الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة
اعتنى شيخ الإسلام بشرح مذهب الأشاعرة في معنى الإسلام إذ نقل كلام إمامهم الباقلاني في ذلك، ثم أتبعه بما يبين مخالفته النصوص الشرعية.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
"قال الذين نصروا مذهب جهم في الإيمان من المتأخرين، كالقاضي أبي بكره، وهذا لفظه: فإن قال قائل: وما الإسلام عندكم؟
قيل له: الإسلام: الانقيادِ، والاستسلام.
فكل طاعة انقاد العبد لها لربه، واستسلم فيها لأمره، فهي إسلام.
والإيمان خصلة من خصال الإسلام، وكل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانا.
فإن قال: فلم قلتم: إن معنى الإسلام ما وصفتم؟
قيل: لأجل قوله تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، فنفي عنهم الإيمان، واثبت لهم الإسلام، وإنما أراد بما أثبته: الانقياد، والاستسلام، ومنه: وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء: 90].وكل من استسلم لشيء فقد أسلم، وإن كان أكثر ما يستعمل ذلك في المستسلم لله، ولنبيه" (1).
وقالوا: "الإسلام هو الاستسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر. والإيمان أعظم خصلة من خصال الإسلام.
واسم الإسلام شامل لكل طاعة انقاد بها العبد لله من إيمان، وتصديق، وفرض، ونفل، غير أنه لا يصح التقريب بفعل ما عدا الإيمان من الطاعات دون تقديم فعل الإيمان. قالوا: والدين مأخوذ من التدين، وهو قريب من الإسلام في المعنى" (2).
وما تقدم يشرح لنا مذهب الأشاعرة في معنى الإسلام، وعلاقته بالإيمان، وحجتهم على ذلك، وملخص ذلك:
أنهم يعرفون الإسلام بأنه: الانقياد والاستسلام، أو هو: الاستسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر.
وترتب على هذا التعريف عندهم:
1 -
أن كل طاعة فهي إسلام، ويدخل في ذلك الإيمان، والفرض، والنفل.
2 -
أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وهو أعظم خصاله.
3 -
أن كل إيمان إسلام، ولا عكس.
4 -
أنه لا تصح أي طاعة إلا لمن جاء بالإيمان.
5 -
أنه لا تصح أي طاعة إلا لمن جاء بالإيمان.
6 -
أن الدين قريب من الإسلام في المعنى. هذه خلاصة رأي الأشاعرة في معنى الإسلام وعلاقته بالإيمان كما قرره الباقلاني (3)، وقد نقل شيخ الإسلام ذلك كله عنه، ثم أتبعه بما يبين بطلانه، وتناقضه، واللوازم الباطلة المترتبة عليه، ورد ما احتجوا به. ويمكن ترتيب ذلك في الوجوه التالية (4):
أولاً: أن هذه المقالة باطلة؛ لمخالفتها الكتاب والسنة، فإن ما بينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هو أن الإسلام داخل في الإيمان، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يكون مسلما، كما أن الإيمان داخل في الإحسان، فلا يكون محسنا حتى يكون مؤمنا.
ثانياً: أنهم قالوا: الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وقالوا: إن الطاعات كلها إسلام.
فمعنى هذا أن الطاعات كلها ليس فيها إيمان إلا التصديق، فيخرج بذلك الشهادتان، والصلاة والزكاة، وغيرها من الطاعات عن الإيمان، وهذا مخالف للنصوص الدالة على أن الإسلام داخل في الإيمان.
ثالثا: قالوا: إن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، وقالوا: لا يكون مؤمنا إلا من أتى بالإيمان كله، أي بالتصديق، وإلا فليس بمؤمن.
فوجب عليهم أن يقولوا إنه لا يكون مسلما إلا من أتى بالإسلام كله، لا ببعضه، كما قالوا ذلك في الإيمان.
(1)((الإيمان)) (ص147 - 148)((الفتاوى)) (7/ 154)؛ وهو في: ((التمهيد)) (ص390 - 392)؛ وانظر: ((الإنصاف))، (ص89 - 90).
(2)
((الإيمان)) (ص150)((الفتاوى)) (7/ 157)؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص363، 396)((الفتاوى)) (7/ 379).
(3)
انظر: ((العقيدة النظامية))، للجويني، (ص86).
(4)
ملخصه من: ((الإيمان)) (ص148 - 151)، ((الفتاوى)) (7/ 154 - 158).
رابعاً: قالوا: كل إيمان إسلام، وليس كل إسلام إيمانا، وهنا يقال لهم:
إن كان المراد أن كل إيمان هو الإسلام الذي هو أمر الله تعالى به، فهذا يناقض قولهم إن الإيمان خصلة من خصال الإسلام، فجعلوا الإيمان بعض الإسلام ولم يجعلوه إياه.
قيل لهم: فعلى هذا يكون الإسلام متعددا بتعدد الطاعات، وتكون الشهادتان وحدهما إسلاما، والصلاة وحدها إسلاما، والزكاة وحدها إسلاما، وهكذا كل طاعة فهي وحدها إسلاما.
خامساً: قولهم إن المسلم لا يكون مسلما إلا بفعل كل ما أسموه إسلاما، يلزم منه لوازم باطلة، منها:
1 -
أن يكون الفساق ليسوا مسلمين، مع كونهم مؤمنين، فجعلتم المؤمنين الكاملي الإيمان عندكم ليسوا مسلمين، وهذا شر من قول الكرامية.
2 -
أن يكون الفساق من أهل القبلة ليسوا مسلمين، فيكونون كفارا، وهذا شر من قول الخوارج والمعتزلة.
فيكون إخراجكم الفساق من اسم الإسلام - إن أخرجتموهم - أعظم شناعة من إخراجهم من اسم الإيمان، فوقعتم في أعظم ما عبتموه على المعتزلة.
3 -
أن يكون من ترك التطوعات ليس مسلما، إذ كانت التطوعات طاعة لله - إن جعلتم كل طاعة فرضا أو نفلا إسلاما -.
سادساً: قولهم: إن كل من فعل طاعة سمى مسلما يلزم منه أن يكون من فعل طاعة من الطاعات ولم يتكلم بالشهادتين مسلما، ومن صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه أن يكون مسلما عندكم؛ لأن الإيمان عندكم إسلام، فمن أتى به فقد أتى بالإسلام، ويكون مسلما عندكم من تكلم بالشهادتين وما أتى بشيء من الأعمال.
سابعاً: قالوا: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، ويرد على هذا القول ما يلي:
1 -
أنهم قالوا هذا من حيث الإطلاق، وإلا فالتفصيل ما ذكرناه من أن الإيمان خصلة من خصال الإسلام والدين، وليس هو جميع الإسلام والدين.
2 -
أن هذا القول: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، يناقض قولهم إن الإسلام هو استسلام لله بفعل كل طاعة وقعت موافقة للأمر، وأن اسم الإسلام شامل لكل طاعة انقاد بها العبد لله من إيمان، وتصديق، وفرض سواه، ونفل، غير أنه لا يصح التقريب بفعل ما عدا الإيمان من الطاعات دون تقديم فعل الإيمان.
ووجه التناقض بين القولين أن المسلم عندهم هو المطيع لله، ولا تصح الطاعة من أحد إلا مع الإيمان، فيمتنع أن يكون أحد فعل شيئا من الإسلام إلا وهو مؤمن، ولو كان ذلك أدنى الطاعات، فيجب أن كون كل مسلم مؤمنا، سواء أريد بالإسلام فعل جميع الطاعات أو فعل واحدة منها، وذلك لا يصح كله إلا مع الإيمان.
3 -
أن قولهم: كل مؤمن مسلم.
يقال: إن كنتم تريدون بالإيمان تصديق القلب فقط، فيلزم أن يكون الرجل مسلما ولو لم يتكلم بالشهادتين، وما أتى بشيء من الأعمال المأمور بها، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، بل عامة اليهود والنصارى يعلمون أن الرجل لا يكون مسلما حتى يأتي بالشهادتين، أو ما يقوم مقامها.
وأيضا قولهم: كل مؤمن مسلم، لا يردون به أنه أتى بالشهادتين، ولا بشيء من المباني الخمس، بل أتى بما هو طاعة، وتلك طاعة باطنة، وهي التصديق، وليس هذا هو المسلم المعروف في الكتاب والسنة، ولا عند الأئمة الأولين والآخرين.
ثامناً: احتجاجكم بقوله: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، قلتم: نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام.
فيقال: هذه الآية حجة عليكم؛ لأنه لما أثبت الإسلام مع انتفاء الإيمان دل ذلك على أن الإيمان ليس بجزء من الإسلام، إذ لو كان بعضه لما كانوا مسلمين إن لم يأتوا به.
وإن قلتم: أردنا بقولنا أثبت لهم الإسلام، أي إسلام ما، فإن كل طاعة من الإسلام إسلام عندنا.
لزمكم ما تقدم، من أن يكون صوم يوم إسلاما، وصدقة درهم إسلاما، وأمثال ذلك. وبهذا التحقيق يتبين أن قول الأشاعرة إن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، قد يظن من لا يعرف حقيقة الأمر أن هذا هو قول السلف الذي دل عليه الكتاب، وبينهما من التباين أعظم مما بين قول السلف وقول المعتزلة في الإيمان والإسلام (1).
المصدر:
آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند – ص 407
(1) انظر: ((الإيمان)) (ص151)، ((الفتاوى)) (7/ 157).