الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير قال الله- تعالى-:
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 30]
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَاّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هذا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
قد افتتح الله- تعالى- سورة المدثر، بالملاطفة والمؤانسة في النداء والخطاب، كما افتتح سورة المزمل. والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان، إذا لبس الدثار، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذي يلي البدن، ومنه حديث:«الأنصار شعار والناس دثار» .
قال القرطبي: قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين
والملاطفة من ربه، كما تقدم في سورة المزمل. ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلىّ إذ نام في المسجد «قم أبا تراب» .
وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة- رضى الله عنها-، فسقط رداؤه وأصابه التراب. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق «قم يا نومان» «1» .
والمراد بالقيام في قوله- تعالى-: قم فأنذر، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره- سبحانه- به، والإنذار هو الإخبار الذي يصاحبه التخويف.
أى: قم- أيها الرسول الكريم- وانهض من مضجعك، وبادر بعزيمة وتصميم، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم، إذا ما استمروا في كفرهم، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم، ومرهم بأن يخلصوا له- تعالى- العبادة والطاعة.
والتعبير بالفاء في قوله: فَأَنْذِرْ للإشعار بوجوب الإسراع بهذا الإنذار بدون تردد.
وقال: فأنذر، دون فبشر، لأن الإنذار هو المناسب في ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال.
ومفعول أنذر محذوف. أى: قم فأنذر الناس، ومرهم بإخلاص العبادة لله.
وقوله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أمر آخر له صلى الله عليه وسلم ولفظ وَرَبَّكَ منصوب على التعظيم لفعل فَكَبِّرْ قدم على عامله لإفادة التخصيص.
أى: يا أيها المدثر بثيابه لخوفه مما رآه من ملك الوحى، لا تخف، وقم فأنذر الناس من عذاب الله، إذا ما استمروا في شركهم، واجعل تكبيرك وتعظيمك وتبجيلك لربك وحده، دون أحد سواه، وصفه بما هو أهله من تنزيه وتقديس.
والمراد بتطهير الثياب في قوله- تعالى-: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهيرها من النجاسات.
والمقصود بالثياب حقيقتها، وهي ما يلبسه الإنسان لستر جسده..
ومنهم من يرى أن المقصود بها ذاته ونفسه صلى الله عليه وسلم أى: ونفسك فطهرها من كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم.
وقال صاحب الكشاف: قوله- تعالى-: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة، ولا تصح إلا بها. وهي الأولى والأحب في غير الصلاة. وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا.
(1) تفسير القرطبي ج 19 ص 61.
وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال:
فلان طاهر الثياب، وطاهر الجيب والذيل والأردان، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، ومدانس الأخلاق. ويقال: فلان دنس الثياب: للغادر- والفاجر-، وذلك لأن الثوب يلابس الإنسان، ويشتمل عليه.. «1» .
وسواء أكان المراد بالثياب هنا معناها الحقيقي، أو معناها المجازى المكنى به عن النفس والذات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على الطهارة الحسية والمعنوية في كل شئونه وأحواله، فهو بالنسبة لثيابه كان يطهرها من كل دنس وقذر، وبالنسبة لذاته ونفسه، كان أبعد الناس عن كل سوء ومنكر من القول أو الفعل.
إلا أننا نميل إلى حمل اللفظ على حقيقته، لأنه لا يوجد ما يوجب حمله على غير ذلك.
ثم أمره- سبحانه- بأمر رابع فقال: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ والأصل في كلمة الرجز أنها تطلق على العذاب، قال- تعالى-: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ.
والمراد به هنا: الأصنام والأوثان، أو المعاصي والمآثم التي يؤدى اقترافها إلى العذاب.
أى: وداوم- أيها الرسول الكريم- على ما أنت عليه من ترك عبادة الأصنام والأوثان، ومن هجر المعاصي والآثام.
فالمقصود بهجر الرجز: المداومة على هجره وتركه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلتبس بشيء من ذلك.
ثم نهاه- سبحانه- عن فعل، لا يتناسب مع خلقه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ والمن: أن يعطى الإنسان غيره شيئا، ثم يتباهى به عليه، والاستكثار: عد الشيء الذي يعطى كثيرا.
أى: عليك- أيها الرسول الكريم- أن تبذل الكثير من مالك وفضلك لغيرك، ولا تظن أن ما أعطيته لغيرك كثيرا- مهما عظم وجل- فإن ثواب الله وعطاءه أكثر وأجزل
…
ويصح أن يكون المعنى: ولا تعط غيرك شيئا، وأنت تتمنى أن يرد لك هذا الغير أكثر مما أعطيته، فيكون المقصود من الآية: النهى عن تمنى العوض.
قال ابن كثير: قوله: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال ابن عباس: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها.
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 645.
وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره، وعن مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير.
وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس: تستكثرهم بها، تأخذ على ذلك عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال، والأظهر القول الأول- المروي عن ابن عباس وغيره- «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أى: وعليك- أيها الرسول الكريم- أن توطن نفسك على الصبر، على التكاليف التي كلفك بها ربك، وأن تتحمل الآلام والمشاق في سبيل دعوة الحق، بعزيمة صادقة، وصبر جميل، وثبات لا يخالطه تردد أو ضعف.
فهذه ست وصايا قد اشتملت على ما يرشد إلى التحلي بالعقيدة السليمة، والأخلاق الكريمة.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة فقال: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ.
والفاء في قوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ للسببية. والناقور- بزنة فاعول: من النقر، وهو اسم لما ينقر فيه، أى: لما ينادى فيه بصوت مرتفع. والمراد به هنا: الصور أو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله- تعالى- النفخة الثانية التي يكون بعدها الحساب والجزاء.
والفاء في قوله: فَذلِكَ واقعة في جواب فَإِذا واسم الإشارة يعود إلى مدلول النقر وما يترتب عليه من حساب وجزاء. وقوله يَوْمَئِذٍ بدل من اسم الإشارة.
والتنوين فيه عوض عن جملة وقوله: عَسِيرٌ وغَيْرُ يَسِيرٍ صفتان لليوم.
أى: أنذر- أيها الرسول الكريم- الناس، وبلغهم رسالة ربك، واصبر على أذى المشركين، فإنه إذا نفخ إسرافيل بأمرنا النفخة الثانية، صار ذلك النفخ وما يترتب عليه من أهوال، وقتا وزمانا عسير أمره على الكافرين، وغير يسير وقعه عليهم.
ووصف اليوم بالعسير، باعتبار ما يقع فيه من أحداث يشيب من هولها الولدان.
وقوله: غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد لمعنى عَسِيرٌ كما يقال: هذا أمر عاجل غير آجل.
قال صاحب الكشاف فإن قلت: ما فائدة قوله: غَيْرُ يَسِيرٍ وقوله: عَسِيرٌ مغن عنه؟ قلت: لما قال عَلَى الْكافِرِينَ فقصر العسر عليهم قال: غَيْرُ يَسِيرٍ ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا، ليجمع بين وعيد الكافرين
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 290.
وزيادة غيظهم، وبين بشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا. كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا «1» .
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من قصة زعيم من زعماء المشركين. افترى الكذب على الله- تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت عاقبته العذاب المهين، فقال- تعالى-: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا....
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في شأن الوليد بن المغيرة المخزومي، وذكروا في ذلك روايات منها: أن المشركين عند ما اجتمعوا في دار الندوة، ليتشاوروا فيما يقولونه في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن الكريم- قبل أن تقدم عليهم وفود العرب للحج. فقال بعضهم: هو شاعر، وقال آخرون بل هو كاهن.. أو مجنون.. وأخذ الوليد يفكر ويرد عليهم، ثم قال بعد أن فكر وقدر: ما هذا الذي يقوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا سحر يؤثر، أما ترونه يفرق بين الرجل وامرأته، وبين الأخ وأخيه.. «2» .
قال الآلوسى: نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي، كما روى عن ابن عباس وغيره. بل قيل: كونها فيه متفق عليه.. وقوله: وَحِيداً حال من الياء في ذَرْنِي أى: ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام منه، أو من التاء في خلقت أى: خلقته وحدي، لم يشركني في خلقه أحد، فأنا أهلكه دون أن أحتاج إلى ناصر في إهلاكه، أو من الضمير المحذوف العائد على «من» أى: ذرني ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد.. وكان الوليد يلقب في قومه بالوحيد.. لتفرده بمزايا ليست في غيره- فتهكم الله- تعالى- به وبلقبه، أو صرف هذا اللقب من المدح إلى الذم «3» .
أى: اصبر- أيها الرسول الكريم- على ما يقوله أعداؤك فيك من كذب وبهتان، واتركني وهذا الذي خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد ثم أعطيته الكثير من النعم، فلم يشكرني على ذلك.
والتعبير بقوله ذَرْنِي للتهديد والوعيد، وهذا الفعل يأتى منه الأمر والمضارع فحسب، ولم يسمع منه فعل ماض.
وقوله: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أى: وجعلت له مالا كثيرا واسعا، يمد بعضه بعضا،
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 647.
(2)
تفسير ابن كثير ج 8 ص 292.
(3)
تفسير الآلوسى ج 29 ص 122.
فقوله: مَمْدُوداً اسم مفعول من «مدّ» الذي بمعنى أطال بأن شبهت كثرة المال، بسعة مساحة الجسم.
أو من «مدّ» الذي هو بمعنى زاد في الشيء من مثله، ومنه قولهم: مد الوادي النهر، أى:
مده بالماء زيادة على ما فيه.
قالوا: وكان الوليد من أغنى أهل مكة، فقد كانت له أموال كثيرة من الإبل والغنم والعبيد والبساتين وغير ذلك من أنواع الأموال.
وَبَنِينَ شُهُوداً أى: وجعلت له- بجانب هذا المال الممدود- أولادا يشهدون مجالسه، لأنهم لا حاجة بهم إلى مفارقته في سفر أو تجارة، إذ هم في غنى عن ذلك بسبب وفرة المال في أيدى أبيهم.
فقوله: شُهُوداً جمع شاهد بمعنى حاضر، وهو كناية عن كثرة تنعمهم وائتناسه بهم.
قيل: كانوا عشرة، وقيل ثلاثة عشر، منهم: الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وعبد شمس.
وقد أسلم منهم ثلاثة، وهم: خالد، وهشام، وعمارة. «1»
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً والتمهيد مصدر مهد، بمعنى سوى الشيء، وأزال منه ما يجعله مضطربا متنافرا، ومنه مهد الصبى. أى: المكان المعد لراحته. والمراد بالتمهيد هنا: تيسير الأمور، ونفاذ الكلمة، وجمع وسائل الرياسة له.
أى: جعلت له مالا كثيرا، وأولادا شهودا، وفضلا عن ذلك، فقد هيأت له وسائل الراحة والرياسة تهيئة حسنة، أغنته عن الأخذ والرد مع قومه، بل صار نافذ الكلمة فيهم بدون عناء أو تعب.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أن الله- تعالى- قد أعطى الوليد بن المغيرة، جماع ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة، فقد أعطاه المال الوفير، والبنين الشهود، والجاه التام الذي وصل إليه بدون جهد أو تعب.
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ بيان لما جبل عليه هذا الإنسان من طمع وشره.. أى: مع إمدادى له بكل هذه النعم، هو لا يشبع، بل يطلب المزيد منها لشدة حرصه وطمعه. و «ثم» هنا للاستبعاد والاستنكار والتأنيب، فهي للتراخي الرتبى، والجملة
(1) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج 4 ص 437.
معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: «جعلت ومهدت
…
» أى: أعطيته كل هذه النعم، ثم بعد ذلك هو شره لا يشبع، وإنما يطلب المزيد منها ثم المزيد.
وقوله- تعالى-: كَلَّا زجر وردع وقطع لرجائه وطمعه، وحكم عليه بالخيبة والخسران. أى: كلا، لن أعطيه شيئا مما يطمع فيه، بل سأمحق هذه النعم من بين يديه، لأنه قابلها بالجحود والبطر، ومن لم يشكر النعم يعرضها للزوال، ومن شكرها زاده الله- تعالى- منها، كما قال- سبحانه-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وقوله: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً تعليل للزجر والردع وقطع الرجاء. أى: كلا لن أمكنه مما يريده ويتمناه.. لأنه كان إنسانا شديد المعاندة والإبطال لآياتنا الدالة على وحدانيتنا، وعلى صدق رسولنا فيما يبلغه عنا. ومن مظاهر ذلك أنه وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر
…
قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم بين- سبحانه- ما أعده له من عذاب أليم فقال: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. والإرهاق:
الإتعاب الشديد، وتحميل الإنسان ما لا يطيقه. يقال: فلان رهقه الأمر يرهقه، إذا حل به بقهر ومشقة لا قدرة له على دفعها. ومنه قوله- تعالى-: وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.
وقوله- سبحانه-: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً....
والصعود: العقبة الشديدة، التي لا يصل الصاعد نحوها إلا بمشقة كبيرة، وتعب قد يؤدى إلى الهلاك والتلف. وهذه الكلمة صيغة مبالغة من الفعل صعد.
وهذه الآية الكريمة في مقابل قوله- تعالى- قبل ذلك: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أى: أن هذا الجاه الذي أتاه في الدنيا بدون تعب
…
سيلقى في الآخرة ما هو نقيضه من تعب وإذلال..
قال صاحب الكشاف: قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أى: سأغشيه عقبة شاقة المصعد.
وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
«يكلف أن يصعد عقبة في النار، كلما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله عليها ذابت، فإذا رفعها عادت» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا» «1» .
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 648.
ثم صور- سبحانه- حال هذا الشقي تصويرا بديعا يثير السخرية منه ومن تفكيره فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أى: إن هذا الشقي ردد فكره وأداره في ذهنه، وقدّر وهيأ في نفسه كلاما شنيعا يقوله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق القرآن الكريم.
يقال: قدّر فلان الشيء في نفسه، إذا هيأه وأعده..
والجملة الكريمة تعليل للوعيد والزجر، وتقرير لاستحقاقه له، أو بيان لمظاهر عناده..
وقوله- سبحانه-: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تفكيره وتقديره، وذم شديد له على هذا التفكير السّيّئ
…
أى: إنه فكر مليا، وهيأ نفسه طويلا للنطق بما يقوله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق القرآن، فَقُتِلَ أى: فلعن، أو عذب، وهو دعاء عليه كَيْفَ قَدَّرَ أى: كيف فكر هذا التفكير العجيب البالغ النهاية في السوء والقبح.
وقوله: ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة في ذمه، والتعجيب من سوء تقديره، وفي الدعاء عليه باللعن والطرد من رحمته- تعالى-.
والعطف بثم لإفادة التفاوت في الرتبة، وأن الدعاء عليه والتعجيب من حاله في الجملة الثانية، أشد منه في الجملة الأولى.
وقوله- تعالى- بعد ذلك: ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
…
تصوير آخر لحالة هذا الشقي، يرسم حركات جسده، وخلجات قلبه، وتقاطيع وجهه.. رسما بديعا، يثير في النفوس السخرية من هذا الشقي.
أى: إنه فكر تفكيرا مليا، وقدر في نفسه ما سيقوله في شأن النبي صلى الله عليه وسلم تقديرا طويلا،
…
ولم يكتف بكل ذلك، بل فكر وقدر ثُمَّ نَظَرَ أى: ثم نظر في وجوه من حوله نظرات يكسوها الجد المصطنع المتكلف، حتى لكأنه يقول لهم: اسمعوا وعوا لما سأقوله لكم..
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ أى: ثم قطب ما بين عينيه حين استعصى عليه أن يجد في القرآن مطعنا، وكلح وجهه، وتغير لونه، وارتعشت أطرافه، حين ضاقت عليه مذاهب الحيل، في أن يجد في القرآن مطعنا.
يقال: عبس فلان يعبس عبوسا، إذا قطب جبينه. وأصله من العبس وهو ما تعلق بأذناب الإبل من أبوالها وأبعارها بعد أن جف عليها.
ويقال: بسر فلان يبسر بسورا، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء.
ومنه قوله- تعالى-: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ..
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ أى: ثم إنه بعد هذا التفكير والتقدير، وبعد هذا العبوس والبسور، بعد ذلك أدبر عن الحق، واستكبر عن قبوله.
فَقالَ- على سبيل الغرور والجحود- إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أى: ما هذا القرآن الذي يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم علينا، إلا سحر مأثور أى: مروى عن الأقدمين، ومنقول من أقوالهم وكلامهم.
وجملة إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ بدل مما قبلها، أى: ما هذا القرآن إلا سحر مأثور عن السابقين، فهو من كلام البشر، وليس من كلام الله- تعالى- كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى «ثم» الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت:
الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى، ونحوه قوله: ألا يا أسلمي ثم أسلمي، ثمّت أسلمي.
فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: الدلالة على أنه قد تأتى في التأمل والتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخيا وتباعدا..
فإن قلت: فلم قيل: فَقالَ إِنْ هذا
…
بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب، لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الوعيد الشديد الذي توعد به هذا الشقي الأثيم فقال:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وسقر: اسم لطبقة من طبقات جهنم، والجملة الكريمة بدل من قوله:
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أى: سأحرقه بالنار المتأججة الشديدة الاشتعال.
وقوله: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تهويل من حال هذه النار وتفظيع لشدة حرها.
أى: وما أدراك ما حال سقر؟ إن حالها وشدتها لا تستطيع العبارة أن تحيط بها.
وجملة لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ.
أى: هذه النار لا تبقى شيئا فيها إلا أهلكته، ولا تترك من يلقى فيها سليما، بل تمحقه محقا، وتبلعه بلعا، وتعيده- بأمر الله تعالى- إلى الحياة مرة أخرى ليزداد من العذاب، كما
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 650.