الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة
من جهة العقل: استدلوا على نفي رؤية الله تعالى بما يأتي:
أولا: دليل المقابلة: وتحريره كما قال عبد الجبار: (إن الواحد منا راء بحاسة، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا، ولا حالا في المقال، ولا في حكم المقابل، وهذه الدلالة مبنية على أصول:
أحدها: أن الواحد منا راء بالحاسة، وإذا كانت صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود يجب أن يرى، ومتى لم يكن كذلك فيجب أن يكون لصحة الحاسة في ذلك تأثير لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.
الثاني: أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا، أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، وإذا كان كذلك وجب أن يرى، وإذا لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل لم ير، فيجب أن تكون المقابلة أو ما في حكمها شرطا في الرؤية لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير الشروط.
الثالث: أن القديم تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، لأن المقابلة والحلول إنما تصح على الأجسام والأعراض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل.
ويمكن إيراد هذه الدلالة على وجه آخر حتى لا يرد عليها بعض الاعتراضات التي يمكن ورودها على الأول، فيقال: إن أحدنا إنما يرى الشيء عند حصول شرطين:
أحدهما: يرجع إلى الرائي، والآخر يرجع إلى المرئي. فما يرجع إلى الرائي فهو صحة الحاسة، وما يرجع إلى المرئي فهو أن يكون للمرئي مع الرائي حكم وذلك الحكم هو أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل (1).
هذا تصوير لدليل المقابلة العقلي الذي أقامه المعتزلة على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار كما استدلوا به.
ثم أورد عبد الجبار بعد تحرير الدليل ما يمكن الاعتراض به عليه وأجاب عنه فقال:
(فإن قيل: كيف يصح قولكم إن الواحد منا لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل مع أنه يرى وجهه في المرآة مع أنه ليس بمقابل ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟
قلنا: إن وجهه في حكم المقابل لأن الشعاع ينفصل من نقطته ويتصل بالمرآة فيصير كالعين، ثم ينعكس لرأى قفاه، لأن الشعاع ينفصل من نقطة ويتصل بالمرآة المستقبلة، ثم ينعكس إلى المستديرة فيصير كالعين فترى قفاه.
فإن قيل: أليس الله تعالى يرى الواحد منا، وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل، فهلا جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟
قيل له: إنما وجبت هذه القضية – أي وقعت - في القديم تعالى لأنه لا يجوز أن يكون رائيا بالحاسة، والواحد منا راء بالحاسة، فلا يعلم أن يرى إلا كذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن أحدنا إنما لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا له أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، لأنه تعالى أجرى العادة بذلك فلا يمتنع أن يختلف الحال فيه فيرى القديم جل وعز في دار الآخرة.
قيل له: إن ما يكون بمجرى العادة يجوز اختلاف الحال فيه، ألا ترى أن الحر والبرد يجب مثله في مسألتنا لو كان ذلك بالعادة، فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا وإن لم توجد الشروط في بعض الحالات لاختلاف العادة، بل كان يجب أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ومعلوم خلافه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن ذلك من باب ما تستمر العادة فيه كما في حصول الولد من ذكر وأنثى.
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (248) بتصرف. ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (212).
وجوابنا: أنا لم نوجب فيما طريقه العادة أن يختلف الحال على كل وجه بل إذا اختلف من وجه واحد كفى، وما من شيء إلا والحال فيه مختلف على وجه، ألا ترى أن الولد قد يحصل لا من ذكر وأنثى فكان يجب مثله في مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما ليس بمقابل له ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل، أو شاهد أقواما يشاهدون الأشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما يجري مجراه وقد علم خلافه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الواحد منا إنما لا يرى إلا ما كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل لأمر يرجع إلى المرئي لا إلى الرائي؟
قيل له: هذا الذي ذكرته لا يصح لأنه كان يجب في القديم تعالى أن لا يرى هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه والمعلوم خلافه.
فإن قيل: إنا نرى القديم تعالى بلا كيف كما نعلمه بلا كيف ولا يحتاج إلى أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل.
قيل له: إن هذا فيه قياس الرؤية على العلم من دون علة تجمعهما فلا يصح، فإن للعلم أصلا في الشاهد وللرؤية أصلا فيجب أن يرد كل واحد منها إلى أصله، فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به، ولهذا يتعلق بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم، فإن كان معدوما علم معدوما، وإن كان موجودا علم موجودا، وغيره، وليس كذلك الرؤية، فإنها لا تتعلق إلا بالموجود. ولهذا لا يصح في المعدوم أن يرى.
فإن قيل: هلا جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة فلا تجوز معها شروط الرؤية لأنها بخلاف هذه الحواس؟ قلنا: مخالفة تلك الحاسة لهذه الحواس ليس بأكبر من مخالفة هذه الحواس بعضها لبعض، فإن فيها سهلا وزرقا وملحا، ومعلوم أن هذه الحواس مع اختلافها واختلاف بناها متفقة في أن لا يرى الشيء بها إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل، على أنه لا دلالة تدل على تلك الحاسة فلا يصح إثباتها. وبعد: فلو جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة لجاز أن يذاق بحاسة سابعة وأن يلمس بحاسة ثامنة وأن يشم بحاسة تاسعة ويسمع بحاسة عاشرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (1).
والجواب على هذا الدليل كما قال الرازي: من وجهين:
الأول: تعيين محل النزاع، وهو أن الموجود المنزه عن المكان والجهة هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإن ادعيتم أن العلم بامتناع رؤيته ضروري فذلك باطل ويدل عليه وجوه:
الأول: أن البدهي متفق عليه بين العقلاء، وهذا غير متفق عليه فلا يكون بدهيا.
الثاني: أنا إذا عرضنا على عقولنا أن الواحد نصف الاثنين لم نجد القضية الأولى في قوة هذه الثانية.
الثالث: أن حكم الوهم والخيال في معرفة الله تعالى إما أن يكون مقبولا أو لا يكون مقبولا، فإن كان مقبولا لا يمتنع إثبات ذات منزه عن الكمية والكيفية والجهة، والمعتزلي يسلم أن ذلك باطل، وإن لم يكن مقبولا لم يكن حكم الوهم بأن ما كان منزها عن الجهة كان غير مرئي واجب القبول، لأن الوهم والخيال لما صار كل واحد منهما مردود الحكم في بعض الأحكام لم يبق الاعتماد عليهما في شيء من المواضع.
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (248) بتصرف، ((المغني)) (4/ 102).
وبالجملة إن كان حكم الوهم حقا كان الحق مع المجسم، وإن كان مردودا كان الحق معنا، أما المعتزلي فإنه يرد حكمه في إثبات الجسم والجهة، ويقبل حكمه في مسألة الرؤية، وكان كلامه متناقضا، فثبت بما ذكرناه أن من نفى الرؤية بالوجه الذي ذكرناه لا بد وأن يعول في نفيها على الدليل لا على ادعاء الضرورة. وإن ادعيتم أن هذا العلم استدلالي فلا بد فيه من دليل. قولكم: فإن كل مرئي فلا بد وأن يكون مقابلا بقرب من أنه إعادة الدعوى، لأن المقابل هو الذي يكون مختصا بجهة قدام الرائي فكما أنكم قلتم الدليل على أن ما لا يكون في الجهة لا يكون مرئيا هو أن كل ما كان مرئيا يكون في الجهة. والمنطقيون يسمون هذه القضية الثانية عكس نقيض القضية الأولى، وفي الحقيقة لا فرق بين القضيتين في الظهور والخفاء، فلم يجز جعل أحدهما حجة في صحة الأخرى بل يقرب هذا من أن يكون إعادة المطلوب بعبارة أخرى.
والثاني:
ثبت أن المقابلة شرط للرؤية في الشاهد فلم قلتم: إنه في الغائب كذلك، وتحقيقه هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبا في الغالب عند حضورها، ومما يدل عليه أن الإدراك في الشاهد مشروط بشرائط ثمانية هي:
سلامة الحاسة، وكون الشيء بحيث أن يكون جائز الرؤية، وأن لا يكون في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية القرب، وأن يكون مقابلا للرائي أو في حكم المقابل، وأن لا يكون في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب، وأن لا يكون في غاية الصغر، وفي الغالب نقطع بأنه لا يمكن اعتباره. وتمام الكشف والتحقيق أن المراد من الرؤية أن يحصل لنا انكشاف بالنسبة إلى ذاته المخصوصة وهو يجرى مجرى الانكشاف الحاصل عند إبصار الألوان والأضواء، وإذا كان الأمر كذلك فهذا الانكشاف يجب أن يكون على وفق المكشوف، فإن كان المكشوف مخصوصا بالجهة والحيز وجب أن يكون الانكشاف كذلك، وإن كان المكشوف منزها عن الجهة وجب أن يكون انكشافه منزها عن الحيز والجهة (1).
والحق أن الجواب عن دليل المعتزلة بتسليم نفي الجهة والمقابلة عن الله تعالى لا يستقيم حيث إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة مكابرة عقلية، لأن الجهة من لوازم الرؤية وإثبات الملزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة. ثم إن الثابت بالنصوص الصحيحة إثبات الرؤية لله تعالى كرؤية الشمس والقمر، قال صلى الله عليه وسلم:((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته. .)) الحديث (2). وهما في جهة، وقد شبه صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية. ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:((إنكم سترون ربكم عيانا)) (3). إثبات للرؤية البصرية التي لا تتم إلا على ما كان في جهة.
ثم أن إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد بالكتاب والسنة في مواضع كثيرة جدا فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى ولا يقدح هذا في التنزيه، لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالى من صفات الكمال.
أما لفظ الجهة: فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها، ولا إثباتها بالنص، فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ.
ثانيا: من أدلة المعتزلة دليل الموانع:
وقبل تقرير هذا الدليل لا بد لنا من ذكر مقدمة نوضح فيها المراد فنقول:
إن ما يجب حصول الإبصار عنده في الشاهد ثمانية شروط:
الأول: سلامة الحاسة.
(1)((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (190، 213، 217)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 139).
(2)
رواه البخاري (554) ، ومسلم (633).
(3)
رواه البخاري (7435).
الثاني: كون الشيء بحيث يكون جائز الرؤية.
الثالث: أن لا يكون في غاية البعد.
الرابع: أن لا يكون في غاية القرب.
الخامس: أن يكون مقابلا للرائي أو في حكم المقابل.
السادس: أن لا يكون في غاية اللطافة.
السابع: أن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب.
الثامن: أن لا يكون في غاية الصغر.
فعند توفر هذه الشروط الثمانية يجب الإبصار، إذ لو لم يجب لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة، وأصوات هائلة ونحن لا نراها ولا نسمعها، وذلك يقتضي دخول الإنسان في الجهالات.
وقالوا: إن الشروط الستة الأخيرة لا يمكن اعتبارها إلا في رؤية الأجسام، والله ليس بجسم، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته. ولو صحت لوجب أن لا يشترط لحصولها إلا سلامة الحاسة، وكونه بحيث أن يكون جائز الرؤية ولكنها لا تصح. قال عبد الجبار: لأن القديم تعالى لو جاز أن يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن، ومعلوم أنا لا نراه الآن. وهذه الدلالة مبنية على أصلين:
أحدهما: أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها. الثاني: أن القديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، أما الذي يدل على أن القديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها هو أن الشيء إنما يرى على أخص ما تقتضيه صفة الذات، والقديم تعالى على هذه الصفة بلا خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة، لأنه تعالى حاصل على ما هو عليه في ذاته وموجود، ونحن نقول: إن الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته، وهم يقولون إنما يرى لوجوده والقديم تعالى حاصل على كل واحدة من هاتين الصفتين، فإذن لا شك أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رؤي لما رؤي إلا لكونه عليها، ولا تتجدد له صفة في الآخرة يرى عليها، فثبت ما قلناه، وأما الذي يدل على أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، هو أنه إنما يرى الشيء لكونه حيا، بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع، وقد علمنا أن الموانع المعتبرة عن رؤية المرئيات هي القرب المفرط، والبعد المفرط، والحجاب، واللطافة، والرقة، وأن يكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي، أو أن يكون حالا فيما هذا سبيله. فما كان هذه صفته امتنعت رؤيته، وما خلا عن ذلك وهو مرئي في نفسه وجبت رؤيته إذا كان الرائي يرى بالحاسة فقط، أما إذا كانت الرؤية بالمرآة فلا يمنع كونه في غير جهة محاذاة، لأنه يرى وجهه وما خلفه وما عن يمينه وما عن يساره، لأن المرآة أصبحت في الحكم كأنها عينه، فما قابلها بمنزلة ما قابل عينه، فلذلك اختلف حال ما يراه بالمرآة لما يراه بالحاسة من غير وساطة، فلا تمتنع رؤية الشيء بوساطة على الوجه الذي تمتنع رؤيته بالحاسة على جهة الابتداء (1).
ثم ساق عبد الجبار كثيرا من الاعتراضات مما يرد على هذا الدليل وأجاب عنها فقال:
فإن قيل: ولم قلتم ذلك؟
قلنا: لأنه متى كان على هذه الصفة وجب أن يرى، ومتى لم يكن كذلك استحال أن يرى، فيجب أن تكون رؤيته لما يراه لكونه حيا بشرط صحة الحاسة على ما نقوله، لأنه بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.
فإن قيل: نحن لا نسلم ذلك. بل نقول إن الحي منا إذا كان صحيح الحاسة إنما يرى الشيء لرؤية خلقها الله في بصره وإدراك بخلقه.
قلنا: الإدراك ليس بمعنى، وليس لأمر زائد على كونه حيا مع صحة الحاسة.
فإن قيل: ومن أين لكم أن الإدراك ليس بمعنى؟
(1)((المغني في باب التوحيد والعدل)) (4/ 116)، ((الأربعين في أصول الدين)) (212).
قلنا: لو كان معنى لوجب من الواحد منا مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات، بأن لا يخلق الله له الإدراك، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران ونحوها ونحن لا نراها، لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات، ويلحق البصراء بالعميان وذلك محال، وما أدى إليه وجب أن يكون محالا.
فإن قيل: إنا نقطع على أنه ليس بحضرتنا أجسام عظيمة فكيف يجوز أن تكون ولا نراها؟
قلنا: إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء يستند إلى طريق وهو العلم بأنه لو كان لرأيناه، وقد سددتم هذه الطريقة على أنفسكم لتجويزكم أن يكون ولا ترونه، فلا يمكنكم القطع على أنه ليس بحضرتنا شيء، فيلزم ما ألزمناكم يبين ذلك أن الأعمى لما فقد هذه الطريق، وهو العلم بأنه لو كان رآه لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الإدراك، وكذلك إذا جوزتم أن يكون ولا ترونه وجب أن يكون حالكم حال الأعمى.
فإن قيل: أليس الأعمى مع تجويزه أن يكون ولا يرى يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء بأن يلمس فيجد ذلك الموضع خاليا.
قلنا: كلامنا في علمين يستند أحدهما إلى الآخر وكان الأول طريقا إلى الثاني، وهذا الذي ذكرتموه ليس كذلك فلا يصح، وهكذا الجواب إذا قيل: ليس يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الخبر لأن كلامنا في العلم الذي يستند إلى الإدراك.
فإن قيل: ألستم جوزتم أن يقلب الله صورة زيد إلى صورة أخرى ثم قطعتم على أنه لم يفعل فهلا جاز مثله في مسألتنا.
قلنا: إن بين الموضعين فرقا لأن كلامنا في علمين أحدهما طريق إلى الآخر فمن أفسد على نفسه تلك الطريقة لا يحصل له العلم الذي يحصل من ذلك الطريق، والعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل لا يستند إلى طريقة قد أفسدناها على أنفسنا فجاز أن نقطع على أنه هو.
فإن قيل: إن العلم بذلك يستند إلى طريق وهو الإدراك، وقد أفسدتم بتجويزكم على أنفسكم أن يقلب الله صورته فلا يمكنكم القطع على أنه هو.
قيل له: ليس الأمر على ما ظننته لأن هذا العلم لا يستند إلى الإدراك، إذ لو كان كذلك لوجب فيمن أدرك زيدا ثم شاهده بعد ذلك أن يثبته لا محالة، والمعلوم خلافه، فإن في الناس من يشاهد شخصا مرة ثم إذا رآه ثانية تبينه وتعرفه، وفيهم من يشاهده مرارا ثم إذا رآه بعد ذلك لم يتبينه ولم يعرفه، وما ذلك إلا؛ لأن هذا العلم غير مستند إلى الإدراك فصح ما قلناه.
فإن قيل: إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء علم يخلقه الله تعالى فينا ابتداء لا أنه يستند إلى طريق قد أفسدناه.
قلنا: ليس الأمر على ما ظننته، بل العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وعلى هذا فإن الأعمى لما فقد هذه الطريق لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء، فعلمنا أن أحد العلمين يستند إلى الآخر، والأول طريق إلى الثاني، فمن أفسد على نفسه العلم الأول لا يحصل له العلم الثاني فقد صح بهذه الجملة ووضح أن الإدراك ليس بمعنى، وأن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، والقديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، والموانع معقولة مرتفعة.
فإن قيل: ولم قلتم إن الموانع المعقولة مرتفعة؟
قلنا: لأن الموانع المعقولة التي سبق ذكرها لا يجوز شيء منها على الله تعالى بحال من الأحوال.
فإن قيل: ما أنكرتم أنا إنما لا نرى القديم تعالى لمانع غير معقول؟
قلنا: لأن إثبات ما لا يعقل يفتح باب الجهالات ويلزم عليه جواز أن يكون بحضرتنا أجسام عظيمة ونحن لا نراها لمانع غير معقول ويلزم مثل ذلك في المعدوم ومعلوم خلافه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن المانع من رؤية الله تعالى هو أنه تعالى لم يشأ أن يرينا نفسه ولو شاء لرأيناه.
قلنا: المشيئة إنما تدخل فيما يصح دون ما يستحيل، وقد بينا أن الرؤية تستحيل عليه تعالى فلا يعلم ما ذكرتموه، وبعد فلو جاز ذلك في القديم تعالى لجاز مثله في المعدوم، فيقال إن المعدوم إنما لا يرى لأنه تعالى لا يشاء أن نراه ولو شاء لرأيناه فكما أن ذلك خلف من الكلام كذلك ههنا.
فإن قال: ما أنكرتم أن هذه الأمور التي عددتموها ليست بموانع؟
قلنا: إن كان الأمر على ما ذكرته فقد ارتفع غرضنا لأن غرضنا بيان أن الموانع عن الرؤية مرتفعة، وأنه تعالى لو كان مرئيا في نفسه لوجب أن نراه الآن، وهذا قد تم بما ذكرتموه، على أنا قد بينا أن هذه الأمور موانع بما لا يمكن دفعه.
فإن قيل: ما أنكرتم أنا نرى القديم تعالى الآن؟
قلنا: لو رأيناه لعلمناه ضرورة لأن الرؤية طريق إلى العلم، وهذا يوجب أن نجد كوننا عالمين به من أنفسنا وقد عرف خلافه.
فإن قيل: أليس أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو علم لما علم إلا لكونه عليها والواحد منا حاصل على الصفة التي لو علم ما علم إلا لكونه عليها، والموانع المعقولة عن العلم مرتفعة ثم لا يجب في كل عاقل أن يعلم القديم تعالى فهلا جاز مثله في مسألتنا أن يكون القديم حاصلا على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها، والواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها، ثم لا يجب أن نراه الآن. قلنا: إن بين الموضعين فرقا لأن المصحح في كونه عالما غير الموجب له إذ المصحح له إنما هو كونه حيا والموجب له إنما هو العلم وليس كذلك في كونه مدركا لأن المصحح له هو كونه حيا وهو الموجب له أيضا ففارق أحدهما الآخر (1).
هذا سياق دلالة الموانع باعتراضاتها وردودها كما قررها عبد الجبار بن أحمد المعتزلي وللرد على هذه الدلالة نقول كما قال الرازي: لا نسلم عند عدم الموانع – التي ذكرتم – من الرؤية وجوب الإبصار، ولا امتناعه عند توفرها.
ويؤيد هذا ما يأتي:
أولا: رؤية الجسم الكبير من البعد صغيرا فإن كانت الرؤية لجميع أجزائه، وجب ألا يرى صغيرا. وإن لم ير شيئا من أجزائه وجب إلا يرى. وإن رئي بعض أجزائه دون بعض مع أن جميع الأجزاء بالنسبة إلى الموانع أو عدمها سواء لزم عدم الوجوب أو الامتناع.
ولا يقال: إنا إذا أبصرنا شيئا اتصل بطرفيه من العين خطان شعاعيان كساقي المثلث وصار عرض المرئي كالخط الثالث، أي قاعدة المثلث ثم يخرج من نقطة الناظر خط آخر إلى وسط المرئي قائم عليه يقسم المثلث الأول إلى مثلثين، وكل واحد منهما مثلث قائم الزاوية، وهذا يصلح أن يكون وترا لكل واحد من الزاويتين الحادتين الواقعتين على طرفي المثلث الأول الكبير، والخطان الطرفيان كل واحد منهما وتر للزاويتين القائمتين، ووتر القائمة أعظم من وتر الحادة بلا شك، فالخطان الطرفيان كل واحد منهما أطول من الخط الأوسط، فلم تكن أجزاء المرئي بالنسبة إلى الرائي متساوية في القرب والبعد، لأنا نقول لنفرض أن هذا التفاوت واقع بمقدار شبر فلو كان المانع من الرؤية هذا القدر من التفاوت في البعد لكنا إذا جعلنا المرئي أبعد مما كان عليه وقوله تعالى: النظر بمقدار شبر وجب أن لا نراه البتة، وليس كذلك فعلمنا أنه ليس السبب في عدم رؤية بعض الأجزاء ذلك القدر من التفاوت في البعد.
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (253)، ((المغني في باب التوحيد والعدل)) (4/ 212).
فإن قيل: لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا؛ لأن اختلاف الرؤية بالنسبة إلى الصغر والكبر ناتج عن ضيق الزاوية الحاصلة في الناظر من الخطين المتصلين منه بطرفي المرئي وسعتها، ولهذا إذا قرب المرئي في الغاية أو بعد كذلك صارت الزاوية لسعتها في الغاية حال القرب، أو لضيقها في الغاية حال البعد كالمعدوم فانعدمت الرؤية حينئذ لعدم انطباع الصورة، وهذا الافتراض مبني على القول بأن الرؤية تحصل بانطباع صورة المرئي أو شبحه في جزء من الرطوبة الجليدية في العين.
قلنا: هذا ضعيف بناء على تركب الأجزاء التي تتجزأ إذ على هذا التقدير إن رأى الأجزاء كلها وجب أن يرى الجسم كما هو في الواقع سواء كان قريبا أو بعيدا لأن رؤية كل منها أو بعضها أصغر مما هو عليه توجب الانقسام فيما لا يتجزأ لثبوت ما هو أصغر منه ورؤية كل من الأجزاء أكبر مما هو عليه بمثل أو بأزيد منه توجب ألا يرى إلا ضعفا أو أكبر من ذلك، وهو باطل قطعا، ورؤيته أكبر بأقل من مثل توجب الانقسام، ورؤية بعضها على ما هو عليه بعضها أكبر بمثل توجب ترجيحا بلا مرجح فوجب أن يرى الكل على حاله، فلا تفاوت حينئذ بالصغر والكبر، فتعين أن يكون التفاوت بحسب رؤية بعض دون بعض.
ثانيا: إن من نظر إلى مجموع من التراب يراه وهو عبارة عن مجموع تلك الذوات والأجزاء الصغيرة وإدراك كل واحد من تلك الذوات والأجزاء إما أن يكون مشروطا بإدراك الآخر أو لا؟ فإن كان مشروطا فيلزم عليه الدور، وإن لم يكن مشروطا فحينئذ يكون إدراك كل واحد من تلك الذوات والأجزاء حالتي الاجتماع والانفراد على السوية وليس كذلك، لأنها لا ترى حال الانفراد، وحينئذ لا يكون الإدراك واجب الحصول عند حصول تلك الشرائط، وإما أن يكون إدراك بعضه مشروطا بإدراك الباقي ولا ينعكس، فهذا محال، ومع أنه محال فالمقصود حاصل، أما أنه محال فلأن الأجزاء متساوية فيكون هذا مفتقرا إلى ذلك مع أن ذلك غني عن هذا ترجيح من غير مرجح وهو محال، وأما أن المقصود حاصل، فلأن إدراك أحد تلك الأجزاء إذا كان غنيا عن إدراك الآخر كان حاله عند الاجتماع وعند الانفراد في صحة الإدراك على السوية، وحينئذ يعود المحذور، فهذان برهانان قويان في بيان أنه عند حصول هذه الشرائط فالإدراك غير واجب الحصول.
وقولهم: لو لم يجب الإدراك لجاز أن يكون بحضرتنا حملات وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها.
قلنا: هذا معارض بجملة العاديات، ثم إن كان مأخذ الجزم بعدم الحملات والبوقات ما ذكرتم من وجوب الرؤية عند اجتماع شرائطها لوجب ألا نجزم به إلا بعد العلم بهذا، واللازم باطل، لأنه لا يجزم به من لا يخطر بباله هذه المسألة ولأنه ينجر إلى أن يكون ذلك الجزم نظريا مع اتفاق الكل على كونه ضروريا. سلمنا أنه عند تحقق الشرائط في الشاهد يكون الإدراك واجب الحصول فلم قلتم: إنه في حق الله تعالى يجب أن يكون كذلك، مع أن ذات الله مخالفة في الحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات لا يجب استواؤهما في اللوازم، فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عند حضور هذه الشرائط كونه واجبا في الغائب عند حضورها. فلا يمتنع أن يكون الإدراك في الشاهد واجب الحصول وفي الغائب لا يجب ذلك، وسبق تقرير هذا الكلام في الرد على الدليل السابق (1). لذا صح بطلان دليل الموانع ورد الرازي على الدليل في غاية القوة حيث أنه أثبت معنوية الإدراك وكان اعتمادهم في الاستدلال على نفي المعنوية عن الإدراك، فبين عدم وجوبه مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع، والله أعلم. ثالثا: من أدلة المعتزلة على نفي الرؤيا الانطباع: وتقريره كما ذكر الرازي: (أن كل ما يكون مرئيا فلا بد وأن تنطبع صورته ومثاله في العين، والله تعالى يتنزه عن الصورة والمثال، فوجب أن تمتنع رؤيته)(2).رابعا: إن كل ما كان مرئيا فلا بد له من لون وشكل، ودليله الاستقراء والله تعالى منزه عن ذلك فوجب ألا يرى (3).
والجواب عن الدليلين: هو: منع كون الرؤية بالانطباع، ومنع كون المرئي ذا لون وشكل، إما مطلقا أو في الغائب لعدم تماثل الرؤيتين، فرؤية الخالق ليس كرؤية المخلوق، فلا يجب هذا في حق الله تعالى حيث إن ذات الله مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤهما في اللوازم (4).
والحكم بأن المرئي لابد وأن تنطبع صورته ومثاله في العين، وأنه لا بد وأن يكون ذا لون وشكل مبني على أن هذه الأشياء المشاهدة المحسوسة لا ترى إلا كذلك. ثم قالوا لو صح أن يرى الله فلا يرى إلا كذلك وهو ممنوع في حقه تعالى، والحق أنه تحكم محض وقياس للخالق على المخلوق، وهو باطل قطعا لأنه قياس مع الفارق، فالله تعالى ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه، فلا يصح قياسه عليه. قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4]، وقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
المصدر:
رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها لأحمد بن ناصر آل حمد – ص55
(1)((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (215)، ((شرح المواقف)) للجرجاني (8/ 136).
(2)
((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (213).
(3)
((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (215)، ((التمهيد)) للباقلاني (277).
(4)
((شرح الجرجاني للمواقف)) (8/ 139)، ((الأربعين في أصول الدين للرازي)) (217).