الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة
حديث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن قول الأشاعرة في مرتكب الكبيرة يفيد أنهم في ذلك فريقان:
الفريق الأول: موافق لما عليه عامة المرجئة في مرتكب الكبيرة.
وهذه هي المقالة التي نسبها شيخ الإسلام إلى الأشاعرة، وإلى إمامهم أبي الحسن الأشعري. فقد ذكر شيخ الإسلام أن أبا الحسن الأشعري" نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار، وتقبل فيهم الشفاعة، ونحو ذلك"(1).وأنه "رجع إلى مذهب أهل الإثبات الذين يثبتون الصفات، والقدر، ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار، ولا يخرجون أحدا من الإيمان"(2).
وعن موقف الأشاعرة عامة يقول: "وأما أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم، فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه:
فقالت المرجئة - جهميتهم، وغير جهميتهم -: هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه ناقص الإيمان" (3).
ولما قال ابن المطهر الرافضي: "إن الله يثيب المطيع، ويعفو عن العاصي، أو يعذبه".علق شيخ الإسلام على ذلك بقوله: "فهذا مذهب أهل السنة الخاصة، وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة، كالكلابية، والكرامية، والأشعرية، والسالمية، وسائر فرق الأمة من المرجئة (4)، وغيرهم، والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون بتخليد أهل النار"(5).
وأما أصل الضلال في هذه المسألة، فقد سبق قول شيخ الإسلام:
"وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء، ثم ذكر رأي الخوارج والمعتزلة، ثم قال:"وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (6).
ومما تقدم يعلم أن المشهور عن الأشاعرة هو موافقة سائر المرجئة في مرتكب الكبيرة.
الفريق الثاني: الواقفة، ومنهم القاضي أبو بكر الباقلاني.
ومذهبهم يشرحه شيخ الإسلام بقوله:
"وكثير من متكلمة المرجئة تقول: لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار، ولا أن أحدا منهم لا يدخلها، بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق، ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم، ويجوز دخول بعضهم.
(1)((الإيمان)) (ص115)((الفتاوى)) (7/ 120).
(2)
((بيان تلبيس الجهمية)) (2/ 88).
(3)
((الإيمان)) (ص338)((الفتاوى)) (7/ 354).
(4)
فيدخل فيهم الماتريدية، وانظر:((الماتريدية))، للحربي، (ص485 - 486).
(5)
((منهاج السنة)) (2/ 302)؛ وانظر: ((عقيدة الشيرازي))، الملحقة بكتابه:((الإشارة إلى مذهب أهل الحق))، تحقيق محمد الزبيدي، الطبعة الأولى 1419هـ، دار الكتاب العربي ببيروت، (ص298 - 299)؛ و ((أصول الدين))، للبزدوي، (ص131، 138).
(6)
((الإيمان)) (ص210)((الفتاوى)) (7/ 223).
ويقولون: من أذنب وتاب، لا يقطع بقبول توبته، بل يجوز أن يدخل النار أيضا. فهم يقفون في هذا كله؛ ولهذا سموا الواقفة، وهذا قول القاضي أبي بكر، وغيره من الأشعرية، وغيرهم" (1).
ويقول رحمه الله: "وكثير من المرجئة، والجهمية من يقف في الوعيد، فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر. كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة، والأشعرية، كالقاضي أبي بكر، وغيره"(2).
فخلاصة مذهب الواقفة هو التوقف في أحكام الفساق:
فهم متوقفون في قبول توبة الفاسق، فعندهم قد تقبل توبته من ذنبه، وقد يعذب عليه، وهم متوقفون في دخول الفساق النار، فعندهم قد يدخلون كلهم النار، وقد يدخل بعضهم، وقد لا يدخل أحد منهم فيها، فلم يجزموا بنفوذ الوعيد في حق أحد من الفساق.
(1)((منهاج السنة)) (5/ 284)؛ وانظر منه (3/ 462 - 463)؛ و ((شرح الأصبهانية)) (2/ 587) " (ص143 – 144) مخلوف؛ ومذهب الباقلاني أنظره في كتابه: ((التمهيد)) (ص403، 404، 410، 415).
(2)
((شرح الأصبهانية)) (2/ 587)، (ص143 - 144) ت مخلوف؛ وانظر:((الفتاوى)) (14/ 346 - 347) ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) 1/ 363؛ ومختصر ((الفتاوى))، (ص575 – 578)؛ وهو في:((المستدرك على الفتاوى)) (3/ 96 - 97).
وهذا المذهب جاء مقابلا لمذهب الوعيدية في مرتكب الكبيرة، فإن الوعيدية يرون خلود من دخل النار فيها حتى لو كان موحدا، ويوجبون العذاب في حق أهل الكبائر؛ لشمول نصوص الوعيد فيهم. ويرون أن نصوص الوعد لا تتناول إلا مؤمنا، والفساق ليسوا بمؤمنين، فلا يدخلون في الوعد؛ لأنهم لا حسنات لهم؛ لأنهم لم يكونوا من المتقين، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، وقال: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 28]، فهذه النصوص وغيرها تدل على أن العمل لا يقبل إلا مع التقوى، والوعد إنما هو للمؤمن، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين، وأن فعل السيئات يحبط الأعمال (1).وأولوا قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] على أن السابقين هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد، أو الظالم لنفسه لا يدخلها (2).فهنا عارضهم واقفة المرجئة وغلاتهم بنصوص الوعد، فإنها قد تتناول كثيرا من أهل الكبائر (3).وأمام دعوى الوعيدية أن نصوص الوعيد عامة، فتشمل أهل الكبائر، قابلهم غلاة المرجئة، فأنكروا العموم، وقالوا: ليس في اللغة عموم، وإنما التزموا ذلك؛ لئلا يدخل جميع المؤمنين في نصوص الوعيد (4).وأولوا قوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، بأن المراد به: من اتقى الشرك والكفر، وقالوا: الأعمال لا تحبط بمجرد السيئات، وإنما تحبط بالكفر فحسب، كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]، وقال: وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5](5).وقالوا: إن قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر: 32 - 33]، إخبار من الله تعالى أن الثلاثة يدخلون الجنة، لا السابق فقط كما زعمت الوعيدية (6).واستدل بعض من أنكر دخول أحد من المحدين النار بقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16]، فقالوا: إن النار لا يدخلها إلا الكافر، والموحد ليس كذلك (7).
(1) انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 284 - 285)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن:((الفتاوى)) (7/ 494 - 495)، (ص346 - 347) ط. ابن الجوزي.
(2)
انظر: ((الفتاوى)) (11/ 184).
(3)
انظر: ((الفتاوى)) (12/ 481)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 284)؛ و ((الفتاوى)) (8/ 270)، (14/ 347)؛ و ((مختصر الفتاوى))، (ص251 - 252)؛ وهو في:((المستدرك على الفتاوى)) (1/ 123).
(4)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 293)؛ و ((المسودة)) (1/ 238)؛ و ((الفتاوى)) (31/ 105).
(5)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 284، 286)؛ و ((الإيمان))، ضمن:((الفتاوى)) (7/ 494 - 495)، (ص346 - 347) ط. ابن الجوزي.
(6)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 286).
(7)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 287)؛ و ((الفتاوى)) (16/ 197)؛ و ((زاد المسير في علم التفسير)) (9/ 151 - 152)؛ و ((الجامع لأحكام القرآن)) (20/ 59).
فهذا ملخص مذهب الفريقين في الوعد والوعيد، ويهمنا هنا مناقشة مذهب هؤلاء غلاة المرجئة، ويمكن ترتيب ذلك فيما يلي: أولاص: بينما الوعيدية غلوا، فأدخلوا العصاة في نصوص الوعيد، وأخرجوهم من نصوص الوعد، عارضتهم غلاة المرجئة، فقصروا حين أدخلوهم في نصوص الوعد، وأخرجوهم من نصوص الوعيد، فهما مذهبان متقابلان يدوران بين الإفراط والتفريط، ورحم الله شيخ الإسلام عندما قال:"ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسنة، مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثالة ذرة من إيمان"(1).
ثانياً: في إنكار غلاة المرجئة للعموم يقول شيخ الإسلام:"ومن أهل المرجئة من ضاق عظمته لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه؛ فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع، فكانوا فيما فروا منه إلى من هذا الجحد، كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولو اهتدوا للجواب السديد للوعيدية: من أن الوعيد في آية، وإن كان عاما مطلقا، فقد خصص وقيد في آية أخرى، جريا على السنن المستقيمة أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان متعينا، تقييدا للوعيد المطلق"(2).وقد تقدم تفصيل مطول لمعنى هذه الجملة، وأنه لا يحتاج الأمر في رد مقالة الوعيدية إنكار العموم كما وقعت فيه هذه الشرذمة (3)، فإن ذلك يستلزم تعطيل نصوص الوعد والوعيد، فلا تبقى خاصة ولا عامة (4).
والوجه الحق في فقه الجمع بين هذه النصوص هو أنها نصوص مطلقة عامة، وأنها أسباب لحصول مقتضاها على المعين، لكن هذا العموم مخصص بنصوص أخرى بينت أن المعين لا يلحقه عموم هذه النصوص وإطلاقها إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع.
ثالثاً: توقف هؤلاء في عصاة الموحدين، منقوض بتظافر النصوص على خلافه، إذا إنها دلت على قبول الله تعالى توبة من تاب من عباده، وكذلك دلت على أن من العصاة من سيدخل النار قطعا، ومنهم من يغفر له.
يقول شيخ الإسلام: "في قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الزمر: 53 - 55].
قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آية النساء، وهي قوله: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضا بنصوص القرآن، واتفاق المسلمين.
وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق.
هذه خص فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علقه بالمشيئة، فقال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48].
وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية - يعني آية النساء - كما ترد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.
فهي ترد أيضا على المرجئة الواقفية الذين يقولون: يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع.
(1)((الفتاوى)) (18/ 191 - 192).
(2)
((الفتاوى)) (6/ 441).
(3)
كما وصفهم بذلك شيخ الإسلام في: ((الفتاوى)) (12/ 482).
(4)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 294).
فإنه قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، فأثبت أن ما دون ذلك فهو مغفور، لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله: لِمَن يَشَاء.
فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك، وأن المغفرة هي لمن يشاء دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس، وحينئذ فمن غفر له لم يعذب، ومن لم يغفر له عذب. وهذا مذهب الصحابة، والسلف، والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار، وبعضهم يغفر له" (1).
وقال: "وقد دل على فساد قول الطائفتين - يعني الوعيدية والواقفة من المرجئة -: قول الله تعالى في آيتين من كتابه.
وهو قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب، فلا تعلق بالمشيئة.
ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]، فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له.
ففي آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه، كتعطيل الخالق، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم مغفور له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة. وقوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48] دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والوقف العام" (2).
ويقول رحمه الله تعالى: "وأيضا فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين:
الوعيدية الذين يقولون من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها.
وعلى المرجئة الواقفة، الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا؟ كما يقول ذلك طوائف من: الشيعة، والأشعرية، كالقاضي أبي بكر، وغيره" (3).
ويقول: "وهذا المعنى - خروج الموحد من النار - مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل متواتر في أحاديث كثيرة من الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما، وفيها الرد على طائفتين:
على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون إن أهل التوحيد يخلدون فيها، وهذه الآية حجة عليهم.
وعلى من حكي عنه من غلاة المرجئة أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فإن إخباره بأن أهل التوحيد يخرجون منها بعد دخلوها، تكذيب لهؤلاء وأولئك.
(1) تفسير آيات أشكلت (1/ 293 - 296)؛ وهو في: ((الفتاوى)) (16/ 18 - 19)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (4/ 475 - 18/ 191 - 192)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن:((الفتاوى)) (7/ 501 - 502، ص360 - 361) ط. ابن الجوزي.
(2)
((الفتاوى)) (11/ 184 - 185).
(3)
((الإيمان الأوسط))، ضمن:((مجموع الفتاوى)) (7/ 486)، (ص331 - 332) ط. ابن الجوزي.
وفيه رد على من يقول: يجوز أن لا يدخل الله من أهل التوحيد أحدا النار.
كما يقوله طائفة من المرجئة الشيعة، ومرجئة أهل الكلام المنتسبين إلى السنة، وهم الواقفة من أصحاب أبي الحسن وغيرهم، كالقاضي أبي بكر، وغيره. فإن النصوص المتواترة تقتضي دخول بعض أهل التوحيد وخروجهم" (1).
وخلاصة هذا الرد في الوجوه التالية:
1 -
أن قوله تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ يدل على بطلان قول المرجئة أنه يجوز أن لا يغفر لأحد.
ويدل على أن المغفرة حاصلة للبعض ممن يشاء الله، ومن لم يشأ أن يغفر له يجوز أن لا يغفر لأحد.
ويدل على أن المغفرة حاصلة للبعض ممن يشاء الله، ومن لم يشأ أن يغفر له، فهو معذب.
2 -
أن قوله تعالى: لِمَن يَشَاء يدل على بطلان قولهم إنه يجوز أن يغفر لكل أحد.
3 -
أن قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ [الزمر: 53]، يدل على بطلان توقفهم في قبول توبة الله على المذنبين، فإن الآية تدل على أن كل من ارتكب ذنبا، سواء كان شركا فما دونه، ثم تاب منه، فإن الله يقبل توبته.
4 -
أن الأحاديث المتواترة في خروج العصاة من النار، وفي الشفاعة لمن دخلها بالخروج منها تبطل توقفهم في خروج أصحاب الذنوب من النار. والذي عليه أئمة السلف هو القطع بأن من تاب توبة نصوحا قبل الله توبته (2).
رابعا: تأويل المرجئة قوله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] بأن المراد به من اتقى الشرك، أجاب عنه شيخ الإسلام بقوله:
هذا خلاف القرآن، فإن الله تعالى قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [المرسلات: 41 - 42]، وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54]، وقال: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 1 - 4]، وقالت مريم: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا [مريم: 18]، ولم ترد الشركن بل أرادت التقي الذي يتقي، فلا يقدم على الفجور"، ثم قال:
"وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 - 71]، فهم قد آمنوا واتقوا الشرك، فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك.
(1)((الفتاوى)) (16/ 196).
(2)
انظر: الإيمان ص400 ((الفتاوى)) (7/ 418).
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102]، أفيقول مسلم: إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته؛ لكونهم لم يشركوا؟، وإن أهل الفواحش، وشرب الخمر، وظالم الناس اتقوا الله حق تقاته؟ "، ثم قال:"ومن أواخر ما نزل من القرآن - وقيل: إنها آخر آية نزلت (1) - قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك، وإن فعل كل ما حرم الله عليه، وترك كل ما أمر الله به؟ ".ثم ختم شيخ الإسلام جوابه بقوله:"وبالجملة، فكون المتقين هم الأبرار، الفاعلون للفرائض، المجتنبون للمحارم، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف، القرآن والأحاديث تقتضي ذلك"(2).
وقال أيضا: "قوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، أي ممن اتقاه في ذلك العمل، ليس المراد به الخلو من الذنوب، ولا مجرد الخلو من الشرك، بل من اتقاه من عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى؛ بدليل قوله: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114]، فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها.
وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة: الموازنة بين الحسنات والسيئات، فلو كانت الكبيرة تحبط بالحسنات لم تبق حسنة توزن معها. وقد ثبت في الصحيحين: أن بغيا سقت كلباش، فغر الله لها بسقيه" (3).
خامسا: ظن المرجئة أن العمل لا يحبط إلا بالكفر فقط. فيقال: إن الإيمان كله لا يزيله إلا الكفر المحض، الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان، وهذا هو الذي يحبط الأعمال، وأما ما دون ذلك، فقد يحبط بعض العمل، كما في قوله تعالى: لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [البقرة: 264]، فإن ذلك يبطل تلك الصدقة، لا يبطل سائر أعماله (4).
سادسا: استدلالهم بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر: 32 - 33] على أن الثلاثة يدخلون الجنة. يجاب عنه بأن هذا "لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا، ثم يدخلها"(5).
سابعاً: استدلال بعض المرجئة بقوله تعالى: فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14 - 16] على أن النار لا يدخلها إلا كافر.
أجيبوا عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن هذه نار مخصوصة بالكفار الأشقياء، ولغيرهم منازل أخرى.
والثاني: أن الموحدين لا يصلونها صلي خلود. وهذا أقرب، وتحقيقه أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها، والخلود على وجه يصل إليهم العذاب دائما، فأما من دخل النار وخروج، فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق، بحيث تحبط به من جميع جوانبه، فإنه قد ثبت أن الموحدين لا تأكل النار منهم مواضع السجود، والله أعلم (6).ومن خلال المباحث السابقة في مرتكب الكبيرة يتبين أن فرق المرجئة الذين درست أقوالهم في مرتكب الكبيرة، وهم رؤوس فرق الإرجاء، ليس لهم مخالفة في مرتكب الكبيرة إلا في اسمه، حيث يجعلونه مؤمنا كامل الإيمان، وإلا فهم يقولون بأن الفاسق مستحق للذم والعقاب، ومعرض للوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار (7).
المصدر:
آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص 517
(1) انظر: ((جامع البيان)) (3/ 136 - 137)، و ((زاد المسير)) (3/ 334 - 335).
(2)
((منهاج السنة)) (5/ 288 - 292)؛ وأنظر منه (6/ 216 - 217).
(3)
((منهاج السنة)) (5/ 296 - 297)، وانظر:((الإيمان الأوسط))، ضمن:((مجموع الفتاوى)) (7/ 495)، (ص347) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (12/ 483)؛ ومجموعة ((الفتاوى الكبرى)) (4/ 262).
(4)
انظر: ((منهاج السنة)) (5/ 298)؛ وانظر: ((مختصر الفتاوى))، (ص252)، وهو في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (1/ 124).
(5)
((منهاج السنة)) (5/ 298).
(6)
انظر: ((الفتاوى)) (161/ 197)؛ و ((منهاج السنة)) (5/ 298)؛ وراجع: ((تفسير الطبري)) (30/ 274)؛ و ((زاد المسير)) (9/ 151 - 152)؛ و ((الجامع لأحكام القرآن)) (20/ 59)؛ و ((تفسير ابن كثير)) (4/ 552).
(7)
انظر: ((الفتاوى)) (16/ 242).