المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

؟

ش: أي هذا باب في بيان كيفية الجمع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء بمزدلفة.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عُبيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"خرجت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى مكة، فلما أتى جمعًا صلى الصلاتين كل واحدة منهما بأذان وإقامة، ولم يصل بينهما".

ش: إسناده صحيح.

وعُبيد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي شيخ البخاري، وإسرائيل بن يونس ابن أبي إسحاق.

وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله السَّبِيعي.

وأخرجه البخاري (1) بأتم منه: ثنا عبد الله بن رجاء، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "خرجت مع عبد الله إلى مكة ثم قدمنا جمعًا، فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بآذان وإقامة والعشاء بينهما، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، وقائل يقول: طلع الفجر. وقائل يقول: لم يطلع الفجر.

ثم قال: إن رسول الله عليه السلام قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء، فلا يقدم الناس جمعًا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة، ثم وقف حتى أسفر به، ثم قال:[لو](2) أن أمير المؤمنين [أفاض](3) الآن أصاب السُنَّة، فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان رضي الله عنه؟ فلم نَزْل نلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 604 رقم 1599).

(2)

في "الأصل، ك": "لولا"، والمثبت من "صحيح البخاري".

(3)

في "الأصل، ك": "أمر"، والمثبت من "صحيح البخاري".

ص: 5

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود:"أنه صلى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاتين مرتين بجمع كل صلاة بأذان وإقامة، والعشاء بينهما".

ش: إسناده صحيح. وتكرر ذكر رجاله.

وأحمد بن يونس هو: أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.

وأخرجه ابن حزم (1): من طريق هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود قال:"كنت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتى المزدلفة، فصلى المغرب والعشاء كل صلاة بأذان وإقامة".

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذين الحديثين، فزعموا أن المغرب والعشاء يجمع بينهما بمزدلفة بأذانين وإقامتين.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الرحمن بن يزيد والأسود ومالكًا، فإنهم ذهبوا إلى هذين الحديثين، وقالوا: يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذانين وإقامتين.

قال عياض: وهو مذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود، وقال ابن القاسم عن مالك: كل صلاة إلى الأئمة فلكل صلاة آذان وإقامة.

وقال أحمد بن خالد: أعجب من مالك أخذ في هذا بحديث ابن مسعود ولم يروه، وترك ما روى.

قال أبو عمر: لا أعلم مالكًا روى في ذلك حديثًا، وأعجب مما عجب منه أحمد أن أبا حنيفة لا يعدل بابن مسعود أحدًا، وخالفه وأخذ بحديث جابر، وهو حديث مدني لم يروه.

(1)"المحلى"(7/ 127).

ص: 6

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما الأولى منهما فتصلى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وهم: سعيد بن جبير والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد؛ فإنهم قالوا: يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وهو المروي عن جابر وعبد الله بن عمر وأبي أيوب الأنصاري.

ص: وقالوا: ما كان من فعل عمر رضي الله عنه ومن تأذينه للثانية، فإنما فعل ذلك لأن الناس كانوا تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم، وكذلك نقول نحن: إذا تفرق الناس عن الإِمام لعشاء أو لغيره أمر المؤذن فأذن ليجتمعوا لأذانه، فهذا معنى ما روي في هذا عن عمر رضي الله عنه، والذي روي عن عبد الله فهو مثل هذا أيضًا.

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن أبو إسحاق الهمداني، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"كان ابن مسعود رضي الله عنه يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين" فقد عاد -يعني ما روي عن عبد الله في هذا- إلى معنى ما روي عن عمر أيضًا.

ش: أي قال الآخرون، وأشار به إلى الجواب فيما احتج به أهل المقالة الأولى بخبري عبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب، بيان ذلك أن يقال: إن ما فعله عمر رضي الله عنه من تأذينه الثاني للصلاة الثانية إنما كان لأجل أن الناس قد تفرقوا لأجل عشائهم فأذن إعلامًا لهم بأن يجتمعوا، ولم يفعل ذلك لكونه سنة. فنحن نقول أيضًا: إذا تفرق الناس عن الإِمام لأجل عشائهم أو لغير ذلك من الأمور الداعية إلى التفريق أنه يأمر المؤذن فيؤذن؛ إعلامًا لهم بأن يجتمعوا، وعلى هذا المعنى أيضًا ما روي عن عبد الله بن مسعود، والدليل على ذلك ما قاله عبد الرحمن بن يزيد:"إن ابن مسعود كان يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين".

وأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي عن عبد الرحمن بن يزيد.

ص: 7

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو بكر بن عياش وأبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"صليت مع عبد الله المغرب بأذان وإقامة، ثم أتينا بعشاء فتعشينا، ثم صلى بنا العشاء بأذان وإقامة".

قلت: الأذان والإِقامة للعشاء ها هنا لأجل الفصل بين الصلاتين.

"والعشاء" بفتح العين وبالمد هو الطعام بعينه وهو خلاف الغداء.

ص: ثم نظرنا فيما روي في ذلك إذا صليتا معًا، كيف نفعل فيهما؟ فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: حدثني أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم: "أنه صلى مع سعيد بن جبير بجمع، المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإِقامة واحدة.

ثم حدث أن ابن عمر صنع مثل ذلك، وحدَّث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام صنع مثل ذلك في ذلك المكان".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل، قالا:"صلى بنا سعيد بن جبير بإقامة المغرب ثلاثًا، فلما سلم قام يصلي ركعتي العشاء، ثم حدث عن ابن عمر أنه صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك، وحدث ابن عمر أن رسول الله عليه السلام صنع بهم في ذلك المكان مثل ذلك".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الحكم قال:"شهدت سعيد بن جبير أقام بجمع الصلاة -وأحسبه قال: أذن- فصلى المغرب ثلاثًا، ثم قام فصلى العشاء ركعتين بالإِقامة الأولى، وحدث أن ابن عمر صنع في هذا المكان هذا، وحدَّث أن رسول الله عليه السلام صنع مثل ذلك".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال:"صلى رسول الله عليه السلام المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 263 رقم 14045).

ص: 8

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان (ح).

وحدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك قال:"صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإِقامة واحدة، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما هذا؟ فقال: صليتهما مع رسول الله عليه السلام في هذا المكان بإقامة واحدة".

حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن مالك بن الحارث، قال:"صلى عبد الله بن عمر بالمزدلفة صلاة المغرب بإقامة ليس معها أذان ثلاث ركعات ثم سلم، ثم قال: الصلاة، ثم قام فصلى العشاء ركعتين ثم سلم، فقال له خالد بن مالك الحارثي: ما هذه الصلاة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: صليت هاتين الصلاتين مع النبي عليه السلام في هذا المكان ليس معهما أذان".

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني أربعة كلهم ثقة منهم: سعيد بن جبير وعلي الأزدي، عن ابن عمر:"أنه صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بإقامة واحدة".

فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله عليه السلام أنه صلاهما ولم يؤذن بينهما ولم يُقم.

ش: لما ذكر حكم الجمع بين المغرب والعشاء بجمع فيما إذا فصل بينهما بشيء؛ شرع يبين حكم الجمع بينهما فيما إذا صليتا معًا بلا فاصل بينهما.

وأخرج في ذلك عن ابن عمر من تسع طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو القيسي العقدي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة

إلى آخره.

ص: 9

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وسلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير:"أنه صلى المغرب بجمع والعشاء بإقامة، ثم حدث عن ابن عمر أنه صلى مثل ذلك، وحدث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ذلك".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن وهب بن جرير

إلى آخره.

الرابع: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري عن الثوري، عن سلمة بن كهيل

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (2): عن عمرو بن منصور، عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري

إلى آخره نحوه.

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الله بن مالك بن الحارث الهمداني الكوفي وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

السادس: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الله بن مالك بن الحارث.

وأخرجه أبو داود (3): ثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك قال: "صليت مع ابن عمر المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، فقال

(1)"صحيح مسلم"(2/ 937 رقم 1288).

(2)

"المجتبى"(5/ 260 رقم 3030).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 192 رقم 1929).

ص: 10

له مالك بن الحارث: ما هذه الصلاة؟ فقال: صليتهما مع رسول الله عليه السلام في هذا المكان بإقامة واحدة".

السابع: عن حسين بن نصر، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن سفيان الثوري

إلى آخره.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا محمد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، قال: ثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك:"أن ابن عمر صلى بجمع، فجمع بين الصلاتين بإقامة، وقال: رأيت رسول الله عليه السلام فعل مثل هذا في هذا المكان".

الثامن: عن روح بن الفرج القطان شيخ الطبراني أيضًا، عن عمرو بن خالد الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو ابن عبد الله السبيعي، عن مالك بن الحارث

إلى آخره.

وهكذا وقع في هذا الطريق: "مالك بن الحارث"، قال البخاري في "تاريخه": لا يصح مالك بن الحارث، يشير إلى رواية زهير هذه.

والصحيح ما قاله شعبة: عبد الله بن مالك بن الحارث الهمداني كما هو في الطرق الثلاثة المذكورة.

التاسع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد بن جبر المكي

إلى آخره.

وعلي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، روى له الجماعة سوى البخاري.

قوله: "فصلى المغرب ثلاثًا". أي ثلاث ركعات على حالها، قال القاضي: وفيه أصل السُّنَّة في تقصير الحاج بمنى وعرفة ومكة الصلاة الرباعية، مكيًّا كان أو غير

(1)"جامع الترمذي"(3/ 235 رقم 887).

ص: 11

مكي، إلَاّ أهل منى وأهل عرفة بعرفة وأهل مكة بمكة. هذا قول الأوزاعي ومالك، إلَاّ الإِمام فإنه يقصر وإن كان عندهم من سكان هذه المواضع.

وذهب جمهور العلماء إلى أن هؤلاء يتمون، وإنما يقصر من كان في سفر مما تقصر فيه الصلاة على سُنة القصر ولا يختص الحاج بشيء من غيره.

وذهب بعض السلف إلى مثل قول مالك إلَاّ أنه سوَّى الإِمام وغيره، وأنه يقصر إن كان من أهل الموضع، وهو مذهب إسحاق.

قوله: "فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله عليه السلام أنه صلاهما". أي المغرب والعشاء ولم يؤذن بينهما ولم يقم.

وقال: ابن حزم (1): روايات ابن عمر مضطربة، وهي ستة أقوال:

أحدها: الجمع بينهما بلا آذان ولا إقامة، صح عن ابن عمر.

والثاني: يجمع بينهما بإقامة واحدة فقط، صح أيضًا عن ابن عمر، وهو قول سفيان وأحمد وأبي بكر بن داود، وصح به خبر عن رسول الله عليه السلام.

والثالث: الجمع بينهما بإقامتين فقط، روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وصح عن سالم بن عبد الله، وهو أحد قولي سفيان وأحمد والشافعي، وصح به خبر عن رسول الله عليه السلام.

والرابع: الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، روي عن عمر، وصح عن ابنه عبد الله، وهو قول أبي حنيفة، وصح به خبر عن رسول الله عليه السلام.

والخامس: الجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وصح عن ابن عمر وسالم ابنه وعطاء، وهو أحد قولي الشافعي وبه نأخذ، وصح بذلك خبر عن النبي عليه السلام.

والسادس: الجمع بينهما بأذانين وإقامتين، صح عن عمر وابن مسعود، وروي عن علي وعن محمد بن علي بن الحسن وأهل بيته، وهو قول مالك.

(1)"المحلى"(7/ 128) بتصرف واختصار.

ص: 12

وأما الأخبار في ذلك فبعضها بإقامة واحدة من طريق ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وبعضها بإقامتين من طريق ابن عمر وأسامة بن زيد، وبعضها بأذان واحد وإقامة واحدة من طريق ابن عمر، وبعضها بأذان واحد وإقامتين من طريق جابر.

فاضطربت الروايات عن ابن عمر إلَاّ إحدى الروايات عنه وعن أسامة بن زيد وعن جابر بن عبد الله زادت على الأخرى وعلى رواية أسامة [إقامة، فوجب الأخذ بالزيادة.

وإحدى الروايات عنه وعن جابر تزيد على الأخرى وعلى رواية أسامة] (1) أذانًا فوجب الأخذ بالزيادة؛ لأنها رواية قائمة بنفسها صحيحة فلا يجوز خلافها، فإذا جمعت رواية سالم وعلاج عن ابن عمر صح منها أذان وإقامتين كما جاء مبينًا في حديث جابر وهذا هو الذي لا يجوز خلافه، ولا حجة لمن خالف ذلك. والله أعلم. انتهى.

قلت: الطحاوي رحمه الله: أيضًا اختار ما اختاره ابن حزم، وهو أن يكون الأذان واحدًا والإِقامة ثنتين على ما يجيء.

وهو قول أحمد والشافعي في رواية أبي ثور.

ص: وقد روي عن ابن عمر في هذا شيء بلفظ غير هذا اللفظ.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا لم ينادِ في واحدة منهما إلَاّ بالإِقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما".

حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعي، عن عبد الله ابن نافع، عن ابن أبي ذئب .. فذكر بإسناده مثله.

(1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "المحلى"(7/ 129).

ص: 13

غير أنه قال: "لم يناد بينهما ولا على إثر واحدة منهما إلَاّ بإقامة" وهكذا حفظي، عن يونس، عن ابن وهب، غير أني وجدته في كتابي كما نصصته في الحديث الذي قبل هذا.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه "أن النبي عليه السلام جمع بين الصلاتين بجمع لم يناد في كل واحدة منهما إلَاّ بإقامة، لم يسبح بينهما".

فقوله في هذا الحديث: "ولم يناد في كل واحدة منهما إلَاّ بإقامة ولم يسبح بينهما"، فذلك محتمل أن يكون أراد بذلك الإِقامة التي أقامها لكل واحدة منهما، ويحتمل الإِقامة التي أقامها لهما، غير أن أولى الأشياء بنا أن نحمل ذلك على الإِقامة التي أقامها؛ ليتفق معنى ذلك ومعنى ما رويناه قبل ذلك عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.

ش: أي: قد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الجمع بين الصلاتين بجمع شيء بلفظ غير اللفظ الذي روي به في الروايات السابقة.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله

إلى أخره.

وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر:"جمع رسول الله عليه السلام بين المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 602 رقم 1589).

ص: 14

وأخرجه النسائي (1) أيضًا: عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن ابن أبي ذئب

إلى آخره نحوه.

قوله: "لم يناد". أي لم يؤذن في واحدة منهما ولكن أقام، وبه قال سفيان وأحمد في رواية، وهو أن يقيم مرة فقط ولا يؤذن أصلاً.

قوله: "ولم يسبح بينهما". أي لم يتطوع بين الصلاتين بشيء.

قوله: "ولا على إثر واحدة منهما". أي ولا تطوع أيضًا عقيب كل واحدة من الصلاتين، وإثر كل شيء عقيبه بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة، ويجوز فتح الهمزة والثاء معًا، ويقال: جاء على أَثَره وإثره أي متبعًا له بعده.

الثاني: عن المزني، عن الإِمام الشافعي، عن عبد الله بن نافع الصائغ المدني روى له الجماعة -والبخاري في غير الصحيح- عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر

إلى آخره.

قوله: "وهكذا حفظي

إلى آخره". من كلام الطحاوي.

الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه الدارمي في "سننه"(2): ثنا عُبيد الله بن عبد المجيد، ثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة لم يناد في واحدة منهما إلَاّ بالإِقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما".

قوله: "فقوله في هذا الحديث

إلى آخره". إشارة إلى وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين رواية سعيد بن جبير، عن ابن عمر المذكورة فيما سبق؛ لأن في رواية

(1)"المجتبى"(5/ 260).

(2)

"سنن الدارمي"(2/ 81 رقم 1884).

ص: 15

سعيد بن جبير يخبر بأنه صلاهما بإقامة واحدة، وفي رواية سالم تجده يخبر بأنه صلاهما بإقامتين، فبينهما خلاف، فإذا حملنا قوله:"ولم يناد في كل واحدة منهما إلَاّ بإقامة" على الإِقامة التي أقامها اتفق معنى الحديثين، وقد قلنا: إن الروايات عن ابن عمر مضطربة، فلا نحتاج إلى هذا التكلف.

ص: وقد روي عن أبي أيوب الأنصاري وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما ما يوافق [ذلك](1) أيضًا:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عمر بن الرومي، قال: ثنا قيس بن الربيع، قال: ثنا غيلان، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري، عن أبي أيوب الأنصاري قال:"صليت مع رسول الله عليه السلام المغرب والعشاء بإقامة واحدة".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا أبو يوسف، عن محمد ابن عبد الرحمن، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن البراء بن عازب، عن النبي عليه السلام مثله.

ش: أي قد روي عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، والبراء بن عازب ما يوافق ما روي عن عبد الله بن عمر في هذا الباب.

أما حديث أبي أيوب فأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن عمر بن الرومي شيخ البخاري في غير الصحيح، قال أبو زرعة: فيه لين. وقال أبو داود: ضعيف.

عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف، وعنه: ليس بشيء. وقال الجوزجاني: ساقط. وقال النسائي: ليس بثقة.

عن غيلان بن جامع المحاربي الكوفي قاضيها أحد مشايخ أبي حنيفة، وثقه ابن حبان وغيره، وروى له مسلم [و](2) الأربعة غير الترمذي.

(1) في "الأصل، ك"، و"شرح معاني الآثار":"من ذلك".

(2)

في "الأصل، ك": "ومن".

ص: 16

عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي روى له الجماعة.

عن عبد الله بن يزيد الأنصاري الخطمي الصحابي، وهو جد عدي المذكور لأمه.

وأخرجه الطبراني (1): نا فضيل بن محمد الملطي، ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن جابر، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب قال:"صلى رسول الله عليه السلام بجمع المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة".

فإن قيل: كلا الإِسنادين ضعيف: أما إسناد الطحاوي ففيه قيس بن الربيع. وأما إسناد الطبراني ففيه جابر الجعفي.

قلت: أخرجه أبو حنيفة في "مسنده"(2): ثنا أبو إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري:"أن رسول الله عليه السلام صلى المغرب والعشاء بجمع بأذان وإقامة".

وأخرجه النسائي (3) وابن ماجه (4) والدارمي (5) في سننهم، وابن أبي شيبة (6) في "مصنفه".

وأما حديث البراء بن عازب فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس الواسطي البزاز شيخ البخاري في كتاب الصلاة، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي صاحب أبي حنيفة، عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه المشهور فيه لين، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري الصحابي، عن البراء بن عازب مثل الحديث المذكور.

(1)"المعجم الكبير"(4/ 123 ر قم 3870).

(2)

"مسند أبي حنيفة"(1/ 158).

(3)

"المجتبى"(1/ 291 رقم 605).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1005 رقم 3020).

(5)

"سنن الدارمي"(1/ 427 رقم 1516).

(6)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 264 رقم 14051).

ص: 17

فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي في احتجاج أهل المقالة الثانية وهم: أبو حنيفة وأصحابه أحاديث عبد الله بن عمر بعدة طرق، وأبي أيوب الأنصاري والبراء بن عازب.

وذكر الطبري في تهذيب الآثار أنه عليه السلام صلاها بإِقامة واحدة من حديث ابن مسعود وابن عمر وأُبي بن كعب وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بلى، يصلي الأولى منهما بأذان وإقامة، والثانية بإِقامة بلا أذان.

ش: أي: خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري -في قول- والشافعي، وأحمد -في رواية- وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: يجمع بين الصلاتين بأذان واحد وإقامتين، وهو اختيار الطحاوي أيضًا.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام لما أتى المزدلفة صلى المغرب بأذان وإقامة".

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام لما أتى المزدلفة صلى المغرب بأذان وإقامة، وهذا خلاف ما روى مالك بن الحارث عن ابن عمر، وقد أجمعوا أن الأولى من الصلاتين اللتين تجمعان بعرفة يؤذن لها ويقام، فالنظر على ذلك: أن يكون كذلك حكم الأول من الصلاتين اللتين تجمعان بجمع.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب مولى عبد الله بن عباس، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول:"دفع رسول الله عليه السلام من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب حتى جاء المزدلفة، فنزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئًا".

ص: 18

فقد اختلف عن النبي عليه السلام في الصلاتين بمزدلفة: هل صلاهما معًا أو عمل بينهما عملاً؟ فروي في ذلك ما قد ذكرنا في حديث ابن عمر وأسامة.

واختلف عنه: كيف صلاهما؟ فقال بعضهم: بأذان وإقامة، وقال بعضهم: بأذان وإقامتين، وقال بعضهم: بإقامة واحدة ليس معهما أذان.

فلما اختلفوا في ذلك على ما ذكرنا، وكانت الصلاتان يجمع بينهما بمزدلفة وهما المغرب والعشاء، كما يجمع بين الصلاتين بعرفه وهما الظهر والعصر، فكان هذا الجمع في هذين الموطنين جميعًا لا يكون إلَّا لمحرم في حرمة الحج، فلا يكون لحلال، ولا لمعتمر غير حاج، وكانت الصلاتان بعرفة تصلى إحداهما في إثر صاحبتها، ولا يعمل بينهما عمل، وكانتا يؤذن لهما أذان واحد وتقام لهما إقامتان، كان النظر على ذلك أن تكون الصلاتان بمزدلفة كذلك، وأن تكون إحداهما تصلي في إثر صاحبتها ولا يعمل بينهما عمل، وأن يؤذن لهما أذان واحد ويقام لهما إقامتان كما يفعل بعرفة سواء، هذا هو النظر في هذا الباب.

ش: أي: واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من أن الصلاتين يجمع بينهما بمزدلفة بأذانين وإقامتين بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

أخرجه بإسناد صحيح، وقد تكرر ذكره في كتاب الحج.

وجعفر بن محمد هو جعفر الصادق، وأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم المعروف بابن الحنفية (1).

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال:"صلى رسول الله عليه السلام المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة ولم سبح بينهما".

(1) قلت: بل هذا هو المعروف بالباقر، وأما ابن الحنفية فهو محمد بن علي بن أبي طالب.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 264 رقم 14050).

ص: 19

قوله: "وهذا خلاف ما روى مالك بن الحارث عن ابن عمر". لأن في حديثه يخبر أن رسول الله عليه السلام صلى المغرب بالمزدلفة بإقامة ليس معها أذان، فبين الروايتين مخالفة.

"وقد أجمعوا" أي: أهل المقالات المذكورة.

"أن الأولى من الصلاتين اللتين تجمعان بعرفة" أراد بها الظهر، يؤذن لها ويقام، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون كذلك حكم المغرب في مزدلفة.

ثم ذكر حديث أسامة الذي بينه وبين حديث ابن عمر خلاف أيضًا؛ لكونه شاهدًا لما يذكره من وجه النظر، وتأييدًا لما يختاره من الأقوال.

وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه الجماعة غير الترمذي.

فقال البخاري (1): ثنا قتيبة، ثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن حرملة، عن كريب مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد أنه قال:"ردفت رسول الله عليه السلام من عرفات، فلما بلغ رسول الله عليه السلام الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ، فبال، ثم جاء فصببت عليه الوَضوء، فتوضأ وضوءًا خفيفًا، فقلت: الصلاة يا رسول الله، فقال: الصلاة أمامك، فركب رسول الله عليه السلام حتى أتى المزدلفة فصلى، ثم ردف الفضل رسول الله غداة جمع، قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس، عن الفضل أن رسول الله عليه السلام لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة".

وفي لفظ: "ثم أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء".

وقال مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب

إلى آخره نحو رواية الطحاوي.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 600 رقم 1586).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 934 رقم 1280).

ص: 20

وقال أبو داود (1): ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير.

وثنا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان -وهذا لفظ حديث زهير- قال: ثنا إبراهيم بن عقبة، قال: حدثني كريب: "أنه سأل أسامة بن زيد، قلت: أخبرني كيف فعلتم -أو صنعتم- عشية ردفت رسول الله عليه السلام؟ قال: جئنا الشِّعب الذي ينيخ فيه الناس للمعرس، فأناخ رسول الله عليه السلام ناقته، ثم هراق ماءً -قال زهير: أهراق الماء- ثم دعا بالوضوء فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ جدًّا، فقلت: يا رسول الله، الصلاة، قال: الصلاة أمامك، قال: فركب حتى قدمنا المزدلفة، فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلى -زاد ابن يونس في حديثه: ثم حل الناس- قال: قلت: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال: ردفه الفضل بن عباس فانطلقت أنا في سُبَّاق قريش على رجلي".

وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه (3) مختصرًا.

قوله: "حتى إذا كان بالشعب" بكسر الشين المعجمة وسكون العين، وهو الطريق في الجبل، ويقال: هو ما انفرج بين الجبلين. ونزوله عليه السلام بالشعب كان نزول حاجة وليس هو من سنن الحج.

قوله: "فبال" ولم يقل فأهراق الماء؛ إشعارًا بإِيراده للحديث كما سمعه بلفظ محدثه إياه، وأنه لم يورد بمعناه.

قوله: "فلم يسبغ الوضوء" وفي حديث آخر: "فتوضأ وضوءًا خفيفًا" وفي حديث آخر: "ليس بالبالغ"، وجاء بعد هذا "فأسبغ الوضوء"، قال القاضي: يوهم لفظه: "لم يسبغ" أن الأول لم يكن وضوء الصلاة، وكذلك تأوله بعضهم، وقيل: بل وضأ بعض أعضاء وضوئه، وليس كذلك، بل كان وضوءه الأول

(1)"سنن أبي داود"(2/ 190 رقم 1921).

(2)

"المجتبى"(5/ 260 رقم 3031).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1005 رقم 3019).

ص: 21

للصلاة ثم توضأ آخر بالمزدلفة لعذر طرأ عليه، وليس يقال في الاستنجاء: وضوءًا خفيفًا، ولا: ليس [بالبالغ](1) ومعني لم يسبغ: لم يكرره، وقد يكون وضوءه بالمزدلفة لتمام الفضيلة بتكراره وتمام عدده ثلاثًا، والله أعلم.

ويدل على أن وضوءه للصلاة قوله: "ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإِداوة فتوضأ" وخففه ليكون على طهارة، أو لاستعجاله، فلما أتى مزدلفة أتم فضيلته بالتكرار، أو ابتدأ فرضه لحدث اعتراه، ولا وجه لقول من قال: إنه توضأ وضوءين ليخص كل صلاة من الصلاتين التي تجمع بالمزدلفة بوضوء على عادته من الوضوء لكل صلاة؛ إذ تكرر الوضوء قبل أداء فريضة به ممنوع، ومن السرف المنهي عنه، إنما الفضيلة في تكراره بعد صلاة فرض به.

وقال أبو عمر (2): وأما قوله "نزل فبال فلم يسبغ الوضوء" فوجهه عندي -والله أعلم- أنه استنجى بالماء واغتسل به من بوله، وذلك يسمى وضوءًا في كلام العرب؛ لأنه من الوضاءة التي هي النظافة.

ومعنى قوله: "لم يسبغ الوضوء" أي: لم يكمل وضوءًا للصلاة ولم يتوضأ للصلاة.

والإِسباغ الإِكمال، فكأنه قال: لم يتوضأ بوضوء الصلاة ولكنه توضأ من البول، هذا وجه الحديث عندي، وهو الصحيح.

وقيل: أنه توضأ وضوءًا خفيفًا ليس بالبالغ، وضوءًا بين الوضوءين، وهذا ظاهره غير الاستنجاء.

وقيل: إنه توضأ على بعض أعضاء الوضوء ولم يكمل الوضوء للصلاة، وعل ما روي عن ابن عمر:"أنه كان إذا أجنب ليلاً وأراد النوم غسل وجهه ويديه إلى المرفقين وربما مسح برأسه ونام" وهذا وجه ضعيف لا معنى له، ولا يجوز أن

(1) في "الأصل، ك": "للبالغ".

(2)

"التمهيد"(13/ 158).

ص: 22

يضاف مثله إلى رسول الله عليه السلام، ولعل الذي حكى عن ابن عمر لم يضبط، والوضوء على الجنب عند النوم غير واجب وإنما هو ندب؛ لأنه لا يرفع به حدثه، وفعله سُنَّة وخير، وليس من دفع من عرفة يجد من الفراغ ما يتوضأ به وضوءًا يشتغل به عن النهوض إلى مزدلفة، والنهوض إليها من أفضل أعمال البر فكيف يشتغل عنها بما لا معنى له؟! ألا ترى أنه لما جاءت تلك الصلاة في موضعها نزل فأسبغ الوضوء لها، أي توضأ لها كما يجب، فالوضوء عندي الاستنجاء بالماء لا غير؛ لأنه لم يحفظ عنه قط أنه توضأ لصلاة واحدة مرتين، وإن كان توضأ لكل صلاة.

قوله: "فقلت له: الصلاة" بالنصب على الإِغراء؛ ويجوز الرفع على تقدير جانب الصلاة.

قوله: "الصلاة أمامك" مرفوع بالابتداء، وقيل: معناه: المصلى الذي تصلي فيه المغرب والعشاء أمامك.

ثم اختلف العلماء فيمن صلى تلك الليلة الصلاة في وقتها هل يعيد إذا أتى المزدلفة أم لا؟ فقيل: يعيد؛ لهذا الحديث، وقيل: لا يعيد؛ لأن الجمع سُنَّة.

وقال أبو عمر: فيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يصليها إلَاّ هناك، وذلك توقيف منه عليه السلام فإن كان له عذر فعسى الله أن يعذره، وأما من لا عذر له فواجب أن لا تجزئه صلاته قبل ذلك الموضع، على ظاهر هذا الحديث.

وروي عن عطاء وعروة وسالم والقاسم وسعيد بن جبير: "لا ينبغي لأحد أن يصليهما قبل جمع، فإن فعل أجزأه".

وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق. انتهى.

قلت: إذا صلى المغرب في الطريق بعد غروب الشمس قبل أن يأتي مزدلفة فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر لم تجزئه صلاته، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. وهو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن.

وقال أبو يوسف: تجزئه وقد أساء.

ص: 23

وعلى هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول وقتها.

قوله: "فقد اختلف عن النبي عليه السلام في الصلاتين بمزدلفة هل صلاهما معًا؟ " يعني من غير فصل بينهما بنفل وغيره.

"أو عمل بينهما عملاً، فروي في ذلك ما قد ذكرنا في حديث ابن عمر" والذي ذكره في حديث ابن عمر أنه لم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما، وقد ذكر عن قريب، فهذا يدل على أنه لم يفصل بينهما بشيء، وفي حديث أسامة المذكور ما يدل على أنه فصل بينهما بعمل، وهذا كما ترى اختلاف، وكذلك اختلف عنه في كيفية صلاته عليه السلام إياهما هل كانتا بأذان واحد وإقامة واحدة، أو بأذان وإقامتين، أو بإقامة واحدة بدون أذان، وقد ذكرنا فيه ستة أقوال على ما ذكره ابن حزم.

قوله: "فلما اختلفوا في ذلك على ما ذكرنا" أي فلما اختلفت الرواة في هذا الباب على ما ذكرنا من الأقوال، وأراد بهذا الكلام بيان وجه النظر والقياس، ملخصه: أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بلا فصل بينهما، بأذان واحد وإقامتين، فكذلك ينبغي أن يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بلا فصل بينهما بأذان وإقامتين قياسًا عليه، والجامع كون كل واحدة منهما فرضًا في حق محرم بحج في مكان مخصوص؛ لتدارك الوقوف بعرفة والنهوض إلى مزدلفة بعد الدفع عنها.

ص: وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله وذلك أنهم يذهبون في الجمع بين الصلاتين بعرفة إلى ما ذكرنا، وقد يذهبون في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة إلى أن يجعلوا ذلك بأذان وإقامة واحدة، ويحتجون في ذلك بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وكان سفيان الثوري يذهب في ذلك إلى أن يصليهما بإقامة واحدة لا أذان معها، على ما روينا عن ابن عمر عن النبي عليه السلام والذي رويناه عن جابر من هذا أحب إلينا؛ لما يشهد له من النظر.

ش: أي: وجه النظر الذي ذكرناه وهو القياس الذي يقتضي أن يكون الجمع بمزدلفة أيضًا بأذان وإقامتين خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف

ص: 24

ومحمد رحمهم الله لأنهم ذهبوا إلى أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، ويستدلون على ذلك بما روي عن عبد الله بن عمر، وهو ما رواه عنه سعيد بن جبير، عنه قال:"صلى رسول الله عليه السلام المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة".

قوله: "وكان سفيان الثوري يذهب في ذلك إلى أنه يصليهما" أي المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة لا أذان معها، واستدل في ذلك بما رواه سالم، عن ابن عمر "أن رسول الله عليه السلام صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعًا لم يناد في واحدة منهما إلا بالإِقامة"(1) وقد مرَّ ذكره فيما مضى، وبه قال أحمد في رواية.

قوله: "والذي رويناه عن جابر من هذا أحب إلينا" أشار بهذا إلى أنه اختار قول أهل المقالة الثالثة وهو قول الشافعي وأحمد في رواية كما ذكرنا، وإنما اختار هذا القول لأن النقل الصحيح يشهد له على ما قرره آنفًا.

ص: ثم وجدنا بعد ذلك حديث ابن عمر قد عاد إلى معنى حديث جابر، وذلك أن هارون بن كامل وفهدًا حدثانا قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله بن عمر قال:"جمع رسول الله عليه السلام بين المغرب والعشاء بجمع وهي بالمزدلفة، صلى المغرب ثلاثًا ثم سلم، ثم أقام العشاء فصلاها ركعتين ثم سلم، ليس بينهما سُبحة".

فهذا يخبر أنه صلاها بإقامتين.

ش: ذكر هذا تأييدًا لما اختاره من رواية جابر، وذلك قد روى حديث عن ابن عمر أيضًا يرجع معناه إلى معنى حديث جابر الذي احتج به أهل المقالة الثالثة.

وأخرجه بإسناد صحيح عن هارون بن كامل بن يزيد الفهري، وفهد بن سليمان الكوفي، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن

(1) أخرجه الدارمي (2/ 81 رقم 1484).

ص: 25

سعد، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان، روى له البخاري والترمذي والنسائي، واستشهد به مسلم.

عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

وبنحوه أخرج عبد الله بن أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبي، قال: قرأت على [حماد](2) بن خالد [الخياط](3) نا ابن أبي ذئب، عن الزهري عن سالم، عن أبيه:"أنه صلى مع رسول الله عليه السلام بالمزدلفة المغرب والعشاء بإقامة إقامة، جمع بينهما".

ص: وقد وجدنا عن ابن عمر نفسه مما لم يرفعه إلى النبي عليه السلام: "أنه أذن لهما".

حدثنا يوسف بن يزيد، قال: ثنا حجاج بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر:"أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان وإقامة ولم يجعل بينهما شيئًا".

فكان محالًا أن يكون أدخل في ذلك أذانًا إلَاّ وقد علمه من رسول الله عليه السلام.

ش: أشار به إلى الجواب عما احتج به سفيان لما ذهب إليه من أن الجمع بين المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة بلا أذان بما روي عن ابن عمر فيما سبق.

وأخرجه بإسناد صحيح موقوف على ابن عمر، عن يوسف بن يزيد بن كامل القراطيسي المصري شيخ النسائي أيضًا والطبراني، قال ابن يونس: ثقة صدوق.

عن حجاج بن إبراهيم الأزرق، وثقه أبو حاتم والعجلي وابن حبان، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري روى له الجماعة، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمر.

(1)"زوائد مسند أحمد"(2/ 157 رقم 6473).

(2)

في "الأصل، ك": "أبي حامد"، وهو تحريف، والمثبت من "زوائد مسند أحمد"

(3)

في "الأصل، ك": "الخياطم"، وهو تحريف أيضًا، وحماد بن خالد الخياط مشهور من رجال مسلم والأربعة، انظر "تهذيب الكمال"

ص: 26

قوله: "فكان محالاً

إلى آخره" أراد به أن هذا أمر توقيفي، و [لو](1) لم يكن لابن عمر علم في ذلك عن النبي عليه السلام لما أدخل في ذلك أذانًا برأيه.

وقوله: "محالًا" نصب على أنه خبر كان واسمه قوله: أن يكون، فافهم. والله أعلم.

(1) ليست في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

ص: 27