المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث العاشر: الرد على الماتريدية في تفسيرهم لصفة "الألوهية" "بصفة" "الربوبية

- ‌مراجع للتوسع

- ‌المبحث الأول: تعريف المرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: أول نزاع وقع في الأمة وهو في مسألة الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: في ترتيب الفرق ظهورا وظلمة، وتحديد الزمن الذي ظهرت فيه بدعة الإرجاء

- ‌المبحث الخامس: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء

- ‌المبحث السادس: الخوارج ونشأة الإرجاء

- ‌المبحث السابع: المرجئة الأولى

- ‌المبحث الثامن: الإرجاء خارج مذهب الخوارج

- ‌المبحث التاسع: البدايات والأصول

- ‌المبحث العاشر: مؤسس هذه الطائفة

- ‌المبحث الحادي عشر: حول إرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية

- ‌المبحث الثاني عشر: في صلة المرجئة بالقدرية

- ‌المبحث الثالث عشر: أصول مذاهب المرجئة نظريا

- ‌المبحث الرابع عشر: الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

- ‌المبحث الخامس عشر: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

- ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

- ‌المبحث الثاني: علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

- ‌المبحث الثالث: العمل وتركه بالكلية كناقض من نواقض الإيمان:

- ‌المبحث الرابع: اللوازم المترتبة على إخراج العمل من الإيمان

- ‌المبحث الخامس: أهمية عمل القلب

- ‌المبحث السادس: إثبات عمل القلب

- ‌المبحث السابع: نماذج من أعمال القلوب

- ‌المبحث الثامن: أثر عمل الجوارح في أعمال القلب

- ‌المبحث الأول: مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الكلابية

- ‌المبحث الرابع: الكرامية

- ‌المبحث الخامس: الأشاعرة

- ‌أولا: مسمى الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: مفهوم الإرجاء عند بعض فقهاء أهل السنة، والفرق بينهم وبين غلاة المرجئة:

- ‌المطلب الثاني: مسمى الإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثالث: مسمى الإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الرابع: مسمى الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: حجج المرجئة

- ‌المبحث الأول: الإسلام والإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المطلب الأول: الإسلام والإيمان عند الجهمية

- ‌المطلب الثاني: الإسلام والإيمان عند الكرامية

- ‌المطلب الثالث: الإسلام والإيمان عند الأشاعرة

- ‌الفصل السادس: مفهوم الإيمان والكفر عند المرجئة

- ‌المبحث الأول: قول من قال الإيمان يزيد وتوقف في النقصان

- ‌المبحث الثاني: قول من قال الإيمان يزيد ولا ينقص، والرد عليه

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الرابع: زيادة الإيمان ونقصانه عند الجهمية

- ‌المبحث الخامس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الكرامية

- ‌المبحث السادس: زيادة الإيمان ونقصانه عند الخوارج والمعتزلة

- ‌المبحث السابع: في ذكر أدلتهم وشبههم وبيان بطلانها

- ‌المبحث الثامن: في بيان موقفهم من النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه، والرد عليهم

- ‌المبحث التاسع: في ذكر سبب نشوء الخلاف في هذه المسألة

- ‌المبحث العاشر: في ذكر هل الخلاف في هذه المسألة عائد إلى الخلاف في تعريف الإيمان أم لا

- ‌المبحث الحادي عشر: في الكلام عن الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو حقيقي

- ‌المبحث الأول: الاستثناء في الإيمان عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: الاستثناء في الإيمان عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: الاستثناء في الإيمان عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: حكم مرتكب الكبيرة عند مرجئة الفقهاء

- ‌المبحث الثاني: حكم مرتكب الكبيرة عند الجهمية

- ‌المبحث الثالث: حكم مرتكب الكبيرة عند الكرامية

- ‌المبحث الرابع: حكم مرتكب الكبيرة عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: موقف علماء السلف من الإرجاء والمرجئة

- ‌المبحث الثاني: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المرجئة إجمالا

- ‌المبحث الثالث: المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء

- ‌المبحث الرابع: فتوى اللجنة الدائمة في التحذير من مذهب الإرجاء وتحقيق النقل عن شيخ الإسلام فيه

- ‌المبحث الأول: تعريف المعتزلة لغةً واصطلاحاً

- ‌المبحث الثاني: أصل تسمية المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها

- ‌المبحث الرابع: تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم

- ‌المبحث الخامس: إبطال مزاعم الشيعة والمستشرقين حول نسبة المعتزلة إلى الصحابة

- ‌المبحث السادس: عوامل ظهور المعتزلة وانتشار أفكارهم

- ‌المبحث السابع: انتشار مذهب المعتزلة

- ‌المطلب الأول: دراسة نقدية لشخصية واصل بن عطاء

- ‌المطلب الثاني: دراسة نقدية لشخصية عمرو بن عبيد بن باب:

- ‌المطلب الثالث: بعض الأقوال التي انفرد فيها عمرو بن عبيد

- ‌المبحث التاسع: فرق المعتزلة

- ‌المبحث العاشر: أبرز ملامح الاعتزال

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من الصفات عامة

- ‌المطلب الأول: تقسيم المعتزلة للصفات

- ‌المطلب الثاني: رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها

- ‌المطلب الثالث: ذكر بعض أقوال المعتزلة التي فيها إشارة إلى شبهة التعدد والتركيب

- ‌المطلب الرابع: توضيح شبهة التركيب والرد عليها

- ‌المطلب الخامس: بيان تناقض المعتزلة في إثباتهم الأسماء ونفيهم الصفات

- ‌المطلب الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الثاني: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند المعتزلة

- ‌المطلب الثالث: وجه استدلال المعتزلة بدليل الأعراض وحدوث الأجسام على مذهبهم في الصفات

- ‌المطلب الأول: رأي العلاف في الصفات ومناقشته

- ‌المطلب الثاني: معاني معمر ومناقشتها

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم

- ‌المطلب الثاني: رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم

- ‌المبحث السابع: رأي المعتزلة في الرؤية مع ذكر أدلتهم ومناقشتها وذكر أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المطلب الأول: المذاهب في رؤية الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: نفاة الرؤية، وأدلتهم ومناقشتها

- ‌المطلب الثالث: الأدلة العقلية للمعتزلة

- ‌المطلب الرابع: أدلة أهل السنة على جواز الرؤية

- ‌المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

- ‌الفصل الثالث: الأصل الثاني العدل

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم

الفصل: ‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

‌المبحث الأول: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

إن العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح لمن أهم قضايا الإيمان، ومن عدم فهمها دخل الضلال على المرجئة بل على أكثر المسلمين، حين ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان في القلب مع عدم عمل الجوارح مطلقا. كما ظنوا أن تماثل الناس في أعمال الجوارح يقتضى تماثل إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه بحسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون الحكم على العمل والثواب عليه، فقد يتفق العملان في المظهر والأداء، وبينهما مثل ما بين السماء والأرض في الدرجة والأجر.

وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف.

فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معا، وتفصيل ذلك يتضح بهذا الشكل المبسط:

القول

إقرار القلب وتصديقه إقرار اللسان وتصديقه

الإيمان المجمل شهادة أن لا إله إلا الله

العمل

انقياد القلب وإذعانه انقياد الجوارح وامتثالها

بتحقيق أعمال القلوب بفعل الأوامر وترك النواهى

فهذان الركنان - القول والعمل - أو الأربعة الأجزاء - قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح - يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور، هذه الهيئة والحقيقة هي "الإيمان الشرعي" كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة في الأرض والساق والأغصان الظاهرة.

ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائى: مثلما يتركب الملح مثلا من الكلور والصوديوم أو يتركب جزيء الماء من ذرتى هيدروجين وذرة أكسجين بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقا وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماما.

ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد، بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلا من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص أو الاضمحلال والعدم.

وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضا أو نفلا في مسمى الإيمان المطلق ودخولها في حقيقته الجامعة، كما يظهر تفاوت الناس في الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملا وتسمية العمل إيمانا:

فأما تسمية الأعمال إيمانا فنصوص كثيرة جدا، حتى أن البخارى رحمه الله عقد في كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك: مثل (باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان) ونحو ذلك ، وأورد في ذلك الأحاديث الصحيحة التى شاركه في إخراجها كتب السنة الأخرى.

ص: 91

وأما تسميه الإيمان عملا فقد عقد أيضا له (باب من قال أن الإيمان هو العمل، لقوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92 - 93]: عن قول لا إله الله. وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]).ثم روى البخاري بسنده عن أبى هريرة ((أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل فضل؟ فقال " إيمان بالله ورسوله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله "، قيل: ثم ماذا؟ قال:"حج مبرور)) (1).وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبيدالله بين أسلم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وعن عبدالله بن حبشى الخثعمى (3) ورواه أبو داود الطيالسى عن أبى هريرة (4) أيضا ورواه غيرهم عن أبى ذر (5).

ومن ذلك قوله تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].

فقوله: بما عملوا يشمل إيمانهم بقلوبهم وأعمالهم الصالحة بجوارحهم المذكورين قبل. وهذا ما فهمه السلف الصالح وأجمعوا على معناه، قال الوليد بن مسلم:" سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد ابن عبدالعزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان "(6).

وقد سبق إيراد قول الإمام الأوزعي رحمه الله: " كان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل "، وقول الشافعي رحمه الله:" وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ أحد الثلاثة إلا بالآخر "(7).

ولنوضح ذلك بمثالين: أحدهما من أعمال الجوارح والأخر من أعمال القلوب، يظهر في كل منها حقيقة العلاقة التلازمية وحقيقة التفاوت:

1 -

الصلاة: وهي من أعمال الجوارح، وقد ورد تسميتها إيمانا في القران، قال تعالي: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس (8). وهي بلا ريب أعظم شعب الإيمان العملية الظاهرة بعد الشهادتين، فلو تأملنا لوجدنا أنها تشمل أجزاء الإيمان الأربعة، وهي قول القلب: وهو إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب: وهو الانقياد والإذعان بالإرادة الجازمة وتحريك الجوارح لفعلها والنية حال أدائها، وعمل اللسان: وهو القراءة والأذكار الواردة فيها، وعمل الجوارح: وهو القيام والركوع والسجود وغيرها.

(1) رواه البخاري (1519) ومسلم (83).

(2)

((المسند)) (4: 342)

(3)

(3:412)

(4)

(برقم 2518)(ص329)

(5)

انظر .. ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1490).

(6)

((اللالكائي)) (ص: 848)

(7)

(ص188) وانظر ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 57) و ((الإيمان)) لابن تيمية (ص280).

(8)

انظر ((الفتح)) (1/ 95) كما ورد تسميتها إيمانا في حديث وفد عبد الفيس السابق وغيره، ومع ذلك أخرج المرجئة الصلاة من الإيمان وأولو الآية بأن المراد ليس صلاتكم بل التصديق بها، انظر المواقف (ص 386)

ص: 92

2 -

الحياء: وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيمانا في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح، وبمقدار حياء الجوارح يقاس حياء القلب. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها في الأفعال قصة الثلاثة الذين دخلوا علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها وأعرض الثالث، وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صلي الله عليه وسلم ((وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه)) (1).، أي إنما منعه من الذهاب حياؤه ، فشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء بناء على فعله، فلو ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب.

وأما الحياء في القول، فمنه قول علي رضي الله عنه:(كنت رجلا مذاء، فاستحييت إن أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله)(2)، فما في قلب علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه، أي متي يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه.

ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء، فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له.

ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض أو فقدان بعضها بالكلية.

هذا في الأفعال، والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضا بمثالين:

1 -

ترك الزنا:

وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب، أي الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك؛ وعمل القلب، وهو الانقياد والإذعان بالكره والنفور والإرادة الجازمة لامساك الجوارح عنه؛ وعمل الجوارح، وهو الكف عن فعله ومقدماته.

فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل -، لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافا للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له لكان خارجا من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله.

2 -

ترك الحسد: وهو من أعمال القلب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع والإيمان في قلب (3) ، فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلانا حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله.

وقد أخبرنا الله تعالى عن أخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسدا له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد، إذ إن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية - أي حالة عدم الإكراه ونحوه - يقطع بوجود أصلها القلبي.

وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم، الذي أخبر الله عنه بقوله فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح: 15] ، لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين إن يقولوا لهم: لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ [الفتح: 15].

(1) رواه البخاري (474) ومسلم (2176).

(2)

رواه البخاري (178) ومسلم (303).

(3)

رواه النسائي (6/ 12) وهو صحيح.

ص: 93

فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع.

والمقصود أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسدا، وهذا يعرفه الناس جميعا - المرجئة وغيرهم - في سائر أعمال القلوب، لكن المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءا بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء ! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه ، في حين أنها لا تصدق أن إنسانا سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه.

نعم، أعمال القلوب هي الأصل وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((التقوى هاهنا)) (1)، وقال:((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب)) (2). ونحو ذلك مما سبق أو سيأتى من النصوص.

ولهذا تحصل حالة شاذة خفية، وهي أن يضعف إيمان القلب ضعفا لا يبقي معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضا لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته مع أنه ميئوس من شفائه، فهو ظاهرا في حكم الميت وباطنا لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار مع أنهم لم يعملوا خيرا قط، وسيأتى تفصيل الحديث عن هذه الحالة (3)، وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة.

ولقد وصل الشذوذ بالمرجئة الغالية - كالأشاعرة ومن حذا حذوهم - إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطا في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان ، وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم ، وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب، وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات - على ما سبق تفصيله في بابه - وافترضوا تبعا لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير.

فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر - قديما وحديثا - وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان، لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!!

ومن هنا كان لزاما علينا إيضاح الدلائل القاطعة لأهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالا سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول: لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب، تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب أهل السنة أبدا استخدام عبارة " مؤمن باطنا، كافر ظاهرا "، ولا إمكان وجود ذلك.

‌المصدر:

ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 2/ 521

(1) رواه مسلم (2564).

(2)

رواه البخاري (52) ومسلم (1599).

(3)

في مبحث الشبهات النقلية من الباب الأخير.

ص: 94