المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: تعريف المرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء

- ‌المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

- ‌المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء

- ‌المبحث السابع: المرجئة الأولى

- ‌المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

- ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

- ‌المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية

- ‌المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية

- ‌المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

- ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان:

- ‌المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان

- ‌المبحث الخامس: أهمية عمل القلب

- ‌المبحث السادس: إثبات عمل القلب

- ‌المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب

- ‌المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

- ‌المبحث الأول: مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الكلابية

- ‌المبحث الرابع: الكرامية

- ‌المبحث الخامس: الأشاعرة

- ‌أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة:

- ‌المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: حجج المرجئة

- ‌المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة

- ‌الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة

- ‌المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية

- ‌المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية

- ‌المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة

- ‌المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

- ‌المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا

- ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

- ‌المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة

- ‌المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا

- ‌المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء

- ‌المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه

- ‌المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً

- ‌المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها

- ‌المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم

- ‌المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة

- ‌المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم

- ‌المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة

- ‌المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء

- ‌المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب:

- ‌المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد

- ‌المبحث التاسع: فرق المعتزلة

- ‌المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة

- ‌المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات

- ‌المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها

- ‌المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب

- ‌المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها

- ‌المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات

- ‌المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة

- ‌المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات

- ‌المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته

- ‌المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم

- ‌المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم

- ‌المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

- ‌الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم

الفصل: ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

؟ كأن معالم هذا الموضوع والقول الفصل فيه بان واتضح في عطف المبحث السابق، لكن ذلك لا يمنع من أن نفرده هنا ليأخذ نصيبه من البحث والتجلية، وبخاصة أنني قد وقفت على كم هائل من أقوال للمتكلمين يزعمون فيها أن الخلاف في هذه المسألة لفظي وليس حقيقياً، وصوري وليس جوهرياً (1).

وهذا القول منهم مبني على وهمهم السابق الذي تقدم التنبيه عليه وعلى غلطه. ولا أطيل بالنقل عن كل من وقفت على أنه قال بذلك، وإنما اكتفي بالإشارة على بعضهم فقط ولا سيما وأن دعوى الجميع واحدة وشبهتهم متكررة وهي: إعادتهم الخلاف في المسألة إلى الخلاف في تعريف الإيمان. قال الكستلي في حاشيته على النسفية: "ولهذا ذهب الإمام الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا النزاع لفظي، راجع على تفسير الإيمان وهو التحقيق الذي يجب أن يعول عليه"(2).وقال الفرهاري في النبراس شرح العقائد: "وملخص كلامهم أن النزاع لفظي لأنه فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا الإيمان هو التصديق فلا يقبل التفاوت إنما هو في الظن، وإن قلنا الأعمال داخلة فيه فهو يقبله"(3).وقال كمال بن أبي شريف: "فلا خلاف في المعنى بين القائلين بقبوله الزيادة والنقصان والنافين لذلك"(4).وقال الزبيدي في الإتحاف: "وجدت بخط بعض المحصلين ما نصه: قال الإمام البحث في زيادة الإيمان ونقصانه لفظي لأنه إن كان المراد بالإيمان التصديق فلا يقبلهما، وغن كان الطاعات فيقبلهما، فالطاعات مكملة للتصديق، فكلما قام من الدليل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفاً إلى أصل الإيمان الذي هو التصديق وكل ما دل على كون الإيمان يقبل الزيادة والنقصان فهو مصروف إلى الكامل وهو المقرون بالعمل"(5).

فهكذا يزعم جميع هؤلاء وغيرهم أن الخلاف في المسألة لفظي، وإنني لأستاءل كيف يكون لفظياً وهو يناقض القرآن والسنة، ويخالفهما تماماً، وهو على الضد تماماً لما جاء فيهما، حتى أوقع أهله في مصادمات صريحة ومعارضات واضحة لنصوص الوحي المصرحة بزيادة الإيمان ونقصانه، مما أداهم إلى التكلف في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وعدم التسليم لها، كما سبق تفصيله وبيان ما ترتب عليه من فساد وشر في مبحث مستقل، فلو كان كما يقولون إنه لفظي فما الداعي إلى تلك التأويلات المتكلفة والتعسفات الواضحة في حمل النصوص على غير ظواهرها، أفلا أراحوا المسلمين من ذاك الغثاء إن كان الخلاف لفظياً؟

بل كيف يكون لفيظاً والقولان متضادان تماماً ومتغايران، أحدهما ينفي، والآخر يثبت في شيء واحد فهل من جمع بين ضدين أو تأليف بين نقيضين، فلو قال أحد - على سبيل المثال - عن شيء هو موجود، وقال غيره هو غير موجود، هل يمكن أن يقال إن خلافهما لفظي، إلا بتفلسفات متعسفة أو منطقيات متكلفة، ما أنزل الله بها من سلطان.

(1) أنظر ((المسامرة شرح المسايرة)) (ص373)، و ((النبراس شرح العقائد)) (ص405)، و ((الإتحاف السادة المتقين)) (2/ 261)، و ((حاشية الكستلي على النسفية)) (ص158)، و ((جوهرة التوحيد)) (ص12)، و ((فيض الباري)) (1/ 59، 63، 64)، و ((تحفة القارئ)) (ص48، 56)، و ((قواعد في علوم الحديث99 للتهانوي (ص235)، و ((الإيمان)) لمحمد نعيم ياسين (ص151)، وغيرها.

(2)

((حاشية الكستلي على النسفية)) (ص158).

(3)

((النبراس)) (ص405).

(4)

((المسامرة شرح المسايرة)) (ص373).

(5)

((إتحاف السادة المتقين)) (2/ 261).

ص: 273

وكيف يكون الخلاف لفظياً وقولهم هذا يؤدي إلى إضعاف الإيمان، وعدم الاكتراث بأموره، والتهوين من شأن زيادته وقوته، فإن العلماء إذا قالوا للناس إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأهله متساوون فيه، وإيمان جبريل والأنبياء وإيمان أفجر الناس واحد، ولا تفاضل بين الناس في الإيمان فهل ينتظر بعد ذلك من الناس الإقبال على أمور الإيمان ومتطلباته علماً وعملاً، لا إخال ذلك يحصل البتة.

ولهذا يقول المعلمي رحمه الله تعالى في رده على الكوثري: "وهذا القول - أي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان - قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات.

بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف يكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يتقدي بأبي حنيفة ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم لم أعذب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساو لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين، قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساو لهم فيه!

وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذا أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟! وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية" (1).

قلت: وليتأمل كلامه رحمه الله فهو يدل على علم جم، وفهم ثاقب، ومعالجات حكيمة، أسكن الله قائله فراديس جناته. ولهذا صرح بعض محققي هؤلاء بأن الخلاف في المسألة جوهري وليس لفظياً، كما سبق النقل عن بعضهم في ذلك، مثل النووي والألوسي وغيرهما، حتى إن الألوسي رحمه الله قال: "والحق أن الخلاف حقيقي، وأن التصديق يقبل التفاوت

وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالإتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام" (2).

ثم كيف يكون الخلاف لفظياً وقد كفر بعض هؤلاء من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وحرموا تزويجه، وتجرأوا بذلك على صدر هذه الأمة من صحابة وتابعين الخيار العدول، فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه قولهم، والكتاب والسنة هو مستندهم فيه، فهل يجرؤ على تبديع هؤلاء فضلاً عن تكفيرهم إلا من سفه نفسه وحكم بغيهاظ؟!

ولئن عد الخلاف مع بعض هؤلاء لفظياً - تجوزاص - لخفه غلطهم عن غيرهم ممن زاد في الغلو وأوغل في الضلال، فإنه لا يعد كذلك بأي حال من الأحوال ولا أي وجه من الوجوه مع أولئك الذين أوغلوا في الضلال فكفروا من قال إن الإيمان يزيد وينقص وبدعوه، وكذبوا في ذلك أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقحموا أموراً عظاماً، ورزاياً جساماً، وهم كثر.

(1)((التنكيل)) (2/ 365).

(2)

((روح المعاني)) (9/ 167).

ص: 274

فإن البون بين هؤلاء وبين أهل السنة شاسع، والهوة عميقة، ولا مهاودة في الأمر، إلا أن يخوضوا في حديث غيره، ويعيدوا الأمر على نصابه.

وتأكيداً لما أقرره هنا من أن الخلاف في المسالة جوهري حقيقي وليس لفظياً صورياً، أذكر نقلين مهمين عن عالمين جليلين، من فحول علماء عصرنا، هما سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، حفظهما الله وأمد في عمرهما على طاعته.

قال الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله معلقاً على قول الطحاوي: "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان"."هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت، وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة والله المستعان"(1).

وقال الشيخ الألباني حفظه الله معلقاً على الموضع نفسه: "قلت: هذا مذهب الحنفية والماتريدية، خلافاً للسلف وجماهير الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالإركان وليس الخلاف بين المذهبين اختلافاً صورياً كما ذهب إليه الشارح رحمه الله تعالى، بحجة أنهم جميعاً اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله إن شاء الله عذبه وإن شاء الله عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحاً، فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته بالطاعة، ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلكن وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها، ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفاً ظاهراص، بل باطلاً، ذكر الشارح نموذجاً منها.

(1) انظر "تعليقاته على"((الطحاوية)) (1/ 265) من "مجموع فتاواه ومؤلفاته".

ص: 275

بل حكى عن أبي المعين النفسي أنه طعن في صحة حديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة" .. مع احتجاج كل أئمة الحديث به ومنهم البخاري ومسلم في "صحيحهما"! وهو مخرج في "الصحيحة""1769" وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم! ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صورياً، وهم يجيزون لأفجر واحد نهم ان يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق! بل كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم الصلاة والسلام! كيف وهم بناءاً على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم - مهما كان فاسقاً فاجراً - أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، بل يقول أنا مؤمن حقاً! والله عز وجل يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4]. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً [النساء: 122] وبناء على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر! وفرعوا عليه أنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية! وتسامح بعضهم - زعموا - فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب! وأعرف شخصاً من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية فأبي قائلاً

لولا أنك شافعي! فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي؟ " (1).

وبهذا التحقيق الجيد، يعلم أن الخلاف في المسألة حقيقي جوهري، وبخاصة أنه قد أدى إلى ما أدى إليه ما انحراف ظاهر وضلال بين، وصار ذريعة إلى بدع أهل الكلام وإلى ظهور الفسق والغلط، في جوانب عديدة. قال شيخ الإسلام:"فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله ولا سيما وقد صار ذلك الخلاف ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق"(2).ولهذا فإن سلفنا الصالح اشتد نكيرهم على هذا القول من أول حدوثه، رغم خفته عما هو عليه الآن، فلما قال به حماد بن أبي سليمان وهو أول من قال به، ثم تبعه عليه من تبعه من أهل الكوفة وغيرهم، أنكر عليهم السلف أشد الإنكار وأغلظوا القول فيهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث قال:"ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحداً منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة، ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيراً لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطاً عظيماً والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء"(3).ومرادي من هذا النقل التدليل على أن السلف الصالح اشتد نكيرهم وأغلظوا القول فيمن قال بالإرجاء، ولهذا سمى أبو عبيد القاسم بن سلام من قال بأن الإيمان يزيد وينقص - وعدد الذين ذكرهم جاوز المائة والثلاثين رجلاً - ومرادهم بذلك إظهار المخالفة لمن قال بعدم الزيادة والنقصان "ذكر من الكوفيين من ذلك أكثر مما ذكر من غيرهم؛ لأن الإرجاء في أهل الكوفة كان أولاً فيهم أكثر، وكان أول من قاله حماد بن أبي سليمان، فاحتاج علماؤها أن يظهروا انكار ذلك، فكثر منهم من قال ذلك"(4).

(1)((العقيدة الطحاوية شرح وتعليق الألباني)) (ص42، 43).

(2)

((الفتاوى)) (7/ 294).

(3)

((الفتاوى)) (7/ 507).

(4)

((الفتاوى)) (7/ 311).

ص: 276

ومثل هذا ما رواه اللالكائي بإسناده عن يعقوب بن سفيان: أنه قال: "الإيمان عند أهل السنة: الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة".

ثم سمى اثنين وثلاثين رجلاً منهم ثم قال: "كلهم يقولون: الإيمان القول والعمل، ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم".

فإذا كان إنكار السلف لهذا الأمر بهذه الشدة والكثرة، فهل يقال بعد ذلك إن هذا القول من بدع الألفاظ ومن المخالفات اللفظية فحسب، مع العلم أن النزاع في الأمور اللفظية ليس من دأب المحصلين فضلاً عن هؤلاء الجهابذة والأئمة من السلف الأولين.

وهل يكون هذا القول من بدع الألفاظ، رغم أن السلف أنكروه بتلك الشدة وامتلأت كتب السنة بالنقول الكثيرة عنهم وهم يصرحون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، حتى إنه ليحصى عدد من قال ذلك بالألوف، مظهرين بذلك النكير على من قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فهل كل ذلك الإنكار، وكل تلك الشدة لأمر يعد من بدع الألفاظ.

وعليه فإني أقطع بلا تردد بأن هذا القول بدعة محدثة، والبدع كلها ضلال، وأقطع بأن من خالف في ذلك فقد خالف في أمر جوهري أساسي، ينكر عليه، ولا يتهاود معه، حتى يعود إلى الحق والصواب، وهذا من النصيحة له، حتى تبقى رابطة الأخوة الإيمانية وعلائق المحبة الصادقة، المبنية على طاعة الله تعالى، وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة أقول: إني لأعجب كثيراً من الناس في زماننا هذا تصدوا للدعوة إلى الله، وبذلوا جهودهم وأوقاتهم لها، يقفون من أمور العقيدة ومسائلها مواقف مخذولة، فيميعون مسائلها ويهونون من شأن المخالفة فيها، ويعدون المخالفين لأهل السنة في أمور من صلب الاعتقاد وجوهره، مخالفين في أمور شكلية لفظية، طالما أنهم يشهدون بكلمة التوحيد ويقرون بالرسالة في الجملة بغض النظر عن التفاصيل.

وليس هذا فحسب بل يقررون في ذلك قواعد كلية يبنون عليها مناهجهم ويحتكمون إليها في أمورهم، وأيم الله إنها لقواعد جائزة ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه القواعد تلك القاعدة المشهورة، والتي تبنتها جماعة كبيرة متصدية للدعوة في عصرنا الحاضر، تلكم القاعدة هي قولهم:

"نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلف فيه".

والحق يقال: إن هذه القاعدة تحمل في طياتها خطراً عظيماً، وضرراً جسماً ينبغي الحذر والتحذير منه، حيث أنها تعني السكوت عن أهل البدع والأهواء، وعدم مصارمتهم ومعاداتهم وبغضهم، بل تعني أنهم يحبون ويوالون ويجالسون ويعاملون معاملة أهل السنة سواء، فمواضع الخلاف بيننا وبينهم نعذرهم فيها على حد تعبير هذه القاعدة، ومن ثم لا نعلن النكير عليهم ولا ننبه المسلمين على خطرهم وضررهم.

وعندئذ لا تسأل عن نشاط أهل البدع في نشر بدعهم وترويج باطلهم، إذ الطريق أمامهم سالكة، فليس هناك من ينكر أو يعكر عليهم نشاطهم، فينشرون باطلهم ويسعون في الأرض بالفساد، بكل راحة نفس وطمأنينة قلب، ونفوس أهل هذه القاعدة المنشرحة لهم فيقابلون هؤلاء بطلاقة الوجه، ورحابة الصدر، وحسن المعاملة، ثم يزعمون أن فعلهم هذا من الحكمة في الدعوة إلى الله!! "ومعاذ الله أن تكون الدعوة على سنن الإسلام مظلة يدخل تحتها أي من أهل البدع والأهواء، فيغض النظر عن بدعهم وأهوائهم على حساب الدعوة"(1).

والحق أن هؤلاء مكر الشيطان بهم بخفاء، ودبر أمرهم بدهاء، فأوقعهم في الإساءة من حيث أرادوا الإحسان، قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين أن هذا مدخل من مداخل الشيطان على أهل السنة والإيمان:" .... ومن ههنا وصى أطباء القلوب الإعراض عن أهل البدع، وأن لا يسلم عليهم، ولا يريهم طلاقة وجهه، ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض"(2).

ثم إنه نتيجة لحكمة هؤلاء المزعومة، أطل أهل الأهواء برؤوسهم، وشمخوا بأنوفهم، وصاروا يمكرون بالسنة وأهلها علناً وجهراً، من بعد ما كانوا يكيدون لها في السر والخفاء، مع الخوف والوجل، فكل هذا وغيره إنما حصل بسبب مثل هذه المواقف المخذولة، والآراء المهزوزة والله وحده المستعان.

‌المصدر:

زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 441

(1)((حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية)) للشيخ بكر أبو زيد (ص 153).

(2)

((إغاثة اللهفان)) (1/ 140).

ص: 277