الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان قال: «ائتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين» .
وإما لأن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة، منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبى بكر وعمر عن بيان معناه، لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله مَتاعاً لَكُمْ أو إلى قوله وَلِأَنْعامِكُمْ «1» .
ثم ختم- سبحانه- هذه النعم بقوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ، أى: أنبت لكم تلك الزروع والثمار
…
لتكون موضع انتفاع لكم ولأنعامكم إلى حين من الزمان.
إذ المتاع: هو ما ينتفع به الإنسان إلى حين ثم ينتهى ويزول، ولفظ «متاعا» منصوب بفعل محذوف، أى: فعل ذلك متاعا لكم، أو متعكم بذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم.
أو قوله مَتاعاً لَكُمْ حال من الألفاظ السابقة: العنب والقضب والزيتون والنخل.
أى: حالة كون هذه المذكورات موضع انتفاع لكم ولأنعامكم.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحديث عن أحوال الناس في يوم القيامة.
فقال- تعالى-:
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
والفاء في قوله- سبحانه- فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من فنون النعم. وجواب فَإِذا محذوف يدل عليه قوله- تعالى- بعد ذلك:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، ويصح أن يكون جوابه قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ.
والصاخة: الصيحة الشديدة التي تصخّ الآذان، أى تزلزلها لشدة صوتها، وأصل الصخ:
الصك الشديد، والمراد بها هنا: النفخة الثانية التي بعدها يبعث الناس من قبورهم
…
(1) تفسير التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور ج 30 ص 133.
أى: فإذا جاءت الصيحة العظيمة التي بعدها يخرج الناس من قبورهم للحساب والجزاء، كان ما كان من سعادة أقوام، ومن شقاء آخرين.
وقوله- سبحانه-: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ بدل مما قبله وهو قوله فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ والفرار: الهروب من أجل التخلص من شيء مخيف.
والمعنى: يوم يقوم الناس من قبورهم للحساب والجزاء يكونون في كرب عظيم، يجعل الواحد منهم، يهرب من أخيه الذي هو من ألصق الناس به، ويهرب كذلك من أمه وأبيه، ومن صاحبته- وهي زوجه- وبنيه الذين هم فرع عنه.
والمراد بفراره منهم: عدم اشتغاله بشيء يتعلق بهم، وعدم التفكير فيهم وفي الالتقاء بهم، لاشتغاله بحال نفسه اشتغالا ينسيه كل شيء سوى التفكير في مصيره
…
وذلك لشدة الهول، وعظم الخطب.
وخص- سبحانه- هؤلاء النفر بالذكر، لأنهم أخص القرابات، وأولاهم بالحنو والرأفة، فالفرار منهم لا يكون إلا في أشد حالات الخوف والفزع.
قال صاحب الكشاف: «يفر» منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه بأنهم لا يغنون عنه شيئا: وبدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين، لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه
…
«1» .
وجملة: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مستأنفة. واردة لبيان سبب الفرار.
وللمبالغة في تهويل شأن هذا اليوم.
أى: لكل واحد منهم في هذا اليوم العظيم، شأن وأمر يغنيه ويكفيه عن الاشتغال بأى أمر آخر سواه. يقال: فلان أغنى فلانا عن كذا، إذا جعله في غنية عنه.
وقد ساق ابن كثير- رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث، منها ما رواه النسائي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون حفاة عراة غرلا» - بضم فسكون- جمع أغرل، وهو الأقلف غير المختون- قال ابن عباس: فقالت زوجته: يا رسول الله، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال:«لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» . أو قال: «ما أشغله عن النظر» «2» .
ثم بين- سبحانه أقسام الناس في هذا اليوم فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 705.
(2)
راجع تفسير ابن كثير ج 7 ص 349.
مُسْتَبْشِرَةٌ أى: وجوه كثيرة في هذا اليوم تكون مضيئة مشرقة، يعلوها السرور، والاستبشار والانشراح، لما تراه من حسن استقبال الملائكة لهم.
وقوله: وُجُوهٌ مبتدأ وإن كان نكرة، إلا أنه صح الابتداء به لكونه في حيز التنويع ومُسْفِرَةٌ خبره، وقوله يَوْمَئِذٍ متعلق به، والإسفار: النور والضياء.
والمراد أن هذه الوجوه متهللة فرحا، وعليها أثر النعيم.
أما القسم المقابل لهذا القسم، فقد عبر عنه- سبحانه- بقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أى: عليها غبار، من شدة الهم والكرب والغم الذي يعلوها.
تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أى: تغشاها وتعلوها ظلمة وسواد، وذلة وهوان، من شدة ما أصابها من خزي وخسران. يقال: فلان رهقه الكرب، إذا اعتراه وغشيه.
أُولئِكَ يعنى أصحاب تلك الوجوه التي يعلوها الغبار والسواد هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أى: الجامعون بين الكفر الذي هو فساد الاعتقاد، وبين الفجور الذي هو فساد القول والفعل.
نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا جميعا من أصحاب الوجوه المسفرة، الضاحكة المستبشرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
…