الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُطُوفُها دانِيَةٌ أى: ثمارها قريبة التناول لهذا المؤمن، يقطفها كلما أرادها بدون تعب. فالقطوف جمع قطف بمعنى مقطوف، وهو ما يجتنيه الجاني من الثمار، ودانِيَةٌ اسم فاعل، من الدنو بمعنى القرب. وجملة كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ مقول لقول محذوف.
أى: يقال لهؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم كلوا أكلا طيبا، واشربوا هنيئا مريئا بسبب ما قدمتموه في دنياكم من إيمان بالله- تعالى- ومن عمل صالح خالص لوجهه- تعالى-.
قال الإمام ابن كثير: أى: يقال لهم ذلك، تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا، وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» «1» .
وكعادة القرآن الكريم، في بيان سوء عاقبة الأشرار، بعد بيان حسن عاقبة الأخيار، أو العكس، جاء الحديث عمن أوتى كتابه بشماله، بعد الحديث عمن أوتى كتابه بيمينه، فقال- تعالى-:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَاّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلَاّ الْخاطِؤُنَ (37)
(1) تفسير ابن كثير ج 8 ص 242.
أى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ أى: من الجهة التي يعلم أن الإتيان منها يؤدى إلى هلاكه وعذابه.
فَيَقُولُ على سبيل التحسر والتفجع يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ أى: فيقول يا ليتني لم أعط هذا الكتاب، لأن إعطائى إياه بشمالي دليل على عذابي وعقابي.
وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ أى: ويا ليتني لم أعرف شيئا عن حسابي، فإن هذه المعرفة التي لم أحسن الاستعداد لها، أوصلتنى إلى العذاب المبين.
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ أى: ويا ليت الموتة التي متها في الدنيا، كانت هي الموتة النهائية التي لا حياة لي بعدها.
فالضمير للموتة التي ماتها في الدنيا، وإن كان لم يجر لها ذكر، إلا أنها عرفت من المقام.
والمراد بالقاضية: القاطعة لأمره، التي لا بعث بعدها ولا حساب.. لأن ما وجده بعدها أشد مما وجده بعد حلوله بها.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره منه. وشر من الموت ما يطلب منه الموت.
ثم أخذ هذا الذي أوتى كتابه بشماله يتحسر على تفريطه وغروره، ويحكى القرآن ذلك فيقول: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أى: هذه الأموال التي كنت أملكها في الدنيا، وأتفاخر بها. لم تغن عنى شيئا من عذاب الله، ولم تنفعني ولو منفعة قليلة.
فما نافية، والمفعول محذوف للتعميم، ويجوز أن تكون استفهامية والمقصود بها التوبيخ.
أى: أى شيء أغنى عنى مالي؟ إنه لم يغن عنى شيئا.
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أى: ذهب عنى، وغاب عنى في هذا اليوم ما كنت أتمتع به في الدنيا من جاه وسلطان، ولم يحضرني شيء منه، كما أن حججي وأقوالى التي كنت أخاصم بها المؤمنين. قد ذهبت أدراج الرياح.
وعدى الفعل «هلك» بعن، لتضمنه معنى غاب وذهب.
وخلال هذا التفجع والتحسر الطويل
…
يأتى أمر الله- تعالى- الذي لا يرد، فيقول- سبحانه- للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أى:
خذوا هذا الكافر، فاجمعوا يديه إلى عنقه.
فقوله: خُذُوهُ معمول لقول محذوف. وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام. فكأنه قيل: وماذا يفعل به بعد هذا التحسر والتفجع. فكان الجواب: أمر
الله- تعالى- ملائكته بقوله: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ..
وقوله: فَغُلُّوهُ من الغل- بضم الغين- وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإذلال.
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أى: ثم بعد هذا التقييد والإذلال.. اقذفوا به إلى الجحيم، وهي النار العظيمة، الشديدة التأجج والتوهج.
ومعنى صَلُّوهُ بالغوا في تصليته النار، بغمسه فيها مرة بعد أخرى. يقال: صلى فلان النار، إذا ذاق حرها، وصلّى فلان فلانا النار، إذا أدخله فيها. وقلبه على جمرها كما تقلب الشاة في النار.
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ والسلسلة: اسم لمجموعة من حلق الحديد، يربط بها الشخص لكي لا يهرب، أو لكي يزاد في إذلاله وهو المراد هنا.
وقوله: ذَرْعُها أى: طولها. والمراد بالسبعين: حقيقة هذا المقدار في الطول، أو يكون هذا العدد كناية عن عظيم طولها، كما في قوله- تعالى-: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
…
«1» .
وقوله: فَاسْلُكُوهُ من السّلك بمعنى الإدخال في الشيء، كما في قوله- تعالى- ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أى: ما أدخلكم فيها.
أى: خذوا هذا الكافر، فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة. ثم اجعلوه مغلولا في سلسلة طولها سبعون ذراعا، بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة. أى ألقوا به في الجحيم وهو مكبل في أغلاله.
وثُمَّ في كل آية جيء بها للتراخي الرتبى، لأن كل عقوبة أشد من سابقتها. إذ إدخاله في السلسلة الطويلة. أعظم من مطلق إلقائه في الجحيم كما أن إلقاءه في الجحيم، أشد من مطلق أخذه وتقييده.
وفي هذه الآيات ما فيها من تصوير يبعث في القلوب الخوف الشديد، ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم. الذي لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث والآثار، منها: ما رواه ابن أبى حاتم، عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال الله- عز وجل خُذُوهُ.. ابتدره
(1) سورة التوبة الآية 80.
سبعون ألف ملك، وإن الملك منهم ليقول هكذا- أى: ليفعل هكذا- فيلقى سبعين ألفا في النار «1» .
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت بهذا الشقي إلى هذا المصير الأليم فقال: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ.
أى: إن هذا الشقي إنما حل به ما حل من عذاب.. لأنه كان في الدنيا، مصرا على الكفر، وعلى عدم الإيمان بالله الواحد القهار..
وكان كذلك لا يَحُضُّ أى: لا يحث نفسه ولا غيره عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أى:
على بذل طعامه أو طعام غيره للمسكين، الذي حلت به الفاقة والمسكنة.
ولعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر، أن أقبح شيء يتعلق بالعقائد، وهو الكفر بالله- تعالى- وأن أقبح شيء في الطباع، هو البخل وقسوة القلب.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات، بزيادة البيان للمصير الأليم لهذا الشقي فقال:
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ أى: يوم القيامة هاهُنا حَمِيمٌ أى: ليس له في هذا اليوم من صديق ينفعه، أو من قريب يشفق عليه، أو يحميه، أو يدفع عنه.
وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أى: وليس له في جهنم من طعام سوى الغسلين وهو صديد أهل النار.. أو شجر يأكله أهل النار، فيغسل بطونهم، أى: يخرج أحشاءهم منها، أو ليس لهم إلا شر الطعام وأخبثه.
لا يَأْكُلُهُ أى: الغسلين إِلَّا الْخاطِؤُنَ أى: إلا الكافرون الذين تعمدوا ارتكاب الذنوب، وأصروا عليها، من خطئ الرجل: إذا تعمد ارتكاب الذنب.
فالخاطئ هو من يرتكب الذنب عن تعمد وإصرار. والمخطئ: هو من يرتكب الذنب عن غير إصرار وتعمد.
وهكذا. نجد الآيات الكريمة قد ساقت أشد ألوان الوعيد والعذاب.. للكافرين، بعد أن ساقت قبل ذلك، أعظم أنواع النعيم المقيم للمؤمنين.
وبعد هذا العرض- الذي بلغ الذروة في قوة التأثير- لأهوال يوم القيامة، ولبيان حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة المكذبين.. بعد كل ذلك أخذت السورة في أواخرها، في تقرير حقيقة هذا الدين، وفي تأكيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وفي بيان أن هذا القرآن من عنده- تعالى- وحده.. فقال- سبحانه-:
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 8 ص 243.