الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم
؟
ش: أي هذا باب في بيان أن اللبس واستعمال الطيب متى يحلان للمحرم؟
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا عبد الله بن لهيعة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عروة، عن جُدَامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب:"أن عكاشة بن وهب صاحب النبي عليه السلام وأخا له آخر جاءاها حين غابت الشمس يوم النحر، فألقيا قميصهما فقالت: مالكما؟ فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لم يكن أفاض منها فليلق ثيابه، وكانوا تطيبوا ولبسوا الثياب".
ش: ابن أبي داود هو إبراهيم بن أبي داود سليمان البرلسي، وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري، وعبد الله بن لهيعة تكلموا فيه ولكن أحمد وثقه، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود المدني يتيم عروة، روى له الجماعة يروي عن عروة بن الزبير بن العوام، وجُدَامة -بضم الجيم وفتح الدال المهملة- بنت وهب الأسدية الصحابية، هكذا ضبطه يحيى بن يحيى، وكذا قال مالك، وقال سعيد بن أبي أيوب ويحيى بن أيوب: بالذال المعجمة، وفي "التكميل": قال الدارقطني: بالدال المهملة، من أعجمها فقد صحف، و (جُدَامة) (1) في اللغة: ما لم يندق من السنبل، قاله أبو حاتم، وقال غيره: إذا ذُرِّي البُرُّ في الريح فما بقي من البُرِّ في الغربال من قصبه فهو الجُدَامة، وقال أبو عمر بن عبد البر: جُدَامة هذه أم قيس بنت وهب بن محصن أخت عكاشة بن محصن الأسدي، وقال القاضي عياض: جاء في حديث سعيد: عن جُدامة بنت وهب أخت عكاشة، قال بعضهم لعلها بنت أخي عكاشة على قول من قال: إنها جُدامة بنت وهب بن محصن.
(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "لسان العرب" (مادة: جَدَمَ): الجَدَمَة؛ وفيه: والجَدَمَةُ: ما لم يندق من السنبل وبقي أنصافًا.
قلت: في رواية الطحاوي كما تراها: جدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب، فدل أن عكاشة من الصحابة اثنان: أحدهما عكاشة بن محصن، والآخر عكاشة بن وهب أخو جدامة بنت وهب، وقال القاضي: عكاشة بن وهب أخو جدامة آخر، يعني غير عكاشة بن محصن.
وفي "التكميل": جدامة بنت وهب الأسدية، ويقال: بنت جندب، ويقال: بنت جندل، لها صحبة، أسلمت بمكة وبايعت وهاجرت مع قومها إلى المدينة.
وقال الطبري: جدامة بنت جندل هاجرت، وقال: المحدثون قالوا فيها: جدامة بنت وهب، وفي "الكمال": جدامة بنت وهب الأسدية أخت عكاشة بن محصن لأمه.
قوله: "وأخًا له آخر" لم أقف على اسمه.
قوله: "فألقيا قميصهما" أي نزعاه من جسمهما.
"فقالت جدامة: ما لكما ألقيتما قميصكما فقالا: إن رسول الله عليه السلام قال: من لم يكن أفاض منها" أي من الكعبة، معناه من لم يطف طواف الزيارة وهي التي تسمى طواف الإِفاضة أيضًا.
"فليلق ثيابه" يعني لا يحل من إحرامه ولا يحل له اللبس ولا الطيب حتى يطوف طواف الزيارة، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا يحيى بن عثمان قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن أم قيس بنت محصن:"قالت: دخل علي عكاشة بن محصن وآخر في منى مساء يوم الأضحى، فنزعا ثيابهما وتركا الطيب، فقلت: ما لكما؟ فقالا: إن رسول الله عليه السلام قال لنا: من لم يفض إلى البيت من عشية هذه فليدع الثياب والطيب".
ش: هذا من وجه آخر، ويحيى بن عثمان بن صالح السهمي أبو زكرياء المصري شيخ ابن ماجه والطبراني، قال ابن يونس: كان حافظًا.
وعبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري.
وأم القيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن، لها صحبة، أسلمت قديمًا بمكة وهاجرت إلى المدينة، وقد قلنا إن [أبا] (1) عمر بن عبد البر قال: جدامة هي أم القيس بنت وهب بن محصن.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة، حدثتني أم قيس بنت محصن وكانت جارة لهم قالت:"خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصًا عشية يوم النحر، ثم رجعوا إليّ عشيًا، وقمصهم على أيديهم يحملونها، قالت: فقلت: أي عكاشة، مالكم خرجتم متقمصين ورجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: خير يا أم قيس، كان هذا يومًا رخص رسول الله عليه السلام لنا فيه إذا نحن رمينا الجمرة حللنا من كل ما حرمنا منه إلَاّ ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطف جعلنا قمصنا على أيدينا".
وأخرج أبو داود في "سننه"(3): ثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين -المعنى واحد- قالا: نا ابن [أبي](4) عديّ عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أبو عُبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، وعن أمه زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، يحدثان جميعًا ذلك عنها قالت: "كان ليلتي التي يصير إليَّ فيها النبي عليه السلام مساء يوم النحر، فصار إليَّ، فدخل عليَّ وهب بن زمعة ودخل معه رجل من آل أبي أُميَّة متقمصين، فقال رسول الله عليه السلام لوهب: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: انزع عنك القميص، قال: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم
(1) ليست في "الأصل، ك".
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 137 رقم 9383).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 207 رقم 1999).
(4)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".
إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا يعني من كل شيء إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرمًا كهيتئكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب إلى هذا قوم، فقالوا: لا يحل اللباس والطيب لأحد حتى يحل له النساء، وذلك حين يطوف طواف الزيارة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عروة بن الزبير وطائفة من السلف؛ فإنهم قالوا: لا يحل اللباس والطيب للحاج يوم النحر وإن رمى وحلق وذبح حتى يحل له النساء، والنساء لا تحل له إلَاّ بطواف الزيارة، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور، وفي بعض شروح البخاري: عن عروة لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب -يعني يوم النحر- إلَاّ بعد طواف الزيارة، وقال البيهقي: لا نعلم أحدًا من الفقهاء قال بهذا.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إذا رمى وحلق حل له اللباس، واختلفوا في الطيب، فقال بعضهم: حكمه حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس، وقال آخرون: حكمه حكم الجماع فلا يحل حتى يحل الجماع.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: علقمة وسالمًا وطاوسًا وعُبيد الله بن الحسن وخارجة بن زيد وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأحمد -في الصحيح- وأبا ثور وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق؛ حل له كل شيء كان محظورًا بالإِحرام إلَاّ النساء.
قوله: "واختلفوا" أي الفقهاء "في حكم الطيب فقال بعضهم" أبو حنيفة وأصحابة والشافعي وأصحابه، وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس.
وقال آخرون: وهم مالك والحسن البصري وأحمد في رواية: حكم الطيب حكم الجماع فلا يحل له حتى يحل الجماع.
وفي شرح "الموطأ": في هذه المسألة أربعة أقوال:
أحدها: قول عمر، وهو ما رواه مالك في "موطإه" (1): عن نافع وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج، وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى جمرة العقبة فقد حلّ له ما حرم على الحاج إلَاّ النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت.
والثاني: إلَاّ النساء والطيب والصيد، وهو قول مالك.
والثالث: النساء والصيد، وهو قول عطاء وطائفة.
والرابع: إلَاّ النساء، وهو قول الشافعي، وقول عائشة وابن عباس وابن الزبير وطاوس وعلقمة.
واختلف قول مالك فيمن تطيب بعد رمي الجمرة قبل الإِفاضة، فقال: عليه الفدية، وقال: لا شيء عليه.
وقال ابن قدامة في "المغني": إذا رمى المحرم جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورًا بالإِحرام إلَاّ النساء من الوطء والقبلة واللمس بشهوة وعقد النكاح، هذا هو الصحيح من مذهب أحمد، وعن أحمد: أنه يحل له كل شيء إلَاّ الوطء في الفرج.
وقال الكاساني في "البدائع": وأما حكم الحلق فحصول التحلل وهو صيرورته حلالًا يباح له جميع ما حظر عليه الإِحرام إلَاّ النساء، وهذا قول أصحابنا، وقال مالك: إلَاّ النساء والطيب. وقال الليث: إلَاّ النساء والصيد، وقال الشافعي: يحل له بالحلق الوطئ فيما دون الفرج والمباشرة.
(1)"موطأ مالك"(1/ 410 رقم 922).
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا الحجاج بن أرطأة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت:"قال رسول الله عليه السلام: إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلَّا النساء".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدّد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الحجاج بن أرطاة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد الليثي [أن](1) القاسم بن محمد حدثه، عن عائشة قالت:"طيبت رسول الله عليه السلام لحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت".
قال أسامة: وحدثني أبو بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام مثله (2).
حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، قال: حدثني القاسم، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، فذكر بإسناده مثله.
(1) في "الأصل، ك": "عن"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
زاد في "شرح معاني الآثار" حديثًا آخر ولم يتعرض له المؤلف هنا بالشرح، وهو: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة (ح).
وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، فذكر بإسناده مثله.
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد بن زيد، قال:[عن](1) عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه من ثمانية طرق صحاح:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، والكل قد ذكروا غير مرة، والحجاج ابن أرطاة وإن تكلم فيه فقد احتجت به الأربعة، وعمرة هي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية روى لها الجماعة.
وأخرجه البيهقي (2): من طريق الحجاج بن أرطاة، عن أبي بكر بن محمد
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري روى له الجماعة، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن مسلم الزهري
…
إلى آخره.
فإن قيل: قال أبو حاتم: لم يسمع الحجاج بن أرطاة الزهري.
قلت: قال غيره: إنه سمعه، وقول المثبت مقدم.
الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب
…
إلى آخره.
وهؤلاء كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه البخاري (3): نا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، نا عبد الرحمن بن القاسم -وكان أفضل أهل زمانه- أنه سمع أباه -وكان أفضل أهل زمانه-
(1) في "الأصل، ك": "ثنا عن"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 136 رقم 9379).
(3)
"صحيح البخاري"(2/ 624 رقم 1667).
يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: "طيبت رسول الله رضي الله عنه بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف وبسطت يديها".
وأخرج الطحاوي هذا الطريق بعينه في باب: التطيب عند الإِحرام، ولكن اقتصر هناك على حكم الطيب عند الإِحرام.
الرابع: عن يونس أيضًا، وأخرجه أيضًا بعينه في ذاك الباب.
وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الرحمن ابن القاسم، عن أبيه، عن عائشة:"أنها قالت كنت أطيب رسول الله عليه السلام لإِحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت".
الخامس: أيضًا بعينه أخرجه في ذاك الباب، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد بن نافع الأنصاري المدني
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1) أيضًا، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: ثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي عليه السلام قالت:"طيبت رسول الله عليه السلام بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت".
السادس: أيضًا بعينه أخرجه في ذاك الباب، عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن شجاع بن الوليد بن قيس السكوني، عن عُبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله عليه السلام.
وأخرجه مسلم (1) أيضًا: ثنا ابن نمير، قال: ثنا أبي، قال: ثنا عُبيد الله بن عمر، قال: سمعت القاسم، عن عائشة قالت:"طيبت رسول الله عليه السلام لحله ولحرمه".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 846 رقم 1189).
السابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن عبيد الله بن عمر المذكور، عن القاسم، عن عائشة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يحيى، ثنا عُبيد الله، قال: سمعت القاسم يقول: قالت عائشة: "طيبت رسول الله عليه السلام لحله وحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يفيض أو يطوف بالبيت".
الثامن: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار
…
إلى آخره.
ص: فهذه عائشة رضي الله عنها تخبر عن رسول الله عليه السلام في التطيب بعد الرمي والحلق قبل طواف الزيارة ما قد ذكرنا، فقد عارض [ذلك](2) حديث ابن لهيعة الذي بدأنا بذكره في هذا الباب، فهذه أولى لأن معها (مع التواتر صحة المجيء)(3) ما ليس مع غيرها مثله.
ش: أراد بقوله: "فقد عارض" معناه اللغوي، يعني رد حديث عائشة حديث عبد الله بن لهيعة المصري المذكور في أول الباب الذي احتج به أهل المقالة الأولى، وإنما قلنا هكذا لأن من شرط المعارضة المصطلح عليها المساواة، وليس بين حديث عائشة وحديث عبد الله بن لهيعة مساواة، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"لأن معها مع التواتر صحة المجيء" أي لأن مع أحاديث عائشة مع تكاثر الروايات فيها وتظاهرها صحة أسانيدها وحسن طرقها كما قد مرَّ مستقصى، ولا يشك أن حديث ابن لهيعة ضعيف وشاذ.
(1)"مسند أحمد"(6/ 192 رقم 25643).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وعليه شرح المؤلف، وفي "شرح معاني الآثار":"من التواتر وصحة المجيء".
ص: ثم قد روي أيضًا عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثل ذلك، غير أنه زاد عليه معنى آخر.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل (ح).
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلَاّ النساء، فقال له رجل: والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله عليه السلام يضمخ رأسه بالسُّك، أفطيب هو؟ ".
ففي هذا الحديث من قول ابن عباس ما قد ذكرنا من إباحة كل شيء إلَاّ النساء إذا رميت الجمرة ولا يذكر في ذلك الحلق، وفيه أنه رأى النبي عليه السلام يضمخ رأسه بالسُّك، ولم يخبر بالوقت الذي فعل فيه رسول الله عليه السلام ذلك، وقد يجوز أن يكون ذلك من رسول الله عليه السلام قبل الحلق، ويجوز أن يكون بعده، إلَاّ أن أولى الأشياء بنا: أن نحمل ذلك على ما يوافق ما قد ذكرناه عن عائشة لا على ما يخالف ذلك، فيكون ما رأى رسول الله عليه السلام يفعله من ذلك كان بعد رميه الجمرة وحلقه على ما في حديث عائشة، ثم قال ابن عباس -بعد برأيه-: إذا رمى فحل له برميه أن يحلق؛ حل له أن يلبس ويتطيب.
ش: أي ثم قد روي عن عبد الله بن عباس، عن النبي عليه السلام، مثل ما روي عن عائشة؛ من حل كل شيء بعد الرمي إلَاّ النساء، وأراد بقوله:"غير أنه زاد عليه معنى آخر" هو قوله: "أما أنا فقد رأيت
…
إلى آخره" أي غير أن ابن عباس زاد على ما روي عن عائشة معنى آخر، وفي حديثه شيئان:
أحدهما: إباحة كل شيء إلَاّ النساء بعد رمي جمرة العقبة، ولكن لم يذكر في ذلك الحلق.
والآخر: أنه رأى النبي عليه السلام يضمخ رأسه بالسُّك ولكن لم يخبر في حديثه بالوقت الذي فعل فيه ذلك، فيحتمل أن يكون ذلك قبل الحلق، وأن يكون بعده، ولكن
الأولى أن يحمل ذلك على ما يوافق ما رُوي عن عائشة دفعًا للتعارض والمخالفة، فيحمل ذلك على أنه كان بعد رميه الجمرة وحلقه؛ على ما هو مصرح كذلك في حديث عائشة حيث قال: قالت: قال رسول الله عليه السلام (1): "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلَاّ النساء".
ثم أنه أخرج حديث ابن عباس من طريقين رجالهما ثقات ولكن فيه انقطاع على ما قال يحيى بن معين: إن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس. قلت: لم يجزم يحيى بهذا، وإنما قال: يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس. وغيره قال: روى عن ابن عباس، والمثبت أولى على ما عرف.
الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2): أنا عمرو بن علي، ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال:"إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلَاّ النساء، قيل: والطيب؟ قال: فأما أنا فقد رأيت رسول الله عليه السلام يتضمخ بالمسك، أو طيب هو؟! ".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (3): نا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: نا وكيع، ونا أبو بكر بن خلاد الباهلي، ثنا يحيى بن سعيد ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي، قالوا: ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء، فقال له رجل:
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 136 رقم 9379).
(2)
"المجتبى"(5/ 277 رقم 3084).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1011 رقم 3041).
يا ابن عباس، والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله عليه السلام يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟!
قوله: "يضمخ" من التضميخ بالخاء المعجمة وهو التلطخ بالطيب وغيره والإِكثار منه.
قوله: "بالسُّكِّ" بضم السين وتشديد الكاف وهو طيب معروف يضاف إلى غيره ويستعمل، وفي "المطالع":"السك" طيب مصنوع من أخلاط قد جمعت وهكذا وقع في رواية البيهقي: "السك"، وفي رواية النسائي وابن ماجه:"المسك" بالميم على ما ذكرنا.
قوله: "أفطيب هو" بالفاء في رواية الطحاوي، وكذا في رواية ابن ماجه، وفي رواية النسائي بالواو "أو طيب هو" وهو استفهام على سبيل التقرير، والمعنى: أو ليس هو بطيب؟
ومن فوائد هذا الحديث: إباحة استعمال المسك للرجال وكذا في الأكل.
ص: وهذا موضع يحتمل النظر، وذلك أن الإِحرام يمنع من حلق الرأس، واللباس والطيب؛ فيحتمل أن يكون حلق الرأس إذا حل حلت هذه الأشياء، واحتمل أن لا تحل حتى يكون الحلق، فاعتبرنا ذلك فرأينا المعتمر يحرم عليه بإحرامه في عمرته ما يحرم عليه بإحرامه في حجته، ثم رأيناه إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل له أن يحلق ولا يحل له النساء ولا الطيب ولا اللباس حتى يحلق، فلما كانت حرمة العمرة قائمة وإن حل له قبل أن يحلق حتى يحل من مدخل ولا يكون إذا حل له أن يحلق في حكم من قد حَلَّ له ما سوى ذلك من اللباس والطيب كان كذلك في الحجة، لا يجب لما حل له الحلق فيها أن يحل له كل شيء مما سواه مما كان حرم عليه بها حتى يحلق قياسًا ونظرًا على ما أجمعوا عليه في العمرة.
ش: أي هذا المذكور في الحكم وهو حل اللباس والطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق موضع يحتمل النظر والقياس، ثم بين ذلك بقوله: "وذلك
…
إلى آخره" وهو ظاهر قوله: "حتى يكون الحلق" أي حتى يوجد، و"كان" هذه تامة.
قوله: "ثم رأيناه" أي المعتمر.
قوله: "وإن حل له أن يحلق" كلمة "أن" واصلة بما قبلها.
ص: ثم رجعنا إلى النظر بين هذين الفريقين وبين أهل المقالة الأولى الذين ذهبوا إلى حديث عكاشة رضي الله عنه فرأينا الرجل قبل أن يحرم حل له النساء والطيب واللباس والصيد والحلق وسائر الأشياء التي تحرم عليه بالإِحرام، فإذا أحرم حرم عليه ذلك كله بسبب واحد وهو الإِحرام؛ فاحتمل أن يكون كما حرمت عليه بسبب واحد أن يحل منها أيضًا بسبب واحد، واحتمل أن يحل منها بأشياء مختلفة إحلالًا بعد إحلال؛ فاعتبرنا ذلك، فرأيناهم قد أجمعوا أنه إذا رمى فقد حل له الحلق، هذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، وأجمعوا أن الجماع حرام عليه على حاله الأولى؛ فثبت أنه حل مما قد كان حرم عليه بسبب واحد بأسباب مختلفة؛ فبطلت بهذا العلة التي ذكرنا، فلما ثبت أن الحلق يحل له إذا رمى، وأنه مباح له بعد حلق رأسه أن يحلق ما يشاء من شعر بدنه ويقص أظفاره؛ أردنا أن ننظر حكم اللباس حكم ذلك أو حكمه حكم الجماع ولا يحل حتى يحل الجماع؟ فاعتبرنا ذلك فرأينا المحرم بالحج إذا جامع قبل أن يقف بعرفة فسد حجة، ورأيناه إذا حلق شعره أو قص أظفاره وجبت عليه في ذلك فدية ولم يفسد بذلك حجه، ورأيناه لو لبس ثيابًا قبل وقوفه بعرفة لم يفسد عليه ذلك إحرامه ووجبت عليه في ذلك فدية؛ فكان حكم اللباس قبل عرفة مثل حكم قص الشعر والأظفار، لا مثل حكم الجماع، فالنظر على ذلك أن يكون حكمه أيضًا بعد الرمي والحلق كحكمهما لا [كحكم](1) الجماع، فهذا هو النظر في ذلك.
(1) فى "الأصل، ك": "حكم"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
ش: أي ثم رجعنا إلى بيان وجه النظر والقياس بين هذين الفريقين، وهما الفريقان اللذان افترقا من أهل المقالة الثانية على فرقتين:
فرقة قالوا: حكم الطيب للمحرم إذا رمى جمرة العقبة وحلق؛ حكم اللباس فيحل كما يحل اللباس.
وفرقة قالوا: حكمه حكم الجماع لا يحل حتى يحل الجماع، وذلك بعد طواف الزيارة، وأراد أهل المقالة الأولى الذين قالوا: لا يحل اللباس والطيب حتى تحل له النساء، وباقي الكلام ظاهر.
قوله: "بسبب واحد بأسباب مختلفة" الباء في قوله: "بسبب واحد" تتعلق بقوله: "قد كان حرم عليه" والباء التي في قوله: "بأسباب" تتعلق بقوله: "حل" في قوله: "فثبت أنه حل".
قوله: "فالنظر على ذلك
…
إلى آخره" نتيجة ما ذكره من المقدمات.
ص: فإن قال قائل: فقد رأينا القبلة حرامًا على المحرم بعد أن يحلق، وهي قبل الوقوف بعرفة في حكم اللباس لا في حكم الجماع، فلم لا كان اللباس بعد الحلق أيضًا كهي؟
قيل له: إن اللباس بالحلق أشبه منه بالقبلة؛ لأن القبلة هي بعض أسباب الجماع، وحكمها حكمه، تحل حيث يحل وتحرم حيث يحرم، في النظر في الأشياء كلها، والحلق واللباس ليسا من أسباب الجماع إنما هما من أسباب إصلاح البدن، فحكم كل واحد منهما بحكم صاحبه أشبه من حكمه بالقبلة.
فقد ثبت بما ذكرنا أنه لا بأس باللباس بعد الرمي والحلق.
ش: تقدير السؤال أن يقال: لم جعلتم حكم اللباس بعد الرمي والحلق كحكم قص الشعر وقلم الأظفار قياسًا على ما كان من حكمهما مثل حكمه قبل الوقوف بعرفة، فلم لم تجعلوا حكمه بعد الرمي والحلق كحكم القبلة في كونها حرامًا بعد الحلق أيضًا قياسًا على ما كان من حكمهما مثل حكمه قبل الوقوف بعرفة؟
وتقرير الجواب أن يقال: إن قياس اللباس على الحلق أشبه من القياس على القبلة؛ لأن القبلة من بعض أسباب الجماع ومقدماته وحكمها حكمه -أي حكم القبلة حكم الجماع- تحل -أي القبلة- حيث يحل -أي الجماع- وتحرم -أي القبلة- حيث يحرم -أي الجماع- والحلق واللباس ليسا من مقدمات الجماع ولا من دواعيه، وإنما هما من أسباب إصلاح البدن لإِزالة الشعث والدرن ودفع الحر والبرد، فقياس كل واحد منهما على صاحبه لقرب الشبه بينهما أول من القياس على القبلة التي ليس بينها وبين اللباس شبه ما، والله أعلم.
ص: وقد قال ذلك أصحاب رسول الله عليه السلام من بعده:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"إذا حلقتم ورميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب".
حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر مثله.
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر رضي الله عنه خطب الناس بعرفة
…
" فذكر مثله.
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج وموسى، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يأخذ من (أطرافه) (1) وشاربه ولحيته يعني قبل أن يزور".
ش: أي وقد قال ما ذكرنا -أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة وحلق؛ حل له اللباس- جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1) كذا في "الأصل"، وفي "شرح معاني الآثار":"أظفاره".
وأخرج عنه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار المكي، عن طاوس اليماني، عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر يقول:"إذا رميتم وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلَاّ النساء والطيب".
الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير المدني قارئ أهل المدينة، عن عبد لله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن عمر مثله.
وأخرجه ابن أي شيبة في "مصنفه"(2): نا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن نافع، عن ابن عمر وعمر أنهما قالا:"إذا نحر الرجل وحلق؛ حل له كل شيء إلا النساء والطيب".
الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر خطب الناس بعرفة
…
".
وأخرجه مالك في"موطإه"(3): عن نافع وعبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر:"أن عمر خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم إلى منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحدٌ نساءً ولا طيبًا حتى يطوف بالبيت".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 135 رقم 9373) بنحوه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 239 رقم 13810).
(3)
"موطأ مالك"(1/ 410 رقم 922).
أما الأثر الذي أخرجه عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الملك بن جريج وموسى بن عقبة المدني، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهم فإنه يدل أيضاً على إباحة اللباس بعد الرمي والحلق؛ لأن قص الأظفار والشارب والأخذ من اللحية كلها لا تكون إلَاّ من اللابس عادة.
قوله: "قبل أن يزور" أي بالبيت، وأراد به طواف الزيارة.
ص: فهذا عمر رضي الله عنه قد أباح لهم إذا رموا وحلقوا كل شيء إلَاّ النساء والطيب، وقد خالفته عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم في الطيب خاصة، فأمَّا عائشة وابن عباس فقد روينا ذلك عنها فيما تقدم من هذا الباب، وأما ابن الزبير: فحدثنا ابن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يقول: "إذا رمى الجمرة الكبرى فقد حل له ما حرم عليه إلَاّ النساء حتى يطوف بالبيت".
ش: أي هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أباح للمحرمين إذا رموا جمرة العقبة وحلقوا رؤوسهم كل شيء إلا النساء والطيب، وثبت بهذا جواز اللباس بعد الرمي والحلق، وبقي الكلام في الطيب؛ فإن عمر رضي الله عنه استثنى الطيب كما استثنى النساء، فعلم أن مذهبه في الطيب؛ أن لا يباح إلَاّ بعد طواف الزيارة، ولكن خالفته ثلاثة من الصحابة، وهم: عائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن الزبير رضي الله عنهم في الطيب؛ فإنهم قالوا بإباحة الطيب أيضًا بعد الرمي والحلق، وقد تقدم فيما مضى ما روي فيه عن عائشة وابن عباس.
وأما ما روي عن ابن الزبير فأخرجه بإسناد صحيح، عن ابن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن الزبير قال:"إذا رمى الجمرة حل له كل شيء إلا النساء".
ص: وقد روي عن ابن عمر ما يدل على هذا أيضًا:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال عمر رضي الله عنه فذكر مثل الذي رويناه عنه في الفصل الذي قبل هذا.
قال: فقالت عائشة: "كنت أطيب رسول الله عليه السلام إذا رمى جمرة العقبة قبل أن يفيض. فسنة رسول الله عليه السلام أحق أن يؤخد بها من سنة عمر رضي الله عنه".
ش: أي قد رُوي عن ابن عمر ما يدل على أنه قد خالف أباه عمر رضي الله عنه فيما ذهب إليه كما خالفه هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم وذلك فيما أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
والكل رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق، وقد ذكره -يعني هذا الإِسناد- عن قريب عند قوله:"وقد قال ذلك أصحاب رسول الله عليه السلام من بعده".
قوله: "قال فقالت عائشة
…
إلى آخره" أي فقال عبد الله بن عمر قالت عائشة:
…
إلى آخره، وقد [مرَّ](2) ما رُوي عن عائشة في هذا الباب.
قوله: "فسنة رسول الله عليه السلام[أحق] (3) أن يؤخذ بها من سنة عمر رضي الله عنه" صريح على أنه قد خالف أباه عمر في حكم الطيب، وذهب في ذلك إلى ما ذهب إليه هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 239 رقم 13815).
(2)
في "الأصل، ك": "مار"، وهو تحريف، وما أثبتناه هو الصواب.
(3)
ليست في "الأصل، ك".
وأخرج البيهقي (1): من حديث ابن عُيينة، عن عمرو، عن سالم قال: قالت عائشة: "أنا طيبت رسول الله عليه السلام لحله وإحرامه. قال سالم: وسنة رسول الله عليه السلام أحق أن تتبع".
ص: والنظر بعد ذلك في هذا يدل على ذلك أيضًا؛ لأن حكم الطيب بحكم اللباس أشبه من حكمه بحكم الجماع لما قد فسرنا مما قد تقدم في هذا الباب، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي والقياس بعد ورود الأحاديث في إباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق يدل على ما ذكر من إباحته أيضًا، ووجهه: أن حكم الطيب بحكم اللباس أشبه؛ لأن كلًّا منهما مما يُزَيَّن به، بخلاف الجماع فلا يلحق به، والله أعلم.
ص: وقد رُوي ذلك أيضًا عن جماعة من التابعين:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا أفلح بن حميد، عن أبي بكر بن حزم قال:"دعانا سليمان بن عبد الملك يوم النحر؛ أن سر إلى عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعبد الله بن عبد الله بن عمر وخارجة بن زيد وابن شهاب رضي الله عنهم فسألهم عن الطيب في هذا اليوم قبل أن نفيض، قالوا: تطيب يا أمير المؤمنين، إلَاّ أن عبد الله بن عبد الله قال: كان عبد الله بن عمر رجلاً قد رأى محمدًا عليه السلام، وكان إذا رمى جمرة العقبة أناخ فنحر وحلق، ثم مضى مكانه فأفاض إلى البيت".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر وربيعة بن عبد الرحمن:"أن الوليد بن عبد الملك سأل سالم بن عبد الله وخارجة بن زيد بن ثابت بعد أن رمى جمرة العقبة وحلق عن الطيب، فنهاه سالم ورخص له خارجة".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 135 رقم 9374).
ش: أي قد رُوي أيضًا ما ذكرنا من جواز الطيب للمحرم بعد رمي الجمرة والحلق عن جماعة من التابعين، فإن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وخارجة بن زيد بن ثابت، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري؛ كلهم أفتوا بجواز استعمال الطيب قبل طواف الإِفاضة، وذلك حين استفتاهم سليمان بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم يوم النحر سنة حج في أيام خلافته، وكان قد تولاها في سنة ست وتسعين بعد أخيه الوليد بن عبد الملك، وتوفى سنة تسع وتسعين يوم الجمعة لعشر خلون من صفر منها، واستخلف بعده عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد بن نافع الأنصاري النجاري المدني روى له الجماعة غير الترمذي، عن أبي بكر بن محمد بن حزم بن [زيد](1) الأنصاري الخزرجي ثم النجاري المدني اسمه وكنيته واحد.
قوله: "إلَّا أن عبد الله بن عبد الله
…
إلى آخره" إشارة إلى أنه لم يفت لسليمان ابن عبد الملك كما أفتى به رفقته؛ فإنه قال: "كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً رأى محمدًا" وأراد أن عبد الله صحابي شاهد من النبي عليه السلام ما لم يشاهده هؤلاء؛ لأنهم لم يدركوا النبي عليه السلام، وكان عبد الله إذا رمى جمرة العقبة أناخ بعيره، فنحر هديه وحلق رأسه ثم أفاض إلى البيت لطواف الإِفاضة، ولم يذكر فيه أنه تطيب، ولكن فتوى هؤلاء هي سنة رسول الله عليه السلام على ما ثبت في أحاديث عائشة وغيرها، على أن كلام عبد الله لا يفهم منه نفي التطيب؛ لأنه ساكت عنه، ويحتمل أنه ما رأى ذلك منه فحكى ما شاهده فقط، وكيف وقد مضى في حديث طاوس عن ابن عمر قال: قال عمر
…
الحديث، وفي آخره:"فسُنَّة رسول الله عليه السلام أحق أن يؤخذ بها من سُنة عمر رضي الله عنه".
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من مصادر ترجمته.
قوله: "حدثنا يونس
…
إلى آخره" كلهم رجال الصحيح، والوليد هو ابن عبد الملك بن مروان -ومروان بن الحكم- ولي الخلافة بعد موت أبيه عبد الملك في النصف من شوال سنة ست وثمانين، وتوفى الوليد سَنة ست وتسعين، فكانت ولايته تسع سنين وخمسة أشهر -وقيل: وسبعة أشهر- والله أعلم.
والأثر أخرجه مالك في "موطإه"(1)، وفي "شرح الموطأ": لم يختلف فيه عن خارجة، واختلف فيه عن سالم، وقد ذكرنا عن سالم ما أخرجه البيهقي (2) عنه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "أنا طيبت رسول الله عليه السلام لحلّه وإحرامه، قال سالم: وسنة رسول الله عليه السلام أحق أن تتبع".
…
(1)"موطأ مالك"(1/ 329 رقم 723).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 135 رقم 9374).