المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: تعريف المرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء

- ‌المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

- ‌المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء

- ‌المبحث السابع: المرجئة الأولى

- ‌المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

- ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

- ‌المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية

- ‌المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية

- ‌المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

- ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان:

- ‌المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان

- ‌المبحث الخامس: أهمية عمل القلب

- ‌المبحث السادس: إثبات عمل القلب

- ‌المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب

- ‌المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

- ‌المبحث الأول: مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الكلابية

- ‌المبحث الرابع: الكرامية

- ‌المبحث الخامس: الأشاعرة

- ‌أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة:

- ‌المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: حجج المرجئة

- ‌المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة

- ‌الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة

- ‌المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية

- ‌المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية

- ‌المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة

- ‌المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

- ‌المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا

- ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

- ‌المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة

- ‌المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا

- ‌المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء

- ‌المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه

- ‌المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً

- ‌المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها

- ‌المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم

- ‌المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة

- ‌المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم

- ‌المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة

- ‌المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء

- ‌المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب:

- ‌المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد

- ‌المبحث التاسع: فرق المعتزلة

- ‌المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة

- ‌المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات

- ‌المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها

- ‌المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب

- ‌المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها

- ‌المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات

- ‌المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة

- ‌المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات

- ‌المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته

- ‌المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم

- ‌المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم

- ‌المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

- ‌الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم

الفصل: ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

ذهب المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وبعض الزيدية وبعض المرجئة (1) إلى نفي رؤية الله تعالى عيانا في الدنيا والآخرة، وقالوا: باستحالة ذلك عقلا؛ لأنهم يقولون إن البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال، أي ما هو مادي والله تعالى ذات غير مادية، فمن المستحيل إذن أن يقع عليه البصر، فالقول برؤية الله تعالى هدم للتنزيه وتشويه لذات الله وتشبيه له حيث إن الرؤية لا تحصل إلا بانطباع صورة المرئي في الحدقة، ومن شرط ذلك انحصار المرئي في جهة معينة من المكان حتى يمكن اتجاه الحدقة إليه، ومن المعلوم علم اليقين أن الله تعالى ليس بجسم ولا تحده جهة من الجهات ولو جاز أن يرى في الآخرة لجازت رؤيته الآن. فشروط الرؤية لا تتغير في الدنيا والآخرة. قال ابن رشد:"ومن كانت هذه مبادئه فلا يتوقع منه غير هذا إذا كان محترما لها يستنبط منها النتائج المنطقية"(2).

واستدلوا على هذا بالسمع والعقل:

فمن جهة السمع: أولا قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103]، ووجه الدلالة من الآية كما قال عبد الجبار: هو أنه نفى أن يدرك بالأبصار، وقد علمنا أن الإدراك إذا قرن بالبصر أفاد ما تفيده رؤية البصر، وإذا كان إذا أطلق فقد يستعمل بمعنى اللحوق، فيقال أدرك الغلام إذا بلغ وأدركت الثمرة إذا نضجت، وأدرك فلان فلان إذا لحقه، وقال سبحانه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس:90] يعني لحقه الغرق، وقال سبحانه: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] يعني لملحوقون، وقد يقال عند الإطلاق أدركت الحرارة والبرودة وأدركت الصوت، وكل ذلك إنما يصح إذا لم يقرن بالبصر، ومتى قرن به زال الاحتمال عنه، فاختص بفائدة واحدة وهي الرؤية بالبصر، فإذا صح ذلك فيجب أن يكون لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] في باب الدلالة على أنه لا يرى، بمنزلة قوله لو قال: "لا تراه الأبصار، فثبت أنه نفى عن نفسه إدراك البصر فيتناول جميع الأبصار في جميع الأوقات (3).

(1)((شرح الطحاوية لعلي بن أبي العز الحنفي)) (29)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 265).

(2)

((مناهج الأدلة)) لابن رشد (81).

(3)

((شرح الأصول الخمسة)) (232). ((المغني)) (4/ 144).

ص: 443

ومما يؤيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج تمسكت في نصرة ما ذهبت إليه بهذه الآية ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال، ولا شك أنها من أكثر الناس علما بلغة العرب، فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب. وأيضا "إن الباري تعالى تمدح بكونه لا يرى، حيث إن قوله: " لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وقعت في أثناء المدائح فإن ما قبلها مشتمل على المدح والثناء، وقوله بعدها وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] أيضا مدح وثناء، فيجب أن يكون قوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] مدحا وثناء، وذلك يوجب الركاكة، وهي غير لائقة بكلام الله تعالى وتقدس، وحينئذ نقول: إن كل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا في حق الله تعالى، والنقص على الله تعالى محال، لقوله لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] وقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] إلى غير ذلك، فوجب أن يقال كونه تعالى مرئيا محال (1).

وقد أطال القاضي عبد الجبار في تقرير هذا الدليل وفرض الاعتراضات والرد عليها فقال بعد تقرير وجه الدلالة:

فإن قيل: ولو قلتم إن الإدراك إذا اقترن بالبصر لم يحتمل إلا الرؤية؟

قلنا: لأن الرائي ليس بكونه رائيا حالة زائدة على كونه مدركا، لأنه لو كان أمرا زائدا عليه لصح انفصال أحدهما عن الآخر، إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول والمعلوم خلافه. . يبين ما ذكرناه أنه لا فرق بين قولهم: أدركت ببصري هذا الشخص، وبين قولهم رأيت ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص، حتى لو قال أدركت ببصري وما رأيت، أو رأيت وما أدركت لعد مناقضا. .

فإن قيل: ولم قلتم إن هذه الآية وردت مورد التمدح؟

قلنا: لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله تعالى، وغير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا:

فلان ورع تقي نقي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي بالليل ويصوم بالنهار، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح.

يبين ذلك: أنه تعالى لما بين تميزه عما عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد، بين أن تميزه عن غيره من الذوات بأن لا يرى ويرى. وبعد فإن الأمة اتفقوا على أن الآية واردة مورد التمدح فلا كلام في ذلك.

فإن قيل: وأي مدح في أنه لا يرى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات وكثير من الموجودات؟

قلنا: لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر إليه يعتبر مدحا وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا، ثم إذا انضم إليه كونه حيا لا آفة به صار مدحا، وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له، فإن المعدومات تشاركه في ذلك، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل: إن ما ليس بمدح إذا انضم إليه ما هو مدح كيف يصير مدحا لا مانع من ذلك فمعلوم أن قوله عز وجل لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] بمجرده ليس بمدح ثم صار مدحا لانضمامه إلى قوله اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255].

(1)((تفسير الرازي)) (13/ 127)، ((شرح الأصول الخمسة)) (235)، ((المغني)) (4/ 150).

ص: 444

فإن قيل: فلو جاز فيما ليس بمدح أن يصير مدحا بانضمامه إلى غيره لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحا بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب، حتى يحسن أن يمدح الواحد غيره بأنه جاهل قوي القلب شجاع؟

قيل له: إن ما وضع للنقص من الأوصاف نحو قولنا، جاهل وعاجز وما شاكلها. لا تختلف فائدته ولا تتغير حاله لا بالانضمام ولا عدم الانضمام، بل يفيد النقص بكل حال، سواء ضم إلى غيره أو لم يضم، وليس كذلك سبيل ما ليس بمدح ولا نقص فإن ذلك مما لا يمتنع أن يصير مدحا بغيره على ما ذكرناه.

فإن قيل: فجوزوا أن يصير قولنا أسود مدحا بأن ينضم إليه قولنا عالم ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحا لما لم يكن مدحا في نفسه، فإذا لم يجز أن يصير مدحا فكذلك لا يجوز في قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أن يصير مدحا بأن ينضم إليه قوله تعالى: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ.

قيل له: إنا لم نقل إن ما ليس بمدح، إذا انضم إليه ما هو مدح صار مدحا على كل حال، بل قلنا: إن ما ليس بمدح إذا انضم إليه ما هو مدح وحصل بمجموعهما البينونة صار مدحا، ولم تحصل البينونة بانضمام قولنا أسود إلى قولنا عالم، بخلاف مسألتنا لأنه حصل ههنا بينونة على الوجه الذي ذكرناه.

فإن قيل: وما وجه البينونة؟

قلنا: وجه البينونة هو أنه يرى ولا يرى.

فإن قيل: هلا جاز أن تكون جهة التمدح هو كونه قادرا على أن يمنعنا من رؤيته؟

قلنا: هذا تأويل بخلاف تأويل سائر المفسدين، وما هذا سبيله من التأويلات يكون فاسدا، وبعد: فإن هذا حمل خطاب الله تعالى على غير ما تقتضيه حقيقة اللغة ومجازها فلا يجوز.

فإن قيل: ولم قلتم إن هذا المدح يرجع إلى الذات؟

قلنا: لأن المدح على قسمين أحدهما يرجع إلى الذات، والآخر يرجع إلى الفعل، وما يرجع إلى الذات فعلى قسمين:

أحدهما: يرجع إلى الإثبات نحو قولنا قادر عالم حي عليم بصير.

والثاني: يرجع إلى النفي وذلك نحو قولنا لا يحتاج ولا يتحرك ولا يسكن.

وأما ما يرجع إلى الفعل فعلى ضربين أيضا:

أحدهما: يرجع إلى الإثبات نحو قولنا رازق محسن ومتفضل.

والثاني: يرجع إلى النفي وذلك نحو قولنا لا يظلم ولا يكذب.

إذا ثبت هذا فالواجب أن ننظر في قوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع إلى الفعل لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى وليس يجب في الشيء إذا لم ير أن يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور كالمعدومات وككثير من الأعراض. . ولاشيء إذا لم ير فإنما لم ير لما هو عليه في ذاته لا لأنه يفعل أمرا من الأمور وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى ذاته على ما نقوله.

فإن قيل: ولم قلتم إن ما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا.

قيل له: لأنه لو لم يكن إثباته نقصا لم يكن نفيه مدحا إلا أن نفي السنة والنوم لما كان مدحا كان إثباته نقصا حتى لو قال أحدنا: إنه تعالى ينام. كان هذا أيضا نقصا. وبعد فإنه تعالى إذا لم ير فإنما لم ير بما هو عليه في ذاته فلو رئي وجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته فكان نقصا.

فإن قيل: وأي نقص في أن يرى القديم تعالى وما وجه النقص في ذلك؟

قلنا: لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلا بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا راجعا إلى ذاته، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحا يرجع إلى الذات كان إثباته نقصا، وهذا كاف. فإذا أردت التفصيل فلأن في انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته.

فإن قيل: وما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] أي لا تحيط به الأبصار؟ فنحن هكذا نقول.

ص: 445

قلنا الإحاطة ليس هي بمعنى الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ألا ترى أنهم يقولون: السور أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها أو أدرك بها، وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور ولا يقولون أدركته.

وبعد: فإن قبل هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين فلا يقبل، على أنه كما لا تحيط به الأبصار لا يحيط هو بالأبصار لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.

فإن قيل: لا تعلق لكم بالظاهر، لأن الذي يقتضيه الظاهر هو أن الأبصار لا تراه ونحن كذلك نقول.

قيل له: إنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه فلابد من أن يحمل على وجه يقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات بهذا الذي قد ذكرتموه لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره.

فإن قيل: لو كان المراد بقوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] المبصرون، لوجب مثله في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] أن يكون المبصرين ليكون النفي مطابقا للإثبات، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه لأنه من المبصرين وكل من قال إنه تعالى يرى نفسه قال إنه يراه غيره.

قيل له: إنه تعالى وإن كان مبصرا فإنما يرى ما تصح رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى، لما قد بينا أن تمدح بنفي الرؤية مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فإن إثباته نقص والنقص لا يجوز على الله تعالى.

وبعد: فإن المراد بقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] المبصرون بالأبصار فكذلك في قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فيجب أن يكون هذا هو المراد ليكون النفي مطابقا للإثبات والله تعالى ليس من المبصرين بالأبصار فلا يلزم ما ذكرتموه.

فإن قيل: قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام: 103] عام في دار الدنيا ودار الآخرة وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22 - 23] خاص في دار الآخرة ومن حق العام أن يحمل على الخاص كما أن من حق المطلق أن يحمل على المقيد. وربما يستدل بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يرى في دار الآخرة.

وجوابنا أن العام إنما يبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص لأنه تعالى يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته وما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا، والنقص لا يجوز على الله تعالى على وجه. وبعد فإن هذه الآية إنما تخصص تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يرى في حال من الحالات وليس في الآية ما يقتضي ذلك لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية، هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه (1).وزاد الإمامية على ذلك أيضا أوهام القلوب لا تدركه فكيف بأبصار العيون فقالوا في قوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ:(أي إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ليس يعني بصر العيون فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ليس يعني من البصر بعينه وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام: 104] ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب. والله أعظم من أن يرى بالعين (2).

(1)((شرح الأصول الخمسة)) (233)، ((المغني)) (4/ 145).

(2)

((شرح أصول الكافي)) للكليني – شرح عبد الحسين المظفر (3/ 103).

ص: 446

وبعد استعراضنا لغالب هذه الافتراضات المعارضة وردهم عليها والمحاولات الجادة لكي يسلم لهم الدليل على نفي رؤية الله تعالى نقول: لسنا بحاجة إلى تتبع كل هذه الافتراضات ومناقشتها لأنها مبنية على وجهة استدلال خاطئة وسنبين إن شاء الله الخطأ في وجه الدلالة وهذا كاف لإزاحة الدليل عن مرادهم، فقد بنوا استدلالهم بالآية على وجهين:

الأول: على أن الإدراك المقرون بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية وقد نفي والنفي عام في جميع الأوقات والأزمان.

الثاني: أن الله تمدح بكونه لا يرى - على فهمهم – وما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله عنه.

والجواب على الوجه الأول بأوجه:

الوجه الأول: أن هذا افتراء على اللغة وأنه مجرد دعوى لا دليل عليها وقد رد على هذه الدعوى ابن حزم في الفصل. قال: (واحتجت المعتزلة بقوله عز وجل: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (قال أبو محمد) هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة، برهان ذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61] وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم: قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61] فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو الله تعالى (1).

قال ابن القيم: (فلم ينف موسى عليه السلام الرؤية ولم يريدوا بقولهم إِنَّا لَمُدْرَكُونَ إنا لمرئيون فإن موسى عليه السلام نفى إدراكهم إياهم بقوله كَلا وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دركهم بقوله وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: 77]. فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك كما لا يعلم ولا يحاط به وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من بعدهم من الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ لا تحيط به الأبصار، وقال قتادة هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن عطية: ينظرون إلى الله ولا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم (2).الوجه الثاني: أن تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ موجبة كلية، وقد دخل عليها النفي فرفعها ورفع الموجبة الكلية سالبة جزئية، وبالجملة فيحتمل إسناد النفي إلى الكل ومع احتمال الثاني فلم يبق فيه حجة لكم علينا، لأن أبصار الكفار لا تدركه، هذا على تقدير أن اللام في الجمع للعموم والاستغراق وإلا عكسنا القضية، وقلنا لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ سالبة مهملة في قوة الجزئية فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار، وتخصيص البعض بالنفي يدل بالمفهوم على الإثبات للبعض، فالآية حجة لنا (3).

(1)((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) لابن حزم (3/ 2).

(2)

((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (219).

(3)

((شرح المواقف)) (8/ 140)، ((اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)) لأبي الحسن الأشعري (65).

ص: 447

الوجه الثالث: أن قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] الآية، وإن عمت في الأشخاص باستغراق اللام، فإنها لا تعم في الأزمان، لأنها سالبة مطلقة لا دائمة. ونحن نقول بموجبه حيث لا يرى في الدنيا (1).

الوجه الرابع: ويقال لهم على دعوى العموم في لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ كما قال أبو الحسن الأشعري: (إذا كان قول الله عز وجل لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ في العموم كقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103] لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر فخبرونا أليس الأبصار والعيون لا تدركه رؤية ولا لمسا ولا ذوقا ولا على وجه من الوجوه؟ فإن قالوا: نعم، فيقال لهم: أخبرونا عن قوله عز وجل وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ في العموم كقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (2).

الوجه الخامس: قال الألوسي: (قد يقال إن قوله تعالى: لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ المراد نفي الرؤية وقد عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك. والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن العباد لا يقدرون على شيء من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب. ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أنه لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] وقع بعد قوله سبحانه وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل الإيمان متول لأموره ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في الإيمان وقوله تعالى: شاء كيف شاء ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره (3).

الوجه السادس: قال الرازي: (هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات الرؤية لله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام (4).

(1)((شرح المواقف)) (8/ 140)، ((اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)) لأبي الحسن الأشعري (65).

(2)

((الإبانة عن أصول الديانة)) لأبي الحسن الأشعري (18).

(3)

((روح المعاني)) للألوسي (7/ 247 - 246).

(4)

((الفخر الرازي)) (13/ 128).

ص: 448

وذلك مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22 - 23] وغيرها فإن هذا خاص بالمؤمنين، ويأتي إن شاء الله بيان أن النظر هو الرؤية البصرية قطعا، وبيان أن إلى حرف جر لا بمعنى النعمة على مدعاكم، وأن المنفي في الآية تمدحا غير الرؤية التي يثبتها أهل السنة وهو الإدراك على وجه الإحاطة. وعلى ذلك يمكن التخصيص. أما الجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم:"إن الله تمدح بأن لا يرى. . الخ". نقول هذا الكلام مجرد دعوى فأين الدليل عليها؟ وثبوت المدح في سياق الكلام ليس لكم فيه دليل على امتناع الرؤية، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية، لأنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته، ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته، قال ابن القيم:(فالنفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء، لأن المدح لا يكون إلا بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم إلا إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفي السنة والنوم، المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه فلو كان المراد بقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك فإن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض فإذا المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به كما كان المعنى في قوله: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ [يونس:61] أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق: 38] أنه كامل القدرة، وفي قوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] وفي قوله: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] أنه كامل القيومية، فقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] يدل على غاية عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما مر (1).

ثانيا: من أدلة المعتزلة على نفي الرؤية قوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] فقد استدلوا بالآية على عدم الرؤية من وجوه:

الوجه الأول:

(1)((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (228).

ص: 449

قال تعالى: لَن تَرَانِي ولَن موضوعة للتأبيد وإذا لم يره موسى أبدا لم يره غيره إجماعا، قال الزمخشري في معنى لَن: (إنها لتأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول: لا أفعل غدا فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غدا، والمعنى أن فعله ينافي حالي كقوله تعالى: لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] فقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] نفي للرؤية فيما يستقبل ولَن تَرَانِي تأكيد وبيان لأن النفي مناف لصفاته.

فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله؟ قلت: اتصل به على معنى أن النظر إلي محال فلا تطلبه، ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يزحف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به، وكيف أفعله، وكان بسبب طلبك الرؤية لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من علم أثره كأنه عز وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم: 90](1).

قال عبد الجبار بن أحمد: (فإن قالوا: أليس أنه تعالى قال حاكيا عن اليهود: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: 95] أي لا يتمنون الموت ثم قال حاكيا عنهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [الزخرف: 77] فكيف يقال إن لَن موضوعة للتأبيد؟ قلنا: إن لَن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا يصح استعمالها إلا حقيقة بل لا يمتنع أن تستعمل مجازا وصار الحال فيها كالحال في قولهم أسد وخنزير وحمار فكما أن موضعها وحقيقتها لحيوانات مخصوصة ثم تستعمل في غيرها على سبيل المجاز والتوسع واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها كذلك ههنا)(2).

(1)((الكشاف)) للزمخشري (2/ 113).

(2)

((شرح الأصول الخمسة)) (264) بتصرف قليل.

ص: 450

هذا ما قالوا في وجه الدلالة بالنسبة للنفي ب لَن وفي أبديتها له، ومحاولات الرد على ما يرد عليه من اعتراضات ولكن هيهات فقد أسفر الصبح لذي عينين فالحق أبلج لا يمازجه ريب إلا عند ذي رين فقولهم:(إن لن موضوعة للتأبيد هذا افتراء على اللغة وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح قال الشيخ جمال الدين بن مالك رحمه الله: ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله أردد وخلافه أعضدا (1).قال صاحب النحو الوافي: (لَن وهو حرف يفيد النفي بغير دوام ولا تأبيد إلا بقرينة خارجة عنه فإذا دخل على المضارع نفى معناه في الزمن المستقبل المحض غالبا نفيا مؤقتا يقصر ويطول من غير أن يدوم ويستمر فمن يقول: لن أسافر، أو لن أشرب، أو لن أقرأ غدا أو نحو هذا فإنما يريد نفي السفر أو غيره في قابل الأزمنة مدة معينة يعود بعدها إلى السفر ونحوه إن شاء ولا يريد النفي الدائم المستمر في المستقبل إلا إن وجدت قرينة مع الحرف لَن تدل على الدوام والاستمرار (2) ويؤيد هذا قوله تعالى حكاية عن مريم: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم: 26] إذ لو كانت لَن هنا تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة الْيَوْمَ في الآية؛ لأن اليوم محدد معين، وهي غير محددة ولا معينة، ولوقع التكرار في قوله تعالى فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة: 95] فما فائدة كلمة أبدا التي تدل على التأبيد إن كانت لَن تدل عليه ثم مع تقييدها بالتأبيد إن كانت لَن تدل عليه ثم مع تقييدها بالتأبيد هنا لم تدل عليه قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [الزخرف: 77] فكيف إذا أطلقت. ومما يؤيد عدم كونها للتأبيد المطلق تحديد الفعل بعدها قال تعالى على لسان ابن يعقوب فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف: 80] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ذكر الدجال: ((تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت)) (3) فهذه الشواهد دليل على عدم اقتضاء لَن النفي المؤبد.

(1)((متن الكافية الشافية في علم العربية)) لابن مالك (68).

(2)

((النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة)) لعباس حسن (4/ 281)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/ 95).

(3)

((صحيح الإمام مسلم)) (4/ 2245).

ص: 451

فإن قيل: كيف دلت لَن على التأبيد في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73]. قلنا: لم تدل لَن على التأبيد هنا إلا بسبب قرينة "خارجية" هي العلم القاطع المستمد من المشاهدة الصادقة الدائمة وليس من ذات دلالة لَن والله أعلم (1).قال الغزالي: (وأما قوله سبحانه لَن تَرَانِي فهو دفع لما التمسه وإنما التمس في الدنيا فلو قال أرني أنظر إليك في الآخرة فقال: لَن تَرَانِي لكان ذلك دليلا على نفي الرؤية ولكن في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلامه عليه على الخصوص لا على العموم، وما كان أيضا دليلا على الاستحالة فكيف وهو جواب على السؤال في الحال (2).فالحاصل: أن لَن هنا لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله لَن تَرَانِي نفيا لذلك المطلوب، فأما أن تفيد النفي الدائم فلا، وأما عن استشهاد الزمخشري على أن لَن تشعر باستحالة المنفي بها عقلا فمردود بكثير من الآيات كقوله تعالى فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا [التوبة: 83] وقوله تعالى: لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [هود: 36]، وقوله تعالى: لَّن تَتَّبِعُونَا [الفتح: 15]. فإن الأخبار الواردة في هذه الآيات كلها جائزات عقلا لولا أن الخبر منع من وقوعها، فالرؤية كذلك، فدعوى الاستحالة العقلية على هذا باطلة لهذه الآيات وغيرها (3).

أما دعوى عبد الجبار بن أحمد المجاز في قوله تعالى: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: 95] فمردودة بأن المجاز خلاف الأصل، فإن الأصل الحقيقة، وهذه دعوى لا تقف عند حد، وسهلة يسيرة على كل من كان الدليل ضده، ومخالفا لرأيه، فيرده بدعوى المجاز وأن الحقيقة ما يدعيها، وتنزلا نقول: أين القرينة الدالة على أن المراد خلاف الحقيقة؟ ولا قرينة ههنا فالآية على حقيقتها. ولَن لا تقتضي النفي الأبدي وإن اقتضت فليس يدل على منع الجواز بل على منع وقوع الجائز.

(1)((النحو الوافي)) لعباس حسن (4/ 281)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (133)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/ 95).

(2)

((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (38).

(3)

((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (2/ 114) من هامش الكشاف.

ص: 452

الثاني من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] ووجه الدلالة كما قال عبد الجبار: (هو أنه علق الرؤية باستقرار الجبل فلا يخلو: إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه وتدكدكه، أو علقها به حال تحركه لا يجوز أن تكون الرؤية علقها باستقرار الجبل، لأن الجبل قد استقر ولم ير موسى ربه، فيجب أن يكون قد علق ذلك باستقرار الجبل بحال تحركه دالا بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه، ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى: وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 40] (1). والجواب: أنه علقها باستقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال الحركة أو السكون، وإلا لزم الاحتمال في الكلام، واستقرار الجبل من حيث هو ممكن قطعا، فلو فرض وقوعه لما لزم منه محال لذاته، واستقراره عند حركته ليس بمحال، إذ قد يحصل الاستقرار بدل الحركة ولا محذور فيه، إذ المحال الاستقرار مع الحركة في آن واحد، لا وقوع شيء منهما في وقوله تعالى: آخر بدل صاحبه (2).

الثالث من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [الأعراف:143] ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر موسى عند سؤالها؟ قال الزمخشري: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا من هول ما رأى. . ومعناه خر مغشيا عليه غشية كالموت، وروي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة (3).

بناء على هذا حكموا بامتناع الرؤية على الله تعالى.

والحق أنه ليس فيها دلالة على المنع بل إن دلالتها على الجواز أقرب، فإن الصعق لم يحدث لموسى عليه السلام إلا عندما رأى الجبل يتدكدك لما تجلى له الرب تبارك وتعالى ظهورا، أو على القول أن موسى رأى الله - على ضعفه – فصعق، وهذا يدل على الجواز وإنما كان الصعق نتيجة عدم تحمل موسى رؤية الله تعالى في هذه الدار الفانية. أما ما أورد الزمخشري من مرور الملائكة على موسى وهو صعق. . الخ. فقد علق عليها الإسكندري قائلا:(فهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهرا على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها، وتنزيه الملائكة عليهم السلام من إهانة موسى صفي الله وكليمه بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب (4).

وهل مثل هذه الرواية يحتج بها على عدم الرؤية؟ أو يستشهد بها وأنتم تردون الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والمنقولة نقلا صحيحا بحجة أنها آحاد، فما أكثر تناقض من يسلك غير سبيل المؤمنين ويتخذ إلهه هواه.

(1)((شرح الأصول الخمسة)) (265).

(2)

((المواقف)) للجرجاني (8/ 121).

(3)

((الكشاف)) للزمخشري (2/ 115).

(4)

((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (2/ 115) من هامش الكشاف.

ص: 453

الرابع من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143] أي أنزهك مما لا يجوز عليك. قال الرازي عند حكايته للأوجه التي استدل بها المعتزلة على نفي الرؤية من الآية: قوله سُبْحَانَكَ الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى. فكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن الرؤية، فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه لله تعالى، وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة) (1).

هكذا قالوا في تأويلها، وصحيح أن المراد هو تنزيه الله تعالى وتعظيمه وإجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه الفناء حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في دار الآخرة، والرؤية ليست من النقائص على ما يدعيه نفاتها فهي ليست نقصا في المخلوق بل هي كمال وكل كمال اتصف به المخلوق، وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به، وقد أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وطلبها موسى عليه السلام، فكيف يصح أن ندعي أنها من النقائص ومن أين لنا القول في هذا؟ إلا إذا كان فروخ اليونان أعرف بما يجوز على الله ويمتنع من نفسه، وأعرف من رسله عليهم الصلاة والسلام تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

الخامس من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة:

قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام لما أفاق أنه قال: تُبْتُ إِلَيْكَ ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قال الزمخشري: تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لست بمرئي ولا تدرك بشيء من الحواس.

قال: فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية لقومه على ما قلت فمم تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة – وإن كان لغرض صحيح - على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى (2).

قال الباقلاني: (ويقال لهم في قوله تعالى: تُبْتُ إِلَيْكَ أنه لم يقل جل اسمه أنه تاب من مسألته إياه الرؤية فيمكن أن يكون ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة ويجددونها عند مشاهدة الهول والآيات، ويحتمل أن يكون المعنى في قوله: تُبْتُ إِلَيْكَ من ترك استئذاني لك في هذه المسألة العظيمة، ومثلها ما لا يكون معه تكليف لمعرفتك والعلم بك. ويحتمل أن يكون أراد بقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ أن أسألك الرؤية لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة عليك، ولا لأني عاص في سؤالي، كما يقول القائل: تبت من كلام فلان ومعاملته وركوب البحر ومن الحج ماشيا، إذا ناله في ذلك تعب ونصب وشدة وإن كان ذلك مباحا حسنا جائزا، والتوبة هي الرجوع عن الشيء، ومن ذلك سمي الإقلاع عن الذنوب والعود إلى طاعة الله تعالى توبة منها قوله تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118] أي رجع بهم إلى الفضل والامتثال ليرجعوا عما كانوا عليه، فقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت عن سؤالي إياك الرؤية، وهذا هو أصل التوبة وليس الرجوع عن الشيء يقتضي كونه عصيانا فبطل تعلقهم بالآية (3).

(1)((التفسير الكبير)) للإمام الرازي (14/ 233).

(2)

((الكشاف)) للزمخشري (2/ 115).

(3)

((التمهيد)) للباقلاني (ص 270).

ص: 454

قال القرطبي: (قال مجاهد في قوله تُبْتُ إِلَيْكَ من مسألة الرؤية في الدنيا. . وقيل قاله على جهة الإنابة والخشوع له عند ظهور الآيات – كما مر -. وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية)(1).

قال الرازي: قوله تعالى: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا. أو يقال: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك (2).

وسيأتي إن شاء الله تعالى للبحث زيادة عند الاستدلال بهذه الآية عند أهل السنة.

ثالثا: مما استدلوا به على نفي قولهم: إن الله تعالى ما ذكر سؤال الرؤية في موضع من كتابه إلا واستعظمه، وورد ذكر ذلك في ثلاث آيات:

الأولى:

قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21].

وطالب الممكن لا يكون عاتيا مستكبرا بل يكون بمنزلة طلب سائر المعجزات.

الثانية: قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: 55].

ولو أمكنت الرؤية لما عاقبهم بسؤالها في الحال.

الثالثة: قوله تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء: 153]. فقد سمى الله تعالى ذلك السؤال ظلما وجازاهم به في الحال بأخذ الصاعقة، ولو جاز كونه مرئيا لكان سؤالهم هذا سؤالا لمعجزة زائدة، ولم يكن ظلما ولا سببا للعقاب (3).

والجواب عن هذا: أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا. قال أبو الحسن الأشعري: (إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل عن طريق الإنكار لنبوة موسى، وترك الإيمان به حتى يروا الله، لأنهم قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فلما سألوه الرؤية عن طريق ترك الإيمان بموسى عليه السلام حتى يريهم الله سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتابا)(4).

كما أنكر قول من قال: وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا إلى قوله أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ [الإسراء:93] لأنه إنما كان على وجه الاستخفاف بالرسل والتمرد لا على طلب الزيادة في العلم، ولو كان طلب الرؤية ممتنعا في ذاته لمنعهم موسى عليه السلام عن ذلك، كما منعهم حين طلبوا أمرا ممتنعا، وهو أن يجعل لهم صنما إلها يعبدونه كما يفعل غيرهم إذ قال لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 139].

(1)((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (7/ 279).

(2)

((الفخر الرازي)) (14/ 235).

(3)

((المختصر في أصول الدين)) (191)، ((شرح الأصول الخمسة)) (262).

(4)

((الإبانة عن أصول الديانة)) (15).

ص: 455

ولا يتصور سكوت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن بيان الحق لأممهم وخاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية مما يجوز ويمتنع فلما لم يحصل من موسى عليه السلام إنكار على من طلب الرؤية دل ذلك على جوازها.

رابعا: من أدلتهم السمعية قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51].

ووجه الدلالة: أن الله تبارك وتعالى نفى كلامه لأحد من البشر إلا من هذه الطرق الثلاثة:

1 -

الوحي:

وهو القذف في الروع، أي أن الله تبارك وتعالى يقذف في قلب النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، وهو مثل ما حصل لأم موسى. أو يكون رؤيا منام ورؤيا الأنبياء وحي.

2 -

الكلام بلا وساطة ومن وراء حجاب:

وذلك مثل كلام اله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء، وكما كلم موسى عليه السلام، وقد سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها.

3 -

إرسال الرسل:

وهو الملك الذي ينزل بالوحي كما ينزل جبريل عليه السلام أو غيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وإذا لم يره من يكلمه في وقت الكلام لم يره في غيره إجماعا، وإذا لم يره هو أصلا لم يره غيره أيضا إذ لا قائل بالفرق (1)، يؤيد هذا ما جاء في حديث مسروق قال:(كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن، قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23]، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه فقال: ((إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض))، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] .... الحديث (2).والجواب: كما قال صاحب المواقف (أن التكليم وحيا وقد يكون حال الرؤية فإن الوحي كلام يسمع بسرعة وماذا فيه من الدليل على نفي الرؤية)(3).

واستدلال عائشة رضي الله عنها بالآية على نفي الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم لربه، هذا حق، لأن النفي منصب على وقوع الرؤية في الدنيا – ولم تقع لأحد على الصحيح – وليس لنفي جواز الرؤية مطلقا كما يستدل به النفاة من الجهمية والمعتزلة والإمامية وغيرهم وجمهور أهل السنة على أن الرؤية في الدنيا وإن كانت جائزة إلا أنها لم تقع فيها.

‌المصدر:

رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها لأحمد بن ناصر آل حمد – ص26

(1)((شرح المواقف)) (8/ 142).

(2)

رواه مسلم (177).

(3)

((شرح المواقف)) (8/ 143).

ص: 456