الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية
ذهبت الجهمية إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وأنه لا يكفر بكبيرته ولا يرتد، وأنه يجتمع فيه الثواب والعقاب، والحمد والذم، وأن من أهل الكبائر من يدخل النار، ولا يخلد فيها.
هذه هي مقالة الجهمية في متركب الكبيرة، ومنه يتبين أن نزاعهم فيه نزاع في الاسم لا الحكم، وبالتالي فهم موافقون لسائر المرجئة في هذه المسألة.
يقول شيخ الإسلام في تقرير ذلك.
"وكل أهل السنة متفقون على أنه - يعني مرتكب الكبيرة - قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد. وإنما ينازعون في ذلك من يقول: الإيمان لا يتبعض، من الجهمية، والمرجئة، فيقولون: إنه كامل الإيمان"(1).
ويقول: "الناس في الفاسق من أهل الملة - مثل: الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم - ثلاثة أقسام: طرفين، ووسط"، ثم ذكر الطرف الأول، وهم الخوارج والمعتزلة ومقالتهم في مرتكب الكبيرة، ثم قال:
"الطرف الثاني: قول من يقول إيمانهم باق كما كان لم ينقص؛ بناء على أن الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام. وهذا قول المرجئة، والجهمية، ومن سلك سبيلهم"(2).
ويقول: "وقالت المرجئة، مقتصدتهم، وغلاتهم، كالجهمية: قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها، كما تواترت بذلك الأحاديث. وعلمنا بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة أنهم ليسوا كفار مرتدين، فإن الكتاب قد أمر بقطع السارق لا بقتله، وجاءت السنة بجلد الشارب لا بقتله، فلو كان هؤلاء كفارا مرتدين لوجب قتلهم"(3).
ويقول: "وإنما أوقع هؤلاء كلهم - يعني المرجئة - ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم: أن الإيمان لا يتبعض، بل إذا اذهب بعضه ذهب كله. ومذهب أهل السنة والجماعة: أنه يتبعض، وأنه ينقص، ولا يزول جميعه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من الإيمان)) (4).
فالأقوال في ذلك ثلاثة:
الخوارج والمعتزلة: نازعوا في الاسم والحكم، فلم يقولوا بالتبعيض، لا في الاسم ولا في الحكم، فرفعوا عن صاحب الكبيرة اسم الإيمان بالكلية، وأوجبوا له الخلود في النار.
وأما الجهمية، والمرجئة: فنازعوا في الاسم لا في الحكم، فقالوا: يجوز أن يكون مثابا معاقبا، محمودا مذموما، لكن لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض" (5).
ويقول: "وقول المعتزلة، والخوارج، والكرامية، في اسم الإيمان والإسلام أقرب إلى قول السلف من قول الجهمية، لكن المعتزلة والخوارج يقولون بتخليد العصاة، وهذا أبعد عن قول السلف من كل قول، فهم أقرب في الاسم وأبعد في الحكم. والجهمية وإن كانوا في قولهم بأن الفساق لا يخلدون أقرب في الحكم إلى السلف، فقولهم في مسمى الإسلام والإيمان وحقيقتهما أبعد من كل قول عن الكتاب والسنة، وفيه من مناقضة العقل والشرع واللغة ما لا يوجد مثله لغيرهم"(6).
هذه هي مقالة الجهمية في مرتكب الكبيرة حسبما جاء عند شيخ الإسلام رحمه الله، وقد ذكر شيخ الإسلام أن بعضهم يتوقف في حصول الوعيد في مرتكب الكبيرة.
(1)((الإيمان)) (ص244)((الفتاوى)) (7/ 258).
(2)
((الفتاوى)) (7/ 671).
(3)
((الفتاوى)) (13/ 48)؛ وانظر نحوه في: ((الإيمان)) (ص337 - 338)((الفتاوى)) (7/ 353 - 354).
(4)
رواه الترمذي (2593) ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال حديث حسن صحيح، وصححه الألباني، وقال في ((السلسلة)) (2450): صحيح على شرط الشيخين.
(5)
((شرح الأصبهانية)) (2/ 586 - 587)، (ص143 - 144) ت مخلوف.
(6)
((الإيمان)) (ص151 - 152)((الفتاوى)) (7/ 158 - 159).
يقول رحمه الله: "وكثير من المرجئة، والجهمية من يقف في الوعيد، فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر. كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة، والأشعرية، كالقاضي أبي بكر، وغيره"(1).والتوقف في نفوذ الوعيد قول لفريق من المرجئة يسمون الواقفة وقد ذكر شيخ الإسلام أنهم سلكوا في الإيمان والوعيد مسلك الجهمية الغلاة، كجهم وأتباعه (2)، ومن أشهر من يمثل هذا المذهب القاضي الباقلاني الأشعري، وسيأتي شرح قولهم في المبحث الخاص عن الأشاعرة في مرتكب الكبيرة بعون الله تعالى.
وما مضى فيه تصحيح لما اشتهر عن عامة الجهمية، بل وعامة المرجئة، أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد.
ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام مهم حول هذه المقولة، فقد أفاد أنها تنسب للمرجئة في كلام الرادين عليها، مع أنه لا يعرف معينا يحكيها عنه.
يقول رحمه الله: "والمقصود هنا أنه لم يثبت المدح إلا على إيمان معه العمل، لا على إيمان خال عن عمل، فإذا عرف أنه الذم والعقاب واقع في ترك العمل كان بعد ذلك نزاعهم لا فائدة فيه، بل يكون نزاعا لفظيا، مع أنهم مخطئون في اللفظ، مخالفون للكتاب والسنة.
وإن قالوا: إنه لا يضره ترك العمل، فهذا كفر صريح. وبعض الناس يحكي هذا عنهم، وأنهم يقولون: إن الله فرض على العباد فرائض ولم يرد منهم أن يعملوها، ولا يضرهم تركها (3).وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون: لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، لكن ما علمت معينا أحكي عنه هذا القول، وإنما الناس يحكونه في الكتب، ولا يعنون قائله، وقد يكون قول من لا خلاق له من الفساق والمنافقين، يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، أو مع التوحيد، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا" (4).ويقول:"وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار، ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه، ومن الناس من يحكيه عن مقاتل بن سليمان، والظاهر أنه غلط عليه"(5).
ويقول: "ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة.
وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله. وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام" (6).وقال:"وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة، فهذا لا تعرفه قولا لأحد"(7).
وقال: "وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة. ومن صرح بالكفر: أنكر الوعيد في الآخرة رأسا، كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية"(8).
(1)((شرح الأصبهانية)) (2/ 587)، (ص143/ 144) ت مخلوف؛ وانظر: مجموعة ((الفتاوى الكبرى)) 1/ 363؛ و ((مختصر الفتاوى))، (ص575 - 578)؛ وهو في ((المستدرك على الفتاوى)) (3/ 96 - 97)؛ وانظر:((جامع الرسائل)) (1/ 111).
(2)
انظر: ((الفتاوى)) (14/ 347 - 348).
(3)
انظر: ((الإبانة الكبرى)) (2/ 893).
(4)
((الإيمان)) (ص172)((الفتاوى)) (7/ 181).
(5)
((منهاج السنة)) (5/ 286)؛ ونحوه في: ((الفتاوى)) (16/ 196)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 363 - 364).
(6)
((الإيمان)) (ص282)((الفتاوى)) (7/ 297)؛ وانظر: ((جامع المسائل)) (3/ 231).
(7)
((الإيمان الأوسط)) ضمن ((الفتاوى)) (7/ 501 - 502)(ص361) ط. ابن الجوزي".
(8)
((الفتاوى)) (16/ 242).
ومما تقدم يعلم أن مقولة "لا يضر مع الإيمان أو مع التوحيد ذنب، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد"، إن صحت نسبتها لأحد، فهي لغلاة المرجئة، كما قال شيخ الإسلام. وهذا الوصف "غلاة المرجئة" يطلقه شيخ الإسلام على الجهمية، وعلى الواقفة الذين يتوقفون في نفوذ الوعيد، وعلى الغلاة الذين يجزمون ينفيه (1).
فأما الجهمية، فتقدم أنهم يعدون مرتكب الكبيرة مؤمنا كامل الإيمان، ويقرون بخروجه من النار، وأنه لا يخلد فيها، وأن نزاعهم فيه في الاسم لا في الحكم كما قال شيخ الإسلام.
وأما الواقفة، فسيأتي تحرير مذهبهم في المبحث الخامس من هذا الفصل بعون الله تعالى. فلم يبق حينئذ سوى غلاة المرجئة الذين تنسب إليهم تلك المقولة، وقد ذكر الأشعري عن فرقة من المرجئة لم يسمها أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان عمل، ولا يدخل النار أحد من أهل القبلة (2).وذكر الشهرستاني عن فرقة اليونسية أنهم يقولون: إن ما سوى المعرفة من الطاعة ليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان، ولا يعذب على ذلك (3).وعامة الكتب المقالات لم يذكروا هذه المقالة عن اليونسية، وإنما ذكرها بعض من جاء بعد الشهرستاني (4)، فقد يكون نقلها عنه، والله أعلم. وكذلك نسب الشهرستاني إلى فرقة العبيدية أنهم يقولون: إن العبد إذا مات على توحيده لم يضره ما اقترف من الآثام، واجترج من السيئات (5).وهذه الفرقة لم يسبق الشهرستاني أحد بذكرها، وتابعه بعض من جاء بعده (6)، فيبقى في نسبة المقالة إليهم وقفه.
المصدر:
آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 507
(1) انظر: ((الإيمان)) (ص282)((الفتاوى)) (7/ 297)؛ و ((الفتاوى)) (13/ 48).
(2)
انظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 228).
(3)
انظر: ((الملل والنحل)) (138).
(4)
انظر: ((المواقف في علم الكلام)) (ص427)؛ و ((تلخيص البيان)) (ص188)؛ و ((الفوائد المجتمعة في بيان الفرق الضالة والمبتدعة))، لإسماعيل اليازجي، تحقيق الدكتور يوسف السعيد، الطبعة الأولى 1424هـ، دار أطلس الخضراء بالرياض (ص64).
(5)
انظر: ((الملل والنةحل)) (1/ 138).
(6)
انظر: ((منهج الشهرستاني في الملل والنحل)) (ص491 - 492).