المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: تعريف المرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء

- ‌المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

- ‌المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء

- ‌المبحث السابع: المرجئة الأولى

- ‌المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

- ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

- ‌المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية

- ‌المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية

- ‌المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

- ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان:

- ‌المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان

- ‌المبحث الخامس: أهمية عمل القلب

- ‌المبحث السادس: إثبات عمل القلب

- ‌المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب

- ‌المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

- ‌المبحث الأول: مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الكلابية

- ‌المبحث الرابع: الكرامية

- ‌المبحث الخامس: الأشاعرة

- ‌أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة:

- ‌المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: حجج المرجئة

- ‌المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة

- ‌الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة

- ‌المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية

- ‌المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية

- ‌المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة

- ‌المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

- ‌المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا

- ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

- ‌المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة

- ‌المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا

- ‌المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء

- ‌المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه

- ‌المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً

- ‌المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها

- ‌المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم

- ‌المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة

- ‌المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم

- ‌المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة

- ‌المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء

- ‌المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب:

- ‌المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد

- ‌المبحث التاسع: فرق المعتزلة

- ‌المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة

- ‌المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات

- ‌المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها

- ‌المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب

- ‌المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها

- ‌المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات

- ‌المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة

- ‌المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات

- ‌المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته

- ‌المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم

- ‌المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم

- ‌المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

- ‌الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم

الفصل: ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

اختلف العلماء في أول من أسس هذا المذهب - أي أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه - وإلا فبذوره متقدمة فقيل هو:

1 -

ذر بن عبد الله الهمدانى:

وهو تابعى متعبد، توفى قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة.

قال إسحاق ابن إبراهيم: " قلت لأبى عبد الله - يعنى الإمام احمد -: أول من تكلم في الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر "(3)؛ وهكذا نقل الذهبي في " الميزان "(4) عن الإمام.

ويبدو أن ذرا قد عرضت عليه الشبهة، وكان شاكا فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجا - وهكذا شأن أصحاب البدع -.

قال سلمة بن كهيل: " وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه، ثم قال أنى أخاف أن يتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب في الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا "(5).

ونقل عنه الأعمش أول مرة قوله: " لقد أشرعت رأيا خفت أن يتخذ دينا "(6).

وعن الحسن بن عبيدالله قال: " سمعت إبراهيم - النخعى - يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذى جئت به؟

قال ذر: ما هو إلا ر أي رأيته! قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذى بعث به نوح " (7)!!

وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعى بما سبق، وكان يعيبه ولا يرد عليه إذا سلم (8).

وكان سعيد بن جبير شديدا عليه ، حتى أن ذرا أتاه يوما في حاجة فقال:" لا، حتى تخبرنى على أي دين أنت اليوم - أو رأي أنت اليوم -، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من ر أي أنت أكبر منه؟ "(1).

وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائى؛ إنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد:" إن هذا يحدث - أو يجدد - كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا "(2).

هذا وقد نقل الحافظ أن ذرا شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين (3).

2 -

وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر:

نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر (4).

ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضى صاحب كتاب (الزينة) السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة:" ومنهم الماضرية (5)، نسبه إلى قيس بن عمرو الماضرى، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه "(6).

3 -

وقيل: إن أول من أحدثه حماد ابن أبي سليمان:

المتوفى سنة 120 هجري، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر

ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (7).

ولا شك أن حمادا كان مرجئا وأنه كان معاصرا لذر، فقد روى عبدالله بن أحمد أن إبراهيم النخعى - شيخ حماد - قال: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي، بعد ما تكلم في الإرجاء - يعنى حمادا (8) -.

ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال أنه كان مستترا خائفا، ثم أظهر وأعلن.

قال أبو هاشم: " أتيت حماد بن أبى سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذى أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حيا لتابعني عليه - يعنى الإرجاء - "(9).

وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الأتى يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال أنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: " كنا نأتى أبا إسحاق - يعني السبيعى - فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟

قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا؟

قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.

قال الذهبي: قلتُ: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب.

ص: 56

والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء؛ من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية ".

ويبدو الخلاف بين هذه الأقوال غير مؤثر، فكلهم متعاصرون، وكلهم في بلد واحد، وقولهم في الإرجاء واحد.

ويستفاد من بعض الآثار أن للفكرة وجودا غير خاف، فهذا سالم بن أبى الجعد التابعى المحدث المتوفى سنة 100 هجرى أو حولها - كان له ستة بنين؛ " فاثنان شيعيان، واثنان مرجئيان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم "(2)!! وهذا دليل على نمو البدع حينئذ لاسيما في الكوفة.

وهناك رجل آخر لا شك أنه من أوائل القوم الدعاة؛ وهو سالم الأفطس، وفيه قصة تستحق الإيراد، لا سيما وقد ذكرها مصدران متقدمان بسندين مختلفين هما:(السنة) لعبدالله بن أحمد، و (تهذيب الآثار) للطبري، كلاهما عن معقل بن عبيدالله الجزرى العبسي قال: " قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء (3)، فعرضه فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا، وكان أشدهم ميمون بن مهران وعبدالكريم بن مالك، فأما عبدالكريم فإنه عاهد الله لا يأويه وإياه سقف بيت إلا في المسجد.

قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبى رباح في نفر من أصحابي، قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف، قال: فسمعته قرأ هذا الحرف حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ [يوسف:110] مخففة.

قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أو ليس يقول الله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

فالصلاة والزكاة من الدين.

قال: فقلت له: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة. قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزله: فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران:173]، فما هذا الإيمان الذى زادهم؟!

قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وأبلغنى أن ذرا دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذى لا إله إلا هو ما كان هذا - مرتين أو ثلاثة.

قال: ثم قدمت المدينة، فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبدالله، إن لي إليك حاجة، قال سر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: رب سر لا خير فيه!

فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي، وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدو قولهم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله ، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله)) (1). . قال: قلتُ: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلى، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر.

قال معقل: ثم لقيت الزهري، فأخبرته بقولهم، فقال سبحان الله!! أو قد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (1).

قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميمونا وعبدالكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قوله.

ص: 57

قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلتُ: لا. قال: دخل علي منهم اثنى عشر رجلا، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أتشهدين أن لا إله إلا الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أني رسول الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق " قالت: نعم، قال: " أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت " قالت: نعم، قال: " فأعتقها فإنها مؤمنة)) (1). قال: فخرجوا وهم ينتحلوني.

قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأت لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، حتى إذا بلغ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، قال: ذاك جبريل والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل ".

ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك ابن حسان قصة أخرى، " قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار ، هل يتفاضلان في الإيمان؟

قال: لا

قال: فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أم (1) خبيث؟ فإن الله تعالى قال: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37](2).

فقال النحات (3): إنما الإيمان منطق وليس معه عمل!، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرؤون الآية التى في سورة البقرة: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].

قال: ثم وصف الله هذا الإثم فألزمه العمل، فقال:

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ .... إلى قوله: صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟

وقال: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19].

فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم " (4).

هذا الجدل المبكر (زمن التابعين) في موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما بين لنا منهج السلف العلمي في مجادلتهم، وهو أن أهم جانب في القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أي أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان.

الجهم بن صفوان:

أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وَأُسُّ البليات، جعله الله فتنة للناس وسببا للإضلال، كما جعل السامرى في بني إسرائيل.

وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره (6).

هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!!

(1) رواه مسلم (537) ، من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

ص: 58

وقد جمع المصنفون من السلف في سيرته الشىء الكثير، وكله ذم وتكفير وتشنيع من أئمة الإسلام ورجال النقد، جمع ذلك الإمام أحمد، وابنه عبدالله، وأبو عبيد، والبخاري، والدارمي، وابن خزيمة، وابن أبى حاتم، وسائر من ألف في الفرق أو الصفات أو الإيمان؛ كالبيهقى، والأشعري، والبغدادي، واللالكائي، وكذا المؤرخون وأصحاب التراجم.

وهذا ما سنورد بعضه مقتصرين على ما يهمنا هنا؛ وهو مذهبه في الإيمان.

والأصل الذي ينبغى معرفته في هذا، هو أن الجهم لم يبتدع مذهبه في الإيمان اعتمادا على شبهة نقلية أو أثارة من علم، وإنما كان رجلا لسنا مجادلا، مجبولا على المحادة والاعتراض والمراء، ومع ذلك لم يقدر له أن يجلس إلى عالم أو يتفقه على إمام، بل شهد عليه بعض من عاصره بجهل بالغ في معرفة الأحكام الشرعية - حتى الجلي منها - وقالوا: إنه لم يحج البيت، ولم يجالس العلماء قط (1).

وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء (2) وبعض الملاحدة، من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم:" السمنية "، وأولئك قوم لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية مؤصلة، قد أعدوا لكل عقيدة لدى غيرهم شبهة، وأعدوا لكل سؤال جوابه، ولكل مأزق مخرجا.

وتجشم جهم وتكلف أن يجادلهم ويخوض معهم، وهو صفر من العلم خلو من الحجة فما رآه بعقله المجرد ورأيه القاصر، وكان مجرد خوضه معهم نذيرا بالشر وشؤم العاقبة.

فقد ابتدءوا معه الجدال بالحديث عن مصدر المعرفة الصحيح المتيقن (وهى أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر) وكانت فلسفتهم تقوم على أن المصدر للمعرفة الحواس الخمس، ولما نازلهم جهم وهو جاهل بدينه خال من مصدر اليقين الأصلى - وهو الوحي - حصروه وأفحموه بسؤال هو: صف لنا ربك هذا الذى تعبده يا جهم، وبأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته - أم الخ؟!

وسقط في يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه.

وقادته الحيرة إلى الشك في دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق في التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلا:" هو هذا الهواء مع كل شئ وفي كل شئ ولا يخلو من شئ "(3).

وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين (4).

وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي.

وكانت حياة جهم في آخر عصر بنى أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض في قضية الإيمان ويدلي بدلوه في هذه المسألة التى كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيرا، وكان طبيعيا أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح.

والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال في الإيمان.

والجديد في عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التى لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام متذرعا في ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذى لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي الشاذ مقالة من مقالات الإسلاميين، وإن كانت الجهمية في حكم جملة من علماء السلف ليست من فرق (المسلمين)(1) أهل القبلة.

ص: 59

حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: " نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم "(2).

ومن هنا أضرب أبو عبيد والطبري صفحا عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين في النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام ، ومنسلخ عن أقوال الملل الحنفية جميعها (3).

ولكن أسبابا ومؤثرات - يأتي تفصيل الحديث عنها - أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب في الإيمان انتشارا، مع ما لحقه من تعديل هو لفظى أكثر من كونه حقيقيا، ومن نفي لبعض لوازمه.

فالذى حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مهد لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل -.

ولهذا قال وكيع بن الجراح - الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد -: " أحدثوا (4) هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية الكفار، والمريسي جهمي، وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة، وهذا كفر، والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة "(5).

وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به.

أما معرفته فلكي نعلم التطور التاريخي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كبارا، فيجب الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظا فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط.

ولهذا عد بعض العلماء الخلاف كله لفظيا، وليس كذلك بإطلاق.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم:

" وهذه الشبهة التي أوقعتهم - يعنى شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان - مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء "(1).

وقال أيضا: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه (2)، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم (3).

لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم " (4).

وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبى عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله.

هذا، وبيان الفروق بين مذهب جهم ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالى لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو:

ص: 60

إن مذهب جهم لم يكن له في حياة صاحبه ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، إنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسى (5)، وقد عاش متهما محاربا - لكن أقل من حال جهم في هذا - ثم ابن كلاب، وقد كان متهما أيضا - لكن أقل من حال بشر - ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة في فكر الأمة وحياتها.

وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين - وتبعهم من تبعهم - في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهما قد ربى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم.

والواقع يكذب هذا، فإن جهما كان كاتبا لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأيا خاصا وفكرة شخصية، لا أثر لها في توجيه الثورة التى لم تكن تمثل أي عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضمت في صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليهم جهم - على ما يظهر لي - لأنه هو أيضا خارج على الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التى أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله. روى اللالكائى بسنده عن أحدهم:" قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد، فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة، يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلا فادسس إليه برجال غيلة ليقتلوه "(1).

ونقل الحافظ عن أبي حاتم أن سلم بن أحوز عامل نصر بن سيار على مرو لما قبض على جهم قال: " يا جهم! إنى لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهدا أن لا أملك إلا قتلتك. فقتله "(2).

وهذا شبيه بما فعله خالد بن عبدالله القسري مع شيخه الجعد.

وأما ما ذكره الطبري من شعر لنصر بن سيار يتهم فيه الحارث وجيشه بالإرجاء، فلا شك أن كون الجهم كاتبا للحارث يعد سببا كافيا لخصمه السياسي أن يطعن في عقيدته، ويشهر به بين المسلمين، كان المبرر أقوى، على أن المنقول من أخبار نصر يدل على فضل وصلاح فيه.

‌المصدر:

ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 371

(1)((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (3/ 381).

ص: 61