم يختلف أهل الملل في وجودهم، بل اعترفوا به كالمسلمين، وإن اختلفوا في حقيقتهم، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة، وأسرارها محجوبة، وكثير منها لا يرى بالحواس. ألا ترى الروح- وهي مما لا شك في وجودها في الإنسان والحيوان- لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها..
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، فدعاهم الى التوحيد، وأنذرهم
(1) راجع تفسير القرطبي ج 16 ص 210 وج 19 ص 2، تفسير ابن كثير ج 7 ص 272.
(2)
تفسير الآلوسى ج 26 ص 30 وج 29 ص 83.
(3)
تفسير القرطبي ج 19 ص 5.
وبلغهم القرآن، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس، فمؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا في القرآن والسنة.. «1» .
وقد افتتح- سبحانه- السورة الكريمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن. فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
…
وفي هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شيء هام، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه، والامتثال للمأمور به، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به.
والنفر: الجماعة من واحد إلى عشرة، وأصله في اللغة الجماعة من الإنس فأطلق على الجماعة من الجن على وجه التشبيه.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- للناس، إن الله- تعالى- قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل: أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن..
فقالوا- على سبيل الفرح والإعجاب بما سمعوا-: إِنَّا سَمِعْنا من الرسول صلى الله عليه وسلم قُرْآناً عَجَباً أى: إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن، بديع الأسلوب، عظيم القدر..
هذا القرآن يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أى: إلى الخير والصواب والهدى فَآمَنَّا بِهِ إيمانا حقا، لا يخالطه شك أو ريب وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أى: فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، ولن نشرك معه في العبادة أحدا كائنا من كان هذا الأحد.
والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك، دعوة مشركي قريش إلى الإيمان بالحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإنس.
وضمير «أنه» للشأن، وخبر «أن» جملة «استمع نفر من الجن» ، وتأكيد هذا الخبر بأن، للاهتمام به لغرابته. ومفعول «استمع» محذوف لدلالة قوله: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً عليه.
ووصفهم للقرآن بكونه قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن، وأسلوبه الحكيم، ومعانيه البديعة.. ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء في قوله: فَآمَنَّا بِهِ....
(1) صفوة البيان ج 2 ص 470 فضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
والتعبير بقوله- تعالى-: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا.. يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، أو لإخوانهم الذين رجعوا إليهم، كما في قوله- تعالى- في سورة الأحقاف: قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ
…
ويحتمل أنهم قالوا ذلك في أنفسهم على سبيل الإعجاب، كما في قوله- تعالى-: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك، لأن هذا هو الذي يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به.
ثم حكى- سبحانه- أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به، أخذوا في الثناء على الخالق- عز وجل فقال حكاية عنهم: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً.
ولفظ «وأن» قد تكرر في هذه السورة الكريمة أكثر من عشر مرات، تارة بالإضافة الى ضمير الشأن، وتارة بالإضافة الى ضمير المتكلم.
ومن القراء السبعة من قرأه بفتح الهمزة، ومنهم من قرأه بكسرها، فمن قرأ وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.. بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور في قوله فَآمَنَّا بِهِ فكأنه قيل: فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا.. ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكي بعد القول، أى: قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، وقالوا: إنه تعالى جد ربنا..
قال الجمل في حاشيته ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا
…
قرأه حمزة والكسائي وأبو عامر وحفص بفتح «أنّ» ، وقرأه الباقون بالكسر..
وتلخيص هذا أن «أنّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام: قسم ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
…
لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني أن يقترن بالواو، وهو أربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها، وهي قوله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ
…
وهذا هو القسم الثالث. والثانية وهي قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ
…
كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون.
والاثنتا عشرة الباقية، فتحها بعضهم، وكسرها بعضهم وهي قوله: - تعالى-: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وقوله: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ.. وأَنَّا ظَنَنَّا.. وأَنَّهُ كانَ رِجالٌ.. وأَنَّهُمْ ظَنُّوا..
وأَنَّا لَمَسْنَا.. وأَنَّا كُنَّا.. وأَنَّا لا نَدْرِي.. وأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ.. وأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى.. وأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ «1» .
وقوله: تَعالى من التعالي وهو شدة العلو. وجَدُّ رَبِّنا الجد- بفتح الجيم- العظمة والجلال.
قال القرطبي: الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا. أى: عظم. فمعنى جد ربنا: عظمته وجلاله.
وقيل معنى «جد ربنا
…
» : غناه، ومنه قيل للحظ جد. ورجل مجدود، أى: محظوظ.
وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أى: ولا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما تنفعه الطاعة.. «2» .
وجملة مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً بيان وتفسير لما قبله.
أى: آمنا به- سبحانه- إيمانا حقا، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده، وصدقنا- أيضا- أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا، وتنزه في ذاته وصفاته، عن أن يكون له شريك في ملكه. أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين.
وفي هذا القول من هذا النفر من الجن، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله- تعالى-، وأنهم- أى الملائكة- جاءوا عن طريق مصاهرته- سبحانه- للجن، كما حكى عنهم- سبحانه- ذلك في قوله: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
ثم حكى- سبحانه- أقوالا أخرى لهؤلاء المؤمنين من الجن فقال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً.. والمراد بالسفيه هنا: إبليس- لعنه الله-، وقيل المراد به الجنس فيشمل كل كافر ومتمرد من الجن، والشطط، مجاوزة الحد والعدل في كل شيء، أى: أننا ننزه الله- تعالى- عما كان يقوله سفهاؤنا- وعلى رأسهم إبليس- من أن لله- عز وجل صاحبة أو ولدا، فإن هذا القول بعيد كل البعد عن الحق والعدل والصواب.
وقوله: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن كفرهم السابق، فكأنهم يقولون بعد أن استمعوا إلى القرآن، وآمنوا بالله- تعالى- وحده: إننا
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 416.
(2)
تفسير القرطبي ج 19 ص 8.
ننزه الله- تعالى- عما قاله السفهاء في شأنه.. وإذا كنا قد اتبعناهم قبل إيماننا، فسبب ذلك أننا صدقنا هؤلاء السفهاء فيما قالوه لنا، وما كنا نعتقد أو نتصور أو نظن أن هؤلاء السفهاء يصل بهم الفجور والكذب.. إلى هذا الحد الشنيع.
وقوله: كَذِباً مفعول به لتقول، أو صفة لمصدر محذوف، أى: قولا مكذوبا.
ثم حكى- سبحانه- عنهم تكذيبهم لما كان متعارفا عليه في الجاهلية من أن للجن سلطانا على الناس، وأن لهم قدرة على النفع والضر
…
فقال- تعالى-: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً
…
وقوله: يَعُوذُونَ من العوذ بمعنى الاستجارة بالشيء والالتجاء إليه طلبا للنجاة.
والرهق: الإثم وغشيان المحارم..
قال صاحب الكشاف: والرهق: غشيان المحارم، والمعنى: أن الإنس باستعاذتهم بهم- أى بالجن- زادوهم كفرا وتكبرا. وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره، وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا ذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس، فذلك رهقهم، أو: فزاد الجنّ والإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم.. «1» .
فالمقصود من الآية الكريمة بيان فساد ما كان شائعا في الجاهلية- بل وفي بعض البيئات حتى الآن- من أن الجن لهم القدرة على النفع والضر وأن بعض الناس كانوا يلجئون إليهم طلبا لمنفعتهم وعونهم على قضاء مصالحهم.
وإطلاق اسم الرجال على الجن، من باب التشبيه والمشاكلة لوقوعه من رجال من الإنس، فإن الرجل اسم للمذكر البالغ من بنى آدم.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً. بيان لما استنكره هؤلاء النفر المؤمنون من الجن على قومهم الكافرين. وعلى من يشبهونهم في الكفر من الإنس.
أى: وأنهم- أى الإنس- ظنوا واعتقدوا كَما ظَنَنْتُمْ واعتقدتم أيها الجن، أن الله- تعالى- لن يبعث أحدا بعد الموت، وهذا الظن منهم ومنكم ظن خاطئ فاسد، فإن البعث حق، وإن الحساب حق، وإن الجزاء حق.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 624. [.....]
وفي هذا القول من مؤمنى الجن، تعريض بمشركي قريش، الذين أنكروا البعث، وقالوا:
ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ
…
ثم حكى- سبحانه- عنهم ما قالوه عند اقترابهم من السماء، طلبا لمعرفة أخبارها.. قبل أن يؤمنوا فقال: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
…
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً.
وقوله: لَمَسْنَا من اللمس، وحقيقته الجس باليد، واستعير هنا، لطلب أخبار السماء، لأن الماس للشيء في العادة، إنما يفعل ذلك طلبا لاختباره ومعرفته.
والحرس: اسم جمع للحراس، كخدم وكخدام، والشهب: جمع شهاب، وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم، فتسقط في الجو أو على الأرض أو في البحر.
أى: وأنا طلبنا أخبار السماء كما هي عادتنا قبل أن نؤمن فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً أى: فوجدناها قد امتلأت بالحراس الأشداء من الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع
…
كما أنا قد وجدناها قد امتلأت بالشهب التي تنقض على مسترقى السمع فتحرقهم.
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أى من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أى: كنا نقعد منها مقاعد كائنة للسمع، خالية من الحرس والشهب
…
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ بعد نزول القرآن، الذي هو معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم والذي آمنا به وصدقناه.
يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أى: فمن يجلس الآن ليسترق السمع من السماء يجد له شهابا معدا ومهيأ للانقضاض عليه فيهلكه.
فالرصد: جمع راصد، وهو الحافظ للشيء، وهو وصف لقوله «شهابا» .
والفاء في قوله: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ للتفريع على محذوف، وكلمة «الآن» في مقابل كلمة «كنا» الدالة على المحذوف..
والتقدير: كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فنستمع أشياء، وقد انقضى ذلك، وصرنا من يستمع الآن منا يجد له شهابا رصدا، ينقض عليه فيحرقه.
والمقصود من هاتين الآيتين: تأكيد إيمانهم بالله- تعالى-، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وحض غيرهم على اتباعهم، وتحذيرهم من التعرض لاستراق السمع.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين: «يخبر الله- تعالى- عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك، لئلا يسترقوا شيئا من القرآن، فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق، وهذا من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قالت الجن: «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» أى: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه» «1» .
وقال بعض العلماء: والصحيح أن الرجم كان موجودا قبل المبعث. فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر وازداد، كما ملئت السماء بالحرس والشهب. وليس في الآية دلالة على أن كل ما يحدث من الشهب إنما هو للرجم، بل إنهم إذا حاولوا استراق السمع رجموا بالشهب، وإلا فالشهب الآن وفيما مضى قد تكون ظواهر طبيعية ولأسباب كونية
…
«2» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه على سبيل الإقرار بأنهم لا يعلمون شيئا من الغيوب فقال: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.
أى: وقال هؤلاء الجن المؤمنون على سبيل الاعتراف بأن مرد علم الغيوب إلى الله- تعالى- وحده: قالوا وإنا لا ندري ولا نعلم الآن، بعد هذه الحراسة المشددة للسماء، أأريد بأهل الأرض ما يضرّ بهم، أم أراد الله- تعالى- بها ما ينفعهم؟.
قال الآلوسى: ولا يخفى ما في قولهم هذا من الأدب، حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله- تعالى-، كما صرحوا به في الخير، وإن كان فاعل الكل هو الله- تعالى- ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد
…
«3» .
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه في وصف حالهم وواقعهم فقال: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ.... أى: منا الموصوفون بالصلاح والتقوى
…
وهم الذين آمنوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، ولم يشركوا معه في العبادة أحدا
…
وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أى: ومنا قوم دون ذلك في الصلاح والتقوى
…
وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم، ولم يستقيموا على صراطه ودينه.
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 267.
(2)
تفسير صفوة البيان ج 2 ص 472 لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.
(3)
تفسير الآلوسى ج 29 ص 88.
وقوله: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، تشبيه بليغ. والطرائق: جمع طريقة، وهي الحالة والمذهب.
وقددا: جمع قدّة، وهي الفرقة والجماعة من الناس، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم.
والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها.
أى: وأنا في واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار
…
ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل
…
فنحن في حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة في حسنها وقبحها، وكالطرق المتعددة في استقامتها واعوجاجها
…
أما الآن فقد وفقنا الله- تعالى- إلى الإيمان به، وإلى إخلاص العبادة له
…
ومن وجوه البلاغة في الآية الكريمة، أنهم قالوا: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال في الصلاح، ومن هم قد انحدروا في الشرور والآثام إلى درجة كبيرة، وهم الأشرار.
والمقصود من الآية الكريمة، مدح الصالحين، وذم الطالحين، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإيمان.
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه بشأن عجزهم المطلق أمام قدرة خالقهم فقال: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً.
والظن هنا بمعنى العلم واليقين. وقوله: نُعْجِزَهُ من الإعجاز، وهو جعل الغير عاجزا عن الحصول على ما يريد. وقوله فِي الْأَرْضِ وهَرَباً في موضع الحال.
أى: وأننا قد علمنا وتيقنا بعد إيماننا وبعد سماعنا للقرآن
…
أننا في قبضة الله- تعالى- وتحت قدرته، ولن نستطيع الهرب من قضائه سواء كنا في الأرض أم في غيرها.
فقوله: فِي الْأَرْضِ إشارة إلى عدم قدرتهم على النجاة من قضائه- تعالى- مهما حاولوا اللجوء إلى أية بقعة من بقاعها، ففي أى بقعة منها يكونون، يدركهم قضاؤه وقدره.
وقوله: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً إشارة إلى أن هربهم إلى السماء لا إلى الأرض، لن ينجيهم مما يريده- سبحانه- بهم.
فالمقصود بالآية الكريمة: إظهار عجزهم المطلق أمام قدرة الله- تعالى- وعدم تمكنهم من الهرب من قضائه، سواء ألجأوا إلى الأرض، أم إلى السماء.
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله- تعالى-: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
ثم حكى- سبحانه- حالهم عند ما سمعوا ما يهديهم إلى الرشد
…
فقال- تعالى-:
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً....
أى: وأننا لما سمعنا الهدى، أى: القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم آمَنَّا بِهِ بدون تردد أو شك فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ وبما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فَلا يَخافُ بَخْساً أى: نقصا في ثوابه وَلا رَهَقاً أى: ولا يخاف- أيضا- ظلما يلحقه بزيادة في سيئاته، أو إهانة تذله وتجعله كسير القلب، منقبض النفس.
فالمراد بالبخس: الغبن في الأجر والثواب. والمراد بالرهق: الإهانة والمذلة والمكروه.
والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة في عدالة الله- تعالى-.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً تأكيد وتفصيل لما قبله.
والقاسطون: هم الجائرون الظالمون، جمع قاسط، وهو الذي ترك الحق واتبع الباطل، اسم فاعل من قسط الثلاثي بمعنى جار، بخلاف المقسط فهو الذي ترك الباطل واتبع الحق.
مأخوذ من أقسط الرباعي بمعنى عدل.
أى: وأنا- معاشر الجن- مِنَّا الْمُسْلِمُونَ الذين أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة.
وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أى: الجائرون المائلون عن الحق إلى الباطل.
فَمَنْ أَسْلَمَ منا فَأُولئِكَ المسلمون تَحَرَّوْا رَشَداً أى: توخوا وقصدوا الرشد والحق.
أَمَّا الْقاسِطُونَ
وهم الذين آثروا الغي على الرشدكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أى:
وقودا لجهنم، كما توقد النار بما يلقى فيها من حطب وما يشبهه.
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوالا متعددة، لهؤلاء النفر من الجن، الذين استمعوا إلى القرآن، فآمنوا به، وقالوا لن نشرك بربنا أحدا.
ثم بين- سبحانه- سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي أن الاستقامة على طريقه توصل إلى السعادة، وأن الإعراض عن طاعته- تعالى- يؤدى إلى الشقاء، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس حقائق دعوته، وخصائص رسالته، وإقراره أمامهم بأنه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، وأن علم الغيب مرده إلى الله- تعالى- وحده، فقال- سبحانه-: