المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: تعريف المرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء

- ‌المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

- ‌المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء

- ‌المبحث السابع: المرجئة الأولى

- ‌المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

- ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

- ‌المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية

- ‌المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية

- ‌المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

- ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان:

- ‌المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان

- ‌المبحث الخامس: أهمية عمل القلب

- ‌المبحث السادس: إثبات عمل القلب

- ‌المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب

- ‌المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

- ‌المبحث الأول: مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الكلابية

- ‌المبحث الرابع: الكرامية

- ‌المبحث الخامس: الأشاعرة

- ‌أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة:

- ‌المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: حجج المرجئة

- ‌المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة

- ‌الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة

- ‌المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية

- ‌المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية

- ‌المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة

- ‌المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

- ‌المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا

- ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

- ‌المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة

- ‌المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا

- ‌المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء

- ‌المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه

- ‌المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً

- ‌المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها

- ‌المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم

- ‌المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة

- ‌المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم

- ‌المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة

- ‌المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء

- ‌المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب:

- ‌المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد

- ‌المبحث التاسع: فرق المعتزلة

- ‌المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة

- ‌المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات

- ‌المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها

- ‌المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب

- ‌المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها

- ‌المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات

- ‌المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة

- ‌المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات

- ‌المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته

- ‌المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم

- ‌المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم

- ‌المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

- ‌الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم

الفصل: ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

إن الإيمان عند المرجئة مثله مثل أية نظرية فلسفية أو مقولة ذهنية متى بلغت إنسانا فصدق بها حصل المطلوب، فإذا زاد على ذلك بأن أخبر بلسانه عما في قلبه فقال:" صدقت أو أقررت "، فقد تم المراد ظاهرا وباطنا.

ومن ثم اعتقدوا إن قول: لا إله إلا الله، إنما هو إخبار عما في القلب من تصديق - إذ لا يثبتون من أعمال القلب سوى التصديق - فمتى تلفظ بها عندهم فقد أصبح مؤمنا باطنا وظاهرا ، بخلاف ما لو امتنع عن قولها ، فإنه عند من يكفره منهم كافر ظاهرا مع جواز كونه مؤمنا باطنا، وكذلك متى ارتكب فعلا مكفرا قالوا: يكفر ظاهرا فقط، وأما من ورد الوحي بنفي الإيمان عنه لارتكابه فعلا مكفرا " كإبليس "، أو امتناعه عن الشهادتين " كاليهود " فقالوا: هذا ليس في قلبه تصديق أصلا.

وفي هذا القول من المغالطات والمكابرة ما لا يخفى، والمراد هنا بيان غلطتهم في اعتبار قول: لا إله إلا الله، إخبار مجرد. وذلك أنه إذا تقرر أن المطلوب من القلب ليس مجرد التصديق بل هو أعمال عظيمة- نذكر طرفا منها عما قليل - فإن قول اللسان لا يبقى خبرا مجردا، بل يصبح إنشاء للالتزام وإعلانا له (1)، ومن ثم كان لا بد أن يصدق العمل ذلك الالتزام أو يكذبه.

(1) وهو إنشاء متضمن للإخبار، ((الإيمان الأوسط)) (ص 102)

ص: 95

وإنما حصل الإخبار المجرد من بعض أحبار اليهود ومن بعض كفار قريش، حيث ثبت إقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عما في نفوسهم من اعتقاد صدقه في كل ما يقول، ولم يثبت لهم ذلك إسلاما قط. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال:((قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى النبي (أو إلى هذا النبي) حتى نسأله عن هذه الآية وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]، فقال: لا تقل نبي، فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين فسألاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تشركوا بالله ولا تسرقوا ولا تزنوا)) الحديث. إلى إن قال: فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد انك نبي، قال: فما يمنعكما إن تتبعاني قالا: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود)) (1). قال شيخ الإسلام في معرض رده علي المرجئة:" وأيضا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد انك رسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك علي سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم انك رسول الله، قال:" فلم لا تتبعوني؟ " قالوا: نخاف من اليهود، فعلم إن مجرد العلم والإخبار - أي عن العلم - ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم "(2).وإنما " اتفق المسلمين على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر"(3). وأن " من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شىء من أحكام الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لأنه من حيث البديهة والعقل نعلم " أن من آمن بقلبه إيمانا جازما امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام " (4).

ويقول شيخ الإسلام في بيان هذه العلاقة: " ونظير هذا لو قيل: أن رجلا من أهل السنة قيل له ترض عن أبى بكر وعمر، فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاد فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضى عنهما فهذا لا يقع قط، وكذلك لو قيل: أن رجلا يشهد أن محمدا رسول الله باطنا وظاهرا، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمدا رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذى لا نجاه للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية - جهما ومن وافقه - (وهم الأشاعرة كما ذكر قبل ذلك في أول الفصل). وقال: (فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة - وهم جهمية المرجئة كجهم والصالحي واتباعهما - (وهم من ذكرنا) إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن، وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقا وحبا بدون الإقرار الظاهر ممتنع "(5).

(1) رواه الترمذي (3144) والنسائي (4078) وأحمد (4/ 239) وقال الترمذي: حسن صحيح. وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (3144) وأما استشكال الحافظ ابن كثير لمتنه كما في (5/ 124) فله جوابه، ولا يقدح في مرادنا هنا منه، وهو اقوي في الدلالة مما رواه مسلم عن ثوبان رقم (315)، لان ذلك الخبر قال في أوله:" اسمع بإذنى "، فصرح بعدم إيمانه.

(2)

((الإيمان)) (ص 135)

(3)

((الإيمان)) (ص287)

(4)

((الإيمان الأوسط)) (ص 95)

(5)

((الإيمان الأوسط)) (ص 151)

ص: 96

فإذا تبين أن قول: لا إله إلا الله إنشاء للالتزام بقول القلب وعمله وتحقيقهما، فلنوضح هذه القضية المهمة قائلين:

إن القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادى

وعمل القلب: وهو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي.

فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها، والملائكة وأعمالهم وصفاتهم، والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة، والمقادير وسائر المغيبات.

فالإقرار بهذا والتصديق به مجملا أو مفصلا هو قول القلب، وهو التوحيد الخبرى الاعتقادى. وعمل القلب - الذى سيأتى تفصيل طرف منه في البحث التالى - يتضمن توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حبا وخوفا ورجاء ورغبة ورهبة وإنابة وتوكلا وخشوعا واستعانة ودعاء وإجلالا وتعظيما وانقيادا، وتسليما لأمره الكونى وأمره الشرعى، ورضا بحكمه القدرى والشرعى، وسائر أنواع العبادة التى صرفها لغير الله شرك. (1).

وهذان هما نوعا التوحيد الذى جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التى هى رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هى إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط.

وقد سبق في فصل " حقيقة النفس الإنسانية " ما يدل على أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما في القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعى أو العرفى وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين.

فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شئ في الوجود، الذى يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهى شهادة أن لا إله إلا الله؟!

ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد.

فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة- الآتى حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة. وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث (قال موسى: يا رب علمنى شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! - زاد في رواية: إنما أريد أن تخصنى به - قال: يا موسى، لو أن السموات السبع - وعامرهن غيرى - والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفه مالت بهن لا إله إلا الله " (2).

فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله)، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التى لا تكاد ترى.

(1) كما يتضمن عمل القلب أعمالا دون ذلك مما افترضها الله وجعلها من واجبات الإيمان، كمحبة المؤمنين والنصح لهم، والتواضع، والشفقة، واجتناب الكبر والحسد، ونحو ذلك.

(2)

فى سنده رجل ضعيف عند أبن حبان (2324)، لكن روى الإمام أحمد بسند صحيح ما يشهد له من حديث نوح عليه السلام وابنه، ((المسند)) (2/ 169).

ص: 97

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدرى، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وأخر: كالسراج المضىء، وأخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذى لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه ، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره "." وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شىء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، واخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصى والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبى صلى الله عليه وسلم:((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله)) (1). وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التى أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة ".

" والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنه من النفى والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التى يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم:((من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة حطت عنه خطاياه - أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)) (2) وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان.

نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

وتأمل حديث البطاقة التى توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب.

ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذى ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.

(1) رواه البخاري (425) مسلم (33).

(2)

رواه البخاري (6405) مسلم (2691).

ص: 98

وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معوض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعى قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟

وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التى لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته - وهو في تلك الحال - على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر أخر، وإيمان أخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها.

وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت - مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها - ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها.

فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان" (1)

‌المصدر:

ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 531

(1)((مدارج السالكين)).

ص: 99