الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية
ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن رؤية الله تعالى جائزة عقلا وواقعة فعلا في الآخرة، واستدلوا على ذلك بالنقل والعقل:
أولا: من جهة النقل استدلوا بأدلة كثيرة منها:
أولا: قوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143].
والاستدلال بالآية من عدة أوجه:
الوجه الأول: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيا لما سأل، لأنه حينئذ إما أن يعلم امتناعها أو يجهله، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال الممتنع لأنه عبث ينزه الأنبياء عنه، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله ويمتنع لا يكون نبيا كليما، وقد وصفه الله تعالى بذلك. قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] فالمقصود من البعثة والرسالة هو الدعوة إلى العقائد الحقة، والأعمال الصالحة الموافقة لدين الله وشرعه، فالسؤال دل على عدم الامتناع وكونه رسولا مصطفى مختارا يمنع عليه الجهل بمن أرسله واصطفاه (1).
واعترضت المعتزلة على هذا الدليل بوجوه:
فعلى الوجه الأول: أولا: قال الكعبي: إن موسى عليه السلام لم يطلب الرؤية وإنما طلب العلم، وعبر بها عن لازمها الذي هو العلم الضروري وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع، فكأنه قال: اجعلني عالما بك علما ضروريا، وهذا أيضا تأويل أبي الهذيل العلاف ووافقه الجبائي وأكثر البصريين (2).
وقد أجيب على هذا الوجه من طريقين: 1 - قال القاضي عبد الجبار: (وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا؛ بأن الرؤية ههنا بمعنى العلم، ولا اعتماد عليه لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجردت فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم)(3).
2 -
كما أجاب أهل السنة فقالوا: إن الرؤية المقرونة بالنظر الموصول بإلى نص في الرؤية، فلو كانت الرؤية المطلوبة في أَرِنِي بمعنى العلم لكان النظر المترتب عليه بمعناه أيضا، وإن كان استعمال النظر بمعنى العلم جائزا إلا أنه في حال وصله بإلى يكون بعيدا مخالفا للظاهر ولا تجوز مخالفة الظاهر إلا بدليل، ولا دليل فوجب حمله على الرؤية بالعيان، ويمتنع حمل الرؤية على العلم الضروري ههنا أيضا، لأنه يلزم أن لا يكون موسى عالما بربه ضرورة مع أنه يكلمه من غير وساطة وإنما طلب الرؤية شوقا إليها بعد سماع الكلام، فدعوى عدم العلم غير معقولة حيث إن المخاطب في حكم الحاضر المشاهد وما هو معلوم بالنظر ليس كذلك. ولأنه تعالى أجاب موسى بقوله لَن تَرَانِي، وهذا نفي للرؤية لا للعلم الضروري. وعلى هذا الإجماع منا ومنهم، والجواب ينبغي أن يطابق السؤال ولو حمل سؤال موسى على طلب العلم لم يكن هذا جوابه (4).
الاعتراض الثاني من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:
(1)((شرح المواقف)) (8/ 107)، ((شرح المقاصد)) (2/ 82).
(2)
((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (198)، ((شرح المواقف)) (8/ 117).
(3)
((شرح الأصول الخمسة)) (262).
(4)
((شرح المواقف)) (8/ 117)، ((شرح المقاصد)) (2/ 82).
أن موسى عليه السلام لم يسأل الله أن يريه ذاته وإنما سأله أن يريه علما من علومه ويكون تقدير الكلام (أرني أنظر إلى علمك) فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فقال: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] فتكون الرؤية المطلوبة متعلقة بالعلم ويكون المعنى أرني علما من علومك أنظر إلى علمك. هذا تصوير الاعتراض. وقد أجاب الباقلاني عن هذا الاعتراض فقال: (إن هذا غير جائز في اللغة لأن القائل لا يجوز أن يقول لمن يسمع كلامه ويعرفه ولا يشك فيه أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ وهو يريد "عرفني نفسك" أو "أرني فعلا من أفعالك" هذا غير مستعمل في اللسان، ولأن النظر إذا أطلق فليس معناه إلا رؤية العين وإن أريد به العلم فبدليل، ولأن النظر الذي في الآية معدى بقوله: "إليك" والنظر المعدى بـ "إلى" لا يجوز في كلام العرب أن يراد به إلا نظر العين)(1).
وقال الجرجاني في شرحه للمواقف في الجواب عن هذا الاعتراض: إنه خلاف الظاهر فلا يرتكب إلا لدليل ومع ذلك لا يستقيم:
أما أولا: فلقوله لَن تَرَانِي فإنه نفي لرؤيته تعالى لا لرؤية علم من أعلامه بإجماعهم فلا يطابق الجواب السؤال حينئذ. وأما ثانيا: فلأن تدكدك الجبل الذي شاهده موسى عليه السلام من أعظم الأعلام فلا يناسب قوله وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ المنع من رؤية العلامة المستفادة من قوله لَن تَرَانِي على هذا التأويل بل يناسب رؤيتها، وأيضا قوله فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ لا يلائم رؤيتها لأن الآية في تدكدك الجبل لا في استقراره (2).
الاعتراض الثالث من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:
ما قاله أبو علي وأبو هاشم (إن السؤال لم يكن سؤال موسى وإنما كان سؤالا عن قومه، والذي يدل عليه قوله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء: 153] وقوله عز وجل: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55] فصرح تعالى بأن القوم هم الذين حملوه على هذا السؤال. ويدل عليه أيضا قوله حاكيا عن موسى عليه السلام: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء [الأعراف: 155] فبين أن السؤال سؤال عن قومه وأن الذنب ذنبهم)(3).
قال الزمخشري: (فما طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في إلحاحهم وقالوا لا بد ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأرادوا أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لَن تَرَانِي ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبه فلذلك قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143].
(1)((التمهيد للباقلاني)) (272).
(2)
((شرح المواقف)) (8/ 118).
(3)
((شرح الأصول الخمسة)) (262)، ((الأربعين في أصول الدين)) (198).
فإن قلت: فهلا، قال: أرهم ينظرون إليك. قلت: لأن الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسمعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد، فلذلك قال موسى أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار، ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعا إليهم وقوله أَنظُرْ إِلَيْكَ وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة عن مقترحاتهم وحكاية لقولهم (1).وعلى هذا التأويل الجاحظ وأكثر المعتزلة فهم يقولون إن الطلب ليس من موسى عليه السلام لنفسه وإنما لقومه على ما مر (2).
الجواب الأول عن الاعتراض الثالث:
يقول الرازي: (إن هذا تأويل فاسد ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى: (أرهم ينظروا إليك) ولقال تعالى: (لن يروني)، فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل.
الثاني: أنه لو كان هذا السؤال طلبا للمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] منعهم عنه بقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138].
الثالث: أنه لو كان: يجب على موسى عليه السلام إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته، وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لا يذكر شيئا من تلك الدلائل البتة مع أن ذكرها كان فرضا مضيفا كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام، وأنه لا يجوز. الرابع: أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام أو لا؛ فإن كان الأول كفاهم في الاقتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام، وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له: لا نسلم أن الله منع من الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ (3).
الجواب الثاني عن الاعتراض الثالث:
(1)((الكشاف للزمخشري)) (2/ 113).
(2)
((شرح المواقف)) (8/ 119).
(3)
((تفسير الرازي)) (14/ 220).
أنهم لما طلبوا من موسى أن يريهم الله جهرة زجرهم الله تعالى وردعهم عن سؤالهم بأخذ الصاعقة من غير ما طلب من موسى إلى زجرهم بطلب الرؤية وإضافتها إلى نفسه. فإن قيل: إن أخذ الصاعقة لهم لا يدل على أن الرؤية ممنوعة فالصاعقة أخذتهم عقيب السؤال، ولا يدل على امتناع ما طلبوه لجواز أن يكون الأخذ بالصاعقة لأنهم قصدوا إعجاز موسى عليه السلام من الإتيان بما طلبوه مع كونه ممكنا، فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم كما أنكر تعالى قول أهل مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء: 90]. وقول أهل الكتاب له صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا كتابا من السماء قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء [النساء: 153]. وما ذلك إلا بسبب التعنت، وإن كان المسؤول أمرا ممكنا في نفسه، فأظهر الله لهم ما يدل على صدقه معجزا ورادعا لهم عن التعنت (1).أما استدلالهم بقوله تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء [الأعراف: 155] على أنه سؤال عن قومه، وتعقيب الزمخشري على ذلك فلا نسلمه لهم. قال صاحب الانتصاف:(فإن الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين، ثم وإن كان السبب طلبهم للرؤية فليس لأنها غير جائزة على الله ولكن الله تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا، والخبر صدق. وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوه وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيبا للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لا يقع، ثم ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة وتوقيفهم الإيمان عليها حيث قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55]. ألا ترى أن قول أهل مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء:90]. إنما سألوا منه جائزا، ومع ذلك قرعوا لاقتراحهم على الله ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه)(2).
الاعتراض الرابع من المعتزلة على الأول من دليل الجواز: أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربه وبعدله وتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفا على السمع. وهذا قول بعض المعتزلة كالحسن وغيره (3).
قال الرازي في الجواب عن هذا: (قال أصحابنا أما هذا الوجه فضعيف ويدل عليه وجوه:
الأول: إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى، وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة، وذلك باطل بإجماع المسلمين.
(1)((شرح المواقف)) (8/ 119).
(2)
((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (2/ 112) من هامش ((الكشاف)) بتصرف.
(3)
((تفسير الرازي)) (14/ 229).
الثاني: أن المعتزلة بدعوة العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا، أو في حكم المقابل، فإما أن يقال: إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم، فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئيا يوجب تجويز كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزم كون موسى عليه السلام كافرا وذلك لا يقوله عاقل. وإن كان الثاني فنقول لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل علما بديهيا ضروريا، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلا لموسى عليه السلام لزم أن يقال: إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية، ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنونا وذلك كفر بإجماع الأمة، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالما بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلا، والله أعلم) (1).
ويتصور اعتراض المعتزلة على الوجه الأول من وجهي الرد بأن هذه العقيدة سمعية، ففي الوقت الذي سأل موسى ربه الرؤية لم يكن جاءه وحي بامتناعها بخلاف المعتزلة فإنهم علموا ذلك من الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أنها ممتنعة، وهذا لا يوجب أفضلية المعتزلة على موسى عليه السلام لأن المسألة راجعة إلى السمع والوحي، هذا ما يمكن أن يعترض به المعتزلة على هذا الجواب.
فيقال إن عقيدة الرؤية ليست سمعية بل هي عقيدة عقلية باعترافكم أنفسكم، فإنكم حين أردتم الاستدلال على دعواكم امتناع الرؤية قسمتم الأدلة إلى عقلية ونقلية فإذا هذه عقيدة يمكن الاستدلال عليها بالعقل، فما يقوله أهل السنة في الرد على اعتراضكم قول صحيح حاسم لأنه يلزم أن تكونوا أقوى عقلا من موسى حيث علمتم بعقولكم امتناع الرؤية مع أن موسى عليه السلام كان جاهلا بامتناعها وهذا من أبعد المحال.
الاعتراض الخامس من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:
قال أبو الهذيل العلاف: إنه مع علم موسى باستحالتها عقلا طلبها ليؤكد لديه دليل العقل بدليل السمع حتى يقوى علمه بهذه الاستحالة لأن تعدد الأدلة وإن كان من جنس واحد يفيد زيادة العلم بالمدلول، فكيف إذا كانت من جنسين، وقد فعل مثل هذا قبله إبراهيم عليه السلام حين طلب الطمأنينة فيما يعتقده ويعلمه بانضمام المشاهدة إلى الدليل حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260].
والجواب:
استبعاد هذا لأن العلم لا يقبل التفاوت، فهو صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه، ولأنه لو كان المقصود إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه؛ لوجب أن يطلب ذلك صريحا من الله بما يقوي امتناع رؤيته تعالى بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يطلب ذلك بل طلب الرؤية علم فساد مدعاهم. أما مقارنة ذلك بطلب إبراهيم عليه السلام فالفارق ظاهر بين طلب إبراهيم وموسى على قولهم، لأن إبراهيم طلب أن يرى الكيفية مشاهدة ظاهرة جلية مع تصديقه، أما طلب موسى على مدعاهم فهو يطلب دليلا سمعيا يقوي به العقل مع علمه بالاستحالة فما طلبه موسى هو عين ما يعلم، والعلم لا يقبل التفاوت كما مر (2).
(1)((تفسير الرازي)) (14/ 229).
(2)
((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 120).
الوجه الثاني من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن الله لم ينهه ولا أيأسه لما طلب الرؤية، ولو كانت محالة لأنكر عليه، فقد أنكر جل وعلا على نوح لما سأله نجاة ابنه حيث قال: إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47]. وحينما قال الخليل عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]. لم ينكر عليه سؤاله، ولما قال عيسى عليه السلام اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114] لم ينكر عليه سؤاله. ففي إنكاره جل وعلا على نوح عليه السلام دليل عدم جواز ما طلب وعدم الإنكار على الخليل وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم دليل الجواز وعدم الاستحالة (1).
الوجه الثالث من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن الله تعالى أجابه بقوله لَن تَرَانِي وهذا دليل على الجواز، فلو كانت الرؤية مستحيلة عليه لقال: لا تراني، أو لست بمرئي، أو لا تجوز رؤيتي، ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر مثلا فقال له آخر أعطني هذا لآكله، فإنه يقول له هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكله، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، ففي قوله في الجواب لَن تَرَانِي دليل على أنه سبحانه وتعالى يرى ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤية العلي العظيم (2).قال أبو سعيد الدارمي في قوله تعالى: لَن تَرَانِي أي (في الدنيا؛ لأن بصر موسى من الأبصار التي كتب الله عليها الفناء في الدنيا فلا تحتمل النظر إلى نور البقاء، فإذا كانت يوم القيامة ركبت الأبصار والأسماع للبقاء فاحتملت النظر إلى الله عز وجل بما يطوقها الله، ألا ترى أنه يقول: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ولو قد شاء لاستقر الجبل ورآه موسى، ولكن سبقت منه الكلمة أن لا يراه أحد في الدنيا، فلذلك قال لَن تَرَانِي فأما في الآخرة فإن الله تعالى ينشئ خلقه فيركب أسماعهم وأبصارهم للبقاء فيراه أولياؤه جهرا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
الوجه الرابع من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز: أنه تعالى علق الرؤية على أمر جائز، وهو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة، قال الرازي:(إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها، لأنه لما كان ذلك الشرط أمرا جائز الوجود، لم يلزم من فرض وقوعه محال، فبتقدير حصول ذلك الشرط، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله، أنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل (4).
وللمعتزلة على هذا الوجه اعتراضان:
الاعتراض الأول:
(1)((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (223).
(2)
((تفسير الرازي)) (14/ 231)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (223).
(3)
((الرد على الجهمية)) (55).
(4)
((تفسير الرازي)) (14/ 231).
أنه علق الرؤية على استقرار الجبل ولا يخلو إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه وتدكدكه أو علقها به حال تحركه، ولا يجوز أن يكون بالاستقرار بعد التحرك لأنه لم يره فصح أن التعليق كان حال الحركة، وذلك دليل على استحالة الرؤية كاستحالة استقرار الجبل حال حركته، والمعلوم أنه لا يستقر وهذه طريقة العرب إذا أرادوا تأكيد اليأس من الشيء علقوه بأمر يبعد حصوله، فلما جعله تعالى دكا وظهر بعد استقراره لذلك في النفوس حل محل الأمور التي يبعد بها الشيء إذا علق بها في الكلام، لأن استقراره وقد جعله دكا يستحيل لما فيه من اجتماع الضدين فما علق به يجب أن يكون بمنزلته.
الاعتراض الثاني: أنه لم يقصد من التعليق المذكور في الآية بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به وهو الاستقرار بغض النظر عن كونه ممكنا أو ممتنعا (1).
هذا تصوير ما اعترضوا به على هذا الدليل. والأول هو أحد أوجه استدلالهم بالآية على منع الرؤية وقدمنا الجواب على الدليل هناك، ونعيد الجواب من وجه آخر يناسب الاعتراض قال الرازي:(إن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة أو السكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود، ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم، فلو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو كونه معدوما كان ممكن الوجود فكذا ههنا الذي جعل شرطا في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطا أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه (2).
وقد سبق في دفع الاعتراض وجهة واضحة وهو أنه إذا علق الله تعالى رؤية موسى على استقرار الجبل فليس المراد بالاستقرار أن يحصل مع الاندكاك كما زعم المعتزلة، بل المراد أن يحصل الاستقرار بدل الاندكاك. ولا شك أن هذا أمر ممكن، وهذا هو المعروف في أساليب الكلام فإنك لو قلت لشخص وهو جالس إن قمت أعطيتك جائزة مثلا، لم يكن المراد أن يقوم وهو جالس بل المراد أن يقوم بدل جلوسه وهذا ظاهر.
والجواب عن الاعتراض الثاني على الوجه الرابع، وهو:
قولهم إن المقصود من التعليق بيان عدم المعلق لعدم المعلق به. أجاب صاحب المواقف عن هذا الاعتراض فقال: (إنه قد لا يقصد الشيء في الكلام قصدا بالذات ويلزم منه لزوما قطعيا، والحال ههنا كذلك، فإنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه فإما أن يقع المشروط فيكون ممكنا، وإلا فلا معنى للتعليق وإيراد الشرط والمشروط، لأنه حينئذ منتف على تقديري وجود الشرط وعدمه، لا يقال فائدة التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود لأنا نقول إن المتبادر في اللغة من مثل قولنا إن ضربتني ضربتك هو الربط في جانبي الوجود والعدم معا لا في جانب العدم فقط كما هو المعتبر في الشرط المصطلح)(3).
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (265)، ((الكشاف)) للزمخشري (2/ 114)، ((متشابه القرآن)) (296).
(2)
((تفسير الرازي)) (14/ 232).
(3)
((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 121).
الوجه الخامس من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: تجلي الله تعالى للجبل وهذا التجلي هو الظهور، قال القرطبي:(تجلى أي ظهر من قولك جلوت العروس أي أبرزتها، وجلوت السيف أبرزته من الصدأ جلاء فيهما وتجلى الشيء انكشف)(1) والمقصود إعلام نبي الله موسى عليه السلام أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى حيث إن الجبل مع قوته وصلابته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه فبدا مسوى بالأرض مدكوكا، وحيث جاز تجلي الله للجبل ورؤيته له وهو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه إن ذلك بعيد. فإذا قال المعتزلة إن المراد بقوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلما ظهر من آياته وقدرته ما أوجب أن يصير دكا فيجب أن يحمل على إظهار القدرة، يبين ذلك أنه تعالى علق جعله الجبل دكا بالتجلي، ولو أراد به تجلي ذاته لم يكن لذلك معنى لأنه لو كان يجب أن يصير الجبل دكا، أو أراد تجلى بمعنى المقابلة لوجب أن لا يستقر له مكان بل كان يجب في العرض أن يصير دكا وأن يكون بهذه الصفة أحق (2).
(1)((الجامع لأحكام القرآن للقرطبي)) (7/ 278).
(2)
((متشابه القرآن)) (1/ 298).
فإنه يقال لهم: القول بأن التجلي إظهار القدرة هذا تأويل بخلاف تأويل جمهور المفسرين ثم إن معنى التجلي في اللغة الظهور الحقيقي والعدول عنه عدول عن الحق، ثم القول (إنه تعالى علق جعله الجبل دكا بالتجلي ولو أراد به تجلي ذاته لم يكن لذلك معنى) هذا بعيد عن الصواب إذ لا يعدم المعنى إلا فيما إذا أريد بالتجلي غير ذاته فموسى طلب رؤية الذات لا القدرة وقد سبق هذا رؤية الكثير من قدرته تعالى لموسى كالمعجزات التي أيده الله بها وكل ذلك رؤية لآثار القدرة، فالحمل على أن التجلي تجلي القدرة لهذا بعيد جدا وقد سبقت الإشارة إليه. ثم القول (بأنه لو كان المراد بالتجلي المقابلة لوجب أن لا يستقر له مكان، وهذا في العرش يكون أولى). قول في غاية الضعف، فالعرش قد خلقه الله تعالى لهذا الشأن وجعل فيه الصمود والتحمل لما خلقه له، والكرسي والحجاب كذلك وما خلقه لغير ذلك لا يحتمل ظهور ذاته في الدنيا فـ "حجابه النور ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"(1) أي لاحترقت السموات والأرض ومن فيهن، وقالوا:(لو كان في الحقيقة تجلى للجبل بمعنى أنه ظهر وزال الحجب لكان من على الجبل يراه أيضا فكان لا يصح مع ذلك قوله لَن تَرَانِي وكان لا يصح أن يعلق نفي الرؤية بأن لا يستقر الجبل والمعلوم أنه لا يستقر بأن ينكشف ويرى لأن ذلك في حكم أن يجعل الشرط في أن لا يرى ما يوجب أن يرى وذلك متناقض)(2).ونجيب على هذا بجوابهم على من اعترض عليهم بقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [الأنفال: 44] وجهه أنه إذا جاز أن يقلل الكثير في العين الصحيحة جاز مع صحتها وارتفاع الموانع أن نراه عز وجل. حيث أجابوا بأن الظاهر يقتضي أنه قلل العدد في أعين المؤمنين وليس فيه أنه فعل ذلك من غير مانع، ومن قولنا: إن ذلك يجوز للموانع وإنما أنكرنا القول بأن المرئي لا نراه بالعين الصحيحة مع ارتفاع جميع الموانع (3). فيحق لنا القول بحصول التجلي للذات ووجود مانع من الرؤية لما سوى الجبل أوجده الله تعالى حيث قضى بأنه لا يرى في الدنيا، وأن الخلق لا تتحمل النظر إليه ولا تناقض على ما يدعون حيث إن الشرط في الرؤية وعدمها استقرار الجبل وعدمه لا الانكشاف، وهذا ظاهر.
فإن قيل: إن الجبل جماد فكيف يتصور أن يرى الله تعالى؟! قلنا: لا يمتنع أن يخلق الله تعالى في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم وسائر ما يتصف به الحي، ثم يخلق فيه رؤية متعلقة بذاته تعالى حين تجلى له ويؤيد هذا أنه تعالى قال يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10]، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل، ونحتج لهذا بتسبيح الحصى بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وسلام الحجر عليه (4)، وغير ذلك وهو ليس بغريب، والله أعلم.
الوجه السادس من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن من جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير وساطة فرؤيته أولى بالجواز، وكليم الله وأعرف الناس به في زمانه لما سمع كلامه ومناجاته له من غير وساطة اشتاقت نفسه إلى رؤيته لعلمه عدم التفريق بين الرؤية والكلام، لهذا فلا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم (5).
(1)((صحيح الإمام مسلم)) (1/ 161).
(2)
((متشابه القرآن)) (1/ 258).
(3)
((متشابه القرآن)) (1/ 323).
(4)
((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (7).
(5)
((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (224)، ((شرح الطحاوية)) (133).
ثانيا: من أدلة النقل على جواز رؤية الله تعالى:
استنبط بعض العلماء دليلا على جواز رؤية الله تعالى مطلقا من قوله لموسى عليه الصلاة والسلام بعدما منعه الرؤية قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]. فقال إسماعيل البروسوي عند تفسير الآية: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ يعني ما ركبت فيك استعداده، واصطفيتك به من الرسالة والمكالمة وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يستدعي الزيادة لقوله تعالى: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقال عليه الصلاة والسلام الزيادة هي الرؤية والحسنى هي الجنة") (1).
وقال الرازي: (اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغل بذكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها. والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وهذا أيضا أحد ما يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة)(2).
وأرى أن الاستدلال بهذه الآية على الجواز قوي، لأن الله تعالى عدد لموسى عليه السلام هذه النعم التي أنعم بها عليه لما منعه من حصول جائز طلبه منه فذكر ما ذكر تسلية له، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر، وذلك مثل خطابه تعالى لنوح عليه السلام حين قال:
رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46].
وقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260].
والفرق بين خطاب الله تعالى لموسى عليه السلام، وبين خطابه لنوح وإبراهيم عليهما السلام ظاهر.
ثالثا: من أدلة أهل السنة والجماعة النقلية على جواز الرؤية:
(1)((تفسير روح البيان)) للبروسوي (3/ 239).
(2)
((التفسير الكبير)) للرازي (14/ 235)، ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 55).
قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]. قال الألوسي: (الأبصار جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها، وعلى البصيرة وهو قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة، وقيل هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام، كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: التوحيد أن لا تتوهمه، وقال أيضا كل ما أدركته فهو غيره. ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله: "يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كانت معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل موجد كل ما أدركته")(1). هذا ما قيل في معنى الإبصار والإدراك الواردين في الآية. وقال الرازي في تقرير وجه الدلالة على المدح: (لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة، والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ يفيد المدح وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أن قوله تعالى لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه: أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته)(2).
(1)((روح المعاني)) للألوسي (7/ 244).
(2)
((تفسير الرازي)) (13/ 125).
قال ابن القيم: (والاستدلال بهذه الآية على جواز الرؤية أعجب فإنها من أدلة النفاة، وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال بها أحسن تقرير وألطفه، وقال أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه وتعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم، إلا إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفي السنة والنوم المتضمنة كمال القيومية. . فقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك، بحيث يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]. . وقد سبق تقرير هذا فلا داعي لإعادته. وقال ابن عطية ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم فذلك قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عيانا ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها لا تحيط به إذ كان غير جائز أن يوصف الله عز وجل بأن شيئا يحيط به وهو بكل شيء محيط، وهكذا يسمع كلام من يشاء من خلقه ولا يحيطون بكلامه، وكذا يعلم الخلق ما علمهم وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء [البقرة: 255] ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وهذا من أعظم الأدلة، على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مثل فيها وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه. . فقوله: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4] من أدل شيء على مباينة الرب لخلقه، فإنه لم يخلقهم في ذاته بل خلقهم خارجا عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه وهو يعلم ما هم عليه، فيراهم وينقذهم بصره ويحيط بهم علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا، وتأمل حسن هذه المقابلة لفظا ومعنى بين قوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به، وللطفه وخبرته يدرك الأبصار فلا تخفى عليه، فهو العظيم في لطفه اللطيف في عظمته العالي في قربه، والقريب في علوه الذي كمثله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]. لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] (1). وقد مر أكثر من هذا في أثناء الرد على المعتزلة عن استدلالهم بالآية على المنع من الرؤية.
(1)((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (228).
فنقول: إن الله تعالى نفى إدراك الأبصار له وهو أن تحيط به فهذا النفي ورد على مقيد وهي الرؤية المحيطة، فإذا المنفي هو قيد الإحاطة، وهذا يشهد بأن الرؤية جائزة، لأنها لو كانت ممتنعة لنفى أصل الرؤية لا الرؤية المحيطة، نظير ذلك أنه إذا كان هناك شخصان أحدهما لم يجئ إليك والثاني جاء غير راكب فإنك تقول في الثاني ما جاء راكبا تريد نفي الركوب لا نفي المجيء ولا تقول في الأول ما جاء راكبا بل تقول ما جاء، وهذا معنى قولهم في القواعد العامة: إذا ورد النفي على مقيد بقيد، كان النفي منصبا على القيد لا المقيد، والنفي في الآية الكريمة ورد على الرؤية المحيطة فيكون المراد نفي الإحاطة، وهذا بدوره يقتضي ثبوت أصل الرؤية، والله أعلم.
رابعا: من أدلة أهل السنة على الجواز:
قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام في محاجة قومه في النجوم فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 76 - 78]. وجه الدلالة أن الخليل عليه السلام حاج قومه في النجوم وبين أنها تأفل وتغيب، في حين أن الرب لا يغيب ولا يأفل ثم قال في ذلك لا أحب الآفلين ولم يحاجهم بأنه لا يحب ربا يرى، ولكن حاجهم بأن لا يحب ربا يأفل وهذا هو دليل عدم الدوام وهو الذي يمتنع على الله تبارك وتعالى أما الرؤية فلا، حيث لم يجعلها الخليل من موانع الربوبية كالأفول والغيبة (1).
(1)((كتاب التوحيد)) للماتريدي (78).
خامسا: روى البخاري في صحيحه قال: حدثنا عمرو بن عوف حدثنا خالد وهشيم عن إسماعيل بن قيس عن جرير قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال:((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل صلاة الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) (1). سادسا: روى البخاري قال: (حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي حدثنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم عيانا)) (2). سابعا: من الأحاديث الواردة في إثبات الرؤية قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار وقد جمعهم في قبة ((اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض)) (3). قال ابن القيم (وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة رواها عنه أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصارى، وبريدة بن الخصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلى، وجابر بن عبد الله الأنصارى، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعمارة بن رويبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد وحديثه موقوف، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير مسمى. فهناك سياق أحاديثهم من الصحاح والمسانيد والسنن وتلقها بالقبول والتسليم، وانشراح الصدر لا بالتحريف والتبديل وضيق الطعن ولا تكذب بها فمن كذب بها لم يكن إلى وجه ربه من الناظرين وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين)(4) ثم ذكر بعد ذلك سياق الأحاديث بكاملها وقد مر ذكر بعضها ويأتي بعض باقيها إن شاء الله تعالى.
ثامنا: من أدلة الجواز ما حصل من الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في شأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، فقال ابن عباس وجماعة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ونفى هذا آخرون وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب، ولم ينسبه إلى البدعة والضلالة وهذا يدل على أنهم كانوا مجتمعين على عدم امتناع رؤية الله تعالى عقلا في الدنيا وقد أجمعوا على أنها ستحصل للمؤمنين في الآخرة. ثم لو أن الرؤية ممتنعة صح أن يقول أحد من الصحابة بوقوعها فقول فريق منهم بالوقوع يشهد بأنها جائزة قطعا (5).
تاسعا: قال الرازي في الاستدلال على جواز الرؤية: (إن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله تعالى على أكمل الوجوه، وأكمل طرق المعرفة هو الرؤية، فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد، وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ [فصلت: 31] (6).
(1) رواه البخاري (554) ، ومسلم (633).
(2)
رواه البخاري (7435).
(3)
رواه البخاري (7441) ، ومسلم (1059).
(4)
((حادي الأرواح)) (231).
(5)
((تفسير الفخر الرازي)) (13/ 132).
(6)
((تفسير الفخر الرازي)) (13/ 131).
وهناك أدلة سمعية كثيرة تدل على وقوع الرؤية: قال الغزالي: (ومهما دل الشرع على وقوعه فقد دل على جوازه)(1) وقد وردت في إثباتها للمؤمنين في الجنة، أو الحث على طلبها بالعمل الصالح والوعد بها، أو نفيها عن الكفار فأذكرها وأبين وجه دلالتها على الجواز وأؤجل الكلام على كيفية الاستدلال بها ومناقشتها في مواضعها إن شاء الله تعالى:1 - قوله تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فقد فسرت الحسنى بالجنة والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، قال القرطبي:(وقد ورد هذا عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب في راوية وحذيفة وعبادة بن الصامت وكعب بن عجرة وأبي موسى وصهيب وابن عباس في رواية وهو قول جماعة من التابعين وهو الصحيح في الباب. وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟! قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل. وفي رواية ثم تلا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (2))) (3). 2 - قوله تعالى: ولدينا مزيد لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] فقد فسر المزيد في هذه الآية بأنه النظر إلى الله تعالى كالآية السابقة، قال ابن كثير:(إن المزيد الذي يتفضل الله به على عباده فوق ما يشاءون هو ظهوره تعالى لهم)(4) وبهذا فسر الآية ابن جرير الطبري والقرطبي وغيرهما ودلالتها عن الرؤية كالآية السابقة.3 - قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان: 20] قال الرازي: (فإن إحدى القراءات في هذه الآية في مُلْكًا بفتح الميم وكسر اللام، وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى، وعندي أن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها (5). وقال الألوسي عند تفسيرها: (وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك (6). فعلى القراءة المذكورة دلالة الآية على جواز الرؤية ظاهرة.4 - قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] وجه الاستدلال بالآية على الجواز ما نقل أن نَاظِرَةٌ أي رائية رؤية بصرية يوم القيامة كما قال أهل السنة والجماعة. قال الباقلاني: (لأن النظر في كلام العرب يحتمل وجوها منها نظر الانتظار ومنها الفكر والاعتبار ومنها الرحمة والتعطف ومنها الإدراك بالأبصار وإذا قرن النظر بذكر الوجه وعدى بحرف الجر ولم يضف الوجه إلى قبيلة أو عشيرة كان الوجه الجارحة التي توصف بالنضارة التي تختص بالوجه الذي فيه العينان، فمعناه رؤية الأبصار (7) خلافا للمحرفين للنصوص عن مواضعها، قال أبو الحسن الأشعري: قال الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ [القيامة: 22 يعني مشرقة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] القيامة: 23 يعنى رائية. . ولا يجوز أن يكون بمعنى نظر التفكر والاعتبار لأن الآخرة ليست بدار الاعتبار، ولا يجوز أن يكون عني نظر الانتظار لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه (8).
(1)((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (33).
(2)
رواه مسلم (181).
(3)
((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (8/ 330).
(4)
((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 408).
(5)
((تفسير الفخر الرازي)) (13/ 131).
(6)
((روح المعاني)) للألوسي (29/ 161).
(7)
((كتاب التمهيد للباقلاني)) (274).
(8)
((الإبانة عن أصول الديانة)) لأبي الحسن الأشعري (12).
وروى عبد الله بن عمر قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ [القيامة: 22 قال: من البهاء والحسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] القيامة: 23 قال في وجه الله عز وجل)(1).
5 -
قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ [الكهف: 110].
6 -
قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ [البقرة: 223].
7 -
قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44]. 8 - قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللهِ [البقرة: 249]. وغير هذه الآيات مما ذكر فيها اللقاء منسوبا إلى الله تعالى. ووجه الدلالة على الرؤية هو أن اللقاء عند كثير من السلف يتضمن المشاهدة والمعاينة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. قال الآجري:(واعلم رحمك الله. . أن عند أهل العلم باللغة أن اللقاء ههنا لا يكون إلا بمعاينة يراهم الله عز وجل ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه (2)، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة: 77] فقد دلت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة بل والكفار أيضا كما في الصحيحين من حديث التجلي يوم القيامة (3)، ويأتي للبحث زيادة إن شاء الله تعالى.9 - قوله تعالى: كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15]، وجه الاستدلال بها أنه سبحانه وتعالى جعل أعظم عقوبة للكفار كونهم محجوبين عن رؤيته. قال الألوسي:(لا يرونه تعالى وهو حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية، لأن المحجوب لا يرى ما حجب، أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه، واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص، وقال الشافعي لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، وقال أنس بن مالك لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل (4) فهذه الأدلة السابقة كلها أدلة على وقوع الرؤية لله تعالى وهي أيضا أدلة على الجواز حيث إن غير الجائز لا يقع والله أعلم.
ثانيا: الأدلة العقلية على جواز الرؤية: 1 - استدل الأشاعرة على جواز الرؤية عقلا بدليل الوجود: قال أبو الحسن الأشعري: (ومما يدل على رؤية الله عز وجل بالأبصار أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجودا مثبتا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل (5).
(1) رواه ابن مردويه كما في ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص253) وقال الألباني: ((شرح الطحاوية)) (190): ضعيف جدا.
(2)
((الشريعة)) للآجري (252).
(3)
((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (224).
(4)
((روح المعاني)) للألوسي (30/ 73)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (256).
(5)
((الإبانة عن أصول الديانة)) (16).
وتعرض بعض العلماء لبيان المقدمة الثانية – أن كل موجود يصح أن يرى – فقالوا: إنا نرى الأعراض كالألوان والأضواء والحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهذا ظاهر، ونرى الجوهر لأنا نرى الطول والعرض في الجسم ولهذا نميز الطويل من العريض والطويل من الأطول فقد ثبت أن صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض، وهذه الصحة لها علة لتحققها عند الوجود، وانتفائها عند العدم، فإن الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئية بالضرورة والاتفاق، ولولا تحقق أمر مصحح حال الوجود غير متحقق حال العدم لكان ذلك أي اختصاص الصحة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجح. وهذه العلة المصححة للرؤية لا بد من أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد وهو صحة كون الشيء مرئيا بعلل مختلفة وهو غير جائز، ثم نقول هذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما، فإن الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامة يتوهم كونها مصححة سوى هذين، والحدوث لا يصلح أن يكون علة للصحة فهو عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة لأن التأثير صفة إثبات فلا يتصف به العدم، ولا ما هو مركب منه، فإذا سقط عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الوجود فهو العلة المشتركة، فعلة صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى فيتحقق صحة الرؤية وهو المطلوب (1). ويلتزم أبو الحسن الأشعري كل لازم لهذا الدليل من جواز صحة رؤية كل موجود كالأصوات، والروائح، والملموسات، والطعوم، ويقول لا يلزم من جواز صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له، وعدم رؤيتنا لهذا اللازم ليس لامتناعه بل لعدم جريان العادة من الله تعالى بخلق رؤيته فينا، ولا يمتنع أن يخلق رؤيتها فينا كما خلق رؤية غيرها، وقد نشأ هذا من أنه جعل الرؤية علما مخصوصا فكما يتعلق العلم بالموجودات كذلك الرؤية إلا أن العلم المطلق أعم (2).
وبعد أن ذكر صاحب المواقف هذا الدليل العقلي، كما تقدم أورد عليه بعض الاعتراضات ثم أجاب عنها فقال:
الاعتراض الأول:
لا نسلم أنا نرى العرض والجوهر بل المرئي هو الأعراض فقط. وقولك إنا نرى الطول والعرض وهما جوهران.
قلنا: الحكم برؤيتهما صحيح ولكن المرجع بهما إلى المقدار فإنه عرض قائم بالجسم، ووجود المقدار الذي هو عرض مبني على نفي الجزء وتركب الجسم من الهيولي والصورة وهذا غير مسلم، بل نقول ببطلانه، ولإبطال وجود المقدار العرضي: أنا لو فرضنا تألف الأجزاء من السماء إلى الأرض فإنا نعلم بالضرورة كونها طويلة جدا وإن لم يخطر ببالنا شيء من الأعراض فعلم أنه لا حاجة في الطول إلى شيء سوى الأجزاء فالمرئي هو تلك الأجزاء لا عرض قائم بها، أيضا فالامتداد الحاصل فيما بين الأجزاء شرط لقيام العرض الواحد الذي هو المقدار بها، وإلا لقام المقدار بها أي بتلك الأجزاء وإن كانت متناثرة متفاصلة وهو ضروري البطلان، وإذا كان الامتداد شرطا لقيام المقدار العرضي بالأجزاء فلا يكون الامتداد عرضا قائما بها، وإلا لزم اشتراط الشيء بنفسه، فمرجع الطول إلى الأجزاء المتألفة في سمت مخصوص فرؤيته رؤية تلك الأجزاء المتحيزة وهو المطلوب.
الاعتراض الثاني:
لا نسلم احتياج صحة الرؤية إلى علة لأنها الإمكان والإمكان عدمي والعدمي لا حاجة به إلى علة.
(1)((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 122)، ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (159)، ((الإرشاد)) للجويني (177)، ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (191)، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (33)، ((العقائد النسفية)) للنسفي بشرح مسعود التفتازاني (104).
(2)
((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 123)، ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (357).
والجواب: جدلا: المعارضة على كون الإمكان عدميا فالأدلة تدل على أنه وجودي.
والجواب: تحقيقا:
إن المراد بعلة صحة الرؤية ما يمكن أن تتعلق به الرؤية لا ما يؤثر في الصحة، واحتياج الصحة سوءا كانت وجودية أو عدمية إلى العلة بمعنى متعلق الرؤية ضروري، ونعلم أيضا بالضرورة أنه أمر وجودي لأن المعدوم لا تصح رؤيته قطعا.
الاعتراض الثالث:
لا نسلم أن علة صحة الرؤية يجب أن تكون مشتركة.
أما أولا: فلأن صحة الرؤية ليست أمرا واحدا بل صحة رؤية الأعراض لا تماثل صحة رؤية الجوهر إذ المتماثلان ما يسد كل منهما مسد الآخر ورؤية الجسم لا تقوم مقام رؤية العرض ولا بالعكس.
وأما ثانيا: فلجواز تعليل الواحد بالنوع بالعلل المختلفة فعلى تقدير تماثل الصحتين جاز تعليلهما بعلتين مختلفتين.
والجواب:
أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها، والمدعي أن متعلقها ليس خصوصية الجوهر والعرض فإنا نرى الشبح من بعيد، ولا ندرك منه إلا أنه هوية ما من الهويات، وأما خصوصية تلك الهوية وجوهريتها وعرضيتها فلا ندركها فضلا عن إدراك أنها جوهر أو عرض، وإذا رأينا زيدا فإنا نراه رؤية واحدة متعلقة بهويته ولسنا نرى أعراضه من اللون والضوء كما تقول الفلاسفة بل نرى هويته، ثم ربما نفصله إلى جواهر وأعراض تقوم بها، وربما نغفل عن ذلك التفصيل حتى لو سئلنا عن كثير منها لم نعلمها ولم نكن قد أبصرناها إذ كنا أبصرنا الهوية ولو لم يكن متعلق الرؤية هو الهوية التي بها الاشتراك بين خصوصيات الهويات بل كان متعلق الرؤية الأمر الذي به الافتراق بينها لما كان الحال كذلك؛ لأن رؤية الهوية المخصوصة الممتازة تستلزم الاطلاع على خصوصيات جواهرها وأعراضها فلا تكون مجهولة لنا، فتحقق أن متعلق الرؤية هو الهوية العامة المشتركة بين الجواهر والأعراض وبين الباري سبحانه وتعالى فتصح رؤيته.
الاعتراض الرابع:
لا نسلم أن المشترك بين الجوهر والعرض ليس إلا الوجود والحدوث فإن الإمكان مشترك بينها، وكذا المذكورية والمعلومية وسائر المفهومات العامة.
والجواب:
أن متعلق الرؤية الذي فسرنا به علة الصحة هو ما يختص بالموجود وإلا لصح رؤية المعدوم، والإمكان ليس كذلك لشمول الموجود والمعدوم وكذا سائر المفهومات الشاملة لهما فلا يصح شيء منهما متعلقا للرؤية.
الاعتراض الخامس
لا نسلم أن الحدوث لا يصلح سببا لصحة الرؤية فإن صحة الرؤية عدمية فجاز كون سببها كذلك.
والجواب: ما سبق من أن المراد بسبب الصحة متعلق الرؤية لا المؤثر فيها ولا شك في أن العدم لا يصلح متعلقا للرؤية.
وإن قيل: ليس الحدوث هو العدم السابق كما ذكرتم بل مسبوقية الوجود بالعدم فلا يكون عدميا.
قلنا: وكون الوجود مسبوقا بالعدم أمر اعتباري لا يرى ضرورة، وإلا لم يحتج حدوث الأجسام إلى دليل لكونه محسوسا.
الاعتراض السادس:
لا نسلم أن الوجود مشترك بين الواجب. والممكن كيف وقد جزيتم القول بأن وجود كل شيء نفس حقيقته، وكيف تكون حقائق الأشياء مشتركة حتى تكون حقيقة القديم مثل حقيقة الحادث، وحقيقة الفرس مثل حقيقة الإنسان. بل تكون جميع الموجودات مشتركة في حقيقة واحدة هي تمام ماهية كل واحد منها وذلك مما لا يقول به عاقل فوجب أن يكون الاشتراك في الوجود عندكم لفظيا لا معنويا.
والجواب:
أنه لا معنى للوجود إلا كون الشيء له هوية يمتاز بها وهو مشترك بين الموجودات بأسرها ضرورة، وما ذكرتم مما به الافتراق كالإنسانية والفرسية وغيرهما، وألزمتم الاشتراك فيها على مذهبنا فخصوصيات الأشياء التي يمتاز بها بعضها عن بعض هيئات وخصوصيات للهويات المتمايزة بذواتها، وإن عاقلا لا يقول بالاشتراك فيها ولا بما يستلزم هذا الاشتراك استلزاما مكشوفا لا سترة به فما ذكره الشيخ من أن وجود كل شيء عين حقيقته لم يرد به أن مفهوم كون الشيء ذا هوية هو بعينه مفهوم ذلك الشيء حتى يلزم من الاشتراك في الأول الاشتراك في الثاني بل أراد أن الوجود ومعروضه ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم وقد عرفت أن هذا هو الحق الصريح، فالاتحاد الذي ادعاه الشيخ إنما هو اعتبار ما صدقا عليه، وذلك لا ينافي اشتراك مفهوم الموجود فلا منافاة بين كون الوجود عين الماهية بالمعنى الذي صورناه، وبين اشتراكه بين الخصوصيات المتمايزة بذواتها، والأكثرون توهموا أن ما نقل عنه من أن الوجود عين الماهية ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات إذ يلزم منهما معا كون الأشياء كلها متماثلة متفقة الحقيقة وهو باطل فلذلك قال: واعلم أن هذا المقام مزلة للأقدام مضلة للأفهام وهذا غاية ما يمكن فيه من التقدير والتحرير لم نأل فيه جهدا ولم ندخر نصحا وعليك بإعادة التفكير وإمعان التدبر والثبات عند البوارق، وعدم الركون إلى أول عارض.
الاعتراض السابع:
لا نسلم أن علة صحة الرؤية ثابتة فيه لجواز أن تكون خصوصية الأصل شرطا أو خصوصية الفرع مانعا.
والجواب: هو بيان أن المراد بعلة صحة الرؤية متعلقها وأن متعلقها هو الوجود مطلقا، أعني كون الشيء ذا هوية (ما) لا خصوصيات الهويات والوجودات كما في الشبح المرئي من بعيد بلا إدراك لخصوصيته وإذا كان متعلقها مطلق الهوية المشتركة لم يتصور هناك اشتراط بشرط معين ولا تقييد بارتفاع مانع (1).
هذا غاية القول في تحرير هذا الدليل العقلي على رؤية الله تبارك وتعالى والاعتراضات الواردة عليه والإجابة عنها، وأود بعد هذا العرض للدليل، أن أورد كلام الخصوم عليه ثم أبين عدم اقتناع المستدلين به أنفسهم، وعدم اطمئنانهم الاطمئنان الكامل، وبيان أنه مسلك لا يقوى.
فقد قال القاضي عبد الجبار بعد ذكر الصفة التي يكون المرئي عليها حتى يصح أن يرى: (وقد ذهب بعض من لا علم له بهذا الشأن من المتأخرين إلى أن كل موجود يصح أن نراه، وأن صحة الرؤية موقوفة على وجود المرئي فقط. وزعم أن سائر ما لا نراه من الموجودات الآن إنما لا نراه لأن الله تعالى لم يخلق في عيننا رؤيته أو خلق في عيننا آفة مانعة من رؤيته ولو تغير حالها لصح أن نرى جميعه وهو موصوف بالقدرة على أن يرينا جميعه. وزعم أن المرئي لو رؤي لمعنى فيه لاستحال رؤية الأعراض، ولو رؤي لنفسه لوجب أن تتجانس الأشياء بوقوع الرؤية عليها، ولوجب أن تقضي على الجنس الواحد أنه لا يصح أن يرى سواه، فثبت أنه إنما يرى لوجوده، ولأنه نفس وعين فتجب صحة الرؤية في كل موجود. ومما يصح التعلق به في نصرة قوله: إن الجوهر واللون يستحيل أن نراهما إذا عدما، ويصح أن نراهما عند الوجود وإن كانا في حال عدمهما على ما يختصان به لنفسهما فثبت أن الذي صحح رؤيتهما هو الوجود دون ما هما عليه في النفس فيجب صحة رؤية كل موجود (2).
(1)((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 124).
(2)
((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 85).
ثم أخذ في إبطال هذه الحجة فقال: ويبطل هذا القول أن الرائي منا متى حصل بالصفة التي لكونه عليها يرى المرئي وحصل المرئي بالصفة التي لكونه عليها يراه الرائي، وارتفعت الموانع المعقولة فيجب أن يراه ومتى فقد بعض ما ذكرناه استحال أن يراه، فليس له إلا حالان:
أحدهما: يصح معها أن يرى ويجب أن يرى.
والثانية: يستحيل معها أن يرى. وهذا كما نعلمه من حال الجوهر أنه وإن وجد يجب كونه متحيزا ومحتملا للأعراض وإن عدم استحال ذلك عليه، وليس له حال ثالثة تتوسط هذين، ويفارق ذلك صحة كون الواحد منا عالما لأنه قد يكون على حال معها يصح أن يعلم ويريد وإن لم يجب ذلك فيه وكذلك سائر الصفات الراجعة إلى الجملة أو الجمل إذا استحقت العلة (1).وقال أيضا في إبطالها:(إن الإدراك ليس بمعنى وليس بأمر زائد على الرؤية لأن الإدراك لو كان معنى لوجب في الواحد منا مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات، بأن لا يخلق الله له الإدراك، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران ونحوها ونحن لا نراها لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات ويلحق البصراء بالعميان وذلك محال وما أدى إليه وجب أن يكون محالا (2) وقد سبق.
وقال ومما يبطله أن الرائي يرى الجوهر واللون فننظر الوجه الذي لكونهما عليه تصح رؤيتهما وقد علمنا أنا نفصل بالرؤية بين الألوان المختلفة وبين أحوال الأجسام في العظم والصغر فيجب أن تكون الرؤية متعلقة بهما على ما يختصان به في جنسهما فلو كنا ندركهما لوجودهما لم نفصل بين المختلف من الألوان، ولا صح التوصل بالإدراك إلى تماثل المتماثل واختلاف المختلف منها، وفي ذلك دلالة على أنا ندركها لما هي عليه في نفسها، ولذلك يحصل لنا عند الإدراك العلم بما عليه الجوهر من التحيز والألوان من الهيئة المخصوصة ويكون العلم بذلك أجلى من العلم بسائر أحواله، وإنما العلم بوجود الجواهر والألوان عند العلم بما هما عليه من الصفة التي يتناولها الإدراك، لأن الإدراك يتعلق بهما لوجودهما، لأنه لو تعلق بهما لاختصاصهما بالوجود لوجب أن نرى كل ما شاركهما في الوجود، ألا ترى أنا لما رأينا الجوهر من حيث كان جوهرا، والسواد من حيث كان سوادا رأينا كل ما شاركهما في هذه الصفة؟ لأن من حق الإدراك أن يشيع في كل ما يختص بالصفة التي يتناولها الإدراك، فكان يجب لو رأينا الجوهر من حيث كان موجودا أن نرى كل موجود فكان يجب أن ندرك الأشياء كلها بالحاسة الواحدة لاشتراكهما أجمع في الوجود. وقد بينا من قبل أن القول بأنها تدرك، من حيث كانت موجودة فقط لا يصح، لأن ما أوجب إدراكها من حيث كانت موجودة يوجب إدراكها من حيث كانت متميزة، لأنه ليس للوجود في هذا الباب من الاختصاص ما ليس للتحيز، وللتحيز من الاختصاص ما ليس للوجود، وبينا أن القول بأنها تدرك من حيث كانت موجودة لا يصح (3).
ونكتفي بهذا القدر من معارضة المعتزلة للدليل، وإلا فقد قالوا أكثر من هذا مع أن هذا القول ليس هو الوحيد لإبطال الدليل ولو كان لسهل الرد عليه ولكن الدليل في حد ذاته لا يقوى من وجوه غير التي ذكرها المعتزلة ولم تسلم دلالته – مع ثبوتها – فلا فائدة في مناقشة معارضتهم والرد عليها.
(1)((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 39).
(2)
((شرح الأصول الخمسة)) (255).
(3)
((المغني في باب التوحيد والعدل)) للقاضي عبد الجبار (4/ 83).
ولكننا سنذكر اعتراضات أصحاب الدليل عليه وهم الأشاعرة فقد تكون أبلغ في إضعافه وعدم الوثوق به وهي: أولا: قال الجرجاني في شرح المواقف بعد تقرير الدليل بشرحه واعتراضاته: (ولقد بالغ المصنف في ترويج المسلك العقلي لإثبات صحة رؤيته تعالى، لكن لا يلتبس عن الفطن المنصف أن مفهوم الهوية المطلقة المشتركة بين خصوصيات الهويات أمر اعتباري، كمفهوم الماهية والحقيقة فلا تتعلق بها الرؤية أصلا، وأن المدرك من الشبح البعيد هو خصوصيته الموجودة، إلا أن إدراكها إجمالي لا يتمكن به على تفصيلها فإن مراتب الإجمال متفاوتة قوة وضعفا كما لا يخفى على ذي بصيرة، فليس يجب أن يكون كل إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلق به من الأحوال، ألا ترى إلى قولك كل شيء فهو كذا، وفي هذا الترويح تكلفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمل، فإن الأولى ما قد قيل من أن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر، فلنذهب إلى ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية (1).
(1)((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 128).
ثانيا: قال سيف الدين الآمدي بعد تقريره لدليل الوجود: (ومن نظر بعين التحقيق علم أن المتعلق به منحرف عن سواء الطريق، وذلك أنه وإن سلم جواز تعلق الرؤية بالجواهر والأعراض مع إمكان النزاع فيه فهو لا محالة إما أن يكون من المعترف بالأحوال أو قائلا بنفيها: فإذا كان من القائل بها فالوجود الذي هو متعلق الرؤية حينئذ لا بد وأن يكون هو نفس الموجود وليس بزائد على الذات فلا بد من بيان الاشتراك بين الذوات الموجودة شاهدا وغائبا، وإلا فلا يلزم من جواز تعلق الرؤية بأحد المختلفين جواز تعلقها بالآخر، ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إليه وإلا كان الباري ممكنا لمشاركته الممكنات بذواتها في حقائقها وهو متعذر. ثم ولو قيل: ليس متعلق الإدراك هو نفس الموجود بل ما وقع به الافتراق والاختلاف بين الذوات كما ذهب إليه بعض الخصوم من المعتزلة لم يجد في دفع ذلك مستندا غير الاستناد إلى محض الدعوى، وليس من الصحيح ما قيل في دفعه من أن الإدراك أخص من العلم والعلم عند الخصم مما لا يصح تعلقه بالأحوال على حيالها فيمتنع دعوى تعلق ما هو الأخص بها فإنه لا يلزم من انتفاء تعلق العلم بشيء على حياله وإن كان أعم، انتفاء تعلق الأخص به، اللهم إلا أن يكون الأعم جزءا من معنى الأخص ويكون تعلق الأخص به من جهة ما اشتمل عليه من حقيقة ما تخصص به من المعنى العام، إذ هو نفس حقيقة ما منع من تعلقه، وهو تناقض، أما إن كان الأعم كالعرض العام، للأخص أو هو داخل في معناه لكن تعلق المتعلق ليس إلا من جهة خصوصه لا من جهة ما يتضمنه من المعنى العام فلا مانع من أن يكون تعلقه بالشيء على حياله، وإن كان تعلق المعنى العام به لا على حياله، ثم لو قدرنا امتناع تعلق الأخص بالشيء على حياله لضرورة امتناع تعلق الأعم به على حياله فحاصله إنما هو راجع إلى مناقضة الخصم في مذهبه وهو غير كاف فيما يرجع إلى الاستقلال بتحصيل المطلوب لضرورة تخطئة الخصم فيما ذهب إليه لم يك ما قيل مثمرا للمطلوب، ولا لازما عليه، كيف وأن ذلك وإن كان مناقضا لبعض الخصوم كالجبائي ومن تابعه لضرورة منعه من تعلق العلم بما وقع به الاتفاق والافتراق على حياله فهو غير لازم في حق غيره اللهم إلا أن يكون قائلا بمقالته، وذلك مما لا سبيل إلى دعوى عمومه، وإن كان من القائلين بنفي الأحوال، فما وقع به الاختلاف بين الذوات حينئذ لا مانع من أن يكون من جملة المصحح للرؤية لكونه ذاتا، وإذ ذاك فلا يلزم منه جواز تعلق الرؤية بواجب الوجود إلا أن يبين أن ما كان مصححا للرؤية في باقي الذوات متحقق في حق واجب الوجود وهو متعذر)(1).ثالثا: قال الرازي في حكاية ما قيل في هذه المسألة من الدلائل العقلية: (اعلم أن جمهور الأصحاب عولوا في إثبات أنه تعالى يصح أن يرى على دليل الوجود، وأما نحن فعاجزون عن تمشيه ونحن نذكر ذلك الدليل ثم نوجه عليه ما عندنا من الاعتراضات (2). ثم بعد أن ساق الدليل أورد عليه اثني عشر اعتراضا في صيغة الأسئلة ثم قال: (فهذا ما عندي من الأسئلة على أن هذا الدليل وأنا غير قادر على الأجوبة عنها فمن أجاب عنها أمكنه أن يتمسك بهذا الدليل. ولنختم هذا الفصل بخاتمة، وهي أنا نقول: اعلم أن الدليل العقلي المعول عليه في هذه المسألة التي أوردناها، وأوردنا عليه هذه الأسئلة واعترفنا بالعجز عن الجواب عنها.
(1)((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (160).
(2)
((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (191).
إذا عرفت هذا فنقول: مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي، وهو أنا لا نثبت صحة رؤية الله تعالى بالدليل العقلي، بل نتمسك في هذه المسألة بظواهر القرآن والأحاديث، فإن أراد الخصم تعليل هذه الأدلة وصرفها عن ظاهرها بوجوه عقلية يتمسك بها في نفي الرؤية اعترضنا على دلائلهم وبينا ضعفها ومنعناهم من تأويل هذه الظواهر (1).وسلك الشهرستاني في الاستدلال العقلي على الرؤية طريقة أخرى حينما رأى بعدها عن الصواب فقال:(الموجودات اشتركت في قضايا واختلفت في قضايا والرؤية قد تعلقت بالمختلفات منها والمتفقات ولا يجوز أن يكون المصحح للرؤية ما يختلف فيه فإنه يوجب أن يكون لحكم واحد علتان مختلفتان، وهذا غير جائز في المعقولات، أو يلزم أن يكون لحكم عام علة خاصة هي أخص من معلولها، وما يتفق فيه الجوهر والعرض إما الوجود أو الحدوث، والحدوث لا يجوز أن يكون مصححا للرؤية فإن الحدوث هو وجود مسبق بعدم. والعدم لا تأثير له في الحكم فبقي الوجود مصححا بالضرورة، وهذا تقسيم قاصر فإن الرؤية بالاتفاق تعلقت بالجوهر والعرض وهما قد اختلفا من كل وجه سوى الوجود والحدوث، وقد بطل الحدوث فتعين الوجود، ولا يلزم على هذه الطريقة انتشار الأقسام كما لزم على طريق الأصحاب غير استبعاد محض للمعتزلة في قولهم لو كان كل موجود مرئيا لكان العلم والقدرة والطعم والرائحة وما سوى اللون والمتلون مرئيا ولكان نفس الرؤية مرئية بالرؤية وهذا محال (2).ولكن هذا المسلك الذي سلكه الشهرستاني هو تقرير لدليل الوجود بصورة أخرى. يلزمها كل لازم له فلا فرق بينهما والحالة هذه إذ إنه هو الآخر ترد عليه اعتراضات الخصوم والأصحاب وتساؤلاتهم، فنكتفي بالإشارة إلى عدم الاطمئنان إلى الطريقة التي أوردها الشهرستاني حين لم يرتض الطريقة الأولى، والتي فضلها على سائر الطرق. إذ رد عليها الآمدي وبين عدم استقامتها، وأن تطويل الشهرستاني في تقريرها لا يشفي غليلا (3)، ثم إن الشهرستاني نفسه يذكر في نهاية كلامه على الرؤية عدم اطمئنانه إلى الطريقة العقلية إذ يقول:(واعلم أن هذه المسألة سمعية أما وجوب الرؤية فلا شك في كونها سمعية، وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلي ما ذكرناه، وقد وردت عليه تلك الإشكالات ولم تسكن النفس في جوابها كل السكون ولا تحركت الأفكار العقلية إلى التقصي عنها كل الحركة فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضا مسألة سمعية (4).
(1)((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (197).
(2)
((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (357).
(3)
((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (162).
(4)
((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (369).
وبعد هذه الاعتراضات على الدليل العقلي، والشبه التي أوردها أصحابه عليه وهم الأشاعرة، يتضح عدم قوة الدليل ذاته، ويظهر أن المتمسك به لا يستطيع تشميه. ولا الدفاع عنه. لذلك نراهم عادوا إلى التمسك بالنصوص الواردة في الرؤية. 2 - من أدلة العقل على الجواز قول أبي الحسن الأشعري:(ومما يدل على رؤية الله سبحانه بالأبصار أن الله عز وجل يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لا يعلم نفسه لا يعلم شيئا؛ فلما كان الله عز وجل عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فلذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، فلما كان الله عز وجل رائيا للأشياء كان رائيا لنفسه، وإذا كان رائيا لها فجائز أن يرينا نفسه كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال الله تعالى: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] فأخبر أنه سمع كلامهما ورآهما، ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائيا ولا عالما ولا قادرا لأن العالم القادر الرائي جائز أن يرى)(1).
وقال الشهرستاني بعد تقرير دليل الوجود: (وإن سلكنا طريقة العلم فهو أسهل فإن العلم من حيث هو علم نوع واحد وحقيقة واحدة وإذا جوز تعلق العلم به فقد جوز تعلق الرؤية به. وقد سلك الأستاذ أبو إسحاق طريقة قريبة من هذا فقال الرؤية معنى لا تؤثر في المرئي ولا تتأثر منه فإن حكمة حكم العلم بخلاف سائر الحواس، فإنها تؤثر وتتأثر، وإنما يلزم الاستحالة فيه أن لو تأثرت الرؤية من المرئي أو تأثير المرئي من الرؤية وكل ما هذا سبيله فهو جائز التعلق بالقديم والحادث، وكل مؤثر ومتأثر فهو مستحيل عندنا كما هو مستحيل عندك ولا كلفة في هذه الطريقة إلا إثبات معنى في البصر لا يؤثر ولا يتأثر (2).وقال الآمدي عن هذا الدليل: (واعلم أن هذه الطريقة مع احتياجها إلى تقرير معنى التأثير وحصر الموانع بأسرها ونفيها مما لا حاصل له وذلك أنه لا يخفى أن تعلق الشيء بغيره ليس مما يتم بانتفاء التأثير وزوال المانع بل لا بد من بيان الصلاحية للتعلق بين المتعلقين، ولو انتفى كل ما يقدر من الموانع وعند العود إلى بيان الصلاحية، والقبولية يرجع الكلام إلى الوجود وتصحيحه للتعلق (3).
أما المعتزلة فإنهم- بناء على نفيهم الرؤية – خالفوا هذا الدليل وناقشوه، وقالوا لنا في هذه المسألة طريقان:
(الأول: أنا نقول أنا لا نسلم أنه راء لذاته بل القديم تعالى إنما يرى الشيء لكونه حيا بشرط وجود المدرك وكونه حيا من مقتضى صفة الذات، وكونه مدركا من مقتضى صفة الذات فكيف يصح أن يقال إنه عز وجل راء لذاته؟
الثاني: هو أن نقول هب أن الله تعالى راء لذاته أليس أنه عز وجل لا يجب أن يرى المعدومات مع كونه رائيا لذاته؟
فإن قالوا: إنما لا يجب أن يرى المعدومات لأن الرؤية مستحيلة على المعدومات.
(1)((الإبانة في أصول الديانة)) للأشعري (16).
(2)
((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (358)، وانظر ((الملل والنحل)) (1/ 100)، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (39).
(3)
((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (166).
قلنا: وكذلك القديم تعالى تستحيل عليه الرؤية فلا يجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. . وبعد فإن هذا قياس الرائي على المرئي، وأحدهما مباين للآخر لأن الرائي إنما يصح أن يرى الشيء لكونه حيا بشرط صحة الحاسة، والمرئي إنما يرى لكونه مرئيا في نفسه بشرط أن يكون موجودا في الحال وليس كذلك القديم تعالى فلا يصح ما أوردتموه وهل هذا إلا كأن يقال إن من كان حيا كما يجب أن يكون رائيا للشيء يجب أن يكون مرئيا فكما أن هذا خلف من الكلام كذلك هنا لأن المعلوم أن الشيء لا يرى لكونه حيا، وإنما يرى لكونه على الصفة التي يتعلق بها الإدراك والرائي إنما يرى الشيء لكونه حيا، وبعد فما أنكرتم أن الواحد منا إنما يصح أن يرى نفسه مما تصح رؤيته وليس كذلك القديم تعالى لأن الرؤية مستحيلة عليه ففارق أحدهما الآخر (1).
والدليل كما قرره الشيخ أبو الحسن الأشعري تظهر فيه الدلالة على الجواز، وإن كان لا يقوى أن يعتمد عليه كل الاعتماد في الدلالة العقلية، لكن من يتصف بأنه يرى الأشياء ويعلمها، فلا يمتنع عليه أن يعلم ويرى لعدم الفرق بين الأمرين. ورد المعتزلة على الدليل لا يبطله فهذا الإفراط في النفي منهم جعلهم يعطلون الله تعالى عن أن يرى نفسه أو يراه غيره، وإن كان بعضهم أثبت أنه يرى غيره ولا يرى نفسه، فهو خروج عن المعقول إذ كيف يوصف من لا يرى نفسه بأنه يرى غيره فهذا ظاهر البطلان، فمن لا يتصف بأنه يَرى ويُرى فماذا يكون؟! فغلوهم هذا في تنزيه الله تعالى - على زعمهم – عن التشبيه أدى بهم إلى التعطيل، ثم هو تشبيه لله تعالى بالمعدوم. وأما دعواهم القياس للرائي على المرئي مع المباينة وشروط المرئي التي قالوها، وأن القديم ليس كذلك.
فنقول: إن الشروط تجب عند الرؤية. ولم نقل في الرؤية الآن، ولا في دار الدنيا حيث إن من ركبت جوارحه للفناء لا تستطيع أن تصمد لمشاهدة الحي الدائم، وهذا ظاهر.
3 -
دليل عقلي ثالث على جواز الرؤية:
هناك مسلك عقلي آخر سلكه الغزالي في الاستدلال على الرؤية بعد دليل الوجود، قال عنه إنه الكشف البالغ وتلخيصه: أن الخصم لم ينكر علينا القول بالرؤية إلا لعدم فهمه ما نريد بها لأنه ظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرائي عند النظر إلى الأجسام والألوان، وهيهات، فنحن نقول: باستحالة ذلك في حق الله تعالى، ولكن ينبغي أن نحصل معنى الرؤية في الموضع المتفق ونسبكه ونحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، فإن بقى من معانيه معنى لم يستحل في حق الله تعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقية أثبتناه وقلنا إنه مرئي حقيقة، وإن لم يمكن إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا أن المعنى كما دل عليه العقل. وقال تحصيله أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين ومتعلق وهو اللون والقدر والجسم وكل المرئيات، ولنتأمل أيها ركن في إطلاق هذا الاسم فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب، أو بالجبهة مثلا لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا. فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم فالركن الذي الاسم مطلق عليه وهو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه فلنبحث عن الحقيقة ما هي ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالإضافة إلى التخيل (2). . الخ.
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (272).
(2)
((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (35).
وهذا قول جمهور المتأخرين من الأشاعرة إذ إن مذهبهم إثبات الرؤية لله تعالى لورود النصوص القطعية بذلك، ولكنهم مع هذا سلموا للمعتزلة قولهم بنفي الجهة عن الله تعالى ويلزم من نفي الجهة نفي الرؤية، فلم يستطيعوا التظاهر بنفي ما ثبت بالنصوص لانتسابهم إلى أهل السنة فأثبتوا الرؤية ونفوا لازمها وهي الجهة، فأخذ المعتزلة يشنعون عليهم هذا التناقض المخالف للعقول ولما رأوا ذلك سلكوا هذا المسلك الذي قالوا عنه إنه الكشف البالغ الإيمان أن الرؤية ليست بصرية وإنما هي زيادة انكشاف الرب تعالى لهم وتمام معرفتهم به حتى كأنهم يرونه بأعينهم وعلى هذا لا يكون خلافهم مع المعتزلة أكثر من الخلاف اللفظي.
4 -
من أدلة العقل على الجواز:
استدل السلف على جواز الرؤية عقلا بطريقة غير طريقة الوجود المجرد حيث لزم عليها لوازم فاسدة فلا تصلح مصححا للرؤية. لذلك جعلوا المصحح للرؤية أمورا وجودية لا أن كل موجود تتضح رؤيته، قال ابن تيمية في تقرير الدليل: (فمعلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم، ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق، وإذا كانت أمرا وجوديا محضا، ولا تتعلق إلا بالموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته وما لا يمكن رؤيته: إما أن يكون وجودا محضا، أو متضمنا أمرا عدميا. والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببا له، ولا يكون أيضا شرطا أو جزءا من السبب إلا أن يتضمن وجودا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك، وهذا من الأمور البينة عند التأمل. ومن قال من العلماء: إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة، أو شرط علة، فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة، ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم، لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود. ولا يقول: إن الوصف المركب، من وجود وعدم هما جميعا مقتضيان للوجود المحض. وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة. وإذا كان المقتضى لجواز الرؤية، والمصحح للرؤية، والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز: إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه، سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس، أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة، أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع، لكن المقصود أنه أمور وجودية، وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود، وكماله من كل موجود، إذ وجوده هو الوجود الواجب، ووجود كل ما سواه هو من وجوده، وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود، وحينئذ فيكون الله – وله المثل الأعلى – أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده، ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس، بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها، لا لامتناع رؤيتها، بل لضعف بصره وعجزه. كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا، لا لكونها لا تسمع، بل لضعف الس