المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث التاسع: البدايات والأصول - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: تعريف المرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء

- ‌المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

- ‌المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء

- ‌المبحث السابع: المرجئة الأولى

- ‌المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

- ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

- ‌المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية

- ‌المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية

- ‌المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

- ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان:

- ‌المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان

- ‌المبحث الخامس: أهمية عمل القلب

- ‌المبحث السادس: إثبات عمل القلب

- ‌المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب

- ‌المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

- ‌المبحث الأول: مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الكلابية

- ‌المبحث الرابع: الكرامية

- ‌المبحث الخامس: الأشاعرة

- ‌أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة:

- ‌المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: حجج المرجئة

- ‌المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة

- ‌الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة

- ‌المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية

- ‌المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية

- ‌المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة

- ‌المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

- ‌المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا

- ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

- ‌المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة

- ‌المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا

- ‌المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء

- ‌المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه

- ‌المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً

- ‌المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها

- ‌المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم

- ‌المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة

- ‌المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم

- ‌المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة

- ‌المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء

- ‌المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب:

- ‌المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد

- ‌المبحث التاسع: فرق المعتزلة

- ‌المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة

- ‌المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات

- ‌المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها

- ‌المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب

- ‌المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها

- ‌المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات

- ‌المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة

- ‌المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات

- ‌المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته

- ‌المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم

- ‌المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم

- ‌المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

- ‌الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم

الفصل: ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن في ردود الأفعال، ولكن بروز الر أي والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها في وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذى عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة - كما سبق في حديث أبى برزة الأسلمى -.

برز الإرجاء حينئذ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق - لا سيما بين الخوارج وغيرهم - وكانت الفتنة من أسباب التسرع في الرد وقدح الر أي؛ إذ لم يكن المجال ميسورا للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة.

وكان هذا في أواخر عصر الصحابة؛ وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين - كما سيأتى في تراجمهم -.

وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخارى ، فقد قال رحمه الله في كتاب الإيمان منه:" باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ".

وقال إبراهيم التيمى: ما عرضت قولى على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا.

وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل.

ويذكر عن الحسن: وما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.

وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]. حدثنا محمد بن عرعرة؛ حدثنا شعبة عن زبيد؛ قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثنى عبدالله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) (1).

فالآثار التى ذكرها البخارى في الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء - كما سيأتى بيانه - ثم ذكر الحديث الذى يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة فالمسئول عنهم هو أبو وائل، شقيق ابن سلمى التابعى المشهور، من خيار أصحاب عبدالله ابن مسعود رضى الله عنه، وقد توفى قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف في تحديد تاريخ وفاته -؛ فقد قال محمد بن عثمان بن أبى شيبة: مات في زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال الخليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدى: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روى عن أبى نعيم قال المذى: والمحفوظ الأول (1).

قال الحافظ في الفتح: " قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة أي عن مقالة المرجئة، ولأبى داود الطيالسى، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له. فظهر من هذا أن سؤاله كان معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبى وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففى ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة "(2).

هذا، وفي رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال:" لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته الحديث، وذكر عن شعبه أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمع أبا وائل عن عبدالله "(3).

وأبو وائل عَمَّر طويلا، فقد أدرك النبى صلى الله عليه وسلم، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته. وأما السائل " زبيد "، فهو زبيد بن الحارث اليامى المتوفى سنة 122 هجرى، وهو من صغار التابعين، ر أي عددا من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر وأنس (4). ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيدا فهم واكتفى!!

(1) رواه البخاري (48) ومسلم (64) من حديث ابن مسعود.

ص: 52

فالقضية التى كانت تشغل أذهان الناس يومئذ - في موضوع الإيمان - هى حكم مرتكب الكبيرة، وبناء على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معا - وهو أن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه - قال الخوارج: أن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عيه آثر ابن أبى مليكة والحسن، وكلام إبراهيم واستدلال البخاري بها.

فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبى وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتى من سأله بنص من النواحي في محل الإشكال.

فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت في الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة.

فإيمان من قاتل مسلما ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيمانا، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه واسم الكفر إن قاتله (5)، ولا يسمى مؤمنا بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم ، كما دلت النصوص الأخرى.

وفي هذا دليل على خطر المعاصى التى تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصا وإما لزوما.

ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبى وائل منه - ما رواه عنه الطبرى بسنده، قال: قوم يسألونى عن السنة فأقرأ عليهم: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] حتى قوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] يعرض المرجئة (1).

وإذا كان هذا النص يعطينا مفهوما عن الفكرة، فإن نصا آخر يقدم تاريخا" أكثر تحديدا"، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام احمد عن قتادة أنه قال:" إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث "(2).

والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة.

فابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندى، أحد ولاة بنى أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج في الوقت الذى كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج، حتى أنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول في الطاعة أنكر عليهم آخرون - على سبيل اليأس - قائلين:" إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟! "(3).

في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلا " قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته "(4).

ولم يكن معروفا عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فر أي فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذا بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن - كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا - ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على بن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحدا واحدا، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة.

وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله.

ص: 53

وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعيا أن تكون أيضا بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها. وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسميا مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى، ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم.

وإن مما يعطينا تحديدا أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها ، أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها:

1 -

إبراهيم النخعي:

التابعى المشهور، فقيه الكوفة الأكبر في عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفى بعد الحجاج، ببضعة أشهر سنة 96 هجرى باتفاق (2).

ومن أقواله فيهم:

" الإرجاء بدعة ".

" إياكم وأهل هذا الر أي المحدث " - يعنى الإرجاء -.

وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء، فقال له إبراهيم:" لا تجالسنا ".

" ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي ".

وقال: " تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابرى ".

وقال له بعض تلاميذه: " إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ

[البقرة:136] إلى آخر الآية " (3).

وقال: " لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ".

أو: " لفقوا قولا، فأنا أخاف على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم "(4).

2 -

سعيد بن جبير:

وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال:" المرجئة يهود القبلة "(5).

وقال: " المرجئة مثل الصابئين ".

ويشرح ذلك في رواية أخرى، مبينا وقوفهم في الوسط بين أهل السنة والخوارج - بزعمهم -، قال: " مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة.

ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين " (6).

3 -

الزهري:

الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال:" ما ابتدعت في الإسلام بدعة هى أضر على أهله من هذه - يعنى الإرجاء - "(1).

4 -

شهاب بن خراش:

" قال هشام: لقيت شهابا وأنا شاب في سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدريا ولا مرجئا حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما في من هذين شئ "(2).

5 -

يحيى وقتادة:

" قال الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شئ أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء "(3).

....... والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت في ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدا في مقاومتها، وكان نظرهم بعيدا وصائبا حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة ، مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عبادا وزهادا في الغالب.

وعلى هذا فلا غرابة في تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع وابن المبارك والسفيانين، وابن مهدى، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز.

ص: 54

والقضية التى لا ينبغى أن تفوتنا هى أن كلمة المرجئة في اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعنى هذا الإرجاء - أي إرجاء الفقهاء -، وظل هذا قائما حتى بعد ظهور الجهمية - كما سنرى - فكل ذنب أو عيب قيل في المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثانى تقريبا، بل هو الأغلب على القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كابن عبدالبر في " التمهيد "؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد في ذلك (4).

ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية؛ وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار (5).

يقول الفضيل بن عياض: " أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل "(6).

ويقول وكيع بن الجراح: " ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق؛ قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقال المرجئة: الإقرار باللسان "(1).

وكذلك قال الإمام أحمد: قال حمدان بن علي الوراق: " سألت أحمد، وذكر عنده المرجئة، فقلت له: أنهم يقولون: إذا عرف الرجل ربه بقلبه فهو مؤمن، فقال: المرجئة لا تقول هذا، الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؛ إبليس قد عرف ربه، فقال: رب بما أغويتنى ".

ص: 55