الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا
؟ ذهب جماعة من المتكلمين منهم الرازي والجويني وغيرهما إلى أن الخلاف في مسالة زيادة الإيمان ونقصانه عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان، أي أن من قال إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل فالإيمان عنده يزيد وينقص باعتبار زيادة الأعمال ونقصانها، ومن أخرج العمل من مسمى الإيمان عنده لا يزيد ولا ينقص لعدم إمكان حصول الزيادة والنقصان في التصديق لما يقتضيه في رأيهم من الشك والريب (1).قال الجويني:"فمن أطلق اسم الإيمان على الطاعات كلها يقول على مساق أصله يزيد الإيمان بزيادة الطاعات وينقص بنقصها، ومن قال الإيمان هو التصديق فمن علم وعرف حقاً فلم يتفاوت التصديق بالأعمال زادت أو نقصت"(2).وقال البيهقي في باب "القول في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهل الإيمان في إيمانهم" من شعبه: "وهذا يتفرع على قولنا في الطاعات أنها إيمان، وهو أنها إذا كانت إيماناً كان تكاملها تكامل الإيمان وتناقصها تناقص الإيمان، وكان المؤمنون متفاضلين في إيمانهم كما هم يتفاضلون في أعمالهم"(3).وقال الإيجي: "قال الإمام الرازي وكثير من المتكلمين: هو فرع تفسير الإيمان، فإن قلنا هو التصديق فلا يقبلها لأن الواجب هو اليقين وأنه لا يقبل التفاوت لأن التفاوت إنما هو لإحتمال النقيض وهو لو بأبعد وجه ينافي اليقين، وإن قلنا هو الأعمال فيقبلهما وهو ظاهر"(4).
وجميع هؤلاء بنوا قولهم المذكور على أصل فاسد عندهم وهو أن التصديق لا يقبل الزيادة أو النقصان، وقد سبق أن رددت هذا القول وبينت فساده بالنقل عن العلماء المحققين في ذلك، بما لا يدع مجالاً للتردد في أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان دون أن يقتضي ذلك شكاً أو ريباً في الإيمان. لكن أضيف إلى ما تقدم أمرين:
الأول: ما ذكره السفاريني حول هذه المسألة على الخصوص حيث قال:"هل قبول الإيمان للزيادة والنقص مختص بقول السلف ومن تبعهم إن الإيمان تدخل فيه الأعمال .. أو يعم القول بأن الإيمان التصديق أيضاً؟ الحق كما قاله النووي وجماعة محققون من علماء الكلام أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان ولو قلنا: إنه التصديق والإذعان لأن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك
…
وما اعترض عليه به من أنه متى قبل ذلك كان شكاً، فمدفوع بأن مراتب اليقين متفاوته إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، مع أنها لا شك معها
…
" (5).
ثم ذكر بعض النصوص المؤيدة لذلك.
الثاني: ما ذكره الألوسي بعد أن أشار إلى القول المتقدم حيث قال:
(1) أنظر ((العقيدة النظامية)) للجويني (ص388)، و ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 159)، و ((المواقف)) للإيجي (ص388)، و ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص125)، و ((النبراس شرح العقائد)) للفرهاري (ص405)، و ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 116)، و ((عمدة القاري)) للعيني (1/ 107)، و ((فيض الباري)) للكشميري (1/ 62)، و ((الإيمان)) لمحمد نعيم ياسين (ص151).
(2)
((العقيدة النظامية)) للجويني (ص90).
(3)
((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 159).
(4)
((المواقف)) للإيجي (ص 388).
(5)
((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 430، 431).
"واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولاً فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصاً، وأما ثانياً فلأن أحداً لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتقاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه، فلا يلزم عند الانتفاء الكمال، وهو غير قادح في أصل الإيمان"(1).
قلت: وإنما سقت الاعتراض مع الجواب عنه ليعلم فقط، لا لكونه متوجهاً. ثم قال الألوسي: "والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفاً كما في التصديق بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير
…
" (2).
وقال: "قال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام: إن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أ، ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكاً، ودفع بأن مراتب اليقين متفاوته إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، مع أنها لا شك معها، وممن وافق النووي على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه"(3).
قلت: وبهذا يعلم فساد حمل القول بزيادة الإيمان ونقصانه على القول بإدخال العمل في مسمى الإيمان، لكن أزيد الأمر بياناً وتأكيداً فأقول: إن القول بأن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه عائد إلى تعريف الإيمان متعقب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: هو أن السلف وقد قالوا بدخول العمل في مسمى الإيمان لا يرون أن الزيادة والنقصان فيه متعلقة بالأعمال فقط، وإنما هو يزيد وينقص عندهم باعتبارات معتددة وبأوجه مختلفة سبق ذكرها والتدليل عليها في مبحث مستقل.
فعلى هذا فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه عند السلف ليس مبنياً على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان.
الثاني: أن بعض من اعتبر أن الإيمان هو التصديق فقط والعمل خارج من مسماه، يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه لكونهم يرون أن التصديق يزيد وينقص، وقد سبقت الإشارة إلى بعضهم. وعليه أيضاً فالقول بزيادة الإيمان ونقصانه لا تعلق له عندهم في دخول العمل في مسمى الإيمان.
الثالث: أن الخوارج والمعتزلة وقد قالوا بدخول العمل في مسمى الإيمان يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مع أن الأعمال داخلة فيه، كما سبق ذكر مذهبهم. فلا تأثير إذن لدخول الأعمال في مسمى الإيمان عندهم على زيادة الإيمان ونقصانه. بقي أن يقال إن المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق وحده، أو هو التصديق والقول، والعمل خارج من مسماه، والقائلين بأن التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان مطلقاً، قد رأوا أن الأعمال تزيد وتنقص وتتفاضل لكنها خارجة عن مسماه عندهم، فتوهموا أن من أدخل العمل في مسماه قال بزيادة الإيمان ونقصانه لذلك، وأن من أخرج العمل من مسماه قال بأنه لا يزيد ولا ينقص، وعليه رأوا أن الخلاف في المسألة يرجع إلى الخلاف في تعريف الإيمان ومن ثم أيضاً رأوا أن الخلاف في المسألة لفظي، فكل ذلك نتج بسبب ذاك التوهم ولقد انطبق عليهم في هذا قول القائل:"أناس مضوا تحت التوهم ظنوا أن الحق معهم وكان الحق وراءهم"(4)!!.
المصدر:
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - ص 435
(1)((روح المعاني)) للألوسي (9/ 166، 167)، و (26/ 92، 93).
(2)
((روح المعاني)) للألوسي (9/ 167).
(3)
((روح المعاني)) للألوسي (26/ 93).
(4)
انظره في ((سير أعلام النبلاء)) (17/ 121)، وقد تعتب الذهبي قائله بتعقب مليح، فليطالع.