الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء
عندما نقل شيخ الإسلام قول معقل العنسي أن قوما قد أحدثوا، وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين؟
علق عليه بقوله: "قلت: قوله عن المرجئة: إنهم يقولون: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قد يكون قول بعضهم، فإنهم كلهم يقولون: ليستا من الإيمان.
وأما ما الدين، فقد حكي عن بعضهم أنه يقول: ليستا من الدين، ولا نفرق بين الإيمان والدين.
ومنهم من يقول: بل هما من الدين، ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين.
وهذا هو المعروف من أقوالهم التي يقولونها عن أنفسهم، ولم أر أنا في كتاب أحد منهم أنه قال: الأعمال ليست من الدين، بل يقولون: ليست من الإيمان. وكذلك حكى أبو عبيد عمن ناظره منهم (1)، فإن أبا عبيد وغيره يحتجون بأن الأعمال من الدين، فذكر قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] أنها نزلت في حجة الوداع (2).
قال أبو عبيد: فأخبر أنه إنما كمل الدين الآن في آخر الإسلام في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة، من أول ما نزل عليه الوحي بمكة، حين دعا الناس إلى الإقرار. حتى قال (3): لقد اضطر بعضهم حين أدخلت عليه هذه الحجة إلى أن قال: إن الإيمان ليس بجميع الدين، ولكن الدين ثلاثة أجزاء: فالإيمان جزء، والفرائض جزء، والنوافل جزء.
قلت: هذا الذي قاله هو مذهب القوم.
وقال أبو عبيد: وهذا غير ما نطق به الكتاب، ألم تسمع إلى قوله: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ [آل عمران: 19]، وقال: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85]، وقال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]، فأخبر أن الإسلام هو الدين برمته، وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين. قلت: إنما قالوا: إن الإيمان ثلث، ولم يقولوا: إن الإيمان ثلث الدين، لكنهم فرقوا بين مسمى الإيمان ومسمى الدين، وسنذكر إن شاء الله تعالى الكلام في مسمى هذا ومسمى هذا، فقد يحكى عن بعضهم أنه يقول ليستا - يعني الصلاة والزكاة - من الدين، ولا يفرق بين اسم الإيمان والدين، ومنهم من يقول كلاهما من الدين، (ويفرق بين اسم الإيمان واسم الدين)(4) " (5).
ولما نقل شيخ الإسلام رحمه الله المباحثة التي دارت بين الإمام أحمد وتلميذه الميموني، وفيها أن الميموني قال: يا أبا عبدالله تفرق بين الإسلام والإيمان؟
قال: نعم.
قال: بأي شيء تحتج؟
قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (1).، وقال تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14].
قلت له: فتذهب إلى ظهر الكتاب، مع السبب؟
قال: نعم.
(1) يعني مرجئة الفقهاء، إذ هو في معرض مناقشتهم. انظر:((الإيمان))، لأبي عبيد، (ص13).
(2)
انظر: ((الإيمان))، لأبي عبيد، (ص15 – 16).
(3)
القائل هو أبو عبيد، وانظر: تعظيم قدر الصلاة (1/ 355).
(4)
ما بين قوسين ساقط من طبعة المكتب الإسلامي، ومستدرك من طبعة ((الفتاوى)) (7/ 208)؛ وطبعا عالم الكتب ت/ الشيباني، (ص230).
(5)
((الإيمان)) (ص196)((الفتاوى)) (7/ 207 - 208)؛ وهذا النقل عن أبي عبيد ليس في المطبوع من كتابه ((الإيمان))؛ وقد نقله عنه أيضا المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 355 – 356 رقم 360).
قلت: فإذا كانت المرجئة تقول: إن الإسلام هو القول؟ قال: هم يصيرون هذا كله واحدا، ويجعلونه مسلما ومؤمنا، شيئا واحدا على إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان (1).
وقد علق شيخ الإسلام على ذلك، فقال:
"وأما قوله: يجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا.
فهذا قول من يقول: الدين والإيمان شيء واحد، فالإسلام هو الدين، فيجعلون الإسلام والإيمان شيئا واحدا. وهذا القول قول المرجئة فيما يذكره كثير من الأئمة، كالشافعي، وأبي عبيد، وغيرهما (2)، ومع هؤلاء يناظرون.
فالمعروف من كلام المرجئة الفرق بين لفظ الدين والإيمان، والفرق بين الإسلام والإيمان.
ويقولون: الإسلام بعضه إيمان، وبعضه أعمال، والأعمال منها فرض ونفل. ولكن كلام السلف كان فيما يظهر لهم، ويصل إليهم من كلام أهل البدع" (3)، ثم قال بعد استطراد مطول:
"فلهذا ردوا - يعني السلف - على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان شيئا واحدا، ويقولون: هو القول.
وأيضا فلم يكن حدث في زمنهم من يقول: إن الإيمان هو مجرد القول بلا تصديق ولا معرفة في القلب، فإن هذا إنما أحدثه ابن كرام،
…
، ولم يكن ابن كرام في زمن أحد بن حنبل، وغيره من الأئمة،
…
،وكان قول المرجئة قبله - يعني ابن كرام -: عن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وقول جهم: إنه تصديق بالقلب" (4).
فالنقلان السابقان مع تعليق شيخ الإسلام عليهما يبرزان مذهب فقهاء المرجئة من هذه الألفاظ الثلاثة: الإسلام، والإيمان، والدين، وأنهم في ذلك فريقان: الفريق الأول: يرى أن الإسلام والإيمان والدين شيء واحد، وهو: القول، فمن أتى بذلك، فهو مؤمن تام الإيمان.
وهذا القول هو قول المرجئة الذين ناظرهم عليه بعض الأئمة، وكأن هذا قول قديم لهم، فكما قال شيخ الإسلام أنه لم ير في كتاب أحد منهم من يقول به. وقد نقل رحمه الله ما ذكره ابن حامد من أن أصحاب أبي حنيفة يقولون إن الإسلام والإيمان اسمان معناهما واحد (5).ونقل عن المروزي أن من قال إن الإيمان هو القول، فلا فرق بينه وبين المرجئة (6).ونقل أيضا عن أبي طالب المكي أن من قال إن الإيمان هو الإسلام، فإنه يقرب من قول المرجئة (7).
الفريق الثاني: يرى أن الإسلام والدين شيء واحد، وأنه يتكون من ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال المفروضة جزء، والأعمال النافلة جزء. وهؤلاء يقولون إن الإيمان يتضمن الإسلام (8)، بمعنى أنه يدخل ضمنه، فهو جزء منه. ويقولون أيضا إن الفاسق مؤمن، حيث أخذ ببعض الدين - وهو الإيمان عندهم -، وترك بعضه (9).
يقول شيخ الإسلام في معرض حديث عن مواقف الفرق من مرتكب الكبيرة، وأن الوعيدية يحكمون بأنه مخلد في النار:
"فقالت الجهمية والمرجئة، قد علمنا أنه لا يخلد في النار، وأنه ليس كافرا مرتدا، بل هو من المسلمين.
وإذا كان من المسلمين وجب أن يكون مؤمنا تام الإيمان، ليس معه بعض الإيمان،
…
،وقالت المرجئة: الرجل إذا أسلم كان مؤمنا قبل أن يجب عليه شيء من الأفعال" (10).
وكما ذكر شيخ الإسلام أن هذا القول هو المذهب المعروف عن مرجئة الفقهاء، وهو الذي ناظرهم عليه أبو عبيد في كتابه الإيمان. وقد ذكر أيضا رحمه الله أن أبا حنيفة موافق لسائر العلماء في أن المباني الأربعة - الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج - من الإسلام (11).
فعل هذا يكون أبو حنيفة رحمه الله من هذا الفريق الذين يخرجون العمل من الإيمان، ويجعلونه من الإسلام والدين. وقد جاء في "الفقه الأكبر" أن الإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى (12)، وهذا الانقياد لا يكون إلا بالعمل، والله أعلم (13).
المصدر:
آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 393
(1) انظر: ((الإيمان)) (ص356، 363)((الفتاوى)) (7/ 372 - 380)؛ وهو في ((السنة))، للخلال (3/ 604 - 605 رقم 1077).
(2)
كأبي ثور. انظر: ((الإيمان)) (ص373)((الفتاوى)) (7/ 389).
(3)
((الإيمان)) (ص364)((الفتاوى)) (7/ 380).
(4)
((الإيمان)) (ص370)((الفتاوى)) (7/ 386 – 387).
(5)
انظر: ((الإيمان)) (ص353)((الفتاوى)) (7/ 369).
(6)
انظر: ((الإيمان)) (ص362)((الفتاوى)) (7/ 379)؛ وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 533).
(7)
انظر: ((الإيمان)) (ص316)((الفتاوى)) (7/ 332)؛ وانظر: ((قوت القلوب)) (2/ 250).
(8)
انظر: ((الإيمان)) (ص148)((الفتاوى)) (7/ 154).
(9)
انظر: ((الإيمان)) (ص 373)((الفتاوى)) (7/ 389).
(10)
((الفتاوى)) (13/ 50).
(11)
انظر: ((الإيمان)) (ص354)((الفتاوى)) (7/ 371).
(12)
الفقه الأكبر، ضمن مجموع يحوي بعض رسائل أبو حنيفة، علق عليه زاهد الكوثري، الطبعة الأولى 1421هـ، المكتبة الأزهري للتراث، بمصر، (ص66).
(13)
وانظر: ((شرح الفقه الأكبر))، للقاري، تحقيق علي ندل، الطبعة الأولى 1416هـ، دار الكتب العلمية ببيروت، (ص149 - 150)، وأصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، (ص435 - 438).