الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بين- سبحانه- جانبا آخر من حسراتهم في هذا اليوم فقال: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ، ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ
…
أى: وقال الكافرون بربهم- على سبيل الحسرة والندامة- لو كنا في الدنيا نسمع ما يقال لنا على لسان رسولنا، سماع طاعة وتفكر واستجابة، أو نعقل ما يوجه إلينا من هدايات وإرشادات..
لو كنا كذلك، ما صرنا في هذا اليوم من جملة أصحاب النار المسعرة، الذين هم خالدون فيها أبدا.
وقدم- سبحانه- السماع على التعقل، مراعاة للترتيب الطبيعي، لأن السماع يكون أولا، ثم يعقبه التعقل والتدبر لما يسمع.
والفاء الأولى في قوله- تعالى-: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ للإفصاح، والثانية للسببية، والسّحق: البعد، يقال: سحق- ككرم وعلم- سحقا، أى:
بعد بعدا، وفلان أسحقه الله، أى: أبعده عن رحمته، وهو مصدر ناب عن فعله في الدعاء، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر، أى: ألزمهم الله سحقا، أو منصوب على المصدرية، أى: فسحقهم الله سحقا.
أى: إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم، وأن الله- تعالى- ما ظلمهم، وأن ندمهم لن ينفعهم في هذا اليوم.. بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله- تعالى- وبخلودهم في نار السعير.
واللام في قوله لِأَصْحابِ للتبيين، كما في قولهم: سقيا لك.
فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم، وإصرارهم عليه حتى الممات، وفي الحديث الشريف:«لن يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة» . وفي حديث آخر: «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» «1» .
وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس، أخذت السورة في بيان حسن عاقبة المؤمنين، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين، وفي لفت أنظار الناس إلى نعم الله- تعالى- عليهم، لكي يشكروه ويخلصوا له العبادة.. قال- تعالى:
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 18]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 205.
وقوله: يَخْشَوْنَ من الخشية، وهي أشد الخوف وأعظمه، والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.
أى: إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه، ويعبدونه كأنهم يرونه، مع أنهم لا يرونه بأعينهم.. هؤلاء الذين تلك صفاتهم، لهم من خالقهم- عز وجل مغفرة عظيمة، وأجر بالغ الغاية في الكبر والضخامة.
وقوله بِالْغَيْبِ حال من الفاعل، أى: غائبا عنهم، أو من المفعول. أى: غائبين عنه. أى. يخشون عذابه دون أن يروه- سبحانه-.
ويجوز أن يكون المعنى: يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس، فهم يراقبونه- سبحانه- في السر، كما يراقبونه في العلانية كما قال الشاعر:
يتجنب الهفوات في خلواته
…
عف السريرة، غيبه كالمشهد
والحق أن هذه الصفة، وهي خوف الله- تعالى- بالغيب، على رأس الصفات التي تدل على قوة الإيمان، وعلى طهارة القلب، وصفاء النفس..
ثم بين- سبحانه- بأبلغ أسلوب، ان السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه- تعالى- فقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ....
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية، أن المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فلما
أطلعه الله- تعالى- على أمرهم، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد.. «1» .
وصيغة الأمر في قوله: وَأَسِرُّوا واجْهَرُوا مستعملة في التسوية بين الأمرين، كما في قوله- تعالى- فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا....
أى: إن إسراركم- أيها الكافرون- بالإساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو جهركم بهذه الإساءة، يستويان في علمنا، لأننا لا يخفى علينا شيء من أحوالكم، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به.
وجملة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر أى: سواء في علمه- تعالى- إسراركم وجهركم، لأنه- سبحانه- عليم علما تاما بما يختلج في صدوركم، وما يدور في نياتكم التي هي بداخل قلوبكم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
ثم أكد- سبحانه- شمول علمه لكل شيء بقوله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
واللطيف من اللطف، وهو العالم بخبايا الأمور، والمدبر لها برفق وحكمة ويسر..
والخبير: من الخبر، وهو العلم بجزئيات الأشياء الخفية، التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها، لأنها كانت خافية عليهم.
ولفظ مَنْ في قوله مَنْ خَلَقَ يصح أن يكون مفعولا لقوله يَعْلَمُ، والعائد محذوف أى: ألا يعلم الله- تعالى- شأن الذين خلقهم، والحال أنه- سبحانه- هو الذي لطف علمه ودق، إذ هو المدبر لأمور خلقه برفق وحكمة، العليم علما تاما بأسرار النفوس وخبايا ما توسوس به..
ويجوز أن يكون مَنْ فاعلا لقوله يَعْلَمُ على أن المقصود به ذاته- تعالى-، ويكون مفعول يعلم محذوفا للعلم به، والمعنى: ألا يعلم السر ومضمرات القلوب الله الذي خلق كل شيء وأوجده، وهو- سبحانه- الموصوف بأنه لطيف خبير.
والاستفهام على الوجهين لإنكار ما زعمه المشركون من انتفاء علمه- تعالى- بما يسرونه فيما بينهم، حيث قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد.
(1) تفسير القرطبي ج 18 ص 214.
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
والذلول: السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها من مشى عليها، أو غرس فيها، أو بناء فوقها.. من الذّل وهو سهولة الانقياد للغير، ومنه قوله- تعالى-: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ.. أى: غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض..
والأمر في قوله فَامْشُوا فِي مَناكِبِها للإباحة، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا: جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها..
وهو مثل لفرط التذليل، وشدة التسخير..
أى: هو- سبحانه- الذي جعل لكم- بفضله ورحمته- الأرض المتسعة الأرجاء.
مذللة مسخرة لكم، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها، أو البناء فوقها. أو غرس النبات فيها..
ومادام الأمر كذلك فامشوا في جوانبها وأطرافها وفجاجها.. ملتمسين رزق ربكم فيها، وداوموا على ذلك، ففي الحديث الشريف:«التمسوا الرزق في خبايا الأرض» .
والمراد بقوله: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الانتفاع بما فيها من وجوه النعم، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم.. فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها، تكون حاجتهم لغيرهم.
قال بعض العلماء: قال الإمام النووي في مقدمة المجموع: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة، لتستغنى عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج..
وقد أعطى الله- تعالى- العالم الإسلامى الأولوية في هذا كله. فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا.. «1» .
وقد أفاض بعض العلماء في بيان معنى قوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
…
فقال ما ملخصه: والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة
(1) تفسير أضواء البيان ج 8 ص 406.
استقرارهم عليها.. ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد، وكل جيل، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول..
والله- تعالى- جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها.. ومن حيث سطحها..
ومن حيث تكوينها، ومن حيث إحاطة الهواء بها.. ومن حيث حجمها.. «1» .
وقوله: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ معطوف على ما قبله، لبيان أن مصيرهم إليه- تعالى- بعد قضائهم في الأرض المذللة لهم، مدة حياتهم..
أى: وإليه وحده مرجعكم، وبعثكم من قبوركم، بعد أن قضيتم على هذه الأرض، الأجل الذي قدره- سبحانه- لكم.
ثم حذر- سبحانه- من بطشه وعقابه فقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ..
والخسف: انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض فيصير باطنا، والباطن ظاهرا..
والمور: شدة الاضطراب والتحرك. يقال: مار الشيء مورا، إذا ارتج واضطرب، والمراد بمن في السماء: الله- عز وجل بدون تحيز أو تشبيه أو حلول في مكان.
قال الإمام الآلوسى: قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله- عز وجل كما ذهب إليه غير واحد، فقيل على تأويل: من في السماء أمره وقضاؤه، يعنى أنه من التجوز في الإسناد، أو أن فيه مضافا مقدرا، وأصله: من في السماء أمره، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر، وقيل على تقدير: خالق من في السماء..
وقيل في بمعنى على، ويراد العلو بالقهر والقدرة..
وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره- تعالى- والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه. فهم مؤمنون بأنه- عز وجل في السماء: على المعنى الذي أراده- سبحانه- مع كمال التنزيه. وحديث الجارية- التي قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فأشارت إلى السماء- من أقوى الأدلة في هذا الباب. وتأويله بما أول به الخلف، خروج عن دائرة الإنصاف عند ذوى الألباب.. «2» .
(1) راجع في ظلال القرآن ج 29 ص 193 نقلا عن كتاب. العلم يدعو للايمان ص 70.
(2)
راجع تفسير الآلوسى ج 29 ص 15.
والمعنى: أأمنتم- أيها الناس- من في السماء وهو الله- عز وجل أن يذهب الأرض بكم، فيجعل أعلاها أسفلها.. فإذا هي تمور بكم وتضطرب، وترتج ارتجاجا شديدا تزول معه حياتكم.
فالمقصود بالآية الكريمة تهديد الذين يخالفون أمره، بهذا العذاب الشديد، وتحذيرهم من نسيان بطشه وعقابه.
والباء في قوله بِكُمُ للمصاحبة. أى: يخسفها وأنتم مصاحبون لها بذواتكم، بعد أن كانت مذللة ومسخرة لمنفعتكم..
ثم انتقل- سبحانه- من تهديدهم بالخسف إلى تهديدهم بعذاب آخر فقال: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ.
أى: بل أأمنتم- أيها الناس- من السماء، وهو الله- عز وجل بسلطانه وقدرته..
أن يرسل عليكم حاصِباً أى: ريحا شديدة مصحوبة بالحصى والحجارة التي تهلك، فحينئذ ستعلمون عند معاينتكم للعذاب، كيف كان إنذارى لكم متحققا وواقعا وحقا..
فالاستفهام في الآيتين المقصود به التعجيب من أمنهم عذاب الله- تعالى- عند مخالفتهم لأمره، وخروجهم عن طاعته.
وقدم- سبحانه- التهديد بالخسف على التهديد بإرسال الحاصب، لأن الخسف من أحوال الأرض، التي سبق أن بين لهم أنه خلقها مذللة لهم، وفيها ما فيها من منافعهم، فهذه المنافع ليس عسيرا على الله- تعالى- أن يحولها إلى عذاب لهم..
ثم ذكرهم- سبحانه- بما جرى للكافرين السابقين فقال: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ..
أى: وو الله لقد كذب الذين من قبل كفار مكة من الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وثمود.. فكان إنكارى عليهم، وعقابي لهم، شديدا ومبيرا ومدمرا لهم تدميرا تاما.
فالنكير بمعنى الإنكار، والاستفهام في قوله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للتهويل.
أى: إن إنكارى عليهم كفرهم كان إنكارا عظيما، لأنه ترتب عليه، أن أخذتهم أخذ عزيز مقتدر.
كما قال- تعالى-: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ،